الدفاع عن الحرية و رفض الشيطنة:
المحنة

عمر أبو رصاع Ýí 2008-04-01


وقعت بين يدي مؤخرا أحد كلاسيكيات الأدب الامريكي الروائي للكاتب الكبير آرثر ميلر هي رائعته (المحنة) لتثير شجونا لدي وكم أحببت أن اترجم هذا العمل إلى العربية و اضعه نسخة يكون اهداؤها لكل العقول التكفيرية في عالمنا العربي علها تثوب إلى رشدها، عالمنا العربي الذي بات اليوم غارقا حتى اذنيه بالتعصب و رفض الآخر بالقوة ، و لا اخفيكم أني لوهلة و أنا اقرأ تخيلت كاتبا بعينه كاتبا طالما قطر قلمه سماً زعافاً وهو ينتعل قلمه ليضرب به وجه كل من لم يتفق مع الحقيقة المطلقة التي يظن صاحبنا أنه يملكها و يملك حق فرضه على الآخرين بالقوة ، لكني لم اتخيل كاتبنا (المكفراتي) لوحده كرجل يستحق الاهداء بل ايضا جورج بوش النموذج الآخر بينما وثيقة بريطانية تكشف أنه كان ينتوي ضرب قناة الجزيرة فجورج بوش ايضا هو من ذلك الطراز (المكفراتي) الذي لا يطيق إلا أن يجعل سياسته في قدمه يفرض بها بالقوة حقيقته المطلقة على الآخرين(كتب هذافي تاريخ ذلك الحدث) ، حقا كليهما يستحق أن تهدى له رائعة آرثر ميلر (المحنة).

الرواية تدور احداثها في أواخر القرن السابع عشر في مستعمرة امريكية اسمها ماستشوتس تحديداً في قرية من قراها اسمها (سالم) ، المحنة وهي فعلاً محنة قصة جرت في تلك القرية حيث انتشرت بين أهلها حمى اتهام أهل القرية بعضهم لبعض ببيع ارواحهم للشيطان و التآمر معه ضد الخير و المؤمنين و الرب !
الاحداث تدور عام 1692م بين أهل قرية سالم و هم من اتباع طائفة الانقياء و اتباع هذه الطائفة فروا إلى أمريكا هرباً من الاضطهاد الديني في اوربا و هم فرع متشدد من البروتستانتية كانوا يدعون إلى العودة للمسيحية بنقائها و جذورها دعوة إلى تمثل (السلف الصالح) بعيداً عن تشويهات الكنيسة الكاثوليكية للمسيحية النقية ، لذا كانوا يلتزمون التزاماً حرفياً بتفسيرات الانجيل و يطبقونها بحذافيرها مع خوف و رعب شديدين من الخطيئة و من عذاب الرب الرهيب ، حيث النجاة من ذلك العذاب إلى النعيم الإلهي أمر لا يناله إلا قلة هي الفرقة التي ستنجوا من الجحيم.

كانت الجماعة تعلي من القيم الجماعية و لا تلتفت للقيم الفردية التي انتصرت عليها فيما بعد لحساب المجتمع المدني في القرن التاسع عشر رغم أنها ظلت تتمظهر من خلال الرؤية الرتيبة للعالم و الوجود و كل شيء من خلال ثنائية الخير و الشر التي لازالت شائعة في أمريكا ، أو ما نسميه نحن في خصائص الخطاب التكفيري بالرؤية ثنائية اللون (يا أبيض يا أسود) ، و قد سيطرت طائفة الانقياء على ماستشوتس باصوليتها الدينية و بدأت تطبق أحكامها بالقوة و اصبح الجميع أمام أحد خيارين إما معنا و بالتالي مع الله و الخير و إما ضدنا و بالتالي مع الشيطان و الشر.
لنعود للرواية الآن ، تبدأ الرواية بجمع من المراهقات الصغيرات بقيادة ابنت راهب القرية بيتي و صديقتها آباجيل اجتمعن في لعبة طفولية يرقصن فيها في محاولة للاتصال بالشيطان و الارواح لمطالبتها بتحقيق احلامهن ليداهمنهن الراهب غفلة و تسقط ابنته مغشياً عليها من هول الصدمة و من شدة رعبها و رفضت الفتيات البوح بعلة الفتاة ، و خشي الراهب أن يفسر أهل سالم علة ابنته كما درجت العادة عندهم في تفسير المرض أن روحا شريرة شيطانية سكنتها.

و بينما الراهب يؤم أهل سالم في الصلاة استيقظت ابنته و كانت محاطة بالفتيات فهددنها إن وشت بأمر الرقصة لأبيها ، فارتعبت الفتاة و صرخت بعنف قاطعة الصلاة و هرع أهل سالم إليها و لم يعد من شك أن روحا شيطانية سكنت الفتاة لا ريب، وامسك الراهب بخادمته السوداء التي كانت مع ابنته و بدأ تعذيبها حتى انهارت الفتاة تحت التعذيب و اعترفت أنها تآمرت مع الشيطان لتسهل له مهمة الاستيلاء على روح الطفلة بل و أنه حرضها على قتل الراهب ، و من شدة حنقها على بعضهن اعترفت على بعض بنات القرية و سيداتها كشركاء لها في التحالف مع الشيطان.

هكذا اندلعت الهستيريا و تدخلت حكومة المستعمرة المتشددة لتعدم حلفاء الشيطان و في المحكمة بدأ البعض يحاول الافلات بالاعتراف على نفسه و على متآمرين جدد مع الشيطان لينجو بنفسه ، و اتسعت رقعة التهم و التهم الجديدة و إذ بمؤامرة الشيطان التي فجرها الراهب تكاد تفتك بأهل سالم ، حتى بلغ الأمر حدا ما عاد أهل سالم معه بقادرين على مواصلة حياتهم ، و الحكومة و المحكمة صارت تشعر بالمأزق الذي وقعت فيه و تحاول احتواء الأمر الذي ماعاد ينتهي ، ثار أهل سالم على الراهب و ثار معهم الناس وانتهت القضية ببطل قبل الموت بشجاعة رافضاً الاعتراف على نفسه أو على آخرين ليوقف هذه المأساة التي فتكت بالناس و يوقف امتداد النار التي اندلعت.
لقد كتب آرثر ميلر روايته هذه تحت تأثير واقع أحداث مؤلمة مشابهة اجتاحت أمريكا عندما أجج السيناتور ماكارثر الأزمة الشهيرة ضد المتعاطفين مع الشيوعيين في عز العداء للشيوعيين أوائل الخمسينات ، و حصل نفس ما حصل في قرية سالم عندما اخذ بعض المثقفين يعترفون على آخرين بتعاطفهم مع الشيوعية لينجوا بنفسه و اتسعت دائرة الاشتباه حتى طالت العديد من رموز الفكر في أمريكا و تصدى بعضهم لهذه التهمة الحقيرة و رفض أن يعترف بالتهمة أو عن آخرين متعاطفين مع الشيوعية ليوضع هؤلاء العظماء على قوائم سوداء في امريكا حرمتهم من أي فرصة داخل المجتمع الامريكي ، لكن هؤلاء كانوا أيضا تلك الصرخة التي يطلقها دائما اناس مؤمنون بالحرية يقفون بتحدي للموت أمام كل ماكارثية جديدة و كل محكمة تفتيش جديدة ، ليطلقوا صرخة الحرية مدوية في وجه من أعماهم التعصب و ظنوا انهم امتلكوا الحقيقة المطلقة و حق فرضها على الناس ، آثر ميلر أيها الروائي العظيم شكراً لك وصلت الرسالة ، و لأن الحياة و الحرية الانسانية أقوى من الموت فإنه لا بد أبداً لكل ماكارثية جديدة من آرثر ميلر جديد.

اجمالي القراءات 13432

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (2)
1   تعليق بواسطة   شريف هادي     في   الثلاثاء ٠١ - أبريل - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[19356]

إشارة اصبع

أخي الاستاذ عمر


أشكرك على هذه المقالة الرائعة ، الحقيقة أن أرثر ميلر أشار لمواطن القصور في المجتمع الذي يعيش فيه مع إمكانية تطبيق ذلك على أي مجتمع إنساني مع إختلاف في أسماء أشخاص الرواية فقط لا أكثر


أما البطل الحقيقي هو كل من يقف في وجه الماكارثية ويقول لا حتى لو ضحى بعمره وهو من أراد أرثر ميلر تخليده بهذه القصة العظيمة


شكرا لك مرة أخرى وطاب يومك بألف خير


شريق هادي


2   تعليق بواسطة   عمر أبو رصاع     في   الأربعاء ٠٢ - أبريل - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[19399]

البطل

شكرا لمرورك سيد شريف هادي ، و اتفق معك تماماً على ان البطل هو من يتصدى لكل ماكارثية حتى النفس الاخير بكل وسائله النضالية.


تقبل تحياتي


عمر


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-08-26
مقالات منشورة : 53
اجمالي القراءات : 938,482
تعليقات له : 123
تعليقات عليه : 247
بلد الميلاد : الأردن
بلد الاقامة : الأردن