( بنو إسرائيل فى مصر الفرعونية ... فى رؤية قرآنية ) : الكتاب كاملا

آحمد صبحي منصور Ýí 2018-02-17


( بنو إسرائيل فى مصر الفرعونية ... فى رؤية قرآنية ) : الكتاب كاملا

هذا الكتاب :

يتناول من رؤية قرآنية تسجيل حياة بنى اسرائيل فى مصر وعلاقة موسى بفرعون فى إطار الجدل بين الحق والقوة ، ويستمر مع بنى اسرائيل بعد هلاك الفرعون ونظام حكمه ، الى دعوة موسى لهم بدخول الأرض المقدسة . ويتضمن فصولا أخرى للوعظ والتذكير .

 الفهرس

مقدمة 

الفصل الأول: جدل الحق والقوة بين موسى والفرعون

( 1 ) جدل القوة والحق  فى رؤية قرآنية : (  أولا : جدل الحق والقوة بين الدنيا والآخرة ثانيا : جدل الحق والقوة  ( على الأرض  ) فى قصص الأمم التى أهلكها الله جل وعلا )

(2 )فرعون موسى إحتكر القوة وإحتكر الزعم بالحق : أولا : إحتكار فرعون للقوة و ( الحق ) من وجهة نظره  . ثانيا : فرعون استخدم الارهاب ليؤكد زعمه بإحتكار الحق :ثالثا : إحتكار فرعون موسى للحق والقوة جعله خبيرا فى أهمية الدعاية والإعلام )

 (3 ) رد على تعليقات على المقال السابق

( 4 ) موسى الخائف الذى يحمل الحق فى مواجهة فرعون المتوحش

( 5 ) ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه )  مقدمة : كيف تعامل موسى ( ومعه الحق ) مع فرعون ( ومعه القوة ) ؟  أولا : مدى قوة موسى :ثانيا : مدى معرفة فرعون بالحق الالهى  ثالثا : خطاب موسى الليّن لفرعون  )

الفصل الثانى : الوعد الالهى والاستخلاف

(1 )  تحقق الوعد : بنو اسرائيل يرثون مصر بعد فرعون  

( 2 )  بنواسرائيل  وموسى فى مصر بعد  فرعون : قارون بين الحق والقوة 

(3 )  إبتلاء الاستخلاف  فى فرعون وبنى اسرائيل 

الفصل الثالث :  بنواسرائيل وموسى فى مصر بعد  فرعون :

( 1 ) ميقات موسى فى جبل الطور : أولا : الميقات الأول : ثانيا : الميقات الآخر : 

(2 ) عصيان بنى اسرائيل فى غياب موسى عند جبل الطور :   

( 3 ) ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْغَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..)

( 4 ) : أخذ الميثاق على بنى اسرائيل تحت جبل الطور  

(5 ) خروج بنى اسرائيل من مصر نحو الأرض التى كتبها الله جل وعلا لهم  

الفصل الرابع : بين الاسرائيليين والمحمديين

( 1 )  لماذا هذا التركيز على بنى اسرائيل فى القرآن الكريم ؟   

( 2 ) بنواسرائيل و المحمديون بين التفضيل والتحقير

الخاتمة : العظة من قصة موسى وفرعون: أولا : ( بين الحق والاستحقاق ) 

 

 

مقدمة :   قصة فرعون موسى فى التأريخ للعصر الفرعونى

1 ـ ذكرت التوراة قصة موسى وفرعون ، ثم تكررت فى القرآن الكريم موصوفة بالحق لقوم يؤمنون ( القصص 3 ) جاءت إشارات وتخمينات فى التأريخ لمصر الفرعونية كتبها بعض علماء المصريات . وبعضهم تجاهل الموضوع لأن ما وصلوا اليه من آثار فرعونية لا يوجد من بينها ما هو منسوب لهذا الفرعون . وهم يستقون معلوماتهم من المكتشفات الفرعونية وما هو مسجل من أوراق البردى . هؤلاء علماء يستحقون الاحترام ، فهم يكتبون طبقا للمادة التاريخية المتاحة لديهم حتى هذا الوقت .

2 ـ الذين لا يستحقون الاحترام هم أولئك الذين يقطعون بعدم وجود فرعون موسى وعدم وجود موسى لأنه لم يتم العثور على دليل مادى من الآثار يثبت هذا . ليس هؤلاء بعلماء ولا باحثين ، لأنهم يتصورون أنه قد تم الكشف عن كل الآثار الفرعونية ، وأنه قد تم تنظيمها وفهرستها كما لو كانت فى متحف ، وأنه لم تعد هناك فجوات بين تلك العصور ، ولم يعد هناك جديد يضاف أو جدبد يمكن إستكشافه . تصورهم هذا دليل على جهل فادح .

3 ـ إن العمران المصرى الحالى يرقد فوق طبقات من الآثار ، يعلو بعضها فوق بعض خلال تاريخ بلغ حوالى سبعين قرنا من الحضارة ، نصفه تقريبا قبل توحيد مصر على يد الفرعون مينامارمر من حوالى 3000 سنة قبل الميلاد . لقد بدأ إستقرار المصريين حول النيل وبناء بداية حضارتهم من حوالى 7000 سنة قبل الميلاد ، وبدأ مشوار التعمير والتحضر الى قيام دولتين فى الدلتا ثم فى الصعيد ، ثم توحيدهما فى دولة مركزية ، ولا زالت تلك الدولة الفرعونية قائمة حتى الآن بنفس الاستبداد والفساد والحكم المركزى والدولة العميقة. ظلت محافظة على هذا مع إختلاف الفراعنة من مصريين وغير مصريين ، من حكم مصرى وحكم أجنبى. 

4 ـ المكتشف من الآثار المصرية هو نسبة ضئيلة ، والبحث لا يزال جاريا ، وكل حين يتم الكشف عن جديد ، وتتم إضافة معلومات جديدة ، وكل حين يتأكد للباحثين الجادين أن ما يعرفونه من هذا التاريخ المصرى قليل من كثير ، خصوصا وأن الاكتشافات عشوائية ، تأتى مرة من تاريخ الرعامسة وحينا من عصر سابق أو من عصر لاحق حسب الظروف . فى مثل هذا لا يقول أحد بنفى قصة فرعون موسى ، إلا إذا كان خارج دائرة العلم .

5 ـ على أن رب العزة جل وعلا أخبر مقدما بالحقائق التاريخية التى تجعل من الصعب العثور على أدلة مادية ( آثار مادية ) تنتمى الى فرعون موسى :

5 / 1 : فرعون موسى غرق فى البحر الأحمر بكل جنده وحكومته . أى لم يوجد بعده من يسجل تاريخه .

5 / 2 : ما تركه خلفه من قصور ومعابد تم تدميرها ، قال جل وعلا : ( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف ). كانت له عمائر عالية ، فقد وصفه رب العزة بأنه صاحب الأوتاد ، أى المبانى العالية الراسخة :( وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ (12) ص ) (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الفجر ). ومنها ذلك الصرح الذى أمر هامان ببنائه : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ (38) القصص ) . ولكن صروح فرعون و ( ناطحات السحاب التى بناها ) كانت من الطوب الحجرى الذى لا يزال يبنى منه المصريون بيوتهم . فالمصريون يبنون بيوتهم من نوعين من الطين : الطين النيىء ، وكان هو الأغلب ، والطين المحروق الذى يتحول الى ما يشبه الحجارة ولكنه ليس بالحجارة . ونرى من الآية الكريمة السابقة أن فرعون كان يستخدم نفس الطريقة المتبعة حتى الآن فى مصر ، وهى ( القمائن ) حيث يتم تجميع الطوب المصنوع من الطين ، وبعد جفافه يتم حرقه فى قمائن فيتحول الى ما يسمى عند المصريين بالطوب الأحمر ، وهو أساس البناء فى المدن والقصور المصرية .

5 / 3 : لم يكن صعبا تدمير عمائر فرعون ، خصوصا عندما نتذكر أن بنى اسرائيل عادوا الى مصر يبحثون عن كنوز فرعون وقومه فى كافة منشئاتهم . بالتالى لم يبق شىء من آثار فرعون موسى . ولولا القرآن الكريم ما عرفنا هذه الحقائق التاريخية عن هذا العصر المنسى .

5 / 4 ـ عموما فإن الآثار الفرعونية التى يتم إكتشافها معظمها  معابد وتمائيل حجرية صلبة فوق سطح الأرض كانت الرمال قد غطتها  مثل الكرنك والرمسيوم أو مدافن تحت الأرض . وليس هذا أو ذاك لفرعون موسى وقومه ، فلم يموتوا فى قصورهم بل غرقوا .

6 ـ نحن نؤمن بالقرآن الكريم حقيقة إلاهية مطلقة ، فيه الصدق المطلق فيما يذكره من قصص وتشريع وموعظة وهدى وإشارات علمية . ولكن ما نفهمه هو الذى يقبل النقد والنقاش ويجوز عليه الخطأ والصواب . وبهذا نقدم هذا البحث عن بنى اسرائيل فى مصر فى عصر موسى عليه السلام .

الفصل الأول: جدل الحق والقوة بين موسى والفرعون

( 1 ) جدل القوة والحق  فى رؤية قرآنية : (  أولا : جدل الحق والقوة بين الدنيا والآخرة ثانيا : جدل الحق والقوة  ( على الأرض  ) فى قصص الأمم التى أهلكها الله جل وعلا )

(2 )فرعون موسى إحتكر القوة وإحتكر الزعم بالحق : أولا : إحتكار فرعون للقوة و ( الحق ) من وجهة نظره  . ثانيا : فرعون استخدم الارهاب ليؤكد زعمه بإحتكار الحق :ثالثا : إحتكار فرعون موسى للحق والقوة جعله خبيرا فى أهمية الدعاية والإعلام )

 (3 ) رد على تعليقات على المقال السابق

( 4 ) موسى الخائف الذى يحمل الحق فى مواجهة فرعون المتوحش

( 5 ) ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه )  مقدمة : كيف تعامل موسى ( ومعه الحق ) مع فرعون ( ومعه القوة ) ؟  أولا : مدى قوة موسى :ثانيا : مدى معرفة فرعون بالحق الالهى  ثالثا : خطاب موسى الليّن لفرعون  )

جدل القوة والحق  فى رؤية قرآنية : ( 1 )

أولا : جدل الحق والقوة بين الدنيا والآخرة :

1 ـ خلق الله جل وعلا الانسان ليعيش فى هذا الكوكب الأرضى ، ومنحه حريته المطلقة فى المشيئة وحريته النسبية فى الحركة ، والحصول على قوة نسبية ومتنقلة . الفرد مخلوق من ضعف يعقبه قوة يعقبها ضعف : (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) الروم ) ثم موت : (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) النحل  )  . ينطبق هذا على تاريخ البشرية ، هناك دول تقوم ، تبدا ضعيفة ثم تقوى ثم يصيبها الهرم والضعف ثم تسقط ميتة وتصبح صفحة فى التاريخ .

2 ـ فى الآخرة يختلف الأمر . يفقد الفرد حريته من لحظة الإحتضار ، يموت رغم أنفه ، ثم رغم أنفه يكون بعثه هو والبشر جميها ، ثم يكون الحشر ثم العرض أمام الله جل وعلا ، ثم الحساب . الفائزون يدخلون الجنة يتمتعون فيها بحريتهم أبد الأبدين . أما الخاسرون فمصيرهم الى خلود فى جهنم ، أى يفقدون حريتهم من لحظة الاحتضار فى الدنيا الى أبد الأبدين فى جهنم . الحرية مقترنة بالقوة . كانت للفرد حرية وقوة ضاعت هذه وتلك بالموت . الذين خسروا كانوا فى الدنيا متمتعين بالقوة فأساءوا إستعمالها ، سيرون يوم القيامة أن القوة اصبحت لله جل وعلا جميعا : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) البقرة  )  . يوم القيامة يكون لرب العزة جل وعلا إحتكار القوة . إذ فقد البشر قوتهم بالموت وما بعده ، ثم ترجع لأصحاب الجنة حريتهم وقدرتهم اللامحدودة على تذوق النعيم . هذا عن القوة .

3 ـ فى الدنيا يغتر القوى بقوته . يكون فردا ذا سُلطة . تُنسيه السُّلطة أن القوة زائلة ، يغتر بالقوة وبالنفوذ ، وينسى أنها لو دامت لغيره ما وصلت اليه . نفس الحال مع الدول ، تنسى الدول القوية أن القوة مرحلة عرضية زائلة وهى أيضا نسبية ، وأنه سبقها من كان أقوى منها ، وانتهت . فى غرور القوة يزعم صاحبها المُغترُّ بها أن يملك الحق . وبمقدار قوته وضلاله يتطرف فى جعل الباطل حقا الى درجة زعم الألوهية وليس مجرد رفض الحق .

4 ـ فى الآخرة يختلف الأمر ، فكما أن القوة جميعا ستكون لله جل وعلا وحده فأيضا سيكون العدل ـ بمعنى الحق ـ مطلقا ، فلا مجال للظلم يوم الحساب ، قال جل وعلا عن البشر يوم القيامة : ( يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) غافر )، وعن عدله المطلق يوم الحساب يقول جل وعلا : ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) الأنبياء )

ثانيا : جدل الحق والقوة  ( على الأرض  ) فى قصص الأمم التى أهلكها الله جل وعلا :

1 ـ ينقسم قصص الأنبياء الى قسمين ، قصص الأمم التى أهلكها الله جل وعلا ، وقصص الأنبياء الذين كُتب عليهم القتال ليدافعوا عن أنفسهم دون تدخل إلاهى بإهلاك تام للجبارين المعتدين . يبدأ الاهلاك العام للجبارين بقوم نوح وينتهى بفرعون وقومه ونظام حكمه .

2 ـ فى قصص الأمم التى أهلكها الله جل وعلا كان الملأ الكافر الطاغى هو الذى يحتكر القوة ( على الأرض ) ويستخدم هذه القوة فى إخضاع المستضعفين القوة وفى البغى والعدوان ورفض الحق . ونأخذ منهم مثلين : قوم عاد وقوم فرعون .

3 ـ عن قوم عاد :

3 / 1 : قال جل وعلا : ( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فصلت ). لاحظ تعبير ( الاستكبار فى الأرض ) أى إحتكروا القوة على الأرض ، وإغتروا بها الى درجة الكفر ونسيانهم أن الذى خلقهم هو الأشدُّ منهم قوة . وقد قال لهم النبى هود يكلمهم بثقافة القوة التى يعتنقونها يدعوهم الى الايمان بالله جل وعلا وحده : (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) هود ).

3 / 2 :  إستمدوا قوتهم من المطر الذى ينزل عليهم مدرارا ، وعاقبهم رب العزة بالهواء الذى ينزل المطر ، أو الريح ، وكان عقابا مُخزيا ، تحملهم الرياح ثم تضرب بهم الأرض كأعجاز نخل خاوية ، ظلوا في هذا العذاب أسبوعا يعانون الخزى قبل الموت ، قال جل وعلا : ( إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) القمر) ( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) الحاقة ).

4 ـ فرعون موسى إحتكر القوة فى الأرض ، أى أرض مصر . وبهذا :

4 / 1 : علا  فرعون فى أرض مصر ، فكان التعبير عن ( مصر ) يأتى بكلمة ( الأرض ) تدليلا على قوة تحكم فرعون فى (أرض مصر ) . قال عنه جل وعلا: ( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ )(83) يونس ). ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) القصص )

4 / 2 : أعلن ملكيته لأرض مصر فى مؤتمر حاشد : ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ). أى كانت له قوة ( الإعلام ) التى سيطر بها على عقول الملأ فأطاعوه .

4 / 3 : جعل أهل مصر شيعا يستضعف بعضهم وهم بنو اسرائيل ، قال جل وعلا : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) القصص ) . لم يرد ذكر للشعب المصرى الذى كان يملأ مدائن مصر ويزرع حقولها وجناتها ، لأنه كان مملوكا للفرعون يخدمه فى صمت مرعوبا من العذاب الذى كان يوقعه الفرعون ببنى اسرائيل . وقد ورث بنو اسرائيل تلك المزارع والجنات بمحاصيلها والمصريين الفلاحين العاملين فيها ، قال جل وعلا عن فرعون وقومه ونظام حكمه وجنده : (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) الشعراء  ) .

4 / 4 : زعم أنه لا إله غيره معلنا كفره بالله جل وعلا : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنْ الْكَاذِبِينَ (38) القصص ) ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِفَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنْ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ (37) غافر )، وفى مؤتمر آخر أعلن أنه الرب الأعلى : ( فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24) النازعات ).

4 / 5 ـ  قوته على الأرض سوّلت له قلب الحقائق ، فهو يزعم أنه هو الذى يهديهم سبيل الرشاد : (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر  ) ، وأن موسى  هو المفسد فى الأرض  : (  وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر ) ، ونفس الحال مع قوم فرعون ، رأوا فى دعوة موسى لتخليص قومه من عسف الفرعون إفسادا فى ( الأرض ) :( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ ) الأعراف 127 )، ورأوا أنها وسيلة لجعل بنى إسرائيل يحتلون مكانهم فى العلو فى ( الأرض ) : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ  )(78) يونس ) .

4 / 6 : الله جل وعلا هو وحده القاهر فوق عباده : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) الانعام) (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61)  الانعام   ) وهو جل وعلا وحده الواحد القهار: (قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) الرعد ) (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) الرعد ). غرور القوة ( على الأرض ) سوّل لفرعون أنه هو وقومه القاهرون فوق بنى اسرائيل : ( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) الأعراف ) كانت عقوبته مزيجا من الألم والخزى ، إذ سلّط الله جل وعلا عليه وعلى قومه الطوفان فأخرجهم الطوفان من قصورهم ، وسلّط عليهم الجراد  ثم القمل ثم الضفادع فكانت تملأ بيوتهم وملابسهم  وطعامهم وشرابهم وفراشهم ، ثم الدم فكان ماء الشرب وماء التنظيف يتحول الى دماء ، ثم سلّط عليهم الرجز ، أى الدمامل ، فتحول وجه فرعون وجسده الى بؤر من الدمامل والقيح والصديد ، وكذلك قومه ، ومن كل هذا نجا الشعب المصرى و بنو اسرائيل . قال جل وعلا : ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)الاعراف).

وفى النهاية كان هلاكهم عبرة لمن يخشى  . قال جل وعلا :( فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) النازعات ) . ولم يعتبر المستبدون  الظالمون ــ حتى الآن ـ بنهاية قائدهم فرعون . قال جل وعلا : ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) القصص ).

4 / 7 : من العبرة أنه إغترّ بإحتكاره القوة ( على الأرض ) فكان من عقابه تجريده من هذه ( الأرض ) ، وأن تكون بعده ملكا لبنى إسرائيل: ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص ) ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الاعراف ) ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف )

أخيرا :

مستبد طاغية يقتل الأطفال ويصلب المؤمنين ويقطع ايديهم وأرجلهم من خلاف ، كيف تعامل معه الرسولان موسى وهارون ؟ هما يحملان الحق ويريدان العدل ، وفرعون يحتكر القوة ويزعم إمتلاك الحقيقة المطلقة .!

 

جدل القوة والحق : ( 2 ) فرعون موسى إحتكر القوة وإحتكر الزعم بالحق

مقدمة :

1 ـ فى موضوعنا ( جدل القوة والحق ) يحتل مثال ( موسى وفرعون ) موضع الصدارة . فرعون إحتكر فى شخصه القوة فزعم فى شخصه إحتكار الحق . وموسى كان يحمل رسالة الحق . وعلى الأرض ـ فى دنيا الواقع المرئى ـ كان موسى تحت الصفر فى القوة ، لأنه جاء لفرعون لينقذ قومه من عسف فرعون ، لم يكن فقط  ضعيفا فى حد ذاته ـ بل كان فى ضعفه يحمل على كاهليه شعبا أضعف منه .

2 ـ كيف تعامل من يحمل الحق مع المستبد محتكر القوة على الأرض والذى يزعم إحتكار الحق ؟

3 ـ نبدأ بحال فرعون  :

أولا : إحتكار فرعون للقوة و ( الحق ) من وجهة نظره

1 ـ إحتكار فرعون للحق نتج عنه ـ من البداية أنه كان يذبح أطفال بنى اسرائيل عقابا لهم لأنه كان يتشكك فى إخلاصهم فى عبادتهم له . كانوا يعبدونه ، أو على حد قول فرعونه وملئه : (فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) المؤمنون ) . لم تكن عبادتهم لفرعون خالصة لأن بنى اسرائيل لا تزال فيه بقايا من ملة أبيهم ابراهيم . إنتقم منهم فرعون بذبح أبنائهم الذكور . لأنه يريد الولاء له خالصا ونابعا من إيمان به وحده إلاها .

2 ـ إحتكار فرعون للقوة جعله ينشر الارهاب فى ربوع مصر ، فماذا تنتظر من مستبد مجنون يذبح الأطفال. ؟

2 / 1 : إرتعب منه أمراء بيته الحاكم ، حتى إن أميرا من أسرته آمن فكان يكتم إيمانه هلعا من إرهاب فرعون الذى لا يسمح لأحد أن يؤمن بغيره إلاها ، وقد إضطر هذا الأمير المصرى المؤمن لأن يعظ قومه عندما أعلن فرعون عزمه على ان يقتل موسى. قال جل وعلا : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) غافر ).

2 / 2 : الارهاب الفرعونى وصل الى فراش فرعون ، فإمرأة فرعون التى آمنت كانت تدعو ربها جل وعلا أن ينجيها من فرعون وإجرامه ومن قومه الظالمين ، وقد جعلها الله جل وعلا مثلا للذين آمنوا رجالا ونساءا ، قال جل وعلا : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) التحريم ).

 ثانيا : فرعون استخدم الارهاب ليؤكد زعمه بإحتكار الحق :

فى إحتكاره للقوة إستخدم فرعون هذا الارهاب ليؤكد زعمه بإحتكار الحق ، ومن هنا رأى خطورة دعوة موسى، وخاف أن تنتشر فتقضى على أساطيره الدينية ( زعمه إحتكار الحق ) . فالتشكيك فى زعمه إحتكار الحق يؤدى الى فقدانه إحتكار القوة . وهى قضية وجود ، إما أن يكون إلاها وإما أن يفقد سلطانه وحياته . يتجلى هذا فى :

  1 ـ  تعامله مع السحرة المصريين  : الاعتقاد فى السحر كان عاما بين المصريين ، بل قد تأثر به موسى نفسه . وكانت آية موسى أن يهزم سحرة فرعون ، وكان يقين فرعون أنه سيهزم سحر موسى . وتم إستقدام السحرة من كل مدائن مصر ، وجىء بهم الى لقاء فرعون ، وطلبوا أجرا ، فوعدهم بالأجر وبالمكانة المقربة منه. ( قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ (114) الاعراف  ) . آمن السحرة برب هارون وموسى لأنهم تيقنوا أن ما جاء به موسى ليس سحرا بل تحولت عصاه الى ثعبان حقيقى يبتلع حبالهم وعُصيّهم .

 كان رد فرعون دليلا على إحتكاره للحق : ( قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) الاعراف) ، ( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) طه ) . لنتفكر فى قوله لهم (آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ  ) (  آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ) . أى لا بد ان يطلبوا منه الإذن أولا ، لأنه صاحب السيطرة على قلوبهم ، ضمن زعمه إحتكار الحق . ثم إن هذا العقاب الهائل ليس سببه إخفاق السحرة أمام موسى بل إعلانهم ـ أمام الملأ ـ إيمانهم بإله موسى ، وبالتالى التشكيك فى الحق الذى يزعمه الفرعون . ويتوقع فرعون بعقلية المؤامرة أنها مكيدة لتفريغ المدينة من أهلها ، أى أن ينفض الناس عن فرعون ليلحقوا بموسى ، وأن موسى هو كبير السحرة الذى علمهم السحرة . لذا كان هذا العقاب الهائل فى الصلب وتقطيع الأطراف هو لارهاب المصريين والملأ على السواء . فالتشكيك فى زعمه إحتكار الحق يؤدى الى فقدانه إحتكار القوة . وهى قضية وجود ، إما أن يكون إلاها وإما أن يفقد سلطانه وحياته .

  2 : تعامله مع بنى إسرائيل بعد موضوع السحرة : كان بنو اسرائيل الأكثر رعبا منه ، حتى بعد مجىء موسى ، وقد تطرف فرعون فى إيذائهم بعد موضوع السحرة، وأعلن أنه سيعيد قتل أبنائهم فإزدادوا رعبا ، وشكوا لموسى فأخذ موسى يهدىء روعهم وينصحهم بالصبر ، قال فرعون : (سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الأعراف  ). بسبب رعبهم كان معظمهم لا يثق بموسى هلعا من فرعون ومن جواسيسه فى كل ركن فى مصر. قال جل وعلا : ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83) يونس ). هذا يؤكد خوف فرعون من التشكيك فى ألوهيته ، فالتشكيك فى زعمه إحتكار الحق يؤدى الى فقدانه إحتكار القوة . وهى قضية وجود ، إما أن يكون إلاها وإما أن يفقد سلطانه وحياته .

3 ـ حتى  لم يسمح له بأن يخرج بقومه من مصر ، بل وطاردهم الى أن انتهى بجنده وقومه الى قاع البحر . هذا لأن فرعون ـ هذا الرهيب ـ كان أيضا يخاف . يخاف من أن تتبدد اسطورته ( الوهمية ) بدعوة موسى ، اسطورته مؤسسة على الدين ، لو تبدّل هذا الدين سقط إحتكاره للحق ، وبالتالى سقط إحتكاره للقوة . وأى تشكيك فى ألوهيته يؤثر فى إحتكاره للحق وإحتكاره للقوة . من هنا قال لقومه : ( ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر ). فرعون خائف من تبديل الدين ـ وهو دين قائم على إحتكار الحق فى تأليه فرعون وحده . ومن وجهة نظر فرعون أنه إذا تبدل هذا الدين ظهر الفساد فى مصر . والحل هو أن يقتل موسى .

ثالثا : إحتكار فرعون موسى للحق والقوة جعله خبيرا فى أهمية الدعاية والإعلام

 يبدو فرعون موسى رائدا فى إستخدام الاعلام ، وكان له جيش اعلامى أجاد إستخدامه ليروج وليؤكد على زعمه ( الحق ) أو زعمه الألوهية المطلقة . وهنا قضية متشابكة ، فهو يستخدم قوته على الأرض ( إحتكار القوة ) فى  الزعم بإحتكاره الحق فى الالوهية بالدعاية والاعلان لزعمه أنه الرب الأعلى . يستخدمها إمكاناته اللوجيستية فى حشد الناس وفى حشرهم وفى تجميعهم وفى التلاعب بعقولهم وفى غسل أمخاخهم . وهذا فى خدمة إحتكاره الحق والألوهية .  يستخدم ( القوة ) فى ( زعم الحق ) ويستخدم ( زعم الحق ) فى تدعيم القوة . ونعطى أمثلة :

1 ـ بعد أن أذلّه رب العزة جل وعلا بتسليط الطوفان والجراد والقُمّل والضفادع والدم والرجز عقد مؤتمرا حاشدا يؤكد فيه قوته اللوجيستية على الأرض ويتندر بموسى . قال جل وعلا  عن العذاب الذى أوقعه بهم ثم كشفه عنهم : ( فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50) الزخرف ) قال جل وعلا بعدها عن مؤتمره الحاشد الذى جمع فيه جنده وقومه ( وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) الزخرف ) وعن تأثيره فى نفوسهم واستخفافه بهم قال جل وعلا : ( فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) الزخرف ) . هذا أكبر دليل على عبقرية فرعون موسى فى استخدام الاعلام فى التأثير على قومه .

2 ـ نفس الحال فى زعمه الربوبية الكبرى. قام بتجميع الناس ، وحشرهم فى مكان واحد ، وأعلن فيهم هذه الكذبة الكبرى ، أو زعمه الحق ، قال عنه جل وعلا : ( فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24) النازعات ).

3 ـ آلية التجميع للناس ظهرت أكثر فى مباراة السحر بين موسى والسحرة ، إذ إمتد تجميع السحرة من كل مدائن مصر ( تعبير مدائن هنا يعنى المدن الكبرى ) أى كانت مصر وقتها ممتلئة بالمدن الكبرى . جرى تجميعهم وحشرهم فى مكان واحد ، فى يوم واحد ، يوم عيد أو ( يوم الزينة ) وفى وقت الضحى بالذات . هنا دقة عالية فى التنفيذ الذى يعنى تمام السيطرة على العمران المصرى ووسائل المواصلات البرية والنهرية وتوزيع وتنظيم الاتصالات والمواصلات . ثم لا يقتصر الأمر على تجميع السحرة بل تجميع الناس ليأتوا أفواجا الى نفس المكان والزمان ، ثم تنتشر بيننهم جواسيس الفرعون تهمس فى آذانهم بإنتصار السحرة القادم . نفهم هذا من : ( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) الاعراف ) ( قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) طه ) ( قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ (40)الشعراء ) . هذا عن الجيش الاعلامى الذى يعمل فى الدعاية لزعم امتلاك فرعون الحق .

4 ـ أما عن الجيش الحربى فيكفى إقتران هذا الفرعون بالجُند . (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) البروج ) الجنود هنا وصف لفرعون ، أى كان فرعون جنديا محاربا . وقال جل وعلا : (وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص ). وقال جل وعلا : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) القصص )، أى كان هامان هو قائد الجيش بالاضافة الى كونه المشرف على البناء ( القصص 38 ، غافر 36 ). وبقوته الحربية إغتر فرعون وجنوده واستكبروا فى أرض مصر التى وزعها فرعون عليهم اقطاعات.قال جل وعلا عنهم ( وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) (39) القصص ) ذلك أنه طارد موسى وهارون بجنوده ، قال جل وعلا : ،( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً  )(90) يونس ) وكان مصيره الغرق مع جنوده : ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ) (40 )القصص )، (فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)الذاريات )، ( فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) طه ) .

5 ـ كانت لفرعون أجهزته الأمنية التى كانت تتجسس على بنى اسرائيل . وقد أوحى الله جل وعلا لموسى بشأنهم : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) الشعراء )، وكانت العلاقة منظمة بين أجهزته الأمنية وجيشه الذى توزع فى أنحاء مصر ، مع قدرة عالية على التعبئة والحشد . وعندما عرف فرعون عن طريق جواسيسه بعزم موسى الفرار بقومه وموعد هذا الفرار أرسل منشورا فى تجميع فصائل جيشه من كل أنحاء مصر ، وحشرهم خلفه وطارد بهم بنى اسرائيل ، قال جل وعلا :  ( فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) الشعراء )، أى أرسل لهم منشورا بالحشد فأتوا اليه بسرعة . وطارد هم فرعون بجيشه نحو الشرق ( فى اتجاه سيناء ) قال جل وعلا : ( فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) الشعراء )، حتى أدركهم على ضفة البحر ( خليج السويس الآن )، فكان البحر أمام بنى اسرائيل ، وفرعون بجيشه خلفهم . إرتعب بنو اسرائيل ، قال جل وعلا : ( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) الشعراء )

6 ـ كان الجيش  الفرعونى هو الذى يملك ويدير المزارع ، فعصر الرعامسة الحربى تميز بتوزيع مصر إقطاعات على الجيش ، يسخر الجيش الفلاحين فى زراعة جنات مصر على ضفاف النيل وحول عيون الماء فى الصحراء ، وبخروج الجيش من تلك المزارع ثم غرقه عاد بنو اسرائيل وورثوا تلك الجنات والعيون ن قال جل وعلا : ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) الشعراء )

 أخيرا : العبرة

1 ـ ملكية الإعلام  تعبر عن طبيعة الدولة . الدولة الديمقراطية لا تتحكم فى الاعلام ولا تتملكه ، تتركه حرا فى يد الشعب ومؤسساته . المستبد لا بد أن يحتكر الاعلام ليسبح بحمده ، بهذا يحمى إحتكاره للقوة بإحتكاره زعم الحق .

2 ـ  لا يعتبر المستبد الشرقى بمصير إستاذه فرعون موسى . مع أنه يقرأ القرآن الكريم .

 

جدل القوة والحق : ( 3 ) : رد على تعليقات على المقال السابق

مقدمة : فى تعليق على المقال السابق قال الاستاذ اسامة قفيشة : ( في تصورنا لهذا المجتمع المتمدن و المتحضر بمدائنه بعناصره أيام موسى عليه السلام , لا يسعنا سوى الجزم بكثافة العنصر البشري و تعداده الهائل . يتطرق القرآن الكريم و يركز على عنصر الحكم و أدواته و على بني إسرائيل بقوميتهم و عرقهم , في حين غياب المشهد للعنصر الأهم و الأكبر و هو الشعب المصري الأصيل . و يبين لنا بأن بني إسرائيل كانوا أقلية قليله بالنسبة لباقي الشعب ( إن هؤلاء لشرذمة قليلون ) . و حتى هؤلاء القلة القليلة لم تؤمن لموسى و لم تتبعه , بل قلة القلة هم من آمن منهم ( فما امن لموسى الا ذرية من قومه ) , و هنا نلاحظ لفظ ذرية من بني إسرائيل هي فقط من آمنت بموسى عليه السلام , و نحن نعلم بأنهم اثنا عشر ذرية نسبة لأبناء يعقوب . نحن نعلم بأن موسى قد نجاه الله هو و من معه و الغرق كان من نصيب فرعون و جنوده الذين اتبعوه , و لم يردنا في كلام الله جل وعلا بأن موسى و من معه قد عاد لمصر فور غرق فرعون بل هناك إشارة لمكوثه في سيناء . و بناءاً على هذا نفهم بأن الجزء الأعظم من بني إسرائيل الذين لم يؤمنوا بموسى و لم يتبعوه استمر بقاؤهم في مصر بين الشعب المصري , و فهمي لقوله جل وعلا ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) يشير لهم , و لا يشير لمن تبع موسى . ( و فيما يتعلق بلفظ ( فاتبعوهم مشرقين ) فمن وجهة نظري تشير للوقت و لا تشير للجهة الشرقية و هذا لقوله جل وعلا ( فأخذتم الصيحة مشرقين )أي وقت الشروق و لا تعني اتجاه الجهة الشرقية ) . انتهى ) . ونرد فنقول :

أولا : منهجنا

نحن ندخل على القرآن نطلب الهداية والمعرفة وبدون رأى مسبق ، وبدون هوى شخصى أو وطنى أو قومى أو دينى . وبموضوعية باردة نسير مع ألايات نتدبرها وهى توجهنا ، وكل مرة وخلال أربعين  عاما من البحث القرآنى نزداد بالقرآن علما ، ونزداد شعورا بأننا لا زلنا على ساحل المعرفة القرآنية . إنه ذلك الكتاب العظيم الذى لم يقرأه قبلنا ـ قراءة علمية ـ أحد من المسلمين . ولهذا تتوالى إكتشافاتنا القرآنية تصدم ( المسلمين ) ويتعرفون بها لأول مرة على القرآن ، مع أنه معهم ، كما هو معنا . الفارق فى أننا نتدبره نطلب الهداية ، وهم يقرآونه بالهوى من بداية التاريخ الفكرى فى حضارة المسلمين وحتى الآن . يقرأونه بمصطلحاتهم ومعاجمهم ـ وليس بمصطلحات القرآن نفسه ، ثم ينتقون من آياته ما يوافق ظاهرها هواهم ويتجاهلون أو يؤولون ما يخالف هواهم . وعلى هذا الطريق ساروا ـ ولا يزالون .

ثانيا : يقول الاستاذ اسامة قفيشة : ( و حتى هؤلاء القلة القليلة لم تؤمن لموسى و لم تتبعه , بل قلة القلة هم من آمن منهم ( فما امن لموسى الا ذرية من قومه ) , و هنا نلاحظ لفظ ذرية من بني إسرائيل هي فقط من آمنت بموسى عليه السلام . ).

هنا خطأ ، نوضح الحق فيه كالآتى :

1 ـ ( آمن ب ) تعنى الايمان القلبى العقيدى . ( آمن ل ) تعنى : وثق وإطمأن . ونعطى أمثلة قرآنية :

1 / 1 : العادة أن الملأ لا يؤمنون ب ( الرسول ) ، وخوفا على جاههم لا يؤمنون ل ( الرسول ) أى لا يثقون به لأن أتباعه من المستضعفين . يعبر عن هذا قوم نوح وقد قال الملأ من قومه : ( أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ (111) الشعراء ). أى لا يمكن أن يثقوا به وقد اتبعه الفقراء الذن يرونهم أرذلين .

1 / 2 : ووثق لوط بابراهيم عليهما السلام ، وهاجر معه . يقول جل وعلا : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ  )( 26) العنكبوت ). من الخطأ أن يقال آمن لوط بابراهيم لأن الايمان القلبى العقيدى لا يكون بشخص النبى . فالمعنى هنا ( آمن لابراهيم ـ أى وثق فيه . ).

1 / 2 : وقال الكافرون من أهل الكتاب لبعضهم : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ )(73) آل عمران )، أى لا تثقوا ولا تطمئنوا إلا لمن تبع دينكم .

1 / 3 : ويقول جل وعلا للمؤمنين عنهم:( أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ )البقرة 75) ينهى عن الثقة فيهم.

1 / 4 : وقال جل وعلا للمؤمنين عن المنافقين:( يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ )(94) التوبة ). لن نؤمن لكم أى لا نثق فيكم بعد أن أخبر الله جل وعلا المؤمنين بأخبارهم .

1 / 5 : وكفار قريش كفروا بالرسول محمد ولم يؤمنوا أيضا ( له ) أى لم يثقوا به ولم يطمئنوا له لأنهم رأوه شخصا عاديا ، يأكل الطعام ويمشى فى الاسواق ليس معه جنات يأكل منها ، وليس لديه كنوز ينفق منها وليس معه ملائكة تسير فى موكبه : (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا ) الفرقان ). أى من الممكن أن يطمئئوا له وأن يثقوا به أو أن ( يؤمنوا له ) لو جاء لهم بهذه الآيات . ولهذا قالوا له : ( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) الاسراء )

2 ـ أما آمن ب ، بمعنى إعتقد وآمن قلبيا فهى الأكثر ورودا فى القرآن الكريم ، ونكتفى بقوله جل وعلا . ( آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) البقرة ) ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) البقرة )

3 ـ وقد إجتمع التعبيران ( آمن ب ) و ( آمن ل ) فى قوله جل وعلا عن خاتم النبيين : ( يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (61) التوبة ). أى يؤمن بالله جل وعلا وحده إلاها لا شريك له ، ويؤمن للمؤمنين يثق فيهم ويطمئن لهم .

 ثانيا : ( آمن ب ) و ( آمن ل ) فى قصة موسى وبنى اسرائيل وفرعون :

1 ـ فرعون وقومه لم يكن لهم أن يثقوا فى موسى وهارون ، وهما من بنى إسرائيل العابدين لفرعون وقومه : ( فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) المؤمنون ). لا بد أن ينتمى موسى وهارون الى الملأ المنافق لفرعون حتى يؤمن له فرعون أو حتى يثق فيه فرعون . وهذا يذكرنا بالملأ من قوم نوح .

2 ـ السحرة آمنوا ليس بموسى وهارون ولكن آمنوا ب ( رب موسى وهارون ) وتحملوا القتل الشنيع بسبب إيمانهم برب العالمين : ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) الشعراء ) .

3 ـ فرعون فوجىء عندما رأى السحرة التابعين له المؤمنين به يسجدون معلنين إيمانهم برب العالمين رب موسى وهارون .  رأى ان السحرة قد  (آمنوا) بموسى وقد آمنوا ل ( موسى ): ( قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ )(123 ) الاعراف ) ( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ )(49) الشعراء ) ( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ  )(71) طه ). إستعمل فرعون التعبيرين ( آمن ب ) و ( آمن ل ) .  بالنسبة لفرعون فهو يطلب من الناس أن يؤمنوا ( به ) وأن يؤمنوا (له ) أى أن يثقوا فيه . وبهذا إتهم السحرة بأنهم آمنوا بموسى وآمنوا لموسى .

4 ـ عندما عوقبوا بالإذلال بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والدمامل ( الرجز ) عرضوا على موسى أن يدعو ( ربه ) أن يكشف عنهم الرجز مقابل أن يؤمنوا ( له ) أى أن يثقوا به وأن يطمئنوا له  وأن يرسلوا معه بنى اسرائيل : ( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134 ) الآعراف ). سماحهم بإطلاق سراح بنى اسرائيل يعنى وثوقهم بموسى . أو ( إيمانهم له ) .

5 ـ  وقبل هذا إشتد عسف فرعون ببنى اسرائيل وهدد بالعودة الى ذبح أطفالهم ، وإشتدت مراقبته لهم ، فلم يطمئنوا لموسى ولم يثقوا به لعجزه عن حمايتهم ، أى لم يؤمنوا لموسى خوفا من أن يفتنهم فرعون ، والفتنة هنا تعنى الاضطهاد بسبب الدين . قال جل وعلا : ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83) يونس ) . هنا ( آمن ل ) بمعنى وثق وإطمأن . وليس بمعنى الايمان القلبى . وقد نصحهم موسى بالايمان بالله جل وعلا وحده والتوكل عليه إن كانوا فعلا مسلمين ، فاستجابوا له: ( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) يونس ).

6 ـ جدير بالذكر أن معظمهم لم يكونوا مؤمنين برب العالمين بإخلاص . بدليل أنه بمجرد أن عبر بهم البحر بعد غرق فرعون وقومه وجدوا معبدا فرعونيا ، فأخذهم الحنين الى ديانتهم الفرعونية التى نشأوا عليها ، وطلبوا من موسى أن يجعل لهم إلاها مماثلا . قال جل وعلا : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) الاعراف ).

7 ـ ومعروف أنهم تأثرا بالديانة الفرعونية صنع لهم السامرى عجلا يحاكى عجل أبيس فعبدوه . أى لم يؤمنوا برب العالمين وحده . وهم أيضا لم يؤمنوا ل ( موسى ) ولم يطمئنوا له مع كل الآيات التى رأوها ، فطلبوا المزيد حتى يأمنوا موسى ويؤمنوا ( له ) . طلبوا منه أن يروا الله جل وعلا جهرة ، فإذا كان الله جل وعلا يكلم موسى تكليما فلماذا لا يرون الله جهرة . قال جل وعلا : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (55)البقرة )

ثالثا : يقول : ( و لم يردنا في كلام الله جل وعلا بأن موسى و من معه قد عاد لمصر فور غرق فرعون بل هناك إشارة لمكوثه في سيناء . و بناءاً على هذا نفهم بأن الجزء الأعظم من بني إسرائيل الذين لم يؤمنوا بموسى و لم يتبعوه استمر بقاؤهم في مصر بين الشعب المصري , و فهمي لقوله جل وعلا ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) يشير لهم , و لا يشير لمن تبع موسى . ) . وأقول :

1 ـ  سنتعرض لهذا بالتفصيل فى مقال قادم . ولكن سريعا نُذكّر بأن بنى اسرائيل حين إشتكوا لموسى ما وقع وما يقع بهم ذكر لهم وعد الله جل وعلا بأن يهلك عدوهم ويستخلفهم مكانهم فى الأرض : ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الاعراف ). هذا كلام عنهم جميعا ، فالاستخلاف يعنى أن يرثوا الأرض بعد أصحابها السابقين . وهذا ما حدث فعلا ، قال جل وعلا : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الأعراف ). وورث جميع بنى اسرائيل أرض مصر وجناتها  لمدة من الزمن ، وهذا ما جاء صريحا وواضحا فى قوله جل وعلا :(  فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) ) مع وجود النّص القرآنى الصريح عن كل بنى اسرائيل لا يجوز إلا التسليم به ، خصوصا وهو يتمشى مع سياق القصة فى سورة الأعراف وسورة الشعراء وسورة الدخان . 

رابعا : يقول : ( و فيما يتعلق بلفظ ( فاتبعوهم مشرقين ) فمن وجهة نظري تشير للوقت و لا تشير للجهة الشرقية و هذا لقوله جل وعلا ( فأخذتم الصيحة مشرقين )أي وقت الشروق و لا تعني اتجاه الجهة الشرقية ) . وأقول :

1 ـ  المشرق فى قصة موسى يعنى جهة الشرق ، لأن السياق هنا عن المكان وليس الزمان . والشرق هو سيناء ، وهى المكان الذى لا بد أن يجتازه موسى بقومه الى الأرض المقدسة التى كتبها الله جل وعلا لهم ، وسيأتى تفصيل ذلك فيما بعد . وهو المشرق المكانى الذى واجهوا فيه البحر ( خليج السويس الآن ) والذى غرق فيه فرعون وإجتازه موسى بقومه . وفى سيناء صحب بنو اسرائيل موسى بكل أسباطهم الأثنى عشرة جميعا بدليل أنه كان يستسقى لهم فتكون عين ماء لكل قبيلة منهم : (وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) البقرة  ). وجرى لهم جميعا نفس الأحداث مع موسى من رفع جبل الطور وأخذ العهد والميثاق عليهم الى أن رفضوا دخول الأرض المقدسة التى كتبها الله جل وعلا لهم . كل ذلك حدث لهم جميعا فى المشرق من النيل .

2 ـ أما المشرق المشار اليه فى قصة لوط فهو يعنى الصبح أو شروق الصبح . فالأوامر من الملائكة للنبى لوط أن يتسلل بأهله ليلا عدا زوجته الكافرة ، ثم سيحل التدمير بالقرية الظالمة صباحا : ( قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمْ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) هود ). والتفاصيل فى قوله جل وعلا : ( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) الحجر).

 

 

جدل القوة والحق : ( 4 ) موسى الخائف الذى يحمل الحق فى مواجهة فرعون المتوحش

مقدمة : نضع أسئلة ونرد عليها

 س 1 ـ لماذا  أرسل الله جل وعلا موسى الى فرعون وليس الى المصريين ؟

ج 1 :لأن المصريون كانوا لا حول لهم ولا قوة . جعلهم الاستبداد والطغيان الفرعونى جسدا بين الحياة والموت ، مجرد جسد تسير عليه مركبات الفرعون الحربية . ولأنه الطاغية المتحكم الذى يملك التصريح لبنى اسرائيل بالخروج مع موسى ولأن بنى اسرائيل لا يمكنهم مغادرة مصر إلا بأمره أرسل الله جل وعلا موسى لهذا الفرعون .

س2  ـ هل يعنى هذا أن الله جل وعلا إعترف بفرعون الطاغية ملكا على مصر ؟

ج 2 ـ نعم . إن الله جل وعلا إعترف بفرعون ملكا على المصريين طالما رضى به المصريون ملكا ولم يثوروا عليه . لو ثاروا عليه فالمعنى أنهم غيّروا ما بأنفسهم من خضوع وخنوع وإستضعاف ، وعندها فإن الله يؤكد هذا التغيير ، فالله جل وعلا هو القائل : (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) ( 11 ) الرعد ) . الأمر هنا مثل الهداية والضلال . إذا أراد الفرد الهداية هداه الله جل وعلا وزاده هدى. إذا أراد الضلال أضله وزاده ضلالا. هى مشييئة الانسان فى البداية ثم تعززها مشية الرحمن . سواء فى الهداية والضلال أو فى مشيئة النفس العزة والكرامة أو مشيئتها الخنوع والخضوع .

س 3 ـ الله جل وعلا هو القاهر فوق عباده . وهو جل وعلا الذى يستطيع تدمير فرعون . وقد أرسل موسى وأخاه هارون بالحق دون قوة فى مواجهة فرعون الذى إحتكر القوة . وقد زوّد موسى بآيات معجزة أبهرت فرعون ، فلماذا لم يزوده بقوة قاهرة يهزم بها فرعون ؟

ج 3 ـ  الله جل وعلا هو القائل ردا على من إتخذ المسيح إلاها : ( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً )(17) المائدة ) . وهو جل وعلا القادر على أن يستبدل قوما بغيرهم ، وهذا ما أنذر به الصحابة فقال : (هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38) محمد ) . تدمير فرعون وقومه أمر يسير على رب العزة . والله جل وعلا أهلك القوم الكافرين فى عصر نوح وهود وصالح وشعيب . فرعون وقومه هم آخر من أهلكهم الله جل وعلا ، وقد جعل منهم عبرة . ومن العبرة أن يكون هناك دور لموسى وهارون عليهما السلام ، وأن يعطى جل وعلا لفرعون آيات من نوعين : آيات يمكن لفرعون أن يؤمن بها لو أراد . منها آيات الترغيب ، مثل العصا التى تحولت ثعبان ويده التى تبدو بيضاء للناظرين :( فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) الأعراف  )، ثم جاءت آيات التهديد عندما لم يؤمنوا : (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمْ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) الاعراف) وبعد نكثهم كانت الآية الأخيرة بفلق البحر وإغراقهم : (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67 ) الشعراء ). بهذا تكون الحجة على فرعون . ولهذا فإنه حين أعلن إسلامه عند الغرق لم يُقبل منه ، وفى هذا عبرة ودرس للناس جميعا ، قال جل وعلا : (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ (90) أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) يونس  ) . وفى نهاية الآية الكريمة نعرف الغرض والهدف ، كان جسد فرعون الذى قذف به التيار ورآه بنو اسرائيل آية لمن جاء بعد فرعون ، كما إن قصة فرعون فيها عبرة لمن يخشى كما جاء فى سورة النازعات (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)) .

س 4 :هذا بالنسبة لفرعون وقومه . فماذا عن موسى وأخيه هارون ؟

ج 4 : وعده ربه جل وعلا أن يحميه هو وأخاه هارون وجعله عضدا له . ونستشهد ببعض الآيات :

1 ـ ( قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) القصص ) هنا وعد بأن فرعون بكل سطوته فلن يصل الى موسى وأخيه .

2 ـ وفى آيات أخرى كان تأكيد الرحمن جل وعلا لموسى وهارون أنه جل وعلا معهما يسمع ويرى : ( قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46 ) طه ) ( قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) الشعراء ) . وقد طمأنه ربه جل وعلا بأنه سيحميه من فرعون فى مطاردة فرعون له : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى (77) طه ) ، لذا فإن موسى حين لحق به فرعون بجيشه واصبح محاصرا بين البحر وفرعون قال له أصحابه  : ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) الشعراء ) ، فرد عليهم قائلا : (َّ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) الشعراء ) .

3 ـ وهذا يجيب على سؤال ضخم : لماذا لم يقم فرعون بقتل موسى وهو داخل مملكته ويبدو أنه تحت سطوته وفى إمكانه أن يقتله بسهولة . بل إن فرعون هدّد فعلا بهذا : (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر ) فاستعاذ موسى عليه السلام بربه جل وعلا : ( وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) غافر ) وتصدى الرجل المؤمن من آل فرعون يعارض الفرعون :( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) غافر  ). الجواب إن قدرة الله جل وعلا القاهر فوق عباده هى التى حالت بين فرعون وتنفيذ تهديده .

س 5 : نتصور النبى موسى غاية فى الشجاعة حين واجه فرعون الطاغية فى عُقر داره .

ج 5 : على العكس . كان خائفا . بل إن موسى هو النبى الوحيد فى القصص القرآنى الذى لازمه الخوف فى تحركاته . كان شخصية بشرية طبيعية متأثرة بالظروف التى نشآ فيها وصبغت شخصيته . فقد رضع لبن الخوف من أمّه ، وكانت تربيه تحت رعاية فرعون المتوحش  . وكبر وهو يعرف قومه الذين ينتمى اليه ، ووضع قومه بالنسبة لفرعون . أى نشأ فى خوف وفى وجل يتوقع الخطر فى أى لحظة ، لذا كان بدافع طبيعى يتصرف دفاعا عن النفس ، ويتصرف بالغضب ، ثم يهدأ ، وقد يستغفر . ونعطى أمثلة :

1 ـ دخل المدينة فوجد رجلا مصريا يتقاتل مع رجل من قومه ، وبالطبع يعرفه ضمن معرفته بقومه ، والرجل الاسرائيلى أيضضا يعرف موسى لذا إستجار به ، فضرب موسى المعتدى فقتله ـ بلا قصد . واستغفر ، ولازمه الخوف ، سار خائفا يترقب : ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ  ) (18)القصص ) ، وحذّره رجل من أن (الأمن المصرى ) فى المدينة يتآمر على قتله وأنه لن ينجو منهم إلا بالهرب ، فهرب من المدينة خائفا يترقب : ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) القصص ).

2 ـ وحين ذهب الى الرجل الصالح فى مدين وقصّ عليه قصته كان لا يزال خائفا ، فطمأنه الرجل الصالح وقال له : ( لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) القصص ).

3 ـ وحين كلمه ربه جل وعلا بالوادى المقدس طوى فى جبل الطور أمره ربه جل وعلا أن يلقى عصاه ليُريه آية معجزة ، فتحولت العصا الى حية تسعى تهتز فى الظلام ، بلغ به الخوف أنه إنطلق هاربا دون أن يلتفت الى الخلف ، وناداه ربه جل وعلا يطمئنه : ( وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ (31) القصص )( وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلنمل ) .

4 ـ وتجلى خوفه ـ هلعا ـ حين أمره ربه جل وعلا أن يذهب الى فرعون يطلب منه أن يرسل معه بنى اسرائيل ولا يعذبهم . كان من ردّه :  ( قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) الشعراء ) َ(قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) القصص ). وبعث الله جل وعلا معه أخاه هارون ، فأصبح الخوف من فرعون مزدوجا : ( قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46 ) طه ).

5 ـ وفى مباراة السحر كان موسى متأثرا ببيئته المصرية التى تعتقد فى السحر . والسحر ليس قلبا للأشياء كأن يتحول القط الى فيل ، بل هو مجرد خداع بصرى يقع فيه من يعتقد فى السحر فيتصور القط فيلا . السحرة أوهموا الناس أن حبالهم وعصيهم قد تحولت الى ثعابين ، فسحروا أعين الناس واسترهبوهم : (  قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) الاعراف ) ، تعرض موسى لنفس التأثير ، وأصابه الخوف ، لولا أن تداركته رحمة ربه جل وعلا : ( فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) طه )

6 ـ إندفاعه فى الغضب هو الوجه الآخر للخوف ، وقد قال عن نفسه : (  وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي ) (13) الشعراء  ) . ونتصور أن صدره كان يضيق كثيرا بأفعال بنى اسرائيل ، ومنها عبادتهم للعجل حين تركهم فى مصر وذهب الى جبل الطور حيث ميعاد ربه جل وعلا . رجع فوجدهم قد عبدوا العجل ، وقد استهانوا بهارون عليه السلام. إشتد غضبه وعصف بأخيه هارون . قال جل وعلا : ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) الاعراف ) (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) طه ) .

س 6 : كيف يتفق خوف موسى مع قوله جل وعلا عنه : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14 ) القصص )

ج 6 : الحكم والعلم هو ما يخص الرسالة والنبوة . وهذا تعليم الاهى لكل رسول. ويتجلى هذا فى:

1 ـ  توبته حين قتل خطأ الرجل المصرى (  قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) القصص )

2 ـ هدأ بعد غضبه من قومه وأخيه حين عبدوا العجل ( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) الاعراف ) ( قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) الاعراف ) .

3 ـ تعلمه الهدوء من النبى الصالح الذى جاءت قصته معه فى سورة الكهف .

4 ـ وفيما عدا ذلك فقد أدّى موسى عليه السلام رسالته ، واستحق أن يقول عنه ربه جل وعلا : (  وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) طه ) (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) طه ) (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً (53) مريم ).

جدل القوة والحق : ( 5 ) ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه ) 

مقدمة : كيف تعامل موسى ( ومعه الحق ) مع فرعون ( ومعه القوة ) ؟ فرعون إحتكر الزعم بالحق مع إحتكاره القوة ، كان فى مواجهته موسى الذى كان يحمل رسالة الحق ، ومعززا بالقوة الالهية . كيف تعامل موسى مع فرعون وهما طرفا نقيض ؟ . هذا يستلزم التعرف على مدى (قوة موسى ) ومدى معرفة فرعون بالحق الالهى . لأن هذا هو الأساس الذى تعامل على أساسه موسى عليه السلام مع فرعون .

أولا : مدى قوة موسى :

1 ـ أعطى الله جل وعلا موسى آية العصا يفعل بها المعجزات ، ولكن لم يكن لموسى حرية إستعمالها ، كان إستعمالها بأمر من الله جل وعلا ووحى منه .

1 / 1 ـ  فى البداية أوحى الله جل وعلا له : ( وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) النمل )، كان موسى أول من شهد هذه الآية وارتعب منها .

1 / 2 : وفى مباراة السحر عندما تأثر بأفاعيل السحرة جاءه الوحى أن يلقى عصاه ، قال جل وعلا: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) الاعراف ) .

1 / 3 :  وحين حوصر بقومه بين البحر وجيش فرعون جاءه الوحى بأن يضرب البحر بعصاه، قال جل وعلا:( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) الشعراء) .

1 / 4 :  بل حين أراد قومه السقيا وهم فى سيناء فإستسقى لهم فأمره ربه جل وعلا أن يضرب الحجر بعصه فانفجرت من الأحجار إثنتا عشرة عينا ، لكل قبيلة من بنى اسرائيل العين الخاصة بها . قال جل وعلا : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ) (160) الاعراف ).

2 ـ  لم يكن حرا فى إستعماله للعصا ، ولم يكن الأمر الالهى له بإستعمال العصا كثيرا ، بل فقط فى المتطلبات الضرورية . بالتالى تعين على موسى أن يستعمل قدراته الخاصة فى التعامل مع فرعون .

ثانيا : مدى معرفة فرعون بالحق الالهى

1 ـ هذه القدرات الخاصة به يتضمنها قوله جل وعلا عنه ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) القصص ) . وضمن هذا التعليم الالهى له أمره جل وعلا له ولأخيه هارون أن يقولا لفرعون قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى :( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه ).

هذا التعليم الالهى يعنى أن فى فرعون بذرة خير ومعرفة بالحق جل وعلا ، وقد جحدها بغروره وإستبداده . وقد قال جل وعلا عنه وعن قومه : (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً )(14) النمل ). أى عرفوا الحق الالهى ، ولكن جحدوه . جحدوه بسبب العلو والظلم والاستبداد الذى وصل بفرعون الى زعم الألوهية والربوبية الكبرى .

2 ـ هذا الجحد لم يمنع فرعون من أن يفلت لسانه فيعترف بالملائكة ، قال فى مؤتمر حاشد يتندر على موسى : ( أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) الزخرف)، اى يعرف الملائكة وبالتالى يعرف رب الملائكة جل وعلا ، وأن رب الملائكة هو الذى أرسل موسى ، وهو يريد أن يرسل الله جل وعلا ملائكة مع موسى تؤيده .

3 ـ هذا الجحد جعل فرعون يتجاهل إيمانه الداخلى برب العالمين ويسال موسى : (  فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) طه ) كأنه لا يعرف من هو رب موسى وهارون . ورد عليه موسى : (  قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) طه ) وعاد يسأله عن الأمم السابقة :  ( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى (51) طه) ورد عليه موسى : ( قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى (52) طه ) وفى النهاية كذّب وابى برغم ما رأى من الآيات :( وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) طه ). رأوا الآيات واضحة مبصرة فجحدوا بها عُلوا وظلما وإستبدادا ، قال جل وعلا : (فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) النمل) .

4 ـ هذا الجحد لم يصل الى زوجة فرعون ، فآمنت وإستعاذت بالله جل وعلا من ظلم فرعون وملئه ، فجعلها الله جل وعلا مثلا للذين آمنوا رجالا ونساءا ، قال جل وعلا : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) التحريم  )

5 ـ هذا الجحد لم يصل للأمير الفرعونى الذى آمن وكتم إيمانه خوفا من وحشية فرعون . قال جل وعلا : ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا ) (29) غافر )  . هو هنا يعظ قومه برب العزة جل وعلا الذى يعرفونه . ويبدو من وعظه معرفته بالأمم السابقة وما حاق بها  من عذاب الله جل وعلا حين كذّبت ، فهو يقول لقومه : ( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ (31) غافر)  ويحذرهم من اليوم الآخر : ( وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33). وهو يعيد التذكير باليوم الآخر : ( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) غافر ). وواضح أنه كان يفهم معنى الكفر والشرك وأنهما مترادفان ، بمعنى إتخاذ آلهة مع الله جل وعلا ، فهو يقول ردا على محاولة قومه إغوائه : ( وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) غافر ) . ثم هو يذكرهم برسالة يوسف عليه السلام وإيمان المصريين برسالته مع تمسكهم بعبادة الآلهة الأخرى ، قال لهم : ( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) غافر ). وفى النهاية قال لهم يائسا : ( فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) غافر ). نترك للقارى أن يحصى عدد المرات التى ذكر فيها هذا الأمير الفرعونى إسم الله جل وعلا . لو لم يكونوا يعرفون الله ما وعظهم باسم الله جل وعلا .

6 ـ المفاجأة أن سحرة فرعون الذين جاءوا يخدمون فرعون طمعا فى أجره ما لبثوا أن أعلنوا إيمانهم أمامه علنا برب العالمين .. نقرأ قول الله جل وعلا : ( وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) الاعراف )  ( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (71) طه )   

ليست المفاجأة فقط فى هذه الجُرأة ، بل فى ردهم على تهديد فرعون المتوحش بالصلب والتقطيع بما يدل على علم بالله جل وعلا وباليوم الآخر : ( قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76 ) طه ) ( قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) الاعراف ).

7 ـ دعوة موسى أوجدت مناخا جديدا إقترب بالمصريين من مزيد من المعرفة بالله جل وعلا وباليوم الآخر ، ولكن ظل فرعون وقومه يجحدون الحق لأن جحد الحق هو السبيل للحفاظ على مُلكهم . لذلك فعندما سلّط الله جل وعلا عليهم المجاعة ونقص الإنتاج الزراعى تشاءموا بموسى تجاهلا منهم بأن رب العزة جل وعلا هو الذى يعاقبهم . قال جل وعلا : (  وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمْ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131 ) الاعراف )

8 ـ وأخذهم جحد الحق الى العناد والتحدى ، فقالوا أنه مهما يأتيهم بآية من العصا فلن يؤمنوا له ولن يثقوا به . فجاءتهم آيات من العذاب فاستكبروا وتحملوها:( وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) الاعراف ) إلا إنهم لم يتحملوا عقاب الرجز فإضطروا الى اللجوء الى موسى ليدعو رب العزة لينقذهم منه : ( وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) الاعراف ) . نلاحظ أن عنادهم تجلى فى قولهم (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيل  ). لم يقولوا :  ( أدع لنا ربنا .. لنؤمنن به .. ).

ولازم العناد فرعون حتى وهو يحتضر عند الغرق :  ( حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ (90) يونس ). لم يقل ( آمنت أنه لا إله إلا الله رب العالمين ) بل الذى آمنت به بنو اسرائيل !!

 ثالثا : خطاب موسى الليّن لفرعون :

1 ـ خاطبهم برب العزة جل وعلا يعظهم ألّا يعلوا على الكبير المتعال جل وعلا : ( وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) الدخان ) وخاطب بذرة الخير الكامنة فيهم : ( وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) الدخان )، يتعوذ برب العزة ربه وربهم أن يرجموه ، وإن لم يثقوا به أن يتركوه فى حاله . موسى عليه السلام هنا يستخدم (قوة الضعف ) ليواجه به ( ضعف القوة ) . وسنتعرض لهذا بالتفصيل فيما بعد .

2 ـ وحين هدده فرعون بالسجن لو إتخذ إلاها غيره قام موسى ببراعة بتحويل وجهة الحديث الى أن يبهر فرعون بعصاه : نقرأ قوله جل وعلا : ( قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) الشعراء ).

أخيرا :

كل هذا فى تطبيق قوله جل وعلا لموسى وهارون : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) طه ) 

 

الفصل الثانى : الوعد الالهى والاستخلاف

(1 )  تحقق الوعد : بنو اسرائيل يرثون مصر بعد فرعون  

( 2 )  بنواسرائيل  وموسى فى مصر بعد  فرعون : قارون بين الحق والقوة 

(3 )  إبتلاء الاستخلاف  فى فرعون وبنى اسرائيل 

 

  تحقق الوعد : بنو اسرائيل يرثون مصر بعد فرعون

مقدمة : قصة موسى وفرعون تحقق فيها وعدان من الله جل وعلا :

1 ـ الوعد الأول لأم موسى ، حين كان فرعون يذبح أطفال بنى اسرائيل فأوحى الله جل وعلا اليها أن ترضع وليدها موسى فإذا خافت عليه فلتقه فى النيل ، وألا تخاف والا تحزن لأن الله جل وعلا سيرده الى صدرها ترضعه فى حماية الفرعون نفسه . وهذا ما تحقق . قال جل وعلا : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتْ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) القصص ). هنا يقول جل وعلا عن وعده : (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ). أكثر الناس لا يعلمون أن وعده جل وعلا هو الحق .

2 ـ الوعد الثانى جاءت الاشارة اليه مقدما فى نفس السورة فى قوله جل وعلا : ( نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص ).

3 ـ الحديث هنا هو بالقصص الحق لقوم يؤمنون ، أى قوم يعتبرون ، وفى قصة موسى وفرعون الكثير من العبر التى لم يتعظ بها من يزعم الايمان بالقرآن . ومنها أن فرعون إختار وشاء بكامل إرادته أن يستبد فى الأرض وأن يذبح الأطفال الأبرياء وأن يزعم الالوهية والربوبية تدعيما لسلطانه السياسى فحاق به مكره ، وتحقق فيه وعد الله جل وعلا .

4 ـ ونعطى بعض التفصيلات :  

أولا : وعد إستخلاف بنى اسرائيل فى مصر بعد فرعون :

1 ـ كان من سُنّة الله جل وعلا فى التعامل مع الأمم السابقة إهلاك الكافرين ونجاة الرسول والذين آمنوا معه ، قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) الروم ) ( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) يونس ). حدث هذا مع قوم نوح واستمر الى أن كان فرعون وقومه ودولته آخر المُهلكين .

2 ـ لم يكن المطلوب من فرعون إلا أن يسمح لبنى اسرائيل بالخروج من مصر مع موسى . فرعون كان يضطهدهم ويريد القضاء عليهم وبالتالى يكون منتظرا أن يوافق على خروجهم ليستريح منهم . ولكن فرعون رفض لأنه كان محتاجا لبقاء بنى اسرائيل فى مصر ليستمر فى تعذيبهم ـ وهم أقلية حتى يرعب ويرهب الأكثرية من المصريين الذين سخرهم فى الزراعة وفى الصناعة . فرعون كما قال جل وعلا عن سياسته مع أهل مصر ( وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ  )، يعذب طائفة من أهل مصر ـ وهم بنو اسرائيل ـ ليرهب الباقين ، أى هو أستاذ سياسة ( فرّق تسُد ّ ).

3 ـ تمسك فرعون بالرفض وعاند برغم الآيات التى رآها من عصا موسى ، وبرغم العقوبات التى نزلت به وبقومه ، بل بالغ فى اضطهاد بنى اسرائيل فى وجود موسى بينهم ليجعلهم يفقدون الثقة فى موسى مخلّصا لهم ، أى يجعلهم لا يؤمنون له ، هلعا من فرعون ووجواسيسه التى تتغلغل داخل بنى اسرائيل ، وكان منهم اسرائيليون يعملون لصالح الفرعون .

4 ـ إشتكى بنو اسرائيل لموسى معاناتهم من إضطهاد فرعون قبل وبعد مجىء موسى ، فنصحهم بالصبر والتوكل على الله جل وعلا عسى أن يهلك عدوهم ويستخلفهم مكانه فى أرض مصر:( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الاعراف ). كان صعبا تصديق هذا بينما هم تحت آلة الاضطهاد الفرعونى ، لذا لم يثق معظمهم بموسى ( لم يؤمنوا له ) . قال جل وعلا : ( فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ (83) يونس )

5 ـ بدأت الخطوة العملية الأولى فى تحقيق الوعد بإهلاك فرعون ونظام حكمه ، دعا موسى قومه بالإخلاص فى التوكل على الله جل وعلا إن كانوا فعلا مسلمين له جل وعلا : ( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) يونس ). وردوا بالتوكل على الله جل وعلا والدعاء بألّا يجعلهم رب العزة ضحية للفتنة ـ الاضطهاد ـ من القوم الكافرين الظالمين : ( فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) يونس ) . لاحظ هنا أن الكفر والظلم مترادفان .

6 ـ ثم كانت الخطة العملية الثانية فى أن يتفرّغ بنو اسرائيل للعبادة والصلاة فى بيوت خاصة بمصر ، يبتهلون فيها لرب العزة جل وعلا أن ينجيهم من عسف فرعون . ، قال جل وعلا : ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (87) يونس ).

7 ـ ثم كان دعاء موسى ومعه هارون رب العزة على فرعون وقومه . قال جل وعلا :  ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) يونس ) . دعوة موسى هنا بتجريد فرعون وملئه من الكنوز والأموال وأن يروا العذاب الأليم . فقد كفروا بنعمة الله واستخدموها فى الاضلال عن سبيل الله جل وعلا . أليس هذا هو ما يحدث الآن من المستبد العربى الخليجى بالذات ؟ ولهذا تتكرر قصة فرعون لتكون عليهم حُجّة .

8 ـ  وإستجاب الله جل وعلا دعاءهما : ( قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) يونس ). الاستجابة هنا مقرونة بأمرهما بالاستقامة ونهيهما عن إتباع سبيل الذين لا يعلمون . أى كان هناك من قومهما من سيظهر صاحب نفوذ بعد هلاك فرعون ، ويسير فى الضلال .

9 ـ وجاءت الخطوة الأخيرة وهى غرق فرعون وجنده ونظام حكمه وقومه ، قال جل وعلا : (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ (90) أَالآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) يونس ).

 10 ـ  بعدها بدأ عصر بنى إسرائيل فى حكم مصر ، قال جل وعلا فى الآية التالية : ( وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) يونس )

11 ـ أعطى الله جل وعلا مصر بجناتها وعيونها وثمارها وكنوزها لبنى اسرائيل . هذا معنى قوله جل وعلا : ( وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ ) . وقال جل وعلا عن فرعون ونظام حكمه :  ( فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) الشعراء ) ، ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) الدخان ).

12 ـ وبهذا تحقق الوعد الثانى ، وورث بنو اسرائيل  أرض مصر بعد أن إستضعفهم فرعون فى أرض مصر ، قال جل وعلا :  ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف ). وهذا ما بدأت به سورة القصص  فى قوله جل وعلا : ( نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص   ) .

(2 )  بنواسرائيل  وموسى فى مصر بعد  فرعون : قارون بين الحق والقوة

أولا :

1 ـ عبقرية فرعون موسى أنه فى إضطهاده لبنى إسرائيل قام بتجنيد طائفة منهم تعمل لحسابه تساعده فى سياسته ضد قومهم بنى اسرائيل . وهو نفسه ما يفعله الفرعون العسكرى المصرى الآن فى تكوين مجموعة ثرية من الأقباط ، تعمل وكلاء له فى دنيا الأعمال ، وهم شركاء له فى الخفاء ، وفى نفس الوقت يستخدمهم فى سياسته ضد الأقباط ، داخليا وخارجيا .

2 ـ فرعون موسى كان من بطانته قارون ، وقد تقدم فى دولته الى أن كان ترتيبه الثالث فى دولة فرعون ، نفهم هذا من قوله جل وعلا : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) غافر ) . اى كان موسى مرسلا الى فرعون وهامان وقارون معا وبالترتيب ، وأنهم إتهموا موسى بأنه ساحر كذّاب . أكثر من هذا أن قارون شارك فرعون وهامان فى الاقتراح بقتل أطفال أبناء قومه من الذين آمنوا مع موسى ، قال جل وعلا فى الآية التالية : ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25)غافر). وبالتالى شارك قارون إقتراح فرعون فى قتل موسى : ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر)، لأن الوحيد الذى إعترض على هذا الاقتراح كان أميرا فرعونيا مؤمنا يكتم إيمانه : (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) غافر ).

3 ـ ويقول جل وعلا عن هلاك الأمم السابقة : (وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)العنكبوت). المثير للإهتمام هنا هو ذكر قارون ضمن أهم الأمم التى أهلكها الله جل وعلا مثل عاد وثمود ، ثم يأتى إسم قارون قبل فرعون وهامان ، وأن موسى عليه السلام جاءهم بالبينات فإستكبروا شأن السابقين . المثير للإهتمام أيضا هو ذكر العقاب المتميز لقارون ، وهو أن الله جل وعلا خسف به الأرض . ( ومنهم من خسفنا به الأرض ) وجاءت عقوبته مذكورة قبل عقوبة اغرق لفرعون ( ومنهم من أغرقنا ) . هذا مع أن عقوبة خسف قارون حدثت بعد غرق فرعون . المثير للإهتمام أيضا هو عدم ذكر قوم فرعون أو آل فرعون أو ملأ فرعون إكتفاء بذكر فرعون وقارون وهامان مع تقديم إسم قارون . . هذا القارون كان من بنى اسرائيل ، أو بتعبير القرآن الكريم : ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى ).

4 ـ لم يصحب قارون فرعون وجيشه وهو يطارد بنى اسرائيل ، فلم يكن شخصية عسكرية مثل فرعون الذى غرق مع جنده ، قال جل وعلا : (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً  ) (90) يونس ) (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) طه ) ، وجعل الله جل وعلا فرعون ضمن جنده فقال عنه وعن جنده: ( إِنَّهُمْ جُندٌ مُغْرَقُونَ (24) الدخان ) . ونسب الجنود الى فرعون حينا فقال : ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ  ) (40) القصص )، ونسب الجنود الى فرعون وهامان ، قال جل وعلا : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) القصص ).

5 ـ كان قارون شخصية مدنية من بنى اسرائيل ، ولاشك أنه كان خبيرا بإستثمار الأموال ، وخدم فرعون فى هذا المجال . ومن المتوقع أن يتركه فرعون فى مصر أمينا على أمواله وكنوزه ، وهو يزحف فى نزهته العسكرية يطارد المستضعفين من بنى اسرائيل . لم يكن فرعون يتصور أن بنى اسرائيل ستهزمه وجيشه ، بل كان موقنا أنه سيرجع بعد نزهته العسكرية الى كنوزه وأمواله وضياعه وقصوره  وقد حفظها له نائبه ووكيله قارون . ثم غرق فرعون وجيشه ونظام حكمه الفرعونى ولم يبق من حاشيته سوى الاسرائيلى قارون ، فعاش بعدهم فى مصر ردحا من الزمن الى أن خسف الله جل وعلا به وبكنوزه وبيته الأرض . . 

6 ـ قال جل وعلا : ( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ ). هو أصلا من قوم موسى ، ولكنه بغى عليهم . وقد وصف رب العزة فرعون بالبغى على بنى اسرائيل . ونفهم أن قارون بغى على قومه الاسرائيليين فى عهد فرعون وبعد غرق فرعون . بغى عليهم وهو يخدم فرعون فى عسفه ببنى اسرائيل ، ولا شك أنه كان له أعوان من الاسرائيليين يتبعونه يتجسسون على موسى وهارون والمؤمنين من قومهم ، وكانوا السبب فى رُعب بنى اسرائيل من تلك المراقبة المستمرة .  ثم بغى عليهم قارون  بعد غرق فرعون ، وقد صار وحده أكبر راس باقية من نظام فرعون البائد ، وقد تجمع حوله أتباعه السابقون ، واصبح يسير بهم فى زينته يقلد الفرعون فى مواكبه . 

7 ـ  ونلاحظ عدم ذكر موسى وهارون فى قصة قارون فى قوله جل وعلا :( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) القصص ).

8 ـ عناصر القصة فى بغى قارون على قومه واستحواذه على الكنوز وزعمه أنه حصل على المال بعلمه ورفضه نصيحة قومه إستمرارا منه فى الفساد ، وأن قومه منهم من حسده على جاهه وكنوزه ، ومنهم الذين أوتوا العلم الذين لاموا المنبهرين بقارون . ليست هنا إشارة لموسى وهارون مع وجودهما فى نفس الزمان ونفس المكان .

9 ـ ونستطيع تخيل السبب . غرق فرعون كان مفاجأة سارة لجميع بنى اسرائيل ، ومنهم قارون . ألقى الموج بجثث فرعون وجنده وعليها ما كانوا يتزينون به من حُلُىّ وجواهر . ونتصور أن بنى اسرائيل رجعوا الى تلك الجثث يجردونها مما عليها من ذهب ورياش . وبدأ بهذا مناخ جديد هو حُمّى البحث عن غنائم وكنوز فرعون وقومه . لم يشارك فيها المصريون الذين إستكانوا وقنعوا بالعيش على الهامش ، بينما تنافس فيها بنو اسرائيل ، وهم أقلية تنتسب لعنصر واحد ، وجعلهم إضطهاد فرعون يتميزون بأرومة يتفردون بها عن بقية الأغلبية . رجعوا الى مصر يحملون النبأ الهائل عن غرق فرعون وجنده وملئه العسكرى. ومن الطبيعى أن رباطهم الذى كان يربطهم بموسى وهارون قد تهاوى ، فلم يعد هناك الخطر الفرعونى الذى كان ، بل أصبحوا وارثين لتركة فرعون وقومه . وبوصول النبأ الى قارون نتصوره وقد شمّر عن ساعديه وإجتذب له أعوانا جُدُدا ومسح بهم العمران المصرى باحثا عن الكنوز والدفائن والنفائس فجمع منها أكواما ، وجمعها فى خزائن ، وجعل لها أقفالا ، تكاثرت الأقفال والمفاتيح حتى كانت العصبة من الرجال تعجز عن حملها ، وبنى فوقها دارا له . ونتصور أن بقية الاسرائيليين الذين لا يعرفون مكامن الكنوز قد إتجهوا الى قصور فرعون وعروشه ومعابده الظاهرة يجردونها مما فيها ، ودمروها عن آخرها فى تنقيب عشوائى غوغائى . نفهم هذا من قوله جل وعلا : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف ) . فى هذا الضجيج ضاع صوت موسى وهارون ، وملأ قارون الفراغ الذى حدث بغرق فرعون وقومه وبإعراض وإنفضاض بنى اسرائيل عن موسى وهارون .

10 ـ عوقب فرعون وهامان وجنودهما ، وسار على دأب فرعون قارون فكان حتما أن يحل به العقاب ، وأن يكون عقابا علنيا أمام قومه . وكما كان جسد فرعون آية وعبرة لمن خلفه من بنى إسرئيل أصبح الخسف العلنى بقارون وبموكبه وزينته وداره عبرة لقومه بنى اسرائيل ، حتى إن الذين حسدوه فى موكبه وإعتتبروه ذا حظ عظيم ـ  راجعوا أنفسهم .

11 ـ بالانتقام من قارون ( آخر مركز قوة من نظام فرعون موسى ) تم ليس فقط القضاء التام على دولة هذا الفرعون بل أيضا تم الطمس على بيته و كنوزه ، فقد ابتعلتها الأرض مع قارون ، وتحققت دعوة موسى وهارون فى الطمس على اموال فرعون . قال جل وعلا : ( وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) يونس ) .

أخيرا :

 قارون هنا إمتلك القوة دون الحق . بينما كان الحق مع موسى وهارون ـ دون القوة .

 

 

  (3 ) إبتلاء الاستخلاف  فى فرعون وبنى اسرائيل  

أولا : الاستخلاف فى الأرض بين الابتلاء بالخير والشّر

 1 ـ يقول جل وعلا : ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) الانبياء ) ، كل فرد يبتليه ربه جل وعلا ، يختبره بالنعمة والنقمة ، بالمحنة والمنحة . وهكذا كل أمة ، أى دولة أو مجتمع .

لكل فرد إختباره فى الحياة ثم يموت فى موعده ، ولن يؤخر الله جل وعلا نفسا إذا جاء أجلها ( وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ) 11 ) المنافقون ) وهكذا كل أمة إذا جاء أجلها فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون (  وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) الاعراف ) .  ويعبش الأفراد وقد تفاضل بعضهم على بعض الرزق طبقا لهذا الابتلاء ، قال جل وعلا : (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ) 71 ) النحل )، ونفس الحال مع كل أمة ، كل دولة يتفاوت حظها شأن الأفراد ، وتختلف أوضاعها قوة وضعفا وثراءا وفقرا ، ثم تنتهى وقد إستخلف الله جل وعلا بعدها غيرها ، قال جل وعلا : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) الانعام ).

2 ـ والقصص القرآنى خير دليل على الاستخلاف ، إستخلف الله جل وعلا قوم نوح أول مجتمع بشرى فطغوا فأغرقهم ، وإستخلف بعدهم قوم عاد ، فطغوا فقال لهم نبيهم هود عليه السلام : (  وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) الاعراف ) عاندوا فأهلكهم الله جل وعلا واستخلف بعدهم قوم ثمود ، فطغوا فقال لهم نبيهم صالح عليه السلام (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) الاعراف  ) . وهكذا توالى الاستخلاف مرتبطا بالاهلاك الكلى الى أن كان قوم فرعون آخر من أهلكهم الله جل وعلا إهلاكا جماعيا . ونزل القرآن الكريم خاتما للكتب الالهية ، وفيه يقول جل وعلا : ( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) يونس ). نحن خلائف بعد أمم كثيرة إستخلفها الله جل وعلا وابتلاها بالنعمة والنقمة ، ولا يزال الاختبار فينا سائرا وسائدا وملحوظا دون أن نتعظ بسيرة السابقين ، مع تكرار الأمر لنا لأن نسير فى الأرضى لننظر آثار الأمم البائدة التى أهلكها الرحمن جل وعلا .

3 ـ ليس الدليل فى القصص القرآنى وحده ، التاريخ البشرى شاهد آخر . بدأت ونشأت وإزدهرت دول مصر القديمة ، دولة تخلف دولة ، ثم إنتهى عصر الفراعنة وأصبحت مصر محكومة بالأجانب ، من اليونان والفرس والاشوريين والرومان والعرب والأتراك والأوربيين . ونفس الحال على مستوى العالم ، إمبراطوريات تتوسع ثم تتقلص وتتقزم ، من المغول الى اسبانيا والبرتغال الى فرنسا وبريطانيا العظمى .

4 ـ كان معظم أصحاب النبى محمد مستضعفين فى مكة ، وأخرجتهم قريش الى المدينة ، وتابعتهم بالغارات ، وقد وعدهم الله جل وعلا وقت هذه المحنة بالاستخلاف فى الأرض إن هم آمنوا وعملوا صالحا ، قال جل وعلا : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (55) النور ). وتحقق الوعد ، وبدأت إرهاصات العصيان فقال جل وعلا يعظهم ويذكرهم : (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) الانفال ). كان منهم أقلية من السابقين ومن المقتصدين ، ولكن الأغلبية كانت فاسقة ، خصوصا بعد أن دخلت قريش فى الاسلام قبيل موت النبى محمد عليه السلام ، وهم قوم محمد الذين حاربوه وكذبوا بالقرآن الكريم ، وبعد موت النبى إرتكبوا أكبر ردة بما يسمى بالفتوحات ، وقد حذّر رب العزة جل وعلا مقدما قوم النبى محمد عليه السلام وهددهم  فقال : ( قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) الانعام ). وهو نفس حال العرب ( المحمديين ) الآن أنهم شيع يذيق بعضهم بأس بعض . والسبب أنهم ساروا على ( دأب فرعون ) ( الأنفال 52 ، 54 آل عمران 11 ) وقد جعل رب العزة جل وعلا فرعون سلفا ومثلا لمن أتى بعده سائرا على طريق الطغيان والفساد ( الزخرف  56 ).

ثانيا : فرعون وبنو اسرائيل مثلا للإستخلاف

1 ـ إختبر رب العزة جل وعلا فرعون بملك مصر وأنهارها ـ حيث كان نهر النيل قديما يتشعب فى دلتاه شرقا وغربا ، وحيث كانت العيون تملأ الصحراء . بقدر النعمة التى أعطاها الله جل وعلا لفرعون كان كفرانه بها ، والذى وصل الى إدعائه الربوبية العليا والألوهية ، مع الفساد والوحشية ، وقد مارس ساديته فى شعب إسرائيل المستضعف ، ولأنه كفر بالنعمة كان لا بد من عقابه بأن يستخلف الله جل وعلا مكانه بنى اسرائيل ، وأن ينتقل فرعون من هذه الدنيا الى البرزخ يتعذب فيه ويتحسر على ما صار اليه ملكه وقد ورثته بنو اسرائيل ، قال جل وعلا : (  إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) القصص ) (وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) غافر  )

2 ـ الله جل وعلا هو الذى أنعم على فرعون ، وهو الذى أعطاه الأموال والزينة ، وقد دعا موسى عليه السلام ربه جل وعلا فقال : ( رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) يونس )، أى كما ان الله جل وعلا هو الذى أعطاه فالله جل وعلا هو الذى سيطمس على ما أعطاه . وكما مكّن الله جل وعلا له أن يؤسس العمائر والعروش فإن الله جل وعلا هو الذى دمّر فيما بعد هذه العمائر وتلك العروش : ( وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)  الأعراف 137 ) .

وحتى قارون قال جل وعلا إنه هو الذى آتاه من الكنوز (  وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) (76) القصص  )، ثم إن الله جل وعلا هو الذى خسف به الأرض : ( فخَسَفْنَاَ بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ )(81) القصص ).

وقبلها وحين هدّأ موسى من روع قومه قال لهم : ( عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الاعراف )، بمعنى أن إستخلافهم سيكون إبتلاءا لهم بالنعمة . إبتلاهم رب العزة بالمحنة بالاضطهاد الفرعونى كما إبتلى فرعون بالنعمة والمُلك والقوة والكنوز ، رسب فرعون فى إختبار النعمة ، ونجحوا هم فى إبتلاء المحنة ، ثم جاء دورهم فى إبتلاء النعمة وقد إستخلفهم رب العزة بعد فرعون ، فهل سينجحون أم سيخسرون .  سنعرض لهذا فيما بعد بالتفصيل .

3 ـ إحساس التملك للارض وما عليها والخوف من فقدانها ظهر حين عاينوا آية موسى وإعتبروها سحرا فنطق خوفهم على ملكيتهم لمصر التى هى أرض فرعون وأرض الملأ الفرعونى ، نلاحظ هذا من قول فرعون لموسى : (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) طه ) . لا حظ كلمة ( أرضنا ) وقوله للملأ : (قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) الشعراء  )  ، لاحظ استعماله كلمة ( أرضكم ) ليؤثر فيهم . وهو نفس قول الملأ الفرعونى يرددون نفس قول فرعونهم حين تشاوروا فيما بينهم : (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى (63) طه  ) أى إعتبروا نظام فرعون بالنسبة لهم هو النظام السياسى الأمثل . هذا لأنهم يعتبرون مصر أرضهم : (قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) الاعراف )  والرجل المؤمن من آل فرعون وعظ قومه بنفس ثقافتهم قائلا : (يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا )  (29) غافر ). وتعاظم خوف فرعون فيما بعد على ملكيته مصر ناسيا أن الله جل وعلا قد إستخلفه فيها إبتلاءا له ، ولكنه إستخدم النعمة فى الكفر فأعلن ملكيته لمصر وأنهارها فى سياق التندر على موسى ، فحشد مؤتمرا لقومه أعلن فيه لهم : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) الزخرف ).

4 ـ عوقب فرعون وقومه بالهلاك ، والأرض التى ظنوا ملكيتهم لها تحولوا هم الى تراب فيها . وقارون الذى إغتر بكنوزه مالبث أن إبتلعته الأرض بكنوزه . وتم إستخلاف بنى اسرائيل فدخلوا فى إبتلاء النعمة بعد أن عانوا وتحملوا وصبروا على إبتلاء المحنة والنقمة .

5 ــ وهو درس ـ لو تعلمون ـ عظيم .!!

 

 ثالثا : الاستخلاف ( والاهلاك ) بين مشيئة البشر ومشيئة الخالق جل وعلا

1 ـ قلنا إن الله جل وعلا خلق الانسان حرا فى مشيئته إن شاء الإيمان وإن شاء الكفر ،  (وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (29) الكهف )، وخلقه حرا فى تصرفه ، وقال جل وعلا للملحدين فى آياته: إعملوا ما شئتم : ( إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) فصلت ). والله جل يهدى من من البشر من يشاء منهم الهداية ، ويضل منهم من يشاء منهم الضلالة ( أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ) (8) فاطر ). هى

 نفس المشيئة البشرية فى السياسة والمُلك . إذا شاء البشر الخنوع والخضوع لحاكم مستبد وارتضوا به حاكما ، إعترف به رب العزة حاكما عليهم ، ووصفه ملكا . وفى عصر موسى كان هناك ملك غاصب من القراصنة يأخذ كل سفينة غصبا ( لعله كان من فينيقيا أو من قبرص ). وجاء هذا فى قصة موسى مع العبد الصالح الذى خرق سفينة لمساكين يعملون فى البحر ثم شرح تصرفه لموسى قائلا : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) الكهف ) . هنا ملك غاصب قرصان بحرى . ولكن رضى به قومه ملكا فوصفه رب العزة بالمُلك . ونفس الحال مع ذلك الملك الكافر الذى حاجّ ابراهيم عليه السلام فى ربه ، وقد آتاه الله جل وعلا المُلك مع كفره ، لأن الشعب إرتضاه ملكا ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) البقرة ) .

مشيئة الله لأن يتولى أحدهم المُلك تأتى تابعة لمشيئة الناس فى الخنوع اليه . ثم إن مشيئة الناس فى تغيير ما بأنفسهم من خضوع وخنوع ـ إذا نجحت وغيّرت ما بأنفسهم ـ فإن مشيئة الله جل وعلا تعترف بهذا التغيير وتوثقه، قال جل وعلا : (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )(11) الرعد ) . قلنا هذا كثيرا فى مشيئة الناس التى هى الأساس ، ثم مشيئة الله التالية بإعتبار حرية البشر فى المشيئة ومسئوليتهم عليها فى الدنيا والآخرة .

2 ـ على أن كون المشيئة الالهية هى التالية المؤكدة للأولى فهذا يعنى أيضا أنها المشيئة الأخيرة ، فالوضع فى النهاية قد يأتى منسوبا لرب العزة ، وهنا نفهم قوله جل وعلا : ( قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) آل عمران ) . ليس هذا فقط فى إتيان الملك ونزع الملك ولكن أيضا فى موضوع الاستخلاف والابتلاء وهو موضوعنا الأصلى هنا . فبالابتلاء والاختبار يكون إستخلاف قوم بعد قوم ، وفرعون بعد فرعون .

3 ـ وهنا نستعيد قراءة ما جاء سابقا عن فرعون  الذى آتاه الله جل وعلا زينة وأموالا فى الحياة الدنيا ، وما جاء عن قارون الذى آتاه الله جل وعلا من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بحملها العصبة من الرجال الأقوياء . هنا المشيئة الالهية تأتى تالية لمشيئة البشر فى السعى للتملك والاستخلاف . شاءوا هذا وعملوا له فشاء لهم رب العزة ماشاءوا ، وإبتلاهم به ، ثم كانت عقوبتهم بما سعوا اليه .

4 ـ مشيئة البشر هى العنصر الأول هنا . العنصر الآخر هو عدم علم البشر بالغيب . فرعون سعى بكل ما يستطيع ليصل الى الحكم ، وسعى بكل ما يستطيع ليحتفظ بالحكم ، وإرتكب مذابح ومجازر بإرادته الحرة ، وهو لا يعلم الغيب المستقبلى الذى ينتظره ، وأنه هو الذى قام بتربية موسى ليكون له ولقومه عدوا وحزنا ( القصص 8 ). وهذه قاعدة قرآنية تنطبق دائما على أصحاب المكر السىء من كل نوع ، أن يحيق بهم هم مكرهم السىء ، قال جل وعلا : ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) فاطر ) ، هى أيضا سُنّة الله جل وعلا فى التعامل مع المستكبرين ، أو مع كبار المجرمين الذين يتآمرون ويمكرون للوصول الى السلطة والاحتفاظ بها وسلب الثروة مع ما ينتج عن ذلك من قتل الأبرياء وظلم المستضعفين فى الأرض ، وفى النهاية ينتهى تدبيرهم ومكرهم وتآمرهم الى هلاك ، وهم لا يعلمون أنهم يمكرون بأنفسهم فقط وهم لا يشعرون ، قال جل وعلا فى قاعدة قرآنية أخرى : (  وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) الانعام  ) . لاحظ قوله جل وعلا : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا )، هم شاءوا أن يكونوا أكابر المجرمين وسعوا لذلك فجعلهم الله جل وعلا كذلك .

5 ـ لو قيل لفرعون إن مصيره سيكون الغرق لن يرجع عن عناده . إن مؤمن آل فرعون حذره وحذر قومه من إهلاك الأمم السابقة ولم ينفع وعظه . سار فرعون الى حتفه بظلفه ، وهكذا يسير على دأبه كل الفراعنة ..حتى اليوم ..

إن الذى تشرّب الضلال فى الدنيا يستحيل عليه ان يهتدى ، إذ أنه أصبح يرى فجوره وطغيانه حسنا ، وهنا نتذكر فرعون وهو يقول لقومه ( مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)  غافر ) وهو يصف موسى بالفساد (  وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ (26) غافر ) .

بل إن المجرمين وهم على شفا جهنم سيتمنون العودة الى الدنيا ليعملوا صالحا ، والله جل وعلا يؤكد إنهم لو عادوا الى الدنيا فلن يعملوا صالحا ، بل سيعملون نفس العمل السىء الذى كانوا يعملونه من قبل ، قال جل وعلا : ( وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) الأنعام )

رابعا : إستخلاف الآخرة للمتقين ـ بلا هلاك

1 ـ فى أواخر سورة القصص ــ بعد انتهاء قصة قرون وقصة موسى ــ جاءت إشارة الى الصنف النقيض ، إنهم أولئك المؤمنون المتقون الذين لا يريدون ولا يشاءون علوا فى الأرض ولا فسادا مثل  فرعون وقومه وقارون الذين شاءوا العلو فى الأرض والفساد . أولئك المؤمنون المتقون قال عنهم رب العزة جل وعلا : ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص ) . أولئك سيكونون أصحاب الجنة لأنهم لم يريدوا ولم يشاءوا علوا فى الدنيا ولا فسادا لإيمانهم أن الله جل وعلا وحده هو الكبير المتعال ، وهو وحده صاحب الجلال ( سبحانه وتعالى عما يصفون ). ولأنهم لم يشاءوا فى حياتهم الدنيا علوا ولا فسادا فقد عاشوا فى سكون يعملون الخيرات يبتغون وجه الله جل وعلا فقط ، ولا يأبهون برأى الناس . من الطبيعى وهم مغمورون أن يجهلهم التأريخ ويتجاهلهم التاريخ . فالتاريخ يرقص فى مواكب أصحاب العلو والفساد . وهنا نفهم لماذا لا نرى فى تاريخ المسلمين ذكرا للصحابة الأبرار السابقين بعملهم وإيمانهم الذين أشارت اليهم الآية 100 من سورة التوبة ( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100))  هؤلاء لا يعرفهم إلا الله جل وعلا الذى يعلم السّرّ وأخفى والذى يعلم خائنة الأعين وما تحفى الصدور ( غافر 19 ) ، والذى هو أعلم بإيماننا بعضنا من بعض ( النساء 25 ) والذى يعلم غيب السرائر ( آل عمران: 118 : 119 .). التاريخ يكتبه مؤرخون يرون مواكب السلطان والملأ ،ثم يروونها ويكتبونها . لا يهتمون بالمغمورين من الناس . والتاريخ معذور ، فهو يسجل من يعلو . أما عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا فهو لا يراهم ولا يسمع بهم ، وهم أيضا لا يهتمون بهذا التاريخ الدنيوى لأنه قلوبهم معلقة بالجنة . ونرى عجبا فى كتابة التاريخ للمسلمين . تراقص التاريخ لكبار المجرمين الفاتحين الغُزاة البُغاة أبى بكر وعمر وعثمان ، وكتب تاريخا مزورا مزيفا جعلهم السابقين فى الاسلام زورا وبهتانا ، وجعلهم آلهة زورا وبهتانا .

2 ـ وإذا كان الاستخلاف فى الدنيا يعنى هلاك السابق ثم هلاك اللاحق فإن الاستخلاف فى الآخرة هو للمتقين الذين سيرثون أرض الجنة يتبوأون فيها حيث يشاءون . قال جل وعلا : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنْ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) الزمر  )

أخيرا : أحسن الحديث :

(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) الأنبياء  ) ز

ودائما : صدق الله العظيم .!!

 

الفصل الثالث :  بنواسرائيل وموسى فى مصر بعد  فرعون :

( 1 ) ميقات موسى فى جبل الطور : أولا : الميقات الأول : ثانيا : الميقات الآخر : 

(2 ) عصيان بنى اسرائيل فى غياب موسى عند جبل الطور :   

( 3 ) ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْغَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..)

( 4 ) : أخذ الميثاق على بنى اسرائيل تحت جبل الطور  

(5 ) خروج بنى اسرائيل من مصر نحو الأرض التى كتبها الله جل وعلا لهم  

 

   بنواسرائيل وموسى فى مصر بعد  فرعون : ميقات موسى فى جبل الطور

مقدمة

1 ـ ميقات موسى مع ربه جل وعلا فى جبل الطور بسيناء حدث مرتين طبقا لما نعلمه من القرآن الكريم . الأول لم يكن بعلم موسى ، إذ فوجىء به ، وكان تكليم ربه جل وعلا له لأول مرة ، وتكليفه بالذهاب الى فرعون ليسأله أن يفرج عن بنى اسرائيل . المرة الأخرى بعد هلاك فرعون واستخلاف بنى اسرائيل فى مصر . تم إستدعاء موسى لميقات ربه فى نفس المكان ، فترك موسى قومه على ضفاف النيل وذهب الى سيناء وجبل الطور ، وكان الميقات .

2 ـ ونعطى بعض التفصيلات .

أولا : الميقات الأول :

1 ـ بإيجاز قال عنه جل وعلا : (هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) النازعات ). هنا ان الله جل وعلا نادى موسى وهو بجبل الطور بالوادى المقدس طوى . هنا وصف لجبل الطور وما يحيط به من الوادى ب ( المقدس )

2 ـ وبإيجاز أيضا يقول جل وعلا : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً (53) مريم ). فى سياق فى مدح موسى عليه السلام جاء تحديد مكان مناداته من ربه جل وعلا وهو ( الجانب الأيمن من جبل الطور)

3 ـ  وفى تفصيل أكثر يقول جل وعلا :( إِذْ قَالَ مُوسَى لأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (12) النمل ).

هنا ذكر لزوجة موسى وهى معه فى طريق العودة من مدين ، وكانا يسيران فى الظلام فرأيا نارا تلوح من بُعد بجانب جبل الطور ، فقال لزوجته أن تبقى مكانها ليذهب الى حيث النار لعله يجد حولها أناسا أو جذوة من النار تدفئهما . فلما أتى عند النار ناداه ربه جل وعلا بأن الله جل وعلا بارك من فى النار ومن حولها ، وأن الذى يخاطبه هو رب العزة جل وعلا . وأمره ربه أن يرمى عصاه فرماها فوجدها تتحرك كأنها جان ، فهرب موسى خائفا دون أن يلتفت فناداه ربه ألا يخاف لأنه لا يليق بالرسول الذى يكلمه ربه أن يخاف ، وامره ان يدخل يده فى جيبه فأدخلها ثم أخرجها فوجدها تنير بياضا مُشعّا ، وكانت هاتان الآيتان ضمن آيات تسع الى فرعون .

4 ـ وبدأت سورة القصص بقصة موسى وفرعون ، وفى سياق القصة زواج موسى من بنت الرجل الصالح من مدين مقابل ان يخدمه ثمانى او عشر سنوات . ولما أتم ما عليه سافر بزوجته من مدين راجعا الى مصر عبر سيناء فمرّ على جبل الطور . يقول جل وعلا : ( فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنْ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنْ الآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنْ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (32) القصص ).  الجديد هنا وصف المكان بأنه البقعة المباركة من الشجرة . وكانت مناداة الرحمن جل وعلا له ، والأمر بأن يلقى عصاه وخوف موسى وهربه ثم عودته ، والآية الأخرى عن يده التى تخرج من جيبه بيضاء من غير سوء ، وأنهما آيتان لفرعون وملئه .

5 ـ التفصيلات الأكثر فى سورة (طه ). قال جل وعلا : ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) طه ).

الجديد هنا أمر الله جل وعلا لموسى أن يخلع نعليه لأنه بالوادى المقدس طوى ، وأن الله جل وعلا إختاره وعليه أن يستمع للوحى . وسمع موسى كلام ربه جل وعلا له أنه لا إله إلا هو ، وعليه أن يعبده وحده جل وعلا ، وأن يقيم الصلاة لذكره وحده ، وأن الساعة أصبحت قريبة ، وألّا يستمع لمن لا يؤمن بها حتى لا يخسر . ثم سأله ربه عن العصا فقال إنها عصاه يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه ويستعملها فى أغراض أخرى . فأمره بإلقائها فألقاها فوجدها حية تسعى ، فخاف فأمره ربه أن يأخذها بلا خوف لأنها سترجع عصا كما كانت . وأمره بأن يدخل يده الى جيبه فأخرجها فإذا هى بيضاء من غير سوء . ثم أمره بالذهاب الى الطاغية فرعون ، وبعدها إستمر الحوار بين موسى وربه جل وعلا ، وانتهى بإستجابة الرحمن طلب موسى أن يكون أخوه هارون معه وحفظه جل وعلا لهما من بطش فرعون .

6 ـ يتضح مما سبق أنه آخر حديث يشير الى زوجة موسى ، وأن موسى كان يسير بأغنام معه يرعاها ويستعين بها فى غذائه ـ ومعه عصاه يتوكأ عليها ، أى لم تكن معه راحلة يركبها ، وكان ينتعل نعلا يحمى قدميه . وأن الله جل وعلا أراه أيتى العصا واليد المضيئة برهانا له ، ثم لفرعون بعدها . وعرفنا ما حدث بعدها الى غرق فرعون وقومه وإستخلاف بنى اسرائيل فى مصر والخسف بقارون . بعدها كان الاستدعاء لموسى أن يعود الى جبل الطور فى الميقات الثانى ، ليتلقى الألواح .

ثانيا : الميقات الآخر :

1 ـ قال عنه جل وعلا : ( وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) الأعراف ).

2 ـ مدة الميقات أربعين ليلة ، ليس أربعين يوما ، أى كان كلام رب العزة جل وعلا مع موسى ليلا ، وليس نهارا .

3 ـ قبل أن يترك موسى قومه بنى إسرائيل فى وادى النيل عيّن أخاه هارون خليفة له ، وأمره بأن يصلح فى تعامله معهم ، ونهاه عن إتباع سبيل المفسدين . نستنتج من هذا أن موسى بعد الخسف بقارون اصبح هو قائد بنى اسرائيل ، وأنه إستخلف أخاه ليقودهم فى غيابه ، كما نستنتج وجود قوم مفسدين من بنى إسرائيل كانوا أصحاب سطوة ، ربما كانوا من أتباع قارون ، ولذا حذّر موسى أخاه من أن يسمع لهم أو يطيع .

4 ـ عندما جاء موسى لميقاته مع ربه كان متشوقا لأن يرى ربه عيانا . لقد كلّم الله جل وعلا موسى تكليما (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً (164) النساء ) . بدأ هذا مع أول كلام لربه فى نفس المكان ، وتوالى الوحى ( التوجيهى ) لموسى بعدها ، مختلفا ــ فيما نظن  ــ عن الكلام المباشر عند جبل الطور ، ومن هذا الوحى التوجيهى ما حدث فى مباراة السحر (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) الاعراف )( فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) طه  )، وعندما إشتد ببنى اسرائيل الاضطهاد جاءه وحى آخر : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) يونس  )، وعند الهرب بهم من فرعون جاءه أيضا وحى : (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) الشعراء ) وعندما ضرب البحر بعصاه : (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)  الشعراء ) . كانت هذه مبررات لكى يطلب موسى من ربه أن يراه . وكانت الاجابة بالنفى إنه لن يرى الله أبدا لا فى هذه الدنيا ولا فى الآخرة لأنه جل وعلا لا تدركه الأبصار : (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) الانعام ) . وكدليل لموسى فقد تجلى جل وعلا للجبل فجعله دكا وسقط موسى صعقا ، فلما أفاق من صعقته إعتذر. وقال له ربه إنه إصطفاه وإختاره على الناس بالكلام معه وبالرسالات التى أرسله بها ، وعليه أن يشكر ربه جل وعلا على  ما ميزه به .

5 ـ وتلقى موسى من ربه الألواح مكتوبة ، ومنسوخ ـ أى مكتوب فيها ـ مواعظ مفصلة ، وأمره ربه جل وعلا أن يستمسك بها ، وأن يأمر قومه أن يطبقوا ( أحسن  ) ما فيها . فالمتقون درجتان ، السابقون وأصحاب اليمين . السابقون هم الذين لا يكتفون بالعبادات المفروضة مثل الصلوات الخمس بل يؤدون نوافل زائدة مثل قيام الليل ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة . أما الدرجة الدنيا من المتقين فهم أصحاب اليمين التائبين الذين يجتهدون فى عمل الصالحات لتعويض ما فاتهم وللتكفير عن سيئاتهم.

6 ـ وهم إن فعلوا سيريهم الله جل وعلا دار الفاسقين المتكبرين الجبارين المتبعين لطريق الغىّ الرافضين لطريق الرُّشد والكافرين باليوم الآخر . هم شاءوا الضلال فصرفهم رب العزة عن رؤية الحق ، وقد أحبط أعمالهم .

7 ـ  ( سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ  ) من هم أولئك الفاسقون ؟ واين ديارهم ؟ وهل سيراهم بنو اسرائيل ؟ وهل سيدخلون ديارهم ؟ 

 

  (2 ) عصيان بنى اسرائيل فى غياب موسى عند جبل الطور

  الأغلبية والأكثرية عموما

 الأغلبية عادة ضالة مضلة ، يقول جل وعلا : ( وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103 )( يوسف )( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) الانعام ). وهى لا تؤمن بالله جل وعلا إلا إذا إتخذت آلهة معه جل وعلا : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) يوسف )

الأغلبية والأكثرية فى قوم النبى محمد

1 ـ النسق القرآنى يخاطب الأغلبية على أنها الجميع . مثلا يقول جل وعلا  عن قريش قوم النبى محمد إنهم يكذبون بالقرآن، قال جل وعلا : (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ) (66) الأنعام ) . هذا عن الأغلبية ، ولكن هناك أقلية قرشية من مكة هاجرت وتركت أموالها وديارها وعانت الفقر فى المدينة فجعل الله جل وعلا نصيبا من الفىء الذى يفىء الى خزينة الدولة سلميا . قال جل وعلا :( لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (8) الحشر ). هؤلاء الذين مدحهم رب العزة جل وعلا هم من قوم النبى ، ولكن كانوا أقلية.

2 ـ ويقول جل وعلا عن الاعراب البدو فى عهد النبى محمد عليه السلام : ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) الأعراب ) ليس هذا حكما على جميع الأعراب ، بل هو عن الأغلبية بدليل أن الله جل وعلا يقول عن بعضهم ( وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) التوبة ).

الأغلبية والأكثرية فى بنى اسرائيل

1ـ نفس الحال فى الخطاب عن قوم فرعون ، تكون الأغلبية هى المعبرة عن المجموع ، قال جل وعلا عن فرعون وقومه : (  فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) الزخرف ) لكن كان هناك مؤمن آل فرعون الذى يكتم إيمانه وزوجة فرعون التى جعلها الله جل وعلا مثلا للذين آمنوا .

2 ـ نفس الحال فى الخطاب عن بنى اسرائيل ، يقول عنهم  جل وعلا : ( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) الأعراف ). ليس المقصود كل بنى إسرائيل ، بل الأغلبية ،. كانت هناك أقلية مؤمنة من بنى اسرائيل فى عهد موسى ، قال جل وعلا : ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) الاعراف )، أى مؤمنون يعظون بالحق ويحكمون بالحق والعدل .

3 ـ ووسط جنون الانبهار بالثروة بعد هلاك فرعون وقومه وظهور قارون بأمواله ( بطلا قوميا ) معبرا عن هذا الوقت كان هناك من بنى اسرائيل من قام عن موسى وهارون بمهمة وعظ قارون :  ( إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) القصص ).

4  ـ على أن بنى اسرائيل جميعا إشتركوا فى فضيلة الصبر وقت الأضطهاد الفرعونى ، قابلوا ظلم الفرعون بالصبر والتحمل ، فعوقب فرعون وقومه بالغرق وكوفئوا بالاستخلاف بعده فى أرض مصر . نصحهم موسى بالصبر ، قال لهم : ( اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) الاعراف ) ، وصبروا فكوفئوا ، قال جل وعلا : ( وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) الاعراف ) . ومن مؤمنى بنى إسرائيل من جعلهم رب العزة أئمة بسبب تمسكهم بالصبر والايمان ، قال جل وعلا : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) السجدة ).

أغلبية بنى اسرائيل بين موسى وهارون

1 ـ ويلاحظ أن الله جل وعلا كان قد حذّر موسى وهارون من أن يتبعا سبيل الذين لا يعلمون ، كان هذا بعد أن إستجاب دعوتهما : ( قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) يونس ). وحين إستخلف موسى أخاه هارون وهو ذاهب الى سيناء نصحه فقال له : (وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) الاعراف ).

2 ـ وقبلها قال موسى لقومه حين إشتكوا له تزايد الاضطهاد الفرعونى : (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الأعراف ). نجحوا جميعا فى إبتلاء المحنة والنقمة وصبروا ، ولكن الأغلبية خسرت فى إختبار النعمة والمنحة حين ورثوا مّلك فرعون ، وظهر قارون ثم بعده مفسدون آخرون ، وحين إستخلف موسى أخاه هارون حذره من أولئك المفسدين الذين ما لبثوا أن عبدوا العجل فى غياب موسى فى ميقات ربه جل وعلا .

بين موسى وهارون بالنسبة لبنى اسرائيل

1 ـ وبالتدبر فى قصة موسى نعرف أنه عاش المرحلة الأولى من حياته فى مصر فى مجتمع آل فرعون بعيدا ـ جزئيا ـ عن قومه بنى إسرائيل ، ثم هرب الى مدين وعاش فيها نحو عشر سنوات بعيدا عن مصر وعن معاناة قومه فيها ، ورجع لمصر وقد نسى جزءا من اللسان المصرى ، هذا عكس أخيه هارون الذى لم يغادر مصر وقتها وعاش ملتصقا بقومه بنى اسرائيل ، لذا كان من مبررات طلب موسى من ربه أن يرسل معه أخاه هارون أن هارون افصح منه لسانا : ( وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) القصص  )

2 ـ إن نشأة موسى فى قصر الفرعون مع معرفته بأصله الاسرائيلى جعله يتوقع الشّر والأخطار ، عصبيا وفى حالة إستنفار وسريع الغضب والبطش ، ولهذا لم يكن محببا الى بنى اسرائيل . بينما نشأ هارون مع قومه يتلقى مثلهم الاضطهاد الفرعونى ويصبر عليه ويخضع له ، فكان بين بنى إسرائيل كواحد منهم ، لذا كان قريبا منهم محببا اليهم لأنه يسهل السيطرة عليه ، وظهر هذا جليا بعد أن وصلوا الى القوة والاستخلاف وظهر منهم مفسدون ، هؤلاء المفسدون آذوا موسى وهددوا هارون .

3 ـ عن إيذائهم لموسى قال جل وعلا يحذر صحابة النبى محمد : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) الاحزاب ). وقال جل وعلا : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) الصف ). أى كانوا يؤذونه مع علمهم أنه رسول الله اليهم . الكلام هنا ــ كما أسلفنا ـ عن الأغلبية وليس عن الجميع .

4 ـ هذا بينما ظلت شخصية هارون محببة فى التراث الاسرائيلى ، فكانوا فى المدح أو العتاب يقولون : يا أخا هارون ، ويا أخت هارون . وحين ولدت مريم عيسى بلا أب وجاءت به قومها تحمله فتعجبوا وقالوا لها فى عتاب : ( يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً (28) مريم )

عبادة بنى اسرائيل العجل الفرعونى أثناء غياب موسى فى ميقات ربه جل وعلا :

1 ـ إستراح بنو اسرائيل ( الأغلبية ) من شدة موسى بغيابه عنهم فى ميقاته بربه . كانوا متأثرين حتى النخاع بالديانة المصرية ـ مع إيمانهم بالله جل وعلا ، شأن الأغلبية الذين لا يؤمنون بالله جل وعلا إلا وهم مشركون .

2 ـ ظهر قارون بكنوزه زعيما بأمواله ثم خسف الله جل وعلا به الأرض ، وسرعان ما ظهر زعيم آخر ( دينى ) فى غياب موسى ، قام بجمع حُلُىّ بنى اسرائيل ، وصاغ منه تمثالا لعجل أبيس الذى كان يعبده المصريون . الجزء الأكبر من ذهب فرعون وزينته عثر عليه قارون وتملكه ثم ابتلعته الأرض . بقى جزء آخر كان يتحلى به فرعون وجيشه ، وقذفت الأمواج جثثهم بما عليه فأخذته بنو اسرائيل . جمع السامرى هذا الذهب الفرعونى وصنع منه تمثالا لعجل أبيس ، وقال لبنى اسرائيل : هذا إلاهكم وإله موسى . كل هذا فى غياب موسى .

3 ــ قال جل وعلا : ( وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (149) الاعراف ). وقد أخبر الله جل وعلا موسى فى الميقات بما وقع فيه بنو اسرائيل : (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ (85) طه )

4 ـ رجع موسى الى قومه ثائرا غضبا ، وإنصب غضبه على أخيه هارون ، وأخذ بلحيته وبرأسه ، وأخذ يعنفه ، وإعتذر اليه هارون بأن القوم إستضعفوه وكادوا يقتلونه ، قال جل وعلا : ( وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِي الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) الاعراف ) (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) طه )

5 ـ وخاطب موسى قومه غاضبا ، قال جل وعلا : ( فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) طه ).

6 ـ أى ألقوا الكرة فى ملعب السامرى الذى أغواهم بالعجل . قال جل وعلا : ( فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً (89) طه ) وضاعت نصائح هارون لهم هباءا . إذ وعظهم . قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمْ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) طه )

7 ـ وإستجوب موسى السامرى فزعم أقوالا كاذبة لا معنى لها ، مؤداها أن له بصيرة وعلما لدنيا : ( قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) طه ) .

8 ـ ودعا عليه موسى أن يُصاب السامرى بمرض يصيبه إذا مسّه أحد أو إذا هو مسّ أحدا  هذا عدا عذاب الآخرة الذى لن يفلت منه ، ثم أمر موسى بحرق العجل الذهبى وإلقاء رماده فى البحر : ( قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) طه  )

9 ـ وبإحراق العجل الذهبى تمت الاستجابة لدعوة موسى وهارون بالطمس على أموال فرعون وقومه . الجزء الأكبر ابتلعته الأرض مع قارون ، والجزء الباقى إبتلعه البحر الذى إبتلع من قبل فرعون وجنده . كان من زينتهم وغرقوا بها ثم لفظها البحر ، ثم صيغت عجلا ثم عادت للبحر .

 

  (3 )( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْغَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..)

أولا :

1 ـ وعظ موسى عليه السلام قومه بعد إستخلافهم فى أرض مصر فقال لهم : (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ )(8)ابراهيم ).وقصّ عليهم موجزا لقصص الأمم السابقين وموقفهم من رسلهم : ( ابراهيم 9 : 14 ). يهمنا هنا قوله لقومه (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) ابراهيم )، يعنى إنهم إن شكروا نعمة الله جل وعلا عليهم بنجاتهم من فرعون وإستخلافهم فى أرض مصر فسيزيدهم نعمة ، وإن كفروا نعمة الله جل وعلا فإنتقامه شديد .

2 ـ بعدها كان ذهاب موسى الى ميقات ربه فى جبل الطور فى سيناء ، وتركهم فى وادى النيل فإتخذ ( أغلبهم ) العجل الذهبى إلاها . وتعرضنا لموقف موسى من أخيه هارون وإعتذار هارون وموقف موسى من السامرى الأفّاق ومصير السامرى وعجله الذهبى . نتوقف هنا مع مزيد من موقف موسى مع قومه . 

3 ـ يذكر رب العزة جل وعلا أن موسى فى شدة غضبه على قومه طلب منهم أن يتوبوا بالانتحار ، قال جل وعلا : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) البقرة ). ويبدو أن دعوته كادت تلقى إستجابة منهم رغبة فى تطهير أنفسهم مما وقعوا فيه إذ كانوا قد ندموا من قبل هذا ، قال عنهم رب العزة جل وعلا :( وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ (149) الاعراف) . لذا تاب الله جل وعلا عليهم ، ولم يقتلوا أنفسهم . وقال جل وعلا عنهم : ( ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ )(153)(النساء ).

ثانيا : الأسلوب الوعظى فى قصة بنى اسرائيل

1 ـ لم يكن هناك عجل ذهبى لبنى اسرائيل فى عصر نزول القرآن الكريم ، ولكن ظل مطروحا  فى  خطاب وعظى لبنى إسرائيل وغيرهم، بما يؤكد أن العجل الذهبى أصبح رمزا لعبادة المال والذهب .

2 ـ ويلاحظ أن هذا الاسلوب الوعظى قد تردد فى بعض السور المدنية وقت التعامل بين النبى وأهل الكتاب . وترى هذا خصوصا فى سورة البقرة . فى السور المكية كان قصص موسى وفرعون وبنى إسرائيل يأتى بالاسلوب السردى كما فى سور الأعراف والقصص وطه وغافر والزخرف والشعراء . فى الحوار مع بنى إسرائيل فى السور المدنية كانت بعض أحداث القصص الخاصة ببنى اسرائيل يتم إسترجاعها للتذكير بها على سبيل الوعظ ، مثل الخطاب الوعظى المباشر لبنى اسرائيل  فى سورة البقرة: ( 49 : 60 ).  هذا الخطاب الوعظى ترددت أحداثه من قبل بالسرد القصصى فى سورة الأعراف : ( 142 : 162 ). وتكرار هذا الوعظ يعنى أنه وعظ للمؤمنين بالقرآن أيضا .

3 ـ  فى موضوع عبادة العجل نستشهد بالاسلوب الوعظى فى سورة البقرة : ( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) البقرة )، تعبير (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ  ) بؤكد أنه لا يجتمع الايمان بالله جل وعلا مع عبادة العجل الذهبى إذا تشربها القلب . لأن هذا يعنى أن تقديس العجل الذهبى أضاع الايمان بالله جل وعلا. وهى لفتة رائعة يجب أن يتعظ بها المؤمنون ، ولكن المحمديين لا يعقلون .   

4 ـ هذا يذكرنا بقوله جل وعلا عن كهنوت أهل الكتاب وعبادتهم الذهب والفضة (أى العجل الذهبى ) : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التوبة ) . نلاحظ هنا وصفا لكثير من الأحبار وارهبان بإكتناز العجل الذهبى ، أى المال ، أى الذهب والفضة. يعطى الناس اليهم الأموال على أنها فى سبيل الله ، فيأخذونها لأنفسهم يكتنزونها ولا ينفقونها فى سبيل الله .! . هو مال سُحت ، قال عنه وعنهم جل وعلا : (وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)  المائدة ) . الرائع هنا هو الالتفات من الحديث الخاص عن كهنوت أهل الكتاب الى التعميم بما سيشمل المحمديين وغيرهم فيما بعد ، وهذا فى قوله جل وعلا : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التوبة ) . ترى الكلام هنا ينطبق على الكهنوت السُّنّى والشيعى والصوفى بما لا يختلف عن الكهنوت الكاثوليكى والكهنوت الارثوذكسى والبوذى والهندوسى ..الخ . جميعهم يعبد الذهب والفضة أو الأموال أو ( العجل الذهبى ).!

ثالثا : روعة الوعظ فى قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ  غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)  الاعراف ).  يتجلى هذا فى الآتى :

1 ـ العمومية : لم يقل جل وعلا : إن الذين اتخذوا العجل من بنى اسرائيل . بل جاء الاسلوب عاما لكل من يتخذ العجل .

2 ـ اسلوب الائجاز بالحذف : الأصل أن يقال : ( إن الذين إتخذوا العجل إلاها ) . تم حذف (إلاها ) حيث هو مفهوم من السياق ، فهم لم يتخذوا العجل حيوانا للرعى والأكل كما يتخذون الأنعام ، بل إتخذوه إلاها ..! إن تعبير ( الإتّخاذ ) يأتى فى فيمن يعبد آلهة وأولياء مع الله جل وعلا أو دون الله جل وعلا ، منه  قوله جل وعلا : ( أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ (21 )  (أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ  ) (24) الأنبياء  )  (هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) ( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) الكهف )

3 ـ الرمزية : العجل الذهبى هنا يرمز الى الإله المعبود من معظم البشر الضالين ، وهو الذهب ، أو الثروة . تقاتل البشر ولا يزالون يتقاتلون بسبب الذهب والمال ، وتصارع البشر ولا يزالون يتصارعون بسبب الذهب والمال . يبقى الذهب كما هو وهم يتقاتلون ويفنون جيلا بعد جيل . هذا على مستوى الأسرة والعائلة وعلى مستوى القرية والمجتمع والدولة وعلى مستوى الدول والأمم . كلهم يقتل بعضهم بعضا بسبب ( العجل الذهبى ) المعبود. هو قتال فى سبيل الشيطان الذى سوّل لهم هذا ، وليس فى سبيل الرحمن جل وعلا.

 الأسوأ أن يكون القتال تحت راية الجهاد فى سبيل الله جل وعلا ، وفى حقيقة الأمر هو قتال فى سبيل الشيطان وفى سبيل الثروة والسلطة ، أى العجل الذهبى. وهذا ما أرتكبته قريش وخلفاؤها الفاسقون بعد موت النبى محمد عليه السلام . وبهذا فإن قوله جل وعلا عمّن يتخذ العجل ينطبق عليهم وعلى من جاء بعدهم يخلط السياسة بالدين.

4 ـ اسلوب العقاب جاء بالفعل المضارع ، أى سينالهم غضب من الله جل وعلا وذلة فى حياتهم الدنيا ، وهذا يفيد الاستمرارية . الموضوع كان فى عصر موسى ، ولكن عبادة العجل الذهبى مستمرة ، وعقوبتها أيضا مستمرة ، العقاب مستمر إن لم يتوبوا ، فالله جل وعلا يغفر للذين عملوا السيئات ثم تابوا وآمنوا .

أخيرا :

1 ـ عبادة العجل الذهبى رائجة فى دول الاستبداد العربى بالذات ، لا فارق بين دولة بترولية ودول فقيرة . يتفنون فى السرقة بمثل ما يتفنون فى قتل وتعذيب الأحرار من  شعوبهم . بل إن المستبد فى البلد الفقير يحاول منافسة المستبد البترولى فى جمع الثروة بالسحت ، ولا يتورع عن خوض الحروب التى يقتل فيها شعبه كى يجنى الأموال .

2 ـ أبرز الأمثلة فى اليمن الذى لم يعد سعيدا بحكامه الخونة المستبدين ، والذين جعلوه أفقر دولة عربية، وهو صاحب حضارة عريقة سامقة . لقد سلبه رئيسه السابق على عبد الله صالح ستين بليونا من الدولارات وقتل مئات الألوف . السودان أغنى الدول العربية فى موارده الطبيعية يعيش على حافة الفقر بسبب الاستبداد والفساد . خزائن الرئيس السودانى عمر البشير متخمة بالبلايين ويداه ملوثتان بالدم ، وهو مجرم عالمى ، وقد تقسم السودان على يديه ، وجعل جيشه مرتزقة لمن يدفع له أكثر ، وفى سبيل العجل الذهبى (المال ) يغيّر تحالفاته كما يغير ملابسه الداخلية . وبعد أن أضاع حوالى نصف السودان أصبح يطالب بمثلث حلايب المصرى منتهزا فرصة الحضيض الذى وصلت اليه مصر فى عهد العسكر الحاليين . والعسكر المحلى المحتل لمصر لا يُجيد سوى عبادة العجل الذهبى . ترك العسكر مهمتهم الرئيسة للجيش والأمن وتفرغوا للتجارة والسلب والنهب فى تقديس غير مسبوق للعجل الذهبى .

3 ـ  وفى النهاية ينتهى العجل الذهبى الى فناء بمثل ما انتهى اليه العجل الذهبى فى عصر موسى ( الحرق ثم النسف فى اليم نسفا ). هذا بالإضافة الى الخزى فى الدنيا . حدث هذا لصدام والقذافى وبن على وعلى عبد الله صالح وحسنى مبارك .. ونفس المصير ينتظر مستبدى السعودية والخليج ومصر وشمال أفريقيا .ولا أحدا منهم يتعظ مما يراه ، ولا هم يتوبون ولا هم يتذكرون .

4 ـ الغريب أنهم يرون عبادة العجل الذهبى محرمة فى اسرائيل . نتحدث عن سرقة المسئولين للمال ، فهى من أشد المحرمات فى اسرائيل ، ولا أحد فيها فوق القانون ،وفى أى شبهة فساد تسارع الشرطة بالتحقيق مع أى مسئول . وقد حققت مع رؤساء وزراء سابقين وحاليين منهم  نتنياهو و شارون. وفى مقابل هذا تجد كبار اللصوص فى الضفة والقطاع يجعلون أنفسهم وطنيين وأولياء ورعين ، وهم على سُنة المستبد العربى يسيرون .

 

(  4 ) : أخذ الميثاق على بنى اسرائيل تحت جبل الطور

مقدمة :

إختار موسى من قومه سبعين رجلا ، وذهب بهم الى الطور لميقات ربه . ورفع رب العزة جبل الطور فوقهم ونظروا اليه فى رعب يظنون أنه سيقع فوقهم ، فأخذتهم الرجفة ، ثم إستيقظوا ، وتكلم موسى مع ربه يسأله فى الدنيا حسنة وفى الآخرة ، ورد رب العزة بالتبشير بالنبى محمد . وأخذ الله جل وعلا العهد على بنى اسرائيل ، وامرهم أن يتمسكوا بهذا العهد بقوة . وبعث الله جل وعلا منهم 12 نقيبا يمثلون الأسباط الإثنى عشرة . ووعدهم الله جل وعلا أن يكون معهم إذا طبقوا الميثاق وتمسكوا به . كالعادة لم يتمسك به الأغلبية ، لذا نزلت آيات القرآن فى المدينة تعظهم وتذكرهم . نعطى مزيدا من التفصيل بالآيات القرآنية :

أولا : بنواسرائيل مع موسى فى ميقاته مع ربه جل وعلا

1 ـ بعد تعنيف بنى اسرائيل على عبادتهم العجل وتوبتهم إختار موسى من بينهم سبعين رجلا لميقات ربه . قال جل وعلا : ( وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا )

2 ـ سافرالسبعون رجلا مع موسى الى جبل الطور ، وتأهبوا لأن يؤخذ عليهم الميثاق ، ففوجئوا برفع جبل الطور فوق رءوسهم . قال جل وعلا عن رفع جبل الطور فوق رءوسهم : ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ )(171) الاعراف )( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ )(63)( 93 ) البقرة ) . 

3 ـ مفاجأة رفع الجبل أصابتهم برجفة كانوا فيها أقرب للموتى،قال جل وعلا : ( وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمْ الرَّجْفَةُ ) عندها كلّم موسى ربه منفعلا :  ( قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا )) ثم هدأ فقال لربه جل وعلا : ( إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ )) ثم دعا ربه فقال : ( أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ) وقال له ربه جل وعلا إن عذابه يحل بمن يشاء من البشر أن يتعرض لعذاب الله ، أما رحمته فهى وسعت كل شىء ، وسيكتبها للمتقين الذين يزكون أنفسهم والذين بآيات الله جل وعلا يؤمنون : ( قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)) ومنهم من أهل الكتاب الذين سيتبعون الرسول النبى الأمى العربى الذى سيجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والانجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وينزل الكتاب يحلُّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويخفف عنهم ويرفع عنهم الحرج والعنت ، والمؤمنون بالنور الذى سينزل مع هذا الرسول والذين سيؤيدونه وينصرونه سيكونون من المفلحين ، قال جل وعلا : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (157 ) الأعراف ).

4 ـ وكانت بنود الميثاق  : عبادة الله جل وعلا وحده ، والاحسان للوالدين ولذى القربى واليتامى والمساكين وقول الحسن للناس وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، قال جل وعلا : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ  ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) البقرة) . وهى نفس التشريعات القرآنية .

5 ـ وبعث الله جل وعلا منهم إثنى عشر نقيبا ، وأوصاهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ونُصرة الرسل وتقديم الصدقات ، وإن فعلوا ذلك كان الله جل وعلا معهم ، وإن عصوا فقد كفروا وضلوا السبيل . قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) المائدة ) . وهى نفس التشريعات القرآنية .

6 ـ ومع الميثاق كانت التوصية الالهية لهم بالتمسك به وتطبيقه ، وارتبط هذا برفع الجبل فوق رءوسهم دلالة على خطورة الأمر ، قال جل وعلا : ( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) الاعراف ) ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) البقرة ).

ثانيا : موقف بنى اسرائيل من الميثاق

1 ـ منهم من كان يهدى بالحق ويعدل ، وقد يكونون من السابقين المقربين يوم الدين فى الدرجة العليا من الجنة ، قال جل وعلا عنهم  فى سياق أخذ الميثاق عليهم:(وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) الأعراف  )

2 ـ ومنهم من عصى ثم تاب فتاب الله جل وعلا عليه ، وقد يكونون من أصحاب اليمين فى الدرجة الثانية من الجنة ،  قال جل وعلا عنهم : ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ (64) البقرة ).

3 ـ ومنهم من نقض الميثاق واستمر معاندا يقول سمعنا وعصينا ، وهم أصحاب النار ، قال جل وعلا عنهم : ( وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) البقرة ) .

ثالثا : موقف بنى اسرائيل فى الجزيرة العربية من الميثاق وقت نزول القرآن :

1 ـ منهم من إزداد إيمانا بنزول القرآن الكريم وبكى خاشعا  متذكرا موقف أسلافه عند رفع الجبل فوقهم . كان السبعون رجلا يسجدون على أذقانهم خوفا وجزعا وهم ينظرون لجبل الطور المرفووع فوق رءوسهم ، وهؤلاء المؤمنون من الاسرائيليين كانوا يعرفون البشارة التى جاءت فى هذا الموقف بخاتم النبييين والدعوة الى من يعاصره من الاسرائيليين لأن يؤمونا بالقرآن ، وبالتالى حين نزل القرآن أمنوا به وسجدوا على ذقونهم بمثل ما فعل أسلافهم ، آمنوا بينما كفرت قريش ، لذا قال جل وعلا عنهم يخاطب مشركى قريش :  ( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) الاسراء ). وقال جل وعلا أيضا عن قريش وتكذيبها موها بإيمان علماء بنى اسرائيل بالقرآن الكريم ( أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197 ) الشعراء ).

2 ـ وإمتد الايمان لأهل الكتاب ، قال جل وعلا عنهم : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)القصص )، وقال جل وعلا : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) آل عمران )

 3 ـ ومنهم من إستمر ينقض الميثاق حتى عهد نزول القرآن الكريم . وقد قال عنهم رب العزة جل وعلا : ( فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) المائدة ). أى كان منهم من لا يزال يعيش فى عصر النبى محمد عليه السلام ، وأمر الله جل وعلا خاتم النبييين أن يعفو عنهم ويصفح .!

4 ـ أشدهم عصيانا من كان يستحل الإعتداء الحربى على إسرائيليين ـ فى مواقع حربية مسكوت عنها ـ ويقوم بتحريف التشريعات والتلاعب بالميثاق ، ونتدبر قول الله جل وعلا  لهم فى عصر نزول القرآن يذكرهم بالميثاق : (  وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَتَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (86) البقرة ).

أخيرا :

1 ـ  ولنتدبر الآية الكريمة السابقة وفيها حكم عام مستمر : ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (86) البقرة ).

2 ـ وهى تنطبق فى عصرنا على الوهابيين الارهابيين ، فى تشريع العدوان وتحريف تشريعات الرحمن .

 

(5 ) خروج بنى اسرائيل من مصر نحو الأرض التى كتبها الله جل وعلا لهم

مقدمة :

1 ـ إستقدم يوسف عليه السلام ـ وهو عزيز مصر ـ أباه النبى يعقوب ( إسرائيل ) وإخوته ، وجاءوا الى مصر فاستقروا فيها ( يوسف 93 : 100 ). وتكاثر ابناء يعقوب ( إسرائيل ) فى أرض مصر واصبحوا إثنتى عشرة قبيلة ، أو الأسباط . إزدهر أمرهم فى عصر ملوك الهكسوس الأجانب ، فالقرآن الكريم يسمى الملك فى قصة يوسف ب ( الملك )، وشخصيته تختلف عن الفرعون المصرى من ( الأسرة الرعمسية ) فى قصة موسى ، ليس فقط فى أن لقب الملك أصبح ( فرعون ) ولكن أيضا فى أن إستبداد الملك فى قصة يوسف كان هينا بالمقارنة الى إستبداد فرعون موسى . لم يعجب فرعون موسى أن بنى اسرائيل كانوا من أتباع الهكسوس ، وأن لهم ملة خاصة هى ملة ابراهيم ، صحيح أنهم كانوا يمارسون الديانة المصرية القديمة ولكن ظل معهم إلتأثر بملة ابراهيم خصوصا عدم تأليه فرعون. هذا جعل فرعون موسى يتشكك فى ولائهم ، فعسف بهم . وكانت رسالة موسى لفرعون أن يرسل معه بنى اسرائيل ليعود بهم الى الأرض المقدسة التى كتبها الله جل وعلا لهم. وانتهى الأمر بغرق فرعون وجند واستخلاف بنى اسرائيل فى مصر ، وهى فترة مجهولة جاءت الاشارة اليها فى القرآن الكريم . بعدها عبر موسى بقومه البحر الى سيناء ذاهبا الى فلسطين .

2 ـ وقد ذكر رب العزة جل وعلا عبور بنى اسرائيل البحر مرتين . المرة الأولى حين كان فرعون يطاردهم ، قال جل وعلا عن هذا العبور : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ (90) يونس ). عادوا الى مصر وتملكوها ، واستخلفهم الله جل وعلا فيها الى حين ، ثم أتى الوقت الذى يجب أن يعودوا فيه الى الأرض المقدسة التى كتبها لهم . وكانت المرة الأخرى حين عبر ثانيا بهم الى سيناء متجها الى ما يعرف الآن بفلسطين . عن هذا العبور قال رب العزة : ( وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141).

3 ـ من الآيات السابقة نعرف أن معظم بنى اسرائيل كانوا متأثرين بالديانة المصرية القديمة بحيث أنهم بمجرد أن عبر بهم موسى الى الضفة الأخرى وجدوا معبدا فرعونيا فإشتد بهم الحنين للديانة التى عاشوا عليها فسألوا موسى أن يجعل لهم إلاها مماثلا ، فرفض موسى وذكّرهم بفضل الله جل وعلا عليهم إذ أنجاهم من فرعون وفضّلهم على العالمين .

4 ـ كانت هذه بداية سيئة تنذر بمتاعب ستحدث منهم وهم فى سيرهم فى سيناء . هذا مع أن الله جل وعلا أراهم من آياته ونعمائه وهم فى صحبة موسى وقتها . ونعطى بعض التفصيلات :

أولا : فى سيناء :

  1 ـ طلبوا من موسى ان يروا الله جل وعلا جهرة فعوقبوا بالصعق ، ثم أحياهم الله جل وعلا وعفا عنهم لعلهم يشكرون : ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) البقرة )

  2 : فى طريقهم داخل سيناء إحتاجوا ماء فأوحى الله جل وعلا لموسى فضرب الحجر بعصاه فأنفجرت منه إثنتا عشرة عينا ، لكل سبط أو قبيلة عين خاصة بها ، كما كان الغمام يظلهم يقيهم من حرارة الشمس ، كما أرسل لهم طائر السلوى يقع بين أيديهم يذبحونه ويأكلونه ، وأخرج لهم مادة (المنّ ) مثل شهد العسل يأكلونه طازجا . قال جل وعلا :( وَإِذْ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) البقرة ) (  وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) البقرة )، وقال جل وعلا : ( وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذْ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنْ اضْرِب بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) الاعراف ).

 3 : لم يعجبهم لحم السلوى ولم تعجبهم حلواء المنّ ، وإشتاقوا الى الطعام الشعبى النباتى المصرى ، وهو ما يعرف الان شعبيا ب ( الكُشرى ) ومطاعمه مشهورة فى القاهرة والمدن المصرية ، وهو خليط من العدس والحبوب ( الفوم ) والبصل وبعض البقوليات . رد عليهم موسى بأنهم يستبدلون الذى هو أدنى بالذى هو خير :  ( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ) (61) البقرة ). وحتى الآن فإن ( الكشرى ) المصرى هو ( الكوشير ) اليهودى .!

4 : أمرهم الله جل وعلا أن يسكنوا قرية فى سيناء حيث يتوفر لهم الأكل الوافر والعيش الرغد ، وأمرهم أن يدخلوها ساجدين لله جل وعلا شكرا يسألونه جل وعلا أن يحط عنهم ذنوبهم . أطاع المؤمنون منهم ، وعصى الظالمون وبدلوا الكلمة فقالوا إستهزاءا ( حنطة ) أى يطلبون الكشرى المصرى . عاقبهم رب العزة بعقوبة آلمت فرعون وقومه من قبل ، وهى الرجز ( الدمامل ). قال جل وعلا : ( وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) البقرة ) ( وَإِذْ قِيلَ لَهُمْ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) الأعراف )

 5 : فى كل هذا كان من قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون : ( وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) الأعراف ).

أخيرا

1 ـ ثم حان وقت المواجهة ، دخول الأرض المقدسة التى كتبها الله جل وعلا لبنى اسرائيل . خطب فيهم موسى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ (20) المائدة ) . هنا يذكرهم بنعمة الله جل وعلا عليهم إذ جعل فيهم أنبياء ( يوسف وموسى وهارون ) ، وجعلهم ( جميعا ) ملوكا على مصر حين إستخلفهم فيها ، وبهذا أنعم عليهم بما لم ينعم به على أحد من العالمين .

2 ـ كانت هذه هى المقدمة لما سيطلبه منهم بعدها ، وهو دخول الأرض المقدسة التى كتبها الله جل وعلا لهم وألّا يرتدوا على أدباهم فيصيبهم الخسران : ( يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)المائدة ).

3 ـ ولأنهم تعودوا الاعتماد على موسى وعصاه ولأنهم عاشوا فى ظل الارهاب الفرعونى فقد جبنوا عن دخول فلسطين لأن فيها قوما جبارين ، وانهم لن يدخلوها حتى يخرج منها أولئك الجبارون مقدما : ( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) المائدة ).

4 ـ  لم يكونوا كلهم جبناء . كان منهم شجعان، تكلم منهم رجلان:( قَالَ رَجُلانِ مِنْ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)المائدة ) .

5 ـ ولكن الأغلبية إتخذت القرار ، أنهم لن يدخلوا الأرض المقدسة ما دام فيها أولئك الجبارون ، وطلبوا من موسى أن يذهب هو وربه ليقاتلا لأنهم سيظلون فى مكانهم قاعدين :( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) المائدة ).

6 ـ فى قولهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا ) إختلط الجبن بالكفر بسوء القول عن رب العزة . لذا يأس منهم موسى فشكاهم الى ربه جل وعلا ، ألا يجعله وأخاه مع أولئك الظالمين، وأن يفرّق بينه وبينهم : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) المائدة ) .

7 ـ بالتالى هنا فراق بين موسى وهارون ومعهما القوم المؤمنون من بنى اسرائيل وبين الأغلبية الفاسقة منهم . وقد حكم الله جل وعلا علي أولئك الظالمين أن هذه الأرض المقدسة اصبحت محرمة عليهم وأنهم سيظلون يتيهون فى الأرض أربعين عاما حتى ينتهى هذا الجيل الفاسق الذى لا فائدة ولا أمل فيه  : ( قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) المائدة ).

8 ـ خلال هذه الفترة زار موسى وهارون مكة للحج الى البيت الحرام ، والحج أحد شعائر ملة جدهم ابراهيم ، ولم تؤمن قريش برسالة موسى وإتهموه وأخاه بالتظاهر بالسحر .  وفيما بعد كانوا يقسمون بالله جل وعلا لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من بنى إسرائيل ، قال جل وعلا : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) فاطر ) ، أى لما جاءهم خاتم النبيين كفروا . لذا قال جل وعلا يذكّر قريش بكفرهم برسالة موسى وهارون من قبل : (فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) القصص  ).

 

الفصل الرابع : بين الاسرائيليين والمحمديين

( 1 )  لماذا هذا التركيز على بنى اسرائيل فى القرآن الكريم ؟   

( 2 ) بنواسرائيل و المحمديون بين التفضيل والتحقير

 

( 1  )  لماذا هذا التركيز على بنى اسرائيل فى القرآن الكريم ؟ 

مقدمة :

1 ـ ذكر رب العزة جل وعلا قصص ابراهيم وذكر اسحق ثم يعقوب ثم قصة يوسف ثم تكرر قصص بنى اسرائيل مع موسى وهارون ثم قصص داود وسليمان . بالاضافة الى القصص جاء خطاب مباشر لبنى اسرائيل فى عهد خاتم النبيين . وبعض الحديث عن الاسرائيليين كان يصفهم بأهل الكتاب ، وسياق التفصيلات يؤكد أنهم بنو اسرائيل .

2 ـ هذا التركيز على بنى إسرائيل يحمل جانبا وعظيا سواء فى وعظ مباشر أو وعظ ضمنى فى القصص . وهو وعظ ليس فقط لبنى اسرائيل ولكن يتوجه أيضا الى المؤمنين بالقرآن .

3 ـ وهنا إعجاز ينبىء على أن العلاقة ممتدة بين الاسرائيليين والمؤمنين بالقرآن ، وأن ( المحمديين ) يسيرون على سُنّة العصاة من بنى إسرائيل ، وبالتالى يكون القرآن الكريم حكما على الفريقين . ونعطى بعض التفصيلات :

أولا :

1 ـ فى دولة النبى محمد فى المدينة تعامل مع بنى اسرائيل ، منهم من كان صالحا ومنهم من كان عاصيا معتديا . المعتدون فى المصطلح القرآنى إسمهم اليهود . ونزلت آيات وعظ فى التنزيل المدنى ، يذكر العصاة منهم ويمدح الصالحين ، منه عن بعض الاسرائيليين وقد وصفهم رب العزة بأنهم أهل الكتاب ، وقد سألوا النبى محمدا معجزة حسية كما كان يفعل مشركو قريش ، وفى الرد ذكر رب العزة أنهم سألوا موسى أكثر من ذلك ، وهو أن يروا الله جل وعلا جهرة فعوقبوا بالصاعقة ، وأنهم إتخذوا العجل ونقضوا الميثاق الذى أخذه الله جل وعلا عليهم حين رفع الجبل فوقهم . ثم عصوا وقتلوا بعض الأنبياء وإفتروا كذبا على مريم وزعموا انهم قتلوا المسيح وصلبوه وأكلوا الربا مع نهيهم عنه وأكلوا اموال الناس بالباطل وحرموا بعض الطيبات من الطعام وصدوا عن سبيل الله . قال جل وعلا : ( يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنْ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمْ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمْ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمْ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (161) النساء ).

بعد تعداد هذه المساوىء قال جل وعلا : ( لَكِنْ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) النساء ).

يلاحظ أن قوله جل وعلا عنهم (وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ ) ينطبق على بعض الصحابة فى المدينة ، وقد كانوا يأكلون الربا مع سبق النهى عنه من قبل . قال جل وعلا فى سورة مكية يحرم التعامل بالربا مع  الفقير مستحق الصدقة : (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ (39) الروم ). وظل بعض الصحابة فى المدينة يعطون قروضا للفقراء بربا فنزل قوله جل وعلا : ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) البقرة )

وقوله جل وعلا عنهم : ( وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ )، يذكرنا بما يفعله المحمديون ، وقوله جل وعلا عن الأئمة الفاسقين من أهل الكتاب وأكلهم السحت : (وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) المائدة  )، وهو نفس ما يفعله أئمة المحمديين . ويقول جل وعلا :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) التوبة ) . وهو أيضا ما يفعله أئمة المحمديين السنيين والشيعة و الصوفية .

2 ـ ومن أهل الكتاب من هاجم دولة النبى محمد معتديا ، وهذا فى تاريخ أشار اليه القرآن الكريم فى سورتى المائدة والتوبة ، ونزل وعظ للمؤمنين أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس إذا آمنوا بالله جل وعلا حق الايمان وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ، وجاء التذكير بأهل الكتاب ومنهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ، وإنهم لن يضروا المؤمنين إلا مجرد الأذى ، وإن هاجموا المؤمنين معتدين فسينهزمون طالما كان المؤمنون مؤمنين ، لأن أولئك المعتدين من أهل الكتاب قد عاقبهم الله جل وعلا بالذلة والمسكنة والغضب طالما لم يتمسكوا بحبل الله ، فقد كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين ويعصون ويعتدون . قال جل وعلا : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) آل عمران  )

 بعدها قال جل وعلا عن المتقين من أهل الكتاب مؤكدا أن أهل الكتاب ليسوا كلهم معتدين : ( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) آل عمران ).

العجيب أن المحمديين ساروا على سُنّة المعتدين من أهل الكتاب ، فلم يكونوا خير أمة أخرجت للناس ، بل شرُّ أمة فى الأرض ، وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله جل وعلا ذلك بما عصوا وكانوا ولا يزالون يعتدون .

3 ـ فى نفس السورة ( آل عمران ) وفى نهايتها ذكر رب العزة جل وعلا بصيغة التوكيد الثقيل أن المؤمنين بالقرآن سيتعرضون لابتلاء كبير فى أموالهم وفى أنفسهم وسيسمعون من مشركى أهل الكتاب والمشركين من غيرهم أذى كثيرا ، وأن الصبر على هذا الأذى ومقابلته بالتقوى هو أفضل سبيل . وذكر رب العزة أنه أخذ على أهل الكتاب الميثاق على أن يبلغوا الحق للناس ولا يكتمونه ، فنبذوه وجعلوه تجارة . ووصفهم رب العزة بأنهم يفرحون بما هم عليه وأنهم يحبون أن يحمدهم الناس وهم لا يستحقون ، وهم بذلك مصيرهم العذاب ولن ينجو منه . قال جل وعلا :  ( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنْ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) آل عمران ) .

هو خطاب ينطبق تماما على المحمديين .

وفى نهاية السورة قال جل وعلا عن مؤمنى أهل الكتاب :( لَكِنْ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)، وقال للمؤمنين بالقرآن : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) آل عمران )

4 ـ فى وعظ لبنى اسرائيل قال جل وعلا : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)المائدة ) . هو وعظ يجب ان يعتبره المحمديون . خصوصا وأن الآيات التالية عن لعن الكفرة من بنى إسرائيل بسبب عصيانهم وإعتدائهم تنطبق على ما يفعله المحمديون ، قال جل وعلا : ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) المائدة ) . عُصاة بنى إسرائيل  فى المصطلح القرآنى إسمهم ( اليهود )، ومصطلح المشركين والكفار فى التعامل السلوكى يعنى الاعتداء ، قال جل وعلا عن عداء أولئك العصاة المعتدين للذين آمنوا المسالمين : (  لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ) وقال بعدها عن الأقرب مودة للمؤمنين المسالمين : ( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ) وأوضح جل وعلا السبب بأن منهم رهبانا وقسيسين مؤمنين : ( ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وأنهم سارعوا بالايمان عندما سمعوا القرآن الكريم : ( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) المائدة ) وقال جل وعلا عن مثوبتهم : ( فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) المائدة ).

يلاحظ أن التعبير جاء مؤكدا وبالفعل المضارع مرتين فى ( لتجدنّ ). وهذا يعنى إنطباق هذا على الحاضر والمستقبل . 

أخيرا

1 ـ لم يستفد المحمديون من حديث القرآن الكريم عن بنى اسرائيل حتى فيما يسمى بالصراع العربى الاسرائيلى . بل هم يتجاهلون الآيات التى تتحدث عن بنى إسرائيل كراهية منهم لدولة إسرائيل . ولولا أن القرآن الكريم محفوظ بيد الرحمن جل وعلا لحذفوا تلك الآيات . هذا مع أن المؤمن بالقرآن الكريم وحده حديثا لا بد أن يتدبر القرآن طالبا الهداية والنجاة والحلول للمشاكل والأزمات حتى ما كان منها سياسيا .

2 ـ إن الله جل وعلا جعل كتابه هدى ونورا لأهل الكتاب ايضا (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) المائدة ) وقال أيضا جل وعلا عن كون القرآن الكريم حكما بينهم فى خلافاتهم:(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76 ) النمل ).  ليس لنا أن نلوم الاسرائليين لأن المحمديين هم الأكثر كفرا بالقرآن الكريم .

 

( 2 ) بنواسرائيل و المحمديون بين التفضيل والتحقير

مقدمة :

1 ـ من الدروس المستفادة من قصص بنى اسرائيل فى القرآن الكريم إبتلاؤهم بالنعمة والنقمة والمنحة والمحنة ، نجج منهم من نجح وخاب فيهم من خاب . هو نفس الحال مع المحمديين ، وهم الذين يزعمون الايمان بالقرآن ولكن إتخذوه مهجورا وتعاملوا معه من خلال التحريف لمعانية بما يسمى بالنسخ والتفسير والتأويل بالإضافة الى إفتراءاتهم أحاديث بوحى شيطانى . وهو أيضا ما كان يفعله الضالون من أهل الكتاب .

2 ـ التشابه بين الضالين من أهل الكتاب وبين المحمديين قد يبلغ درجة التطابق ، وهما معا ينكرون القرآن الكريم إما صراحة أو عمليا وضمنيا . كما أن التشابه يبلغ درجة التطابق بين المؤمنين من أهل الكتاب والمؤمنين بالقرآن (أهل القرآن ) .

3 ـ ونتوقف هنا مع ملمح من التشابه الذى يبلغ التطابق ، وهو عن إختبار بنى اسرائيل والمؤمنين بين التفضيل والتحقير .

أولا : إختبار التفضيل :

1 ـ جاء تفضيل بنى اسرائيل على العالمين فى خطاب موسى لقومه يعظهم حين طلبوا منه أن يجعل لهم إلاها مع الله جل وعلا : ( قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) الاعراف)، أى كيف أبغى لكم إلاها مع الله والله جل وعلا هو الذى فضّلكم على العالمين ؟ . وجاء هذا التفضيل ضمنيا فى قول موسى لقومه يحثهم على دخول الأرض المقدسة التى كتبها الله جل وعلا لهم : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ (20 ) المائدة )، أى إستخلفهم فى أرض مصر وجعلهم فيها ملوكا وآتاهم ما لم يؤت أحدا قبلهم من العالمين . وهو تفضيل واضح ، ولا بد أن يكون إبتلاءا وإختبارا لهم ، ونتذكر أنه قال لهم من قبل حين إشتكوا له من إضطهاد فرعون: (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الاعراف ). أى جاء وعد الاستخلاف مرتبطا بإبتلاء وإختبار عن كيف سيعملون.

2 ـ وجاء تفضيل بنى اسرائيل على العالمين صراحة مرتين فى سورة البقرة فى قوله جل وعلا لبنى اسرائيل فى خطاب مباشر : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وبعدها قال جل وعلا : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (48) البقرة )، وفى قوله جل وعلا : ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) البقرة )، وبعدها قال جل وعلا : ( وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ (123) البقرة ).

تفضيلهم هو بالنعمة التى أنعم الله جل وعلا بها عليهم . وبالتالى فإن كفران هذه النعم يعنى ليس فقط فقدانهم لهذا التفضيل بل عقوبتهم بالعذاب فى الدنيا وبالتحقير . وتكرار نفى الشفاعة مرتين هو وعظ لبنى إسرائيل بما يعرفون عن حقيقة يوم الدين ، وأنه يوم لاتنفع نفس نفسا ولا شفاعة فيه لبشر عن بشر ، ولا فدية ينجو بها أحد من النار . ومع هذا فالضالون منهم إفتروا أنهم لو دخلوا النار فسيخرجون منها بعد عدة أيام بالشفاعات . ونعى عليهم هذا رب العزة ورد على مزاعمهم المفتراة ، قال جل وعلا (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82) البقرة ) (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) آل عمران  ).

ثم مالبث أن إخترع أئمة المحمديين أحاديث عن الخروج من النار . وحين تصديت لهذه الأحاديث الضالة بالنقد والنفى فى كتاب ( المسلم العاصى : هل يخرج من النار ليدخل الجنة ) وضعونى فى السجن وصادروا الكتاب عام 1987 ،  لأن هذا الإفك الذى إخترعه الضالون من الاسرائيليين قد صار دينا لدى المحمديين ، مع أن الله جل وعلا ردّ عليه بالقرآن الكريم .

3 ـ الذى يقابل التفضيل لبنى إسرائيل هو قوله جل وعلا للمؤمنين بالقرآن : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) آل عمران )  ، هنا تفضيل مشروط بالايمان بالله جل وعلا وحده لا شريك له ينتج عنه تفاعل بالخير يأمر وعظا بالمعروف وينهى وعظا عن المنكر ، بما يقيم مجتمعا راقيا لا تأليه فيه لبشر ، من الأنبياء أو من الحكام . وينتقل الحديث فى  تكملة الآية الى أهل الكتاب الذين لم يلتزم معظمهم بشروط التفضيل فكانوا معتدين ضالين ، قال جل وعلا :( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ (110))، هؤلاء الفاسقون المعتدون لن يضروا المؤمنين المسالمين إلا أذى ، وإن يعتدوا على المؤمنين المسالمين فسينهزمزن ، قال جل وعلا : ( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمْ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112 آل عمران  ). ثم تأتى الايات التالية تتحدث عن المتقين من أهل الكتاب ( آل عمران 113 : 115 ).

المحمديون فشلوا فى إختبار التفضيل ، فلم يكون خير أُمّة أُخرجت للناس ، بل أصبحوا محور الشّر فى العالم . وهم هكذا فعلا الآن .

4 ـ بنو إسرائيل رءوا بأعينهم آيات من عصا موسى . وقفوا ينظرون الى فرعون وجيشه وهم يتقاذفهم الموج غرقا : ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (50) البقرة ) ، ورأوا الضالين من قومهم وهم تصيبهم الصاعقة : (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ (55) البقرة ). ورأواعصا موسى تفجر الصخر عيونا ، والغمام يظلهم و تمتعوا بالمن والسلوى. ورأى سبعون رجلا منهم جبل الطور يرتفع فوقهم عند أخذ الميثاق عليهم ، فى كل هذا كان مؤمنون منهم يزدادون إيمانا يهدون بالحق وهم به يعملون ، ومنهم من إتّخذ العجل إلاها ، ومنهم من طلب من موسى أن يجعل لهم إلاها مع الله جل وعلا ، ومنهم من أكل الربا واموال الناس بالباطل ، ومنهم من إعتدى على الآخرين ظلما وعدوانا . ومنهم من كان يقتل الأنبياء . وفى كل الأحوال كان بعضهم يتوب فيتوب الله جل وعلا عليه .

ثانيا : إختبار التحقير

1 ـ إعتدى أهل قرية ساحلية فى السبت . والله جل وعلا أخذ عليهم الميثاق بتحريم العمل يوم السبت ، قال جل وعلا : (وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً (154) النساء ). هذا الاعتداء  تسبب فى وصف المعتدين بأنهم قردة وخنازير. ويبدو أنها كانت قصة معروفة وقت التنزيل المكى لأن الله جل وعلا قال للنبى محمد : ( وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) . وكانت قصتهم أنها قرية اسرائيلية ساحلية ، ربما على ساحل البحر الأحمر أو البحر المتوسط ، وكانوا قد إعتادوا الإعتداء فى السبت . كانوا فاسقين ( فى معظمهم ) فتعرضوا لإبتلاء ، إذ كانت الأسماك تتجمع لتكون فى متناول أيديهم يوم السبت ، ثم فى بقية أيام الأسبوع لا تأتيهم . طبقا لتحريم العمل يوم السبت يجب عليهم ألا يصطادوا هذا السمك وهو بين ايديهم . خسروا فى الاختبار فطفقوا يتناولونه يوم السبت قبل أن يغيب عنهم بقية ايام الأسبوع . بهذا إعتدوا على حُرمة السبت.

قال جل وعلا  عن هذه القرية الساحلية الاسرائيلية : ( إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163). لم يكن أهل القرية كلهم معتدين . كان منهم من تصدى للمعتدين بالوعظ ثم يأس من الاصلاح ، وكان منهم إستمر يدعو العصاة ويعظهم . قال اليائسون لمن إستمر فى الوعظ :  ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً )، ورد المصممون على الاصلاح بأنهم لا يزالون يأملون فى إصلاح أولئك العصاة ، وأنهم يريدون تقديم معذرتهم الى الله جل وعلا : ( قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) الاعراف ). واستمر العصاة فى بغيهم يوم السبت فعوقبوا ، وأنجى الله جل وعلا دُعاة الاصلاح ، قال جل وعلا: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) الاعراف ) هذا العقاب زادهم عتوا وتطرفا فى الاعتداء فلعنهم الله جل وعلا : ( فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) الأعراف )

2 ـ وأصبحت قصتهم مادة للوعظ لبنى اسرائيل اللاحقين فى عصر نزول القرآن، ومنه فى وعظهم قوله جل وعلا : ( وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) البقرة ) .

ثالثا : هل تعبير القردة والخنازير حقيقى أم مجازى ؟

بمعنى : هل تحول أولئك العصاة الاسرائيليون الى قردة حقيقية وخنازير حقيقية ؟ أم هو تعبير مجازى بمعنى اللعن والتحقير ؟ الذى يبدو من السياق القرآنى أنه تعبير مجازى يعنى اللعن والتحقير ، بدليل :

1 ـ الارتباط باللعن والغضب ، يقول جل وعلا : ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) المائدة )، تفسير اللعن والغضب هو وصفهم بالقردة والخنازير وعبدة الطاغوت . وهنا تفصيل لمعنى لعنهم . ومعروف أن ( عبدة الطاغوت ) هم بشر ولكن ملعونون .

2 ـ وجاء لعنهم موجزا بدون تفصيل فى قوله جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) النساء )، أى إن الوصف بالقردة والخنازير هو مجرد لعن .

3 ـ هؤلاء الملعونون الموصوفون بالقردة والخنازير وعبدة الطاغوت كانوا بشرا طبيعيين لم يتحولوا الى حيوانات ، بدليل قوله جل وعلا عنهم فى الآية التالية : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) الأعراف )، أى أعلن الله جل وعلا أن يبعث عليهم وعلى من يسير على طريقهم فى العصيان عذابا الى يوم القيامة . فالعقاب باللعن على أولئك الناس مستمر فيهم ما استمروا فى العصيان فإذا تابوا فإن الله جل وعلا غفور رحيم ، وهو إبتلاء مستمر الى يوم القيامة ، موجزه اللعن والغضب والوصف بالقردة والخنازير وعبدة الطاغوت ، وأن ينزل بهم عذاب دنيوى يعزز هذا اللعن . ولكن ينجو منه من يتوب .

4 ـ يؤكد هذا قوله جل وعلا فى الآيات التالية عن بنى اسرائيل : ( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) الأعراف ) منهم الصالحون ، ومنهم العصاة ، مع إبتلائهم بالمحن والمنح ، والنعمة والنقمة . الحديث هنا عن بشر وليس عن قردة وخنازير .

5 ـ والآيات التالية نزلت عن بنى اسرائيل ، وواضح إنطباقها على المؤمنين والذين تحول أغلبهم الى ( محمديين ضالين ) ،وظل بعضهم متمسكا بالقرآن يدعو الى الاصلاح به ، قال جل وعلا : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) الاعراف ). نرجو أن يجعلنا ربنا من المصلحين الذين يتمسكون بالكتاب ويقيمون الصلاة .

6 ـ وفى خطاب مباشر لبنى إسرائيل قال جل وعلا : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) البقرة ). بعده خطاب مباشر لبنى اسرائيل ولكن ينطبق تماما على المحمديين : ( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)  أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) البقرة).

7 ـ المحمديون  ــ الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالقرآن بينما يؤمنون بإفتراءات الأحاديث الشيطانية ـ وصفهم رب العزة بأنهم شر من الحيوانات ، قال جل وعلا  لخاتم النبيين : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)  الفرقان ) . وتوعد الله جل وعلا بلعن من يكتم الحق القرآنى ، قال جل وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) البقرة  )

والملعونون من بنى اسرائيل موصوفون بالقردة والخنازير وعبدة الطاغوت ، ومقابل هذا فالعصاة من أئمة المحمديين موصوفون بالكلاب ، وهذا فى قوله جل وعلا : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) الأعراف ).

أخيرا

يهجو متعصبو المحمديين بنى اسرائيل بأنهم ذرية القردة والخنازير ، متناسين أن فى بنى اسرائيل من كانوا أئمة فى الهدى ، ومتناسين أن العصاة ملعونون فى كل أمة وقوم ، وأن أئمة الضلال فيهم ــ كالبخارى والشافعى وابن حنبل وغيرهم من كتموا الحق وأذاعوا الباطل ــ هم فى عصيانهم ملعونون موصوفون بالكلاب .

 

 

الخاتمة

العظة من قصة موسى وفرعون: أولا : ( بين الحق والاستحقاق )

مقدمة :

1 ـ الله جل وعلا لم يكرر ـ عبثا ـ قصة موسى وفرعون ، ولم يكرر قصص بنى إسرائيل لمجرد التسلية ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. القرآن الكريم قول فصل وما هو بالهزل ، وهو للعظة والاعتبار للبشر الى قيام الساعة لمن أراد الهداية .

2 ـ فرعون هو إمام المستبدين من عهده الى نهاية العالمين ، ووصل ظلمه وطغيانه الى درحة هائلة ، واستخدم كل قوته فى التسلط على مستضعفين ، ورفض دعوة سلمية من إثنين من الأنبياء يطلبان منه السماح لهما بالابتعاد بقومه عن ظلمه ، فرفض وإزداد ظلما ، وجاءته إنذارات بالعذاب ، وظل فى عناده الى أن انتهى بعسكره غريقا . موسى يمثل صوت الحق ، وهو فى حدّ ذاته كان مستضعفا من قوم مستضعفين ، ولكن كانت معه قوة إلاهية ، لا يتحكم فيها ، وواجه فرعون المدجج بالقوة ، فكان جدل بين القوة والحق . القوة الفرعونية الغاشمة مقابل حق تغلفه قوة إلاهية غير مرئية . كان هذا هو الخط الأساس الذى دارت حوله مقالات هذا الكتاب عن جدل الحق والقوة .

3 ـ وتناثرت تفصيلات فى الموضوع تؤكد أن قصة موسى وفرعون لا ينفذ عطاؤها ، خصوصا وأن الاستبداد الفرعونى متجذر بين أقوام يزعمون الايمان بالقرآن الكريم ويعلمون قصة موسى وفرعون ومصير الطاغية المستبد .

4 ــ نتوقف هنا فى لمحات سريعة نستفيد من هذه القصة الفرعونية لعصرنا .

أولا : بين الحق والاستحقاق

1 ـ فرعون كانت معه القوة فزعم لنفسه الحق ( او الاستحقاق ) . وفى الصراع على ارض الواقع لا بد من الاعتراف بهذا الاستحقاق ، والتعامل معه ماديا على هذا الأساس . لذا فإن الله جل وعلا هو الذى قال لموسى وهارون :  ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) طه ). أمرهما جل وعلا ان يقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشا . القوة الالهية التى تحميهما من بطش فرعون لا تخوّل لهما دعوته بغلظة وفظاظة . فالدعوة لا تكون إلا بالحكمة والموعظة الحسنة ، حتى لو كانت موجهة الى طاغية لا أمل فى إصلاحه . هى دعوة لإقامة الحُجّة عليه . فالهدف هنا هو الهداية وليس الأطماع الدنيوية .

2 ـ فى عصرنا البائس يزعم التيار الدينى الوهابى أحقيته فى الحكم ، وهو يفتقر الى القوة فى مواجهة الفرعون العسكرى ، ولا يستطيع منازلته عسكريا فيلجأ الى ما نسميه بالارهاب أو القتل العشوائى . بدأ الاخوان المسلمون هذا فى مصر ، وانتشر بهم فى العالم ووصل الى اوربا وأمريكا .

3 ـ المؤلم أنهم فيما يرتكبون من إرهاب يزعمون أن هذا هو الاسلام . وتناسوا أن الصحابة المؤمنين فى مكة تحملوا تعذيبا وإضطهادا ، ولم يؤمروا بالقتال الدفاعى ، بل بالصبر ، ثم هاجروا ، وتابعتهم قريش بالغارات ، وكانوا مأمورين بكفّ ايديهم عن القتال الدفاعى ، ولم يتم الإذن لهم بالقتال الدفاعى إلا بعد أن إستعدوا للدفاع عن أنفسهم ورد العدوان بمثله . هذه هو القتال فى شريعة الاسلام ، الذى يكون فى سبيل الله جل وعلا ، أما القتال فى سبيل الطاغوت فهو شرع آخر . طاغية فرعونى يحكم بشريعة الغاب ، يواجهه خصم يتستر بدين أرضى يخدع به البسطاء ، ويوجههم الى إرتكاب ضربات تصيب المدنيين تلفت الأنظار وتنشر الرعب ، وتحتدم الحرب بين خصم قوى ظاهر القوة ، وخصم يختبىء ، يضرب ويختفى . وإذا نجح هذا الخصم بعد أنهار من الدماء وأهرامات من الجماجم فإن القادة الجدد يكونون أضل سبيلا وأشد طغيانا من المستبد العسكرى .

4 ـ ووجه بنو إسرائيل بإضطهاد هائل ، ذبح أطفالهم وإسترقا بناتهم ، وصبروا . لم يأمرهم موسى بتكوين عصابات مسلحة تقتل المصريين الأبرياء عشوائيا ، أو حتى تقوم بإغتيال الملأ الفرعونى ، بل أمرهم موسى عليه السلام بالصبر والتوكل على رب العزة جل وعلا . نرى العظة هنا فى الصبر والتوكل على الله جل وعلا : ( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الاعراف ) . وبسبب هذا الصبر جعل الله جل وعلا من بنى إسرائيل أئمة يهدون الى الحق ، قال جل وعلا : ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)  السجدة ).

5 ـ فى الصراع الفلسطينى الاسرائيلى يزعم كل فريق أن معه الحق . ولكن الاستحقاق ( أى القوة ) هى مع الطرف الإسرائيلى . ما الذى فعله الطرف الضعيف ؟ لجأت القيادة الفلسطينية الى الارهاب . بدأت المقاومة بخطف الطائرات المدنية وترويع المسافرين الأبرياء الذين لا ذنب لهم ، وتطورت ( المقاومة ) وانتشرت تقتل غير المسلحين من الاسرائيليين ــ إستسهالا ـ ثم تهرب . وأصبح هذا تشريعا دينيا أرضيا من مفردات الشريعة الدينية الوهابية ، يسمح بقتل الأبرياء من ( المسلمين والفلسطيينين ) فى سبيل قتل العدو . الخاسر الوحيد هنا هو الشعب الفلسطينى المغلوب على أمره . بهذه المقاومة الارهابية وصلت حماس الى السلطة فإنفصلت بقطاع غزة وأذاقته الويل ، وبينهم وبين رفاقهم فى الضفة عداء لا سبيل لتجاوزه ، لأنه ليس صراعا فى سبيل الاستقلال بل فى سبيل السلطة والثروة . هم مجموعات من اللصوص الفاسدين هنا وهناك ، ولا يزالون يتحكمون فى السلطة والثروة ويتصارعون فيما بينهم فوق جثة الشعب الفلسطينى الجريح ، وكل منهم يتكلم باسم ( شعبنا الفلسطينى ) . من حق الفلسطينيين أن تكون لهم قيادة محترمة ، وليس مجموعة لصوص فسدة .

(التأليه والاستبداد بين فرعون موسى والفراعنة المحمديين )

1 ـ الأهمية القصوى فى قصة فرعون هو تلك الصلة والوثيقة بين الاستبداد السياسى والتأليه الدينى . الأصل أن الحاكم ( يعلو برأسه ) على الناس ، مع إن الله جل وعلا خلق البشر متساوين ، وأن ( العلو ) هو للخالق جل وعلا وحده ( سبحانه وتعالى ) . ولذا تكرر وصف فرعون بالعلو فى الأرض ، وجاء فى بداية سورة القصص أن فرعون ( علا فى الأرض  ) وجاء فى أواخرها أن المتقين المستحقين للجنة يوم الدين هم الذين ( لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا) . وفيه إرتباط العلو فى الأرض بالفساد فيها ، وفرعون موصوف بالفساد . ولأن إستبداده وصل به به الى زعم التأليه فقد أصبح يرى ان ما يفعله من فساد هو سبيل الرشاد . وهنا يمتزج الاستبداد بالتأليه وبالفساد .

 الاستبداد السياسى استمر بعد فرعون ، ولا يزال سوءة مرفوعة الرأس فى بلاد المحمديين . كل دولة عربية تعلوها سوأة المستبد فيها عارا عليها . ولكن لا يجرؤ  مستبد منهم ان يعلن الوهيته كما فعل فرعن موسى . فعلها الخليفة الفاطمى الحاكم بأمر الله ودفع حياته ثمنا لذلك . بقية المستبدين من أبى بكر وعمر وعثمان والأمويين إقتربوا بطرق شتى من زعم الألوهية ، وأبرز تلك الطرق مقالتهم بالجبرية أى إن أفعالهم جبرية تجرى بالقضاء الالهى ومن يعترض عليها يعترض على قضاء الله جل وعلا وقدره الذى لا مفرّ منه .

كان الاستبداد الفرعونى فى عصر موسى ذا وجه واحد ، دولة دينية كهنوتية ، الفرعون المستبد هو نفسه الكهنوت. فى دول الخلافة والسلاطين ـ وحتى الآن ، تجذرت الدولة المستبدة التى تستعين بكهنوت يخدمها ، وظهرت أيضا الدولة الدينية ، مثل الخلافة الفاطمية ، يكون الخليفة هو السلطة الدينية والسلطة السياسية . وورث عصرنا هذا وذاك : فهناك نظم عسكرية إستبدادية (علمانية فى قلبها ) ولكن تستعين بكهنوت دينى تركبه وتركب به الشعب . ثم هناك الدولة الدينية فى إيران . ويحدث إقتراب أحيانا مع الاختلاف فى الدين الأرضى ، ومثلا فإن ولاية الفقيه فى الدين الشيعى ودولته الدينية تقترب كثيرا من مقولات الحاكمية فى الوهابية المعاصرة.

2 ـ فرعون موسى أراح نفسه من هذا كله ، و ( أخدها من قصيرها كما يقول المصريون ) وأعلى أنه ربهم الأعلى وما يعلم لهم من إله غيره . تطرّف فرعون موسى فى تأليه نفسه بزعم الربوبوبية العليا وأنه ما إله لهم غيره ، ومنح فرعون هذه المكانة للملأ التابع له حتى لقد قال لهم موسى : ( وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) الدخان ). لم يفعل هذا المستبدون المحمديون .

3 ـ ولكن مستبدى عصرنا البائس تفوقوا أحيانا على فرعون موسى فى الاستبداد . ونعطى مثلا : هذا الحوار بين فرعون وموسى الذى جاء فى سورة الشعراء ( 18 : 31 )، وهو حوار لا يمكن لمستبد معاصر أن يسمح به مع أى معارض . المستبد فى عصرنا البائس يسلط كلاب حراسته على خصومه السياسيين ، وليس هناك حوار إلا مع أدوات التعذيب ، والقائمين عليه من الجنود والمخبرين.

4 ـ نستعرض هذا الحوار بين موسى وفرعون :

موسى : ( إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)) موسى يقدم نفسه بأنه رسول رب العالمين ، ويوجز رسالته : أن يسمح فرعون له بأن يرسل معه بنى اسرائيل .

فرعون : ( أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ (19) ) . فرعون يذكّر موسى أنه الذى ربّاه وليدا ولبث فى قصره حتى شبّ. ثم إن فرعون يتهم موسى بكفران النعمة حين قتل المصرى .

موسى : ( فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)) . موسى يعترف بما فعل ويعترف أنه كان من الضالين حين فعل ، وانه فرّ من فرعون خوفا ، وبعدها جاءته الرسالة وأصبح من المرسلين . ثم يرد موسى هجوم فرعون بهجوم مضاد : هل تمتنُّ علىّ بأن جعلت بنى اسرائيل عبيدا لك ؟

فرعون : ( وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)) . فرعون يرد بهجوم آخر يسأل فيه موسى عن رب العالمين الذى بعثه رسولا ، وفرعون يعلم أن إجابة موسى ستثير غضب الملأ الفرعونى .

موسى : (  رَبُّ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ (24)). جاءت إجابة موسى صريحة مستقيمة لا يستطيعون إنكارها ـ إن كانوا موقنين ، فرب العالمين ليس فقط إله مصر بل رب السماوات والأرض وما بينهما .

فرعون : (َ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25)) . وجدها فرعون فرصة لييستطلع رأى الملأ من حوله ، فسألهم ساخرا ـ وهو يعلم مقدما موقفهم . وبالطبع سيسارعون الى تأييد فرعون لو أمرهم بقتل موسى و هارون . ولعل فرعون كان يقصد إرهاب موسى . فهل إرتعب موسى من الملأ ؟

موسى : ( قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ (26)). موسى وجّه خطابه جريئا الى الملأ متحديا بأن رب العالمين هو ربهم ورب أسلافهم .

فرعون: ( إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)) فرعون ـ بالطريقة المصريةــ يتندر على موسى .

موسى : ( رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)) موسى يرد بمنتهى الجدية يتهمهم ضمنيا بعدم التعقل .

فرعون :(  لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ (29)). هنا فقط وصل فرعون الى التهديد الصريح . سيسجن موسى إن إتخذ إلاها غيره . لم يهدد موسى بالقتل ، بل بالسجن . ومصر أقدم دولة عميقة فى العالم ، ومن ملامحها ( السجن ) الذى يفتح أبوابه لمن يعارض الفرعون ، إن لم يكن مصيره القتل الفورى . 

موسى : ( أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)) موسى يدير دفة الحديث جاذبا الإنتباه الى موضوع جديد .

فرعون :(  فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ (31)). ويلتقط فرعون الطُّعم ويجدها فرصة للتحدى .

وتأتى الفرصة لموسى فيستعرض لهم الآيتين : (  فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) الشعراء ) .

5 ـ الدولة المصرية العميقة التى كانت طوع فرعون موسى ، ولكن لم يستخدمها فى (إستجواب موسى ) . إستخدمها فرعون فى التنكيل ببنى اسرائيل وفى التجسس عليهم ، لكنه كان يستشير الملأ ـ الذى ينطق له بما يريد ، وكان هناك مؤمن آل فرعون الذى يعارضه .

6 ـ من اسف أن فرعون هو إمام المستبدين من حيث الزمن ، ولكنه أقل إستبدادا من المستبد العربى فى العصر الراهن .

أخيرا

1 ـ قصة موسى وفرعون لا تزال تعطى المزيد لمن أراد التدبر بعمق . وكذا قصص بنى إسرائيل .

2 ـ ولقد جاءت أسئلة عن بنى إسرائيل والأرض المقدسة الى كتبها الله جل وعلا لهم ، وعن بنى اسرائيل بعد موسى ، وهل مصطلح بنى اسرئيل فى القرآن الكريم ينطبق على دولة اسرائيل الحالية . هذه أسئلة ضخمة تحتاج الى كتاب مستقل . أرجو أن أجد الوقت والجهد لأقوم به .

والله جل وعلا هو المستعان .

أحمد صبحى منصور

فرجينيا ـ الولايات المتحدة

16 فبراير 2018 

اجمالي القراءات 10533

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5123
اجمالي القراءات : 57,056,799
تعليقات له : 5,452
تعليقات عليه : 14,828
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي