حلمى النمنم يكتب: حسن البنا الذى لا يعرفه أحد «الحلقة الخامسة عشر

اضيف الخبر في يوم الأحد ١٧ - مارس - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً.


حلمى النمنم يكتب: حسن البنا الذى لا يعرفه أحد «الحلقة الخامسة عشر

حلمى النمنم يكتب: حسن البنا الذى لا يعرفه أحد «الحلقة الخامسة عشر»

 
 
نشر: 17/3/2013 5:57 ص – تحديث 17/3/2013 5:57 ص

مساهمة الإخوان والبنا فى انقلاب اليمن جعلت الملك يفكر أكثر من مرة فى الوثوق بهم

المرشد الأول يتهم مندسين داخل الجماعة بقتل وترويع آلاف من المواطنين فى تفجيرات القاهرة

خارج الإخوان ذهب الاتهام باغتيال حسن البنا إلى طريقين، طريق عبرت عنه صحف مصرية مثل «الأساس» لسان حال السعديين و«أخبار اليوم» و«الأهرام»، وقد اتهمت التنظيم الخاص بجماعة الإخوان بأنه هو الذى أقدم على هذه الجريمة، وأنهم هم من قاموا باغتيال حسن البنا، تأسيسا على أن البنا كان يعمل ليل نهار كى تعود الجماعة إلى العمل، وأنه كان على وشك الإفشاء بأسمائهم وأسرارهم للدولة، وأن ذلك كان الطريق الوحيد لعودة الجماعة إلى العمل، وقد كان البنا عبّر فى الأسابيع الأخيرة عن خطئه الشديد بأن زج بالجماعة فى العمل السياسى، وأنه لو قدر له العمل ثانية فسوف يكتفى بالدعوة إلى مكارم الأخلاق والتمسك بالدين الحنيف، وأنه يتمنى لو كان ربّى مئة شاب يعملون فى سبيل نشر دين الله عن حق، يلقى بهم الله.

كان هناك تفكير داخل وزارة الداخلية، بين من يتابعون القضية إلى هذا الاتجاه فى التفكير، أى أن رجال التنظيم الخاص الذين قال عنهم البنا «ليسوا مسلمين» هم الذين اغتالوه، وقد تردد أن حسن البنا وصله خطاب تهديد بعد إصدار ذلك البيان، وبعد ما تردد أنه سوف يسلم النقراشى قائمة بأسمائهم، وقد استنكر بعض كتاب الإخوان ذلك التفكير.

البنا استعان بالسادات للقـــــــــــاء زعيم فريق اغتيالات الملك

وطريق آخر خارج الإخوان، ذهب إلى أن اغتيال البنا قام به السعديون، فقد كانوا مصممين على الثأر والانتقام للإهانة التى لحقت بهم وقتل زعيمهم، ولم يكن يرضيهم سوى رأس البنا نفسه «رأس النقراشى لا يساويها إلا رأس البنا»، وكان السعديون هم الذين يتولون الحكومة، ويتولون وزارة الداخلية، وكان الملك فاروق نفسه يميل إلى هذا الاتجاه، أى نسبة الأمر إلى السعديين، فقد سأل القائم بالأعمال الأمريكى فى القاهرة جلالة الملك إن كان يعتقد -كما ردد بعض الصحف المصرية- أن النظام الخاص للجماعة وراء الاغتيال، فرد الملك بأن الأمر لم يخرج عن السعدنيين، وطبقا لهذا القول يصبح التساؤل من بين السعديين تحديدا.. هل من هم داخل الحكومة أم من هم خارجها؟!

ولنحاول أن نناقش هذه الاتهامات، فى ما يخص الملك فاروق، ثابت أن الديوان الملكى والمقربين من الملك قرروا بعد حادث 4 فبراير 1942م اتخاذ خطوات لتحطيم الوفد انتقاما -لمولانا- من قبول النحاس لحكومة 4 فبراير 1942م، رغم أنف الملك، وكان على رأس هذا الفريق أحمد حسنين باشا رئيس الديوان وعلى ماهر، اتجه حسنين إلى إحداث الوقيعة بين النحاس ومكرم عبيد، ونجح فى ذلك، كان الاتجاه الآخر هو الاستعانة بحسن البنا وتقويته للحط من شعبية الوفد، وقد عمل على ذلك كل من على ماهر وأحمد حسنين معا، وقد التقطها بذكاء أو بانتهازية حسن البنا، فقد سعى البنا إلى الضابط محمد أنور السادات كى يرتب له لقاءً مع يوسف رشاد (يوسف رشاد الذى كان يتزعم فريق الاغتيالات الخاص بالملك)، وتم اللقاء بالفعل، وأراد البنا من يوسف رشاد أن ينقل إلى جلالة الملك رسالة مفادها أنه وجماعته مخلصون للعرش ولجلالة الملك شخصيا، لكن الملك الذى تصوره كثيرون ساذجا لم يبتلع الطعم، وقال ليوسف رشاد «حسن البنا ضحك عليك»، لم يثق الملك أبدا بالبنا ولا بجماعته وإن لم يمانع فى أن يستخدمهم الديوان الملكى فى بعض الألاعيب السياسية الصغيرة كالانتقام من النحاس والتشهير به وبالوفد، وفى البداية لم يكن لدى الملك مشاعر قلق أو خوف تجاه حسن البنا وجماعته، لكن يبدو أن مشاعر الملك بدأت فى التغير فى عام 1948م.

