ب 3 / ف 1 / ج 4 : رمضان بين سطور التاريخ : ( ثلاث مقالات )

آحمد صبحي منصور Ýí 2024-04-05


ب 3 / ف 1 / ج 4 : رمضان بين سطور التاريخ : ( ثلاث مقالات )

كتاب ( رمضان والصيام بين الاسلام والدين السنى ) دراسة أصولية تاريخية

الباب الثالث : لمحة عن رمضان فى التاريخ  

الفصل الأول : رمضان بين سطور التاريخ : الجزء الرابع ( ثلاث مقالات )

 

المقال الثالث عشر 

ملامح من رمضان فى عصر قايتباى

المرجع الأساس لعصر قايتباى هو المؤرخ ابن الصيرفى الذى أرّخ له وهو يعمل قاضيا للسلطان ، بالاضافة الى اثنين من المؤرخين هما ابو المحاسن ابن تغرى بردى وابن اياس . وننقل ملامح من رمضان فى القاهرة فى عصر السلطان المملوكى قايتباى :
رمضان سنة 873 هـ
 بداية الأسبوع الثالث من رمضان 873هـ يوافق 29 مارس 1468م
كان الطاعون منتشراً في أوائل شهر رمضان ثم خفت حدته بحلول الأسبوع الثالث منه . ومع نقص الطاعون فالموت لا يزال موجوداً بكثرة بين الأمراء والأعيان من المماليك 
في ليلة الخميس 16 رمضان مات بالطاعون الأمير قانباي الحسني والي القاهرة المحروسة، وكان من مشاهير الظلمة ودفن في اليوم التالي ، وقال عنه المؤرخ أبو المحاسن " وأما أفعاله فسيئة ، وباشر الولاية مباشرة سيئة ، وحسابه على الله تعالى .  ".
وقال عنه المؤرخ ابن الصيرفي فى كتابه ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) " أصله من عتقاء الملك الأشرف إينال، وله الوقائع المعلومة الصادرة عنه من الظلم والأذى إلى غير ذلك .  " .
  رمضان سنة 875 هـ
بداية الأسبوع الثالث من رمضان 875 هـ الموافق 6 مارس سنة 1475 م
يقول المؤرخ القاضى ابن الصيرفى إنه منذ منتصف رمضان إلى نهاية هذا الأسبوع عاش الصناع (الحرفيون ) في القاهرة في ظلم شديد بسبب تعسف المماليك، فالخياطون وصناع الجوخ وأرباب الصناع سخرهم الداودار الكبير للعمل عنده في تجهيز عدة الجيوش ومستلزماتها أثناء استعداده للزحف إلى شاه سوار الثائر على الدولة المملوكية في العراق . ومع أن الداودار الكبير قرر لهم أجوراً نظير عملهم إلا أنه كان يماطلهم ولم يعطهم شيئاً . وأما التجار وأصحاب الجوانيت فإنهم من أول شهر رمضان إلى نصف الشهروهم بلا عمل بسبب انتظارهم لبيع تركة الأمير بردبك نائب الشام، وحتى الأسبوع الثالث من رمضان لم ينته البيع ، ثم إن الوزير ابن الغريب فرض على الإسكافية أن يشتروا منه جلود المدابغ بضعف ثمنها، واضطر الإسكافية في(بين الصورين) للشراء وصبروا على الظلم ، أما أساكفية حي (الصليبة) فإنهم أخذوا الجلود ووعدوا أعوان الوزيربدفع بعض الثمن، ثم أصبحوا فوقفوا أمام القلعة يستجيرون بالسلطان قايتباي ، فمنعهم خدام الحوش السلطانى فرجعوا وصعدوا إلى أعلى الجبل المقابل لحوش السلطان الذى يجلس فيه للخدمة والأحكام واستغاثوا، فسأل السلطان عن أمرهم فأخبروه بحالهم وأن الوزير ابن غريب فرض عليهم الجلود بضعف ثمنها وغرمهم، فأمر السلطان بإنصافهم وكف الوزير عنهم ، فدعوا للسلطان وانصرفوا. 
رمضان سنة 876هـ
في يوم الإثنين 15 رمضان 876 عرضت كسوة الحرم الشريف بمكة على العادة بالقصر السلطاني بالقلعة، وأنعم السلطان قايتباي على القاضي برهان الدين الكركي وهو إمام المسجد السلطاني بالقلعة ، وأنعم على ابن القاضي شرف الدين الأنصار لأنه ناظر كسوة الحرم الشريف، وكان برهان الدين الكركي هو الذي باشر إعداد كسوة الكعبة، وأنعم السلطان إيضاً على بقية من باشر في إعداد الكسوة الشريفة.
وفي نفس اليوم صعد رسل السلطان العثماني لمقابلة السلطان قايتباي بالقلعة، وكان رسل السلطان العثماني في موكب حافل واستقبلهم السلطان قايتباي في أبهة زائدة، وقدموا هديتهم للسلطان فقبلها، وكانت هديتهم أربعة من المماليك وأثواب سمور وسنجاب وعشرة أقفاص فضيات . وكان مع كبير الرسل العثمانيين رسالة للسلطان قايتباي فقرأها السلطان قايتباي سراً. وكان رسل السلطان العثماني في طريقهم للحجاز. وكان الحجاز تحت السيطرة المملوكية وفي هذا اليوم كان أول شهر برمهات القبطي... وكان البرد فيه شديداً للغاية.  .

 

المقال الرابع عشر

ذنوب في رمضان ـ وزلزال في ذي الحجة

1 ـ حدث زلزال عام في مصر في ذي الحجة يوم 23 سنة 702هـ والمقريزي يرى أن ذلك الزلزال هو عقوبة على ما حدث في رمضان الذي قبله ، فقد انتصر المماليك على غازان والتتار في الشام وجاءت البشرى للقاهرة فأقيمت الأفراح والليالي الملاح وظهرت الخمور وتبرجت النساء ، وكان لابد من العقوبة . يقول المقريزي " وفيها كانت الزلزلة العظيمة ، وذلك أنه حصل بالقاهرة ومصر في مدة نصب القلاع والزينة من الفساد في الحريم وشرب الخمور ما لايمكن وصفه من خامس شهر رمضان إلى أن قلعت ـ أى الزينة ـ في أواخر شوال ، فلما كان يوم الخميس يوم 23 ذي الحجة عند صلاة الصبح اهتزت الأرض كلها وسمع للحيطان قعقعة وللسقوف أصوات شديدة، وصار الماشي يميل والراكب يسقط حتى تخيل الناس أن السماء انطبقت على الأرض ، فخرجوا في الطرقات رجالاً ونساءاً، ومن شدة الخوف والفزع خرجت النساء مكشوفات الوجه ( لاحظ هنا أن النساء كن يلبسن النقاب ، ومع ذلك كان الفسق سائدا حتى فى رمضان ) ..واشتد الصراخ وعظم الضجيج والعويل وتساقطت الدور وتشققت الجدران وتهدمت مآذن الجوامع والمدارس، ووضع كثير من الحوامل ما في بطونهن ، وخرجت رياح عاصفة ففاض ماء النيل حتى ألقى المراكب التي كانت بالشاطئ ، وعاد الماء عنها فأصبحت على اليابس وتقطعت مراسيها ، واقتلع الريح المراكب السائرة في وسط الماء وحدفها على الشاطئ  ).
  ونتابع المقريزى وهو يقول : ( وضاعت للناس أموال كثيرة ، فقد خرجوا من بيوتهم مفزوعين وقد تركوا خلفهم بيوتهم بكل ما فيها وقد ذهلوا عن أموالهم، وسرعان ما دخلها اللصوص وسرقوها، وترك الناس القاهرة إلى خارجها ، ونصبوا الخيم من بولاق إلى الروضة وباتوا فيها. ولم تكد دار في القاهرة تسلم من الهدم أو الفوضى ، وسقطت المنشئات التي في أعلى البيوت، ولم تبق دار إلا وعلى بابها التراب والطوب، وبات الناس ليلة الجمعة بالجوامع والمساجد يدعون الله تعالى إلى وقت صلاة الجمعة .!! )
  وعن الزلزال خارج القاهرة يقول المقريزى : (وتواترت الأخبار من الغربية بسقوط جميع دور مدينة سخا حتى لم يبق بها جدار قائم وصارت كوماً ، وأن ضيعتين بالشرقية خربتا حتى صارتا كوماً ، وقدم الخبر من الآسكندرية بان المنارة انشقت وسقط من أعلاها نحو الأربعين شرفة ، وان البحر هاج وألقى الريح العاصف أمواجه حتى وصل باب البحر، وصعد بالمراكب الأورربية على البر ، وسقط جانب كبير من السور المقام على الشط ، ومات جمع كبير من الناس ).!! ( وقدم الخبر من الوجه القبلي بأن في اليوم المذكور هبت ريح سوداء مظلمة حتى لم ير أحدٌ أحداً لمدة ساعة ، ثم ماجت الأرض وتحركت وظهر من تحتها رمل أبيض وفي بعض المواضع رمل أحمر ، وكشط الريح مواضع بين الأرض فظهر من داخل الأرض عمائر قديمة ــ فرعونية ــ كانت الرمال قد أخفتها ، وخربت مدينة قوص .) ، وقدم الخبر من البحيرة أن دمنهور لم يبق بها بيت عامر.!! 
  وعن خسائر الزلزال فى العمائر المملوكية الشهيرة يقول المقريزى : ( وتركت الزلزلة آثارها المدمرة على المساجد المشهورة بمصر والقاهرة مثل جامع عمرو بن العاص ، فالتزم الأمير سلار النائب بعمارته ، وخربت أكثر سواري جامع الحاكم بالقاهرة وسقطت مئذنتاه فالتزم الأمير بيبرس الجاشنكير بعمارته ، وخرب الجامع الأزهر فالتزم الأمير سيلار بعمارته أيضاً وشاركه فيه الأمير سنقر الأعسر. وخرب جامع الصالح خارج باب زويلة فعمره السلطان من ديوان الخاص وتولى عمارته الأمير علم الدين سنجر، وخربت مئذنة المدرسة المنصورية فعمرت من إيراد الوقف عليها وقاد بترميمها الأمير سيف الدين كهرداس الزراق ،وسقطت مئذنة جامع الفكاهين ، وأمر السلطان بعمار ما تهدم من سور الأسكندرية .)
 وعانى أهل الشام من نفس الزلزال ، يقول المقريزى : ( وقدم البريد من صفد يخبر بأنه في يوم الزلزال سقط جانب كبير من قلعة صفد، وأن البحر من جهة عكا انحسر قدر فرسخين وانتقل عن موضعه إلى البر فظهر في موضع الماء أشياء كثيرة في قعر البحر من أصناف التجارة كانت غارقة. وتشققت جدر جامع الأموي في دمشق.)
  وعن طبيعة الزلزال والهزات التالية الناتجة عنه يقول المقريزى يعكس ثقافة عصره عن الزلازل : واستمرت الزلزلة خمس درجات ( بمقياس العصر المملوكي وليس بمقياس ريختر ) إلا أن الأرض أقامت عشرين يوماً ترجف ، وهلك تحت الردم خلائق لا تحصى ، وكان الزمان صيفا فتوالى بعد ذلك رياح شديدة الحرارة عدة أيام ).)
ويقول عما حدث بعد هدوء الأرض وسكوت الزلازل : ( واشتغل الناس بالقاهرة ومصر مدة طويلة في ترميم المباني وإعادة بنائها، وارتفعت أسعار مواد البناء لكثرة الطلب عليها ، لأن القاهرة أصبحت لمن يراها كأن جيشاً أغار عليها وخرّبها. ).
ثم يعود المقريزى ليؤكد الحجة المعروفة من ان الفسق والفجور والعصيان أسباب الزلزال ، لذا أقلع الناس ( مؤقتا ) عنها ، يقول المقريزي " فكان ذلك من لطف الله تعالى بعباده، فإنهم رجعوا عن بعض ما كانوا عليه من اللهو والفساد أيام الزينة ، وفيهم من أقلع عن ذلك لكثرة ما توارد من الأخبار من بلاد الفرنج وسائر الأقطار مما كان من هذه الزلزلة ".."
  وعلى هامش الزلزال ردد الناس قصصا قد تكون خيالية او صحيحة ، فأثناء ترميم الأمير بيبرس الجاشنكير للجامع الحاكمي بعد الزلزال وجدوا في ركن من المئذنة كف انسان مع ذراعه قد لف في قطن وعليه أسطر مكتوبة لم يعرف أحد قراءتها )، ( وحدث ان نبشوا دكان لبان كان قد تهدم فإذا أخشاب الدكان قد تصلبت على اللبان وهو حي وعنده جرة لبن ظل يتقوت منها عدة أيام، فأخرجوه حياً لم يمسسه سوء!!)( وفى مدينة قوص بالصعيد حدث أن رجلاً كان يحلب بقرة فارتفع ذلك الرجل في وقت الزلزلة وبيده المحلب وارتفعت معه البقرة حتى سكنت الزلزلة ثم انحط إلى مكانه من غيران يتبدد شيئ من اللبن الذي في المحلب . ) )
  وفي القرون الوسطى كان التطرف سيد الموقف،إذا لاحت فرصة للإحتفال والزينة والإنحلال الخلقي تطرفوا في المعاصي، وإذا جاءتهم كارثة بعدها تطرفوا في الشعور بالذنب ، ثم إذا انتهت الكارثة عادوا إلى ما كانوا عليه من اللهو واللعب، وكان ذلك يحدث غالياً قبل كوارث المجاعات والأوبئة وبعدها.. وكم في تاريخ العصور الوسطى من محن وعبر.!! 

 المقال الخامس عشر 

 رمضان فى العصر الفاطمي

1 ـ تحول رمضان فى الخلافة الفاطمية إلى مناسبات شتى وطقوس متنوعة وحفلات متتابعة أصبح بها فريدا بين شهور العام ..

2 ـ وتبدأ الاحتفالات الفاطمية بأول يوم فى رمضان أو ما يعرف بغرة رمضان . وهناك ما كان يعرف بطبق غرة رمضان حيث يرسل الخليفة الفاطمي فى أول رمضان هدية لجميع الأمراء والموظفين والخدم ، وهذه الهدية عبارة عن طبق لكل واحد منهم وطبق لكل واحد من أولاده ونسائه ، وفى الطبق حلوى وفى وسطه صرة من الذهب ، فيعم ذلك سائر أهل الدولة ، ويقال لذلك غرة رمضان.  وقبل توزيع غرة رمضان يكون ركوب الخليفة الفاطمي فى موكب يشق القاهرة ويبدأ الاستعداد لركوب الخليفة بانقضاء الأيام  الأخيرة من شعبان .

3 ـ طقوس ركوب الخليفة الفاطمي: 

ركوب الخليفة الفاطمي فى أول رمضان كان يعنى عند الشيعة الإسماعيلية رؤية الهلال، ومع ذلك فأن طقوس ركوب الخليفة الفاطمي فى رمضان هي نفس الطقوس الفاطمية فى ركوب الخليفة فى كل المناسبات خصوصا ركوبه فى أول العام . وكان من العادة أن تكتب منشورات رسمية إلى الولاة والعمال والنواب فى الأقاليم تصف هيئة ركوب الخليفة فى تلك المناسبات وما حدث فيها .

وقبل خروج الخليفة يتم تزيين الشوارع . ويقوم بذلك تجار القاهرة ومصر ( ويقصد بهما ما يعرف الآن بالقاهرة الكبرى) وأولئك التجار كان فى مقدمتهم الصيارفة وتجار الجواهر والقماشون والصاغة ، وكل تاجر يزين الطريق بما تقتضيه تجارته وبما يعد فى عصرنا إعلانا عن التجارة التي يمارسها ويحرص على كتابة الشعارات التي توضح أنه ينتظر البركة من مرور موكب الخليفة بجواره.

ويصطف العساكر والعبيد على الطرقات وعلى أبواب الحارات التي يجرى تجميلها وتنظيفها لمرور الموكب ، ثم يبدأ الخليفة باستدعاء الوزير ليطمئن منه على برنامج الموكب ، وبعدها يخرج الخليفة من قاعة الذهب وأمامه الوزير فيجتاز باب الذهب ، وتكون صفوف العساكر عن يمينه ويساره من القصر إلى الشارع . وحين يخرج من القصر يبدأ بباب الفتوح حيث يستقبله العساكر وهم فى أبهى زينة .

ويمشى الموكب فى الشوارع وقد علقت عليها الستائر والأعلام ، ويدخل من باب النصر ويتم توزيع الصدقات على المساكين وتفرقة الأموال على (المستورين ). ثم يعود إلى القصر فيدخله من باب الذهب الذي خرج منه ، وهنا يتلقاه المقرئون بترتيل الآيات القرآنية فى طول الدهاليز إلى أن يدخل خزانه الكسوة الخاصة بالخليفة ، وفى الخزانة يغير الخليفة ثياب الموكب بثياب غيرها ، ويتوجه بالثياب الجديدة إلى تربة آبائه ليقرأ عليهم الفاتحة ، ثم يعود إلى قصره للراحة . وفى ذلك الوقت تكون الأسمطة – أي الموائد – قد تجهزت ، بنفس الطقوس المعتادة فى تجهيز الموائد وفى حضورها وفى تفرقة الطعام ..

4 ـ سماط شهر رمضان

وكانت العادة أن تقام المآدب الرسمية لشهر رمضان فى قاعة الذهب حيث يوجد عرش الخليفة الفاطمي –أو السريرـ المصنوع من الذهب الخالص والمطعم بالجواهر .وكان لجلوسه على ذلك العرش الذهبي طقوس خاصة تخرج عن موضوعنا ، ولكن كانت قاعة الذهب هي مكان سماط الشهر الرمضاني .

وتبدأ المآدب الرسمية من يوم الرابع فى رمضان إلى السادس والعشرين منه.

ويتم دعوة الضيوف إلى هذه المآدب الرسمية باستدعاء رسمي من قصر الخلافة. ووفقا  لنظام خاص ، فقاضى القضاة تأتيه الدعوة فى ليالي الجمع توقيرا له ، أما الأمراء ففي كل ليلة يأتي قوم منهم بالنوبة وبالترتيب حتى لا يحرمونهم من الإفطار مع أسرهم وأولادهم ، ويتم ذلك طبقا لاستدعاء رسمي لكل منهم حتى لا يتأخر ، والوزير يحضر كل يوم ويجلس فى صدر المجلس ، فإن تأخر أو لم يحضر لعذر طارئ حضر عنه أبنه أو أخوه ، وإن لم يحضر ناب عنه صاحب الباب أو الحاجب.

فإذا حضر الوزير أخرجوا إليه من الطعام الموجود أمام الخليفة ، ويمر الخليفة بيده على ذلك الطعام تشريفا للوزير ، وربما حمل الوزير لسحوره بعضا من السحور الخاص بالخليفة .

وكل ما هو معروف ومشهور من الطعام يوضع على تلك الموائد فى طول القاعة بحيث لا يفوت القائمون على إعداد السماط شيء من أطايب الطعام ، وسفرة  الطعام مبسوطة تشمل ثلثي القاعة ، والفراشون قيام يخدمون الحاضرين ويحضرون لهم الماء المبخر فى كيزان الخزف .

وتنتهي المأدبة بعد العشاء الآخرة  فيتفرق الحاضرون ، وبعضهم يأخذ معه ، ما يكفى جماعة ، ويتم توزيع ما يبقى على أهل القاهرة ، وتصل تكلفة السماط الرمضاني ثلاثة آلاف دينار فى مدة سبعة وعشرين يوما .

5 ـ سحور الخليفة :

وبعد الإفطار وسماط رمضان ، يجلس الخليفة فى الروش إلى وقت السحور والمقرئون تحته يقرأون القرآن ( يتغنون به ) ويطربون بحيث يشاهدهم الخليفة ، ثم يحضر بعدهم المؤذنون فيأخذون فى التكبير وذكر فضائل السحور ويختمون بالدعاء، ثم يأتي الوعاظ فيذكرون فضائل رمضان وينشدون مدائح للخليفة وقصائد صوفية ، ثم يقوم الجميع للرقص ويستمرون فيه إلى منتصف الليل ، فيأتي للخليفة أستاذ من القصر ومعه كشف بالإكراميات للمقرئين والمؤذنين والوعاظ ، فينظر فيه الخليفة ثم يأذن بتوزيعه عليهم ، ثم تأتى إليهم كميات ضخمة من القطائف والحلوى فيأكلون ويملئون أكمامهم ليعودوا لأولادهم بشيء منها وما يتبقى يتخطفه الفراشون والخدم.

ثم يجلس الخليفة فى سماط السحور فى نفس القاعة – قاعة الذهب – وبين يديه المائدة ، وقد عبئت بكل أنواع اللحوم من حيوان وطيور ، وفى وسط المائدة آنية ضخمة اسمها " القعبة الكبيرة" وقد ملئت بطعام خاص بالخليفة ، ويحضر جلساء الخليفة على السحور وكل منهم يأكل ما يقدر عليه ، ثم يومئ الخليفة لهم بالأذن من أكل الطعام الموجود فى " القعبة الكبيرة" فيفرق الفراشون عليهم منه ، وكل من تناول منه شيئا قام وقبَّل الأرض أمام الخليفة وأخذ منه على سبيل البركة لأولاده ، وبعدها تقدم لهم الصحون الصيني مملوءة بالقطائف فيأخذون منها كفايتهم .

وبعدها ينتقل الخليفة إلى مكان أخر اسمه الباذهنج فيجلس وأمامه العصائر وأنواع اللبن والسويق والفواكه ، ثم يكون بين يديه صينية ذهب مملوءة من السفوف ، ويحضر الجلساء ويأخذ كل منهم فى تقبيل الأرض أمام الخليفة ويسأله أن ينعم من ذلك ،فيفرق الفراشون عليهم منه فيأخذونه فى أكمامهم وينصرفون بعد السلام.

كشف المساجد:.

وفى الأيام الثلاثة الأخيرة من رمضان يقوم القضاة بكشف المساجد ، فيطوفون بمساجد القاهرة ومصر لينظروا حالها وما تحتاجه من عمارة وتنظيف ووقود للقناديل وحصير وغير ذلك ، وتبدأ مسيرة القضاة بجامع المقس ثم ببقية المساجد والجوامع ثم بالأضرحة ثم بالقرافة ، وكان يصحب القضاة كثير من الشهود والطفيلين الذين ينتهزون الفرصة بذلك لحضور السماط مع القضاة .

الختم فى آخر رمضان :.

وموعده يوم 29 رمضان ، وفيه يتم إعطاء المقرئين والمؤذنين والوعاظ أضعاف ما كانوا يأخذون فى الليالي السابقة . ويحضره الوزير وآله مع الخليفة مع جمع من المقرئين والمؤذنين والوعاظ ، وتحضر سيدات القصر أنواعا من الأطعمة والمثلجات وتوضع أمام المقرئين والمؤذنين لتشملها بركة ختم القرآن ، ثم يستفتح المقرئون القراءة بالحمد إلى خاتمة القرآن تلاوة وتطريبا ، ثم يقف الخطيب فيسمعون منه ويدعو للخليفة ، ثم يكبر المؤذنون ويهللون وينشدون القصائد ، ثم ينثر الخليفة عليهم الدنانير والدراهم ، وتقدم لهم أواني القطائف مع أنواع الحلوى ثم يخرج أستاذ من القصر ومعه كسوة التشريفة ويتم توزيعها على الخطيب وغيرة مع دراهم أخرى تفرق على المقرئين والمؤذنين والوعاظ.

وفى أواخر رمضان سنة 516 وفى خلافة الآمر الفاطمي أقام الخليفة حفلا لختم رمضان وعبىء سماط

الفطرة فى مجلس الملك بقاعة الذهب ، وكانت الحلوى أهم طعام فى السماط ، وبعدها صلى الخليفة الآمر بالناس صلاة العيد فى المصلى التي تقع بالقرب من باب النصر ، وخطب بالناس . وكان ذلك كله قد أبطله الوزير الأفضل فعاد العمل به بعد مقتل الأفضل .

اجمالى التكلفة

وبلغ المصروف على نفقات الموائد فى ليالي رمضان كلها 16436 دينارا ، بالإضافة إلى مرتبات المقرئين والمسحراتية وثمن المشروبات والحلاوة والألعاب ، وبلغت المصروفات العامة على شهر رمضان مائة ألف دينار نقدا وتشمل النفقات الإضافية والصدقات وحلوى عيد الفطر وكسوة العيد .

وكانت العادة أن تضرب الخلافة الفاطمية نقودا تذكارية تصل جملتها السنوية خمسمائة دينار وتتحول إلى عملة تذكارية صغيرة ويتحول الدينار إلى عشرين خروبة . وكلها يتم توزيعها فى مناسبات رمضان .

 

كل عام وأنتم ــ أحبتى ـ بكل خير وفضل من الله جل وعلا ونعمة . 

اجمالي القراءات 2300

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (2)
1   تعليق بواسطة   حمد حمد     في   السبت ٠٦ - أبريل - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً
[95174]

بارك الله جل وعلا بعمرك وعلمك دكتور أحمد المحترم.


لقد شدني كثيرا ما كتبته عن أحوال الخلفاء والعامه في رمضان والأحداث التي رافقت تلك الحقبة وهي قد جاءت متأخره هل هناك أحداث مشابهة في عصر الخلفاء الفاسقين والدولة الأموية ، كذلك هالني ماكتبه الفيلسوف الطبيب عبداللطيف البغدادي في وصف المجاعة في مصر في تلك الفترة خاصة وصفه شواء الأطفال وأكلهم دون مبالات من أحد ألا تشك إنه قد بالغ في الوصف وهل هناك من كتب عن تلك الحوادث غيره من كتبة التاريخ. مع خالص التقدير لكم. 



2   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الأحد ٠٧ - أبريل - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً
[95179]

جزاك الله جل وعلا خيرا استاذ حمد ، واقول :


  أكتب فى التاريخ باعتبارى باحثا متخصصا ، له فى هذا التخصص ما يقرب من نصف قرن. وماذكره عبد اللطيف البغدادى كان من واقع المشاهدة والمعاصرة ، وهو نفس ما حدث فى المجاعة المستنصرية ، ونفس ما كان يحدث فى بغداد فى العصر العباسى الثانى ، وكتبنا فى هذا كله . أما فى تاريخ الخلفاء الفاسقين قبل العصر العباسى فقد كان الغالب على التأريخ له هو الأحوال السياسية ، ومعظمه نقل عن روايات سابقة . تطور التأريخ فى الحوليات التاريخية فى العصر العباسى الثانى ، وبلغ أوج تطوره فى العصر المملوكى ، وأصبح المؤرخ المعاصر للأحداث يدونها كل شهر وربما باليوم وتتسع للأحوال الاجتماعية ، وهذا زاد علمى ثمين للباحث المهتم بأحوال المستضعفين مثلى ، وينقّب عنها بين سطور الحوليات التاريخية . فالسلطان هو الذى يصنع التاريخ ـ ظاهريا . أما الصُنّاع الحقيقيون له فهم أجدادنا المستضعفون الذين كانوا يكدون فى إنتاح الخير.. للغير . ألا لعنة الله جل وعلا على أكابر المجرمين . 

أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5117
اجمالي القراءات : 56,871,194
تعليقات له : 5,451
تعليقات عليه : 14,828
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي