التوك شو وصناعة الجهل!
إنَّ حوارَ النرجسية الإعلامية التي تنــتــفخ بها الذاتُ ولو كانت مُجوَّفةً استبدلتْ الذي هو أدنىَ بالذي هو خير، وجعلتْ ثقافةُ الصُوَرِ المتحركة، والشخصيات الهزلية التي تزعم موسوعيتــَـها ومعجميتـَـها واطلاعَها علىَ الخبرِ قبل وقوعــِــه، وتحليله قبل أنْ ينقله الأثيرُ إلىَ أركان الأرضِ الأربعة حالةَ تقــَـدُّم مُتــَــأخر، وتراجُع دور الكتاب والمقال والتحقيق، فسطوةُ الفكر السهل، حزبي أو ديني أو مذهبي، أفسح المجالَ لكل من يعرف الحروفَ الأبجدية ويحفظ بعضَ التعبيرات، ويلتقط حفنةً من الفيسبوكيات، ويتذكر عناوينَ تويترية، أنْ يدخل حلبةَ المصارعة ولا تُغطــّـي سوءاتــِـه إلا عمليةُ التأهيل والتلميع والسحر الفضائي ورهبة السيرك الحواري القادر علىَ التخلص من كل ما يــُــنــَـشــِّـط ويـُـنعش الذهن.
إنَّ الذاتَ الضيقة والمحدودة للضيف والمضيف يعيد التلفازُ صياغتــَـها، وصناعتــَـها، وزركشتــَـها، وتزيينــَـها، وتلميعــَـها لتقتحم قضايا معاصرة وحديثة مليئة بعلامات الاستفهام الجماهيرية، فتسرق الزمنَ الجدّيَّ لصالح نفايات تراشُق النصوص والأخبار والمقتطفات المجزَّئــَـة والمقــَـطــَّـعة، لكن الجماهيرَ تلتصق مؤخراتُها بمقاعدِها، وتفتح أفواهــَـها علىَ آخرها، فقد أوهموها وخدعوها وزيــَّــفوا مصدرَ المعرفة فتلـفـَـزوه!
إنَّ الوعيَ الجماهيري المفترضَ أنه يُسهم في اعتدال مزاج وميزان المنطق والموضوعية يتعرض لهجمة شرسة يقوم بها فوضويون لسانيون يحصلون علىَ رواتبهم من إبليس شخصياً حتى لو كانوا دعاةَ فضيلة!
إنَّ العنصرَ الأولَ في حماية الجماهير من غوغائية التوك شو ،وهو الكتاب، تمكنت قوىَ الجهل الماضوي من جعله يقف خانعاً، ومهتزاً، وغير مرئي، فالحوارات تسابق بعضُها البعض، وصناعةُ الوجوه المألوفة تجذب عبدةَ الصندوق الملون، وإحلالُ الفنانين والمطربين والعُكــَـاظيــيــن محل حــَـمــَـلة مشعل الحضارة والنهضة، فابنُ رشد يحرقون كــُـتــُــبــَــه كل مساء مع إطلالة ضيف ومضيف و.. صرخات الهستيريين!
إن القوىَ الخفيةَ، المالية والسلطوية، لا تحتاج لاستيراد عبيد أو إغراء ضيوف بالشهرة وأصفار علىَ يمين حساباتهم في المصارف، فهم يأتونها صاغرين، ولن تختبر ذكاءَهم ومعلوماتــِــهم وثقافتــَــهم وقدرتَهم التحليلية أو حتى استقامة أساليــبـهم وثراء مفرداتهم، فالشاشةُ الصغيرة تتسع للكبار، وحلمُ الشهرة والثورة والمناهضة والمناكفة والمشاكسة وزعم مساندة السماء، والشرعية والجنرالات وعبقرية سيد القصر، تجعل رقابــَــنا جميعا، أو أكثرنا، مربوطةً بسلسلة إنحشر طرفُها في الاستديو ولو كنا جالسين في الدار أو المقهى أو الغُرزة!
خلاصة ومجموع برامج الحوارات المتلفزة، رغم احترامي لبعضِ بعضــِــها، أنها الغزو اللافكري الجديد، أعني السقوط من فوق المقعد!
لا تظنوا أنَّ التوك شو لا يسرق من الذهن عصارة وخلاصة ما فيه من دَســَــم، لكنه يُلاكم، ويهزم صانعَ الحضارات .. أعني الكتاب!
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 17 ابريل 2016
اجمالي القراءات
7202