فى منتصف يناير 1948م وقع انقلاب فى اليمن على الإمام البدر ولا داعى إلى الخوض فى تفاصيله الآن وتفاصيل أوضاع اليمن آنذاك، لكن هذا الانقلاب وجد رفضًا وإدانة من الممالك الثلاثة مصر والسعودية وشرق الأردن، وهذا الانقلاب تم بمساندة من الإخوان ومن حسن البنا شخصيا، ويمكن أن يكون الملك فاروق استشعر خطرا من الجماعة ومن حسن البنا، صحيح أن البنا كان دائم التردد على القصر الملكى لتسجيل اسمه فى سجل التشريفات الملكية ويترك عبارات التحية والدعاء لجلالة الملك، لكن كانت تصل دلالات مضادة إلى القصر، فالبنا يعلن أكثر من مرة فى خطبه أن الملك بالبيعة لا بالوراثة، وكان تولى المُلك فى أسرة محمد على بالوراثة، لقد أقر فرسان سنة 1840م أن تكون مصر لمحمد على وأن يحكمها أبناؤه من بعده.. وكان حسن البنا دائم الحديث عن عودة دولة الخلافة، وهذه كلها إشارات غير مريحة بالنسبة إلى القصر الملكى، فضلا عن أن حسن البنا امتدت يده إلى الانقلابات العسكرية، ولم يعد يكتفى هو أو رجاله بالهتاف لرئيس وزراء ضد آخر، كما فعل مع إسماعيل صدقى والنقراشى، وبعد أيام من انقلاب اليمن جرت مظاهرات فى جامعة القاهرة، أو جامعة فؤاد وقتها، وأسقط المتظاهرون صورة الملك فاروق، وارتفع هتاف فى الجامعة «لا ملك إلا الله»، وفهم على الفور أنه هتاف إخوانى بحت، كان هذا لا بد أن يثير قلق الملك فاروق، لذا وجدنا حسن يوسف وكيل الديوان الملكى يذكر فى مذكراته أن الملك كان يشعر أن الإخوان خطر على العرش.

وذهب كريم ثابت المستشار الصحافى للملك فاروق، إلى النقراشى للنقاش معه، وطلب إليه النقراشى أن يبلغ جلالته أن الإخوان صاروا أخطر، فقد طوروا شبكة اتصالات لاسلكية تتيح لهم الاتصال بعيدا عن أعين الحكومة وآذانها، ويبدو أن كريم لم يكن واثقا كثيرا من مخاوف النقراشى، لكنه ذهب بالرسالة إلى الملك، ففوجئ بالأخير يقدم له نتيجة من نتائج السنة الجديدة التى تطبعها مصلحة المساحة، وقد نزع منها صورة جلالة الملك، ووضعت صورة جديدة، أطلق عليها الملك «صورة الملك الجديد» أى حسن البنا، وكانت هذه النتائج توزع فى دمنهور، ويتم تداولها بين أعضاء الجماعة، وقال الملك: «النقراشى كان عنده حق، الإخوان يريدون الحكم».

هذه الشواهد كانت مبررا للقلق وللخوف من الجماعة، أو الحذر منها ومن مرشدها، لكن ليست مبررا للحل ولا للتخلص من البنا، وليس هناك ما يشير إلى أن تفكيرا بهذا المعنى جرى داخل الحكومة، وبدلا من أن تقوم الجماعة بالتهدئة، إذا بغطرسة القوة تظهر، خصوصا فى شهر نوفمبر 1948م، حيث تم نسف شركة الإعلانات الشرقية وعدد من المشروعات المملوكة لليهود، ونسف حارة اليهود، وكان تبرير الجماعة أن ذلك يتم من أجل فلسطين، والواقع أن تحرير فلسطين يتم على أرض فلسطين وليس فى حارة اليهود بالقاهرة الإسلامية، وهذه التفجيرات تثير الغضب، لكن فى خضم الحماس لفلسطين كان من الصعب أن يرتفع صوت قوى منددا بها، وفى تلك الفترة ضبطت «السيارة الجيب»، وكان البوليس يسعى جادا إلى مطاردة من قاموا بالتفجيرات والتوصل إليهم، ويبدو أن أعضاء التنظيم الخاص شعروا بذلك، وأن الأمن اقترب منهم فقرروا نقل أوراقهم وبعض أسلحتهم من إحدى الشقق إلى أخرى، وضبطت السيارة بالمصادفة، كانت بلا أرقام، اشتبه فيها أحد رجال الأمن، وبسرعة أبلغ وتم اكتشاف أسرار التنظيم الخاص وكانت أسرارا مخيفة.

حين ضبطت السيارة الجيب كان البنا فى الحج، ولما عاد ذهب كعادته إلى القصر الملكى ليسجل اسمه فى التشريفات الملكية داعيا لجلالته، ومتصورا أنه سيجد فى الديوان الملكى الحضن الدافئ الذى اعتاد عليه، لكن الأمور ومعها المشاعر كذلك كانت فى طريقها إلى التغيير.. ولم يقتنع البنا أو لم يدرك حجم المسألة، ظل مكتفيا بالدعاء والتأييد العلنى للملك وإعلان أن جماعته بريئة مما نسب إليها، لم يقل إن بعض أعضاء انحرفوا أو تجاوزوا، لم يذكر شيئا عن التنظيم الخاص، لكنه أصر على أن الجماعة لا علاقة لها بما نسب إليها، أمام النقراشى وأمام رجال الأمن المتابعين والمطلعين على دخائل الأمور كان البنا أمامهم يكذب، وفى مثل هذه الأمور لا يكون الكذب نقيصة أخلاقية، أو سلوكية لكن له أدلة سياسية أخرى، وتردد وقتها أن النقراشى اتخذ قرارا باعتقال البنا، لكن تم سحبه خوفا من رد فعل الجماعة.. ويبدو أن النقراشى بدأ يفكر فى حل الجماعة وصار مقتنعا أكثر يوم 4 ديسمبر 1948م حين تم قتل حكمدار القاهرة اللواء سليم زكى.. ووصلت الأخبار إلى حسن البنا من مصادره وعيونه، فى الداخلية، أن عبد الرحمن عمار «بك» وكيل الداخلية بصدد إعداد مذكرة يرفعها إلى النقراشى باشا لحل الجمعية، وقرر البنا أن يتحرك بطريقته الفوقية، فاتجه مباشرة إلى جلالة الملك راجيا ومستعطفا، وقفز بذلك على الحكومة وعلى وزارة الداخلية وجهاز الأمن.

وقد كشفت حفيدة النقراشى د.هدى أباظة الأستاذ بآداب عين شمس فى كتابها حول النقراشى، عن وثيقتين مهمتين فى أوراق جدها.. الأولى رسالة مطولة بعث بها حسن البنا يوم 15 ديسمبر 1948م، إلى جلالة الملك، وذهب إلى الديوان الملكى وسلمها هناك، الرسالة مطولة ومكتوبة على ورق من أوراق الجماعة، بالآلة الكاتبة وتحمل توقيعه، ويبدو أنه لم يكن يدرى أو لم يتصور أن الرسالة ستحال إلى النقراشى، الرسالة كتبت بعد 24 ساعة من مصرع سليم زكى، ولا نعرف هل قرأها الملك أم لا.. وهل أحيط علما بها أم لا.. لكن الديوان الملكى أحالها فى اليوم التالى إلى رئيس الوزراء، وقال رئيس الديوان واصفا الرسالة بأنها «التماس تلقاه الديوان من حسن البنا».

الرسالة الالتماس، تحمل عناصر ثلاثة.. الأول يختص بالتغيير عن الولاء لجلالة الملك والإخلاص للعرش «أصدق آيات الإخلاص وأخلص معانى الولاء».

الثانى: الطعن الشديد فى النقراشى أمام الملك، وتحريض الملك عليه ومحاولة إحداث وقيعة بين الملك ورئيس وزرائه.

الثالث: أنه يتقدم بالالتماس بعد أن نما إلى علمه أن رئيس الحكومة بصدد اتخاذ قرار حل الجماعة.

يقول البنا: «يا صاحب الجلالة! إن الإخوان المسلمين باسم شعب وادى النيل كانوا يلوذون بعرينكم وهو خير ملاذ ويعوذون بعطفكم وهو أفضل معاذ، ملتمسين أن تتفضلوا جلالتكم بتوجيه الحكومة إلى نوع من الصواب أو بإعفائها من أعباء الحكم ليقوم بها من هو أقدر على حملها ولجلالتكم الرأى الأعلى». ويقول أيضا: «يا صاحب الجلالة لا يقوى أبدا دولة النقراشى باشا على أن يضطلع بأعباء التصرف بما يحفظ كرامة مصر ويصون حقوق هذا الوادى»، وكان قوله الأخير مناقضًا تماما لما قاله هو نفسه عن النقراشى قبل عام، ويذهب إلى حد تحميل النقراشى مسؤولية ما جرى فى فلسطين فى تجنٍ واضح ونفاق مباشر للملك.. المهم فى هذه الرسالة أنه يبرئ الجماعة تماما من كل أعمال العنف التى نسبت إليها، غير هذه الرسالة / الالتماس راح يبحث عن كل الطرق إلى الملك، جرب قناته السرية «يوسف رشاد» فلم يتمكن، ويبدو أنه أدرك أن طريقه نحو الملك مغلق تماما، فاستدار بنحو 180 درجة ليتوجه إلى النقراشى باشا، والواضح أنه أدرك أن الأمور لم تعد سالكة بشكل مباشر مع النقراشى، وبالتأكيد علم أن رسالته إلى الديوان الملكى أو الالتماس الذى تقدم به إلى الملك أحيل إلى النقراشى وبه كلام سخيف بحق النقراشى، فذهب إلى «حامد جودة» وكان سعديا ورئيس مجلس النواب وتربطه صلة حميمة وقرابة بالنقراشى، استمع إليه جودة جيدا، كان حسن البنا لا يريد قرار الحل، وأكد أن الجماعة تؤدى دورا دينيا، وأنه سوف يبتعد بها عن السياسة، وتفهم النقراشى ذلك كله، وكانت لديه رغبة فى عدم الوصول إلى هذه الخطوة، لكن كانت له مطالب ثلاثة من حسن البنا، وهى أن يدلهم على أسماء من قاموا بالعمليات الإجرامية التى روعت الآمنين فى القاهرة.. فقد كان هناك ضحايا وقتلى من المدنيين سقطوا فى تلك العمليات، طلب النقراشى أيضا أن يكشف لهم حسن البنا عن مخازن الأسلحة التى لدى الجماعة وحجم ما بها من تسليح، وبذلك يضمن النقراشى عدم تكرار حوادث العنف وأن الجماعة -فعلا- سوف تصبح كما يقول البنا للدعوة فقط، والمطلب الأخير كان أن يعلن البنا لهم مكان الإذاعة السرية التى أقاموها، وكان لدى الإخوان إذاعة تبث من شقة فى باب اللوق، وتقدم برامج موازية لما تقدمه الإذاعة المصرية، وحاولت أجهزة وزارة الداخلية الوصول إلى مقر تلك الإذاعة فلم يتمكنوا.. الغريب فعلا أن حسن البنا استطاع اختراق أجهزة الأمن وغيرها من الأجهزة الحكومية بتجنيد عملاء من داخلها، بينما تفشل أجهزة الأمن فى فعل الشىء نفسه داخل الجماعة.

عرضت مطالب النقراشى على البنا، فرد بكلام لا بد أنه أغاظ النقراشى والمحيطين به، اكتفى البنا بالقول إن كل الأمور التى يتحدث عنها دولة الباشا لا يعرف عنها شىئا بالمرة، وكان معنى هذا الكلام أن البنا بين أمرين، إما أنه لا يدرى شيئا داخل الجماعة وإما أنه يكذب، الأمر الأول كان مستبعدا بالنسبة إلى رجل متسلط وفى قوة شخصية البنا على أتباعه.

النقراشى لم يبتلع هذا الكلام نهائيا ولم يصدق حسن البنا، لأن بعض أعضاء التنظيم الخاص الذين قبض عليهم اعترفوا أن كل العمليات التى نفذوها تلقوا بها تكليفا مباشرا من فضيلة المرشد العام، ومعنى هذا أن المرشد العام كان يكذب على النقراشى، وهذا يعنى عدم جديته فى ما يطرح وافتقاده للمصداقية أمامه، لذا أصر النقراشى على مطالبه من حسن البنا، كى يتوقف عن التفكير فى حل الجماعة، لجأ حسن البنا إلى مرتضى المراغى طالبا منه التوسط لدى النقراشى، وبينما هو يتحدث معه انفعل مهددا النقراشى، ولا نعرف هل قصد أن يصل الغضب والتهديد إلى النقراشى أم يصل إلى المراغى نفسه، فيعمل على تهدئة المراغى، لكن النقراشى كان مصرا.. فقرر أن يذهب إلى مكتب النقراشى باشا طالبا أن يجتمع به.. فقابله عبد الرحمن عمار بك وجلسا معا، وأعد عمار تقريرا رفعه إلى النقراشى -ذلك التقرير هو الوثيقة الثانية التى أتاحتها للباحثين د.هدى أباظة- وجاء فى التقرير أن حسن البنا «.. تكلم مادحا النقراشى باشا قائلا إنه على يقين من نزاهته وحرصه على خدمة وطنه وعدالته فى كل الأمور».. كان ذلك عكس ما قاله للملك، حيث قال إن النزاهة وطهارة اليد اللتين يتمتع بهما النقراشى لا تكفيان لتحمله رئاسة الوزارة.. وجاء فى التقرير أيضا «إنه لو تمكن من مقابلة دولته بعد أن مضت سنتان لم يلتقيا فيها بسبب فجوة أثارها الوشاة لأقنع دولته بأنه من صالح الحكومة والأمة معا أن يبقى الصرح الضخم الذى جاهد الإخوان سنوات طويلة فى إقامته»، تحول الأمر إلى مجرد فجوة ناجمة عن وشاية بينهما، وأنه سيقنع الباشا بأهمية الجماعة للحكومة، أى له.

فى التقرير ما يفيد أن حسن البنا قام بتغيير استراتيجيته بالكامل، وبذكاء أو خبث شديد، فى التماس إلى الملك نفى تماما أى دور أو مسؤولية لجماعته عن أعمال العنف التى وقعت، واتهم النقراشى صراحة بأنه متحامل على الجماعة، ويحاول أن يلصق بها تهمة تلك الأعمال ويحملها المسؤولية، والمعنى أن النقراشى رئيس الوزراء ووزير الداخلية يبحث عن كبش فداء، يحفظ به ماء وجهه أمام الملك.. لكنه فى مكتب النقراشى، قال شيئا جديدا، يبدو أنه قرر عدم مجادلة النقراشى فى هذا الأمر، وقدم ما اعتبره إغراءً للباشا وتنازلًا ضخما من جانبه «يريد أن ينهى إلى دولة رئيس الوزراء بأنه قد عدل نهائيا عن الاشتغال بالشؤون السياسية، وقصر نشاط الجماعة على الشؤون الدينية كما كان الحال فى بداية قيام جماعة الإخوان وأنه يود من كل قلبه التعاون مع دولة الرئيس تعاونا وثيقا مؤيدا للحكومة فى كل الأمور، وأنه كفيل بتوجيه رجاله فى كل الجبهات بالسير على مقتضى هذا الاتجاه».

ويقول عبد الرحمن عمار فى تقريره إن البنا «كرر ذلك المعنى، وبكى بكاءً شديدا»، والواقع أن أى سياسى مثل النقراشى لم يكن ممكنًا له أن يأخذ بجدية كلام البناء هو يقرر أنه سيعود بالجماعة إلى ما كانت عليه تماما ويترك الانشغال بالسياسة والاشتغال بها، لكنه يعود لينفى ذلك، فى نفس الجلسة حين يقول إنه يود التعاون مع رئيس الوزراء، وأن يؤيد حكومته، وقد وصف هو التعاون المأمول بأنه «وثيق»، وهذا بحد ذاته قمة الاشتغال بالسياسة، لكن الخطير حقا فى الرسالة ويدين نفسه به ويؤكد اعترافات بعض أعضاء التنظيم الخاص من أنهم تحركوا بأوامر المرشد حين قال لعمار بك إنه كفيل بتوجيه رجاله إلى العمل فى هذا الاتجاه، وهذا اعتراف منهم أنهم يسيرون بأوامره وتوجيهه فى كل ما يقومون به، أو كما جاء فى التقرير «فى كافة الجهات»، ولم يكن حسن البنا ساذجا، فلا بد أن يتوقع سؤالا من النقراشى ومن المحيطين به من رجال الداخلية.. ماذا عن العمليات التى تمت خاصة أن هناك ممتلكات أتلفت، وضحايا سقطوا؟ لذا انتهى إلى حل يعفيه هو وجماعته من كل هذه العمليات، وإن لم ينكرها، وجاء فى التقرير «.. أعرب عن أسفه لما وقع من جرائم ارتكبها أشخاص يرى أنهم اندسوا على الإخوان».

حسم البنا الأمر بسهولة شديدة هو يأسف -مجرد أسف- لوقوع قتلى.. مواطنين أبرياء وسقوط جرحى وتدمير المنشآت.. ومن قاموا بها ليسوا إخوانا بل مندسين عليهم.. من الذى دسهم.. ولماذا.. وقد يدس أحد عنصرا للحصول على المعلومات أو التجسس على الآخرين، كما فعلها البنا نفسه مع الآخرين، خاصة الشيوعيين و«مصر الفتاة»، لكن من يدس عنصرا للقتل؟

ذهب عمار بالتقرير إلى النقراشى الذى قرأه بعناية وناقش عبد الرحمن عمار فى تفاصيله، والواضح أنه لم يكن يريد أن يقابل حسن البنا أو حتى يراه، فى أعماقه لم يكن يثق به، كان حسن البنا متلونا ومتقلبا، وكان النقراشى شخصية حادة ومستقيمة، وعاد النقراشى يؤكد لعبد الرحمن عمار.. إن كان البنا صادقا فى ما يقول فعليه أن يكشف أسرار التنظيم الخاص، وكان من المستحيل أن يكشفه البنا، فلو كشف فهو المدان الأول، هو الرئيس المباشر والأعلى للتنظيم، تابع تفاصيل نشأته ونموه.. تدريبا وتسليحا.. وكان التنظيم من ألفه إلى يائه خروجا عن القانون، وهو -حسن البنا- كما يقول أتباعه من أعطى الأمر بكل عملية من عملياته، لو كشف التنظيم فسوف يدان أمام القانون، فضلا عن أنه لا يأمن انتقام أعضاء هذا التنظيم، وهكذا حسم النقراشى أمره واتخذ قرار الحل يوم 8 ديسمبر 1948م.

نعرف أن مرتضى المراغى رأى التريث فى الحل، لأن هناك بعض خلايا للتنظيم ومخازن أسلحة ومفرقعات لم يتمكن للأمن من التوصل إليها، عدد من الوزراء حذروا لأن الجماعة اخترقت الجيش، إبراهيم عبد الهادى رئيس الديوان الملكى كان يرى عدم حل الإخوان، وأنه يمكن الاستفادة منهم خاصة فى تحجيم نشاط الوفد، واقترح عبد الهادى الاكتفاء بتحجيم نشاط الإخوان.. والواقع أن التنظيم الخاص أوقع الرعب فى نفوس الكثيرين، كان جهاز معلومات ومخابرات يفوق جهاز الأمن الرسمى، وكان كذلك جهاز عنف وإرهاب، ورغم كل ما يقال من أنه أنشئ خصيصا للعمل ضد الإنجليز والصهاينة، فالواقع أنه عمل ضد المصريين فقط، لقد أفهم حسن البنا رجال السفارة الأمريكية أن التنظيم أنشئ للكفاح ضد الشيوعية والشيوعيين فى مصر، وكان يأمل من وراء ذلك أن ينتقل هذا الرأى إلى الإنجليز عبر الأمريكان، وسرب شيئا من هذا إلى الملك، وفى العلن قال للمصريين إنه ضد المحتلين، ولم يكن صادقا فى هذا ولا ذاك، كان التنظيم ضد خصومه وخصوم جماعته أولا، وضد من لا يسير على نهج الجماعة، حدثنى الراحل سيد أبو النجا، فى حوار مستفيض بمنزله، وكان أبو النجا يعمل فى مجال الإعلانات منذ عودته من بعثته فى إنجلترا، كان يعمل مع محمود أبو الفتح فى «المصرى»، وكان يعمل أيضا فى شركة الإعلانات الشرقية ليزيد دخله، وذات يوم جاءه استدعاء من التنظيم الخاص أنه مطلوب للمحاكمة بتهمة العمل مع اليهود، وكان تفكيره أن لا يعبر الأمر أى أهمية أو أن يبلغ البوليس إن اقتضى الأمر، واستشار أستاذه محمود أبو الفتح صاحب المصرى، فهو يعمل معه، ونصحه أستاذه أن يأخذ الأمر بجدية كاملة، وإذا كانوا يطالبونه بالمثول أمامه، فليمثل، لأنهم سوف يضايقونه، وربما قتلوه إن لم يفعل، وإذا أبلغ البوليس فلن يتمكن من حمايته ولن يفعل له شيئا، وذهب بالفعل مدافعًا عن نفسه بأنه أزهرى التعليم والثقافة، وإنه حين يعمل فى شركة مملوكة لليهود فإنه بذلك يحصل على مكان فى هذه الشركة لمسلم وهو يلتزم فى عمله بالقيم الإسلامية.. وانتهى الأمر بالنسبة إليه، أمام قوة هذا التنظيم وأخطبوطيته حذر كثيرون النقراشى، ويكفى أن نعرف أن أربعة خطابات وصلت إلى النقراشى على مكتبه مليئة بالشتائم والكلمات البذيئة والتهديد بالقتل إن هو أقدم على حل الجماعة، ولم يعرها أى اهتمام، واعتبرها من باب «اللغو»، وتبين بعد اغتياله أن عبد المجيد حسن هو الذى قام بكتابة هذه الخطابات المجهلة، لكن الأخطر من ذلك أن هناك خطابات مشابهة وصلت مجهلة إلى بيت النقراشى، ولكن هذه المرة ليست له بل إلى زوجته، تهددها ليس بقتل زوجها، بل بما هو أقسى عليها، وهو اختطاف ابنها وابنتها إن أقدم زوجها على أى شىء تجاه الجماعة، وقد سبب لها ذلك ألما وقلقا فظيعا، خوفا على ابنها وابنتها من ناحية وخوفا على زوجها، ومن ناحية أخرى لم يكن من حقها أن تتدخل فى عمل الزوج والقرارات التى يتخذها، وليس لها أن تطلب إليه اتخاذ قرار ما أو عدم اتخاذ قرار بعينه.

كان الحصار يشتد حول النقراشى، لا تريد الجماعة أن تترك له فرصة، ولا هى ساعدته باتجاه التهدئة، بل استمر التنظيم الخاص فى عملياته، لم يردعه المرشد، ومكنت حرب فلسطين التنظيم من جمع وتخزين أكبر كمية من السلاح والذخيرة، وقد استعمل هذا السلاح فى تفجيرات الداخل، من جهة أخرى مارست الجماعة عليه ضغوطا عنيفة، بدأها حسن البنا نفسه بمهاجمته لدى الملك فى الالتماس الذى تقدم به، ثم فى محاولة استدرار عطفه بالتوسل والبكاء فى مكتبه، فضلا عن خطابات التهديد له ولمنزله، وربما لو كان هناك رئيس وزراء آخر غيره لتريث كثيرا فى القرار، لكنه كان عنيدا وثوريا، كان يعرف النهاية، وقالها لمرتضى المراغى.. آخرتها رصاصتين.. وطلب من عبد الرحمن عمار تجهيز مذكرة بحل الجماعة، ويبدو أن حسن البنا لم يتوقع أبدا أن يصدر مثل هذا القرار، ليس فقط بسبب التحذيرات والتهديدات أو الضغوط التى مورست على النقراشى، بل كان يدرك أن الكل سبق وأن احتاج إليه، وأنهم سوف يبقون فى احتياج إليه، بدءا من الديوان الملكى ومرورا ببقية الأحزاب من الوفد إلى الأحرار الدستوريين والكتلة ثم السعديين، فضلا عن طريقة المفتوح مع السفارة الأمريكية بالقاهرة والمشروع المشترك بينه وبينهم فى مكافحة الشيوعية، لكنه لم يكن يدرك أنه تجاوز الخطوط الحمراء، وأنه قد يكون هناك احتياج إلى الجماعة، فى أداء بعض الأدوار، لكنه لم يعد هناك احتياج إليه هو، وأنه كان عليه -منذ مقتل الخازندار- أن يتخذ خطوات بتحجيم التنظيم الخاص أو حتى تسريحه وإعادة توزيع أعضائه على شعب الجماعة، لكن من جهة أخرى كان هو نفسه بحاجة إلى هذا التنظيم ليخيف به أعداء الجماعة، بل وقمع به أى تمرد عليه داخل الجماعة، كانت القوة عنصرا مهما فى تفكيره وخططه، القوة العسكرية بالأساس.

يوم 28 ديسمبر أطلق الرصاص على النقراشى أمام أسانسير وزارة الداخلية، استقر ثلاث رصاصات فى ظهره، انطلقت من مسدس طالب تنكر فى زى ضابط شرطة.. هو طالب بكلية الطب البيطرى اسمه عبد المجيد حسن، والغريب أن الداخلية كانت طلبت اعتقاله بتهمة الانتماء إلى الجماعة، لكن النقراشى كان ضد التوسع فى الاعتقالات، والغريب أيضا أن النقراشى كان منح الطالب مجانية فى التعليم مدى حياته تقديرا لوالده الذى كان يعمل بالداخلية.

فوجئ حسن البنا برد الفعل على اغتيال النقراشى، حتى إن خصوم النقراشى من الوفديين بادروا باستنكار العملية والهجوم على منفذها، وصل الرعب إلى الديوان الملكى، حاول البنا فى كل الاتجاهات، لكن كل الأبواب أغلقت فى وجهه، لم يعد أحد يثق به ولا أحد يأمن إليه، اكتشف الجميع -كل بمقدار- أنهم ربوا وحشا مدمرا، وقد بدأ يلتهمهم واحدا وراء الآخر، بدم بارد، كان البنا يريد تأمين حياته أولا وإعادة الجماعة ثانيا، وكان الرأى فى الأوساط الحزبية والسياسية المصرية أن المشكلة ليست فى الجماعة، بل فى رأسها حسن البنا نفسه، وتم الخلاص منه فى 12 فبراير سنة 1949م.

وقد اتهم فريق من الإخوان «الملك فاروق» بأنه وراء اغتيال حسن البنا، وهذا كلام يفتقد إلى أدلة، ويبدو أن بعض الإخوان بلغ بهم الاعتزاز بمرشدهم المؤسس بأن يكون الملك قاتله، وليس أقل من ذلك، لقد خرج الملك من مصر يوم 26 يوليو 1952م، وتم تقليب أوراقه جيدا، ولو كان هناك شىء يدينه فى هذه العملية لظهر وتم استخدامه، فور خروجه من مصر بدأت حملة تشهير واسعة به، بدأها مصطفى أمين فى «أخبار اليوم» تحت عنوان «ليالى فاروق»، ولو كان له صلة بالعملية من قريب أو من بعيد لما سكت عنه أحد، يضاف إلى ذلك أن الملك كان لديه «الحرس الحديدى» يقوم بالعمليات القذرة، وكان «الحرس الحديدى» تحت إشراف يوسف رشاد، صديق حسن البنا، وكانت طريقتهم فى تنفيذ العمليات مختلفة تماما عن الطريقة التى جرت مع حسن البنا، وقصة السيارة السوداء التى كانوا يستخدمونها معروفة، لقد تحدث بعض أعضاء الحرس الحديدى ونشروا مذكراتهم، ولم نجد فيها شيئا يتعلق بالمرشد العام، ولم يكن الملك غبيا ليتورط فى هذه العملية، كان يعرف أن خصوم حسن البنا كثيرون، وكارهوه ليسوا قليلين، وراغبو الخلاص منه عديدون، هو نفسه أشار ذات مرة إلى السعديين.

تحدث الإخوان كثيرا فى أدبياتهم عن دور الملك فاروق فى العملية وعن الانتقام الإلهى الذى حل به وزوال عرشه، وأن خروجه من مصر كان عقابا إلهيا لما حدث مع حسن البنا، والله سبحانه وتعالى لا يدير الكون بهذا المنطق، ولم يكن للملك فاروق دور مباشر فى هذه العملية، صحيح أن فاروق لم يكن يثق بحسن البنا، لكن البنا حتى وفاته كان من أشد الناس مدحا لفاروق.

ويبدو أن رجال التنظيم الخاص كانوا مقتنعين بأن الملك وراء الاغتيال، لذا سعوا إلى اغتياله، إذ يحكى مرتضى المراغى -فى مذكراته- إنه تم العثور على مسدس فى جيب عامل الأسانسير الخاص بقصر القبة، وهو الأسانسير الذى كان يستعمله الملك فاروق، لكن شاءت إرادة الله أن يبيت الملك ليلتها خارج القصر، وبالتحقيق مع هذا العامل تبين أنه عضو بالتنظيم الخاص للجماعة، وقد واجه المراغى المرشد الثانى حسن الهضيبى بتلك الواقعة.

واقعة اغتيال النقراشى حملت تحديا خاصا لحسن البنا، تمت العملية بينما قائد التنظيم عبد الرحمن السندى مقبوض عليه، وظل عبد المجيد حسن ملتزما الصمت، واتجه التركيز إلى مسؤولية البنا المباشرة عن هذه العملية، خاصة بعد أن رفض النقراشى مقابلته وتوسلاته، كان اتجاه التحقيق يسير نحو إدانة البنا مباشرة، ويبدو أنه أراد أن يبرئ نفسه فأصدر بيانه الشهير «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين»، ولما حمل المحققون البيان إلى عبد المجيد، فكت عقدة لسانه، وجاء فى اعترافاته أن العملية نفذت بتعليمات من المرشد، وأنه الذى أقنعه بتنفيذها وأفتاه بمشروعيتها رجل المرشد فى التنظيم سيد سابق، حيث تلا على عبد المجيد حسن الآية القرآنية الكريمة «يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون» (الأنفال: 45)، واستدعت النيابة سيد سابق للتحقيق فى ما نسبه إليه عبد المجيد حسن فأنكر تماما وأدان ما قام به عبد المجيد وتلا قول الله تعالى: «ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما» (النساء: 93).

سعى البنا إلى مقابلة إبراهيم عبد الهادى الذى أصبح رئيسا للوزراء بعد النقراشى، وكان البنا يتصور أن بيانه سوف يفتح الباب أمامه، لكن عبد الهادى قالها صريحة لن يجلس معه قبل أن يعترف بأسماء وأعضاء التنظيم ومخازن الأسلحة، فرد البنا بأنه لا يعرف وعاد البنا ثانية يطلب.. إذا كان رئيس وزراء مصرًا على مطلبه فهو يشترط إما الإفراج عن الأعضاء ليعرف منهم، وإما أن يعتقل إلى جوارهم، كى يعرف كل شىء منهم، ولم يكن حسن البنا فى وضع يسمح له بعرض شروط، فضلا عن أن هؤلاء المسؤولين لم يكن لديهم استعداد للاستماع إلى شروط منه، هو ليس مصطفى النحاس كى يشترط، هم اعتادوا منه المديح والتوسل وأن يقدموا له ولجماعته الهبات وأن يقوموا بتوظيفه هو وجماعته فى خدمات وأدوار يقومون بها، سوف نلاحظ أن الشرطين اللذين وضعهما البنا كان لهما معنى وحيد، هو أنه يبرئ نفسه من أى تهمة، لكن لا ينفيها عن إخوانه وجماعته، وربما كان يناور لكسب مزيد من الوقت، لإبعاد شبح الموت عنه.

بيان «ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين»، واستعداد البنا للتعاون مع الحكومة بكشف التنظيم، هو الذى جعل التفكير يتجه إلى أن رجال التنظيم هم الذين اغتالوه، وهذا أيضا من باب التوقعات، ربما كان ممكنا حدوث ذلك، لكن الواقع الفعال أن الذين قاموا بعملية الاغتيال لم يكن لهم صلة بالتنظيم، كانت صلتهم ببعض رجال الداخلية، ولو كان للتنظيم الخاص صلة أو مسؤولية عما جرى لحسن البنا، لما تردد رجال الثورة فى كشفها، خاصة بعد أن حاولوا اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر فى ميدان المنشية سنة 1954م، لقد قام رجال التنظيم بمحاولة اغتيال أحدهم وهو سيد فايز، حين أراد المرشد الثانى حسن الهضيبى تعيينه بدلا من عبد الرحمن السنوسى، وقاموا بمحاصرة حسن الهضيبى فى منزله، لكن لم يثبت أنهم فعلوا شيئا من هذا مع حسن البنا، أقصى ما حدث أن احتد عليه السندى بعد واقعة اغتيال الخازندار، وقيل إن السندى دفع البنا فى كتفه وهو يقول له «لقد قلت لى»، يقصد أنه قال له يقتل الخازندار.

لا يبقى سوى انتقام السعديين لزعيمهم أو انتقام بعض رجال الداخلية، كان هناك فريق من السعديين يصر على الثأر لقتل النقراشى، لقد شعروا بالإهانة، من طريقة مقتله، وربما كان بعض رجال الداخلية، لقد قتل الإخوان فى شهر واحد، حكمدار القاهرة اللواء سليم زكى ثم وزير الداخلية محمود فهمى النقراشى، قيل، وهى روايات شفوية: إن حامد جودة هو الذى تولى إحضار القتلة، وقيل آخرون.. لكنها فى النهاية أقوال مرسلة لا يمكن تأكيدها ولا إثباتها، المؤكد أن حسن البنا قتل، وأن الذين أطلقوا الرصاص عليه كانوا محدودى الكفاءة فى التخطيط والتنفيذ، أين تلك العملية مما فعله عبد المجيد حسن.. وهذا يبعد فكرة أن تكون العملية انتقامًا رسميا من الداخلية، هى على الأغلب انتقام سعدى.

ويبدو أنه كان هناك من يصر على الانتقام للنقراشى، وقد جرت واقعة لم يتوقف أحد عندها، جرت فى ليلة 23 نوفمبر 1952م، وحققتها مجلة المصور -عدد 12 ديسمبر 1952م- فى ذلك اليوم افتتح الشيخ «حسن الأحمر» فى قريته «عين غصين» بالإسماعيلية شعبة الإخوان، ولم تكن الشعبة افتتحت منذ حل الجماعة فى 8 ديسمبر 1948م، وفى نفس اليوم تم إطلاق الرصاص على الشيخ حسن فى منزله ومات، كان الأحمر من تجار القطن بالمنطقة، وتبين أن قاتله هو حسنين هاشم، كان حسنين من الشرقية، وذهب قبل الجريمة بأسبوعين إلى الأحمر طالبا أن يعمل لديه، وكان يبيت فى مدخل منزل الأحمر.. حامت الشبهات حول أحد الأشقياء فى القرية، فاضطر ذلك الشقى أن يكشف كل شىء، وهو أن «الأحمر» سجن عامين فى الهايكستب، لأنه هو من درب عبد المجيد حسن قاتل النقراشى على إطلاق الرصاص وجهزه لتنفيذ العملية، أما من قام بقتل الأحمر والذى ذهب خصيصا إليه فقد كان حارسا فى ليمان طرة واستقال من عمله قبل أسبوعين، وذهب إليه، لم يهتم أحد وقتها بهذه الجريمة ولم يتابعها أحد بالبحث، لكن الواضح أن القاتل استقال خصيصا من عمله وذهب إلى هذا الرجل فى قريته لينفذ العملية التى قام بها، فى التحقيقات اعتبرت المسألة جريمة قتل عادية، لكن الواضح أنه كان مدفوعا إليها.. نحن بإزاء حلقة من حلقات الثأر لمقتل النقراشى.

قتل النقراشى أولا بسبب قرار اتخذه ورأى ارتآه، واعتبر أنصاره شهيدا، وقتل حسن البنا فى عملية ثأر، وحين قتل كان يقال عنه «المرحوم» كان وحده يستعمل هذه الكلمة وكان الآخرون يستعملون كلمة «القتيل»، لكن منذ السبعينيات وحين عادت الجماعة إلى العمل أطلق عليه أنصاره لقب «الإمام الشهيد»، من الشهيد ومن القتيل بالضبط؟ النقراشى أم البنا؟!

اجمالي القراءات 4984
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق