الدولة المدنية.. فالدولة المدنية.. ثم الدولة المدنية
بما أنني أدافع منذ سنوات عن حق الإخوان المسلمين في المشاركة الكاملة في الشأن السياسي المصري، ما داموا يفعلون ذلك سلمياً، لدرجة أن هناك صحفيون مباحثون يدّعون أني "أغازل الإخوان". أما لماذا أغازلهم أو يغازلوني، فعلم ذلك عند الله، وربما عند الأجهزة التي تروج ذلك. ولكن هذا الدفاع عن حقهم يعطيني كل الحق في نقد ممارساتهم حينما تهدد حقوق الآخرين أو تروع المجتمع. ومن هذا المنطلق أكتب هذا المقال.
ما زالت تتردد أصداء ما فعله طلاب محسوبون على الإخوان المسلمين، بكلية الطب، جامعة الأزهر، في أوائل شهر ديسمبر 2006، حينما استعرضوا قدراتهم الجسمانية ومهاراتهم العسكرية قرب مكتب مدير الجامعة. وقيل في تفسير أو تبرير ذلك، أن الاستعراض كان للاحتجاج على فصل زملاء لهم، جرأوا على أن ينشأوا اتحاداً طلابياً حراً، ومستقلاً عن سطوة مباحث أمن الدولة. كما قيل أن استعراض القوة هذا كان إجراءاً وقائياً استبقائياً لتدخل "البلطجية" الذين تستعين بهم مباحث أمن الدولة أحياناً لترويع الخصوم السياسيين للنظام الحاكم، على نحو ما حدث قبل مشهد جامعة الأزهر بأسبوع لترويع طلاب الاتحاد الموازي بجامعة عين شمس، أو ما وقع في يوم الاستفتاء على تعديل المادة 76 من الدستور في 25 مايو 2005. وقيل أخيراً في التفسير والتبرير أن طلاب الإخوان المسلمين تعودوا على القيام بهذه الاستعراضات من قبل، وهي أساساً تدريبية وللبهجة والمتعة، شأنها شأن أي رياضة يستمتع بها الإخوان والمتفرجون على السواء.
وضمن تداعيات ما حدث في طب الأزهر إلقاء القبض على عشرات من الإخوان المسلمين، وحبسهم لمدة أسبوعين على ذمة التحقيق، وفي مقدمتهم المهندس خيرت الشاطر، نائب المرشد العام للإخوان المسلمين. وكان هذا الرجل زميلاً لي في سجن مزرعة طره (200-2003)، وأذكره ودوداً مبتسماً، ولكن مباحث أمن الدولة تشتبه فيه كمسئول ومحرك لما تعتقد هي أنه يقود الذراع العسكري للجماعة. وقد اعتذر الطلاب عما بدر منهم في لحظة غضب أو حماسة، أو حماقة. كما تنصلت قيادات الإخوان من كل ما بدر عن أولئك الطلاب، وأنهم قاموا بما قاموا به من تلقاء أنفسهم، ودون توجيه أو تنسيق أو أوامر من هذه القيادات.
ولكن الإعلام الرسمي للدولة المصرية لم تدع الأمر يمر بهذه البساطة. ففضلاً عن التنكيل بالطلبة المشتبه في مشاركتهم فيما أصبح يُعرف بالعرض العسكري "للإخوان المسلمين"، فإن الإعلام الرسمي، وخاصة جناحه المباحثي، لم يدخر وسعاً في إذكاء الخوف والرعب في قلوب المصريين من تلك "الجماعة المحظورة" وفي الأيام التالية للحديث، كان الإعلام المباحثي يوحي كما لو كان مواطن مصري مسالم سيجد في انتظاره أخاً مسلماً ملثماً، ينكر عليه حريته الشخصية، ويسلبه إرادته، ويروعه في حياته في الدنيا، باسم الشرع والشريعة، ناهيك عن إشعاره بأن جهنم وبئس المصير ينتظراه في الآخرة، لتقصير هنا أو معصية هناك.
ولأن الإخوان لا يملكون إعلاماً موازياً بنفس القوة أو الانتشار، فإن لم يستطيعوا الرد بنفس الفعالية، ووجدوا أنفسهم في موقف دفاعي ـ اعتذاري. وأغرى ذلك النظام بتصعيد هجومه دعائياً وامنياً. ويجدها فرصة لانقضاض واسع النطاق على شاكلة ما فعلت حكومة النقراشي وإبراهيم عبد الهادي في أواخر أربعينات القرن الماضي، والتي يطلق عليها مؤخراً الإخوان مصطلح "المحنة الأولى"، في العهد الملكي. ورغم شهر عسل قصير مع الضباط الأحرار وثورة 23 يوليو (1952-1954) إلا أن محاولة اغتيال عبد الناصر، في ميدان المنشية بالإسكندرية، كانت ذريعة للانقضاض على الإخوان والتنكيل بهم، وإعدام عدد من قياداتهم وسجن آلاف منهم في منتصف الخمسينيات. ويعتبر الإخوان ما حدث في تلك السنوات (1954-1965) بمثابة "المحنة الثانية"، والتي اُعدم فيها عدد أكبر من زعمائهم، بما فيهم أكثر مفكريهم المتشددين، وهو سيد قطب. ثم كانت المحنة الثالثة، حينما قبض السادات على أكثر من ألف وخمسمائة منهم في سبتمبر 1981، وهي المحنة الثالثة، لا فقط للإخوان، ولكن أيضاً لكل "الإسلاميين"، الذين كانوا قد انشقوا على الجماعة الأم. بل أن أحداث تلك الفترة كان محنة أيضاً لنظام الرئيس السادات، الذي كان قد دللهم وأطلق لهم العنان في سنوات رئاسته الأولى (1970-1976)، ولكنهم سرعان ما تصادموا معه، وانتهى الأمر باغتيال الرئيس السادات نفسه، وإن لم يكن بيد الإخوان، فبيد أحد الجماعات التي خرجت من عباءتهم، وهو تنظيم "الجهاد"، الأكثر ولاء لأفكار المتشدد سيد قطب، والذي كان كتابه الأشهر "معلم في الطريق" هو دستورهم في الممارسة والتنظيم والتعامل مع المخالفين لهم في الرأي أو الدين.
ومن المفارقات التي جعلت العام 1981 "محنة ساداتية" بقدر ما كان محنة للإخوان ولمن خرجوا من عباءتهم، هو أن الرئيس السادات كان قد أعطاهم أكثر مما أعطاهم أي عهد آخر في تاريخ مصر الحديثة ـ أي الملك وعبد الناصر من قبله. فإلى جانب إطلاق سراحهم من السجون، فإنه أطلق لهم العنان للحركة والتنظيم في الجامعات خصوصاً، وفي المجتمع عموماً.
ولكن ربما كان أخطر ما فعله الرئيس في معرض إرضاء الإخوان، واكتساب شعبية، وتأسيس شرعية خاصة به، مستقلاً عن تلك التي ورثها عن سلفه، الرئيس جمال عبد الناصر، فهي استحداث مادة في دستور 1971، لم تكن موجودة في أي من الدساتير والإعلانات الدستورية السابقة، على امتداد أكثر من قرن (1886-1971)، وهي النص على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع"، فلقد كانت الدساتير السابقة تكتفي بنص واحد شديد العمومية، وهو أن "دين الدولة الإسلام". وفي ظل هذا النص الرمزي، لم يكن أحد يطالب بتطبيق الشريعة، التي كانت بالفعل تطبق في قوانين الأحوال الشخصية (كالزواج والطلاق) والمواريث. ولكن بإضافة النص الجديد، أصبح الإسلاميون يطالبون الدولة بأن تفي بما نص عليه دستور 1971 (وتعديلاته عام 1980). وفي هذه المطالبة يسقط الإسلاميون كلمة "مبادئ من منطوق المادة، لتصبح "الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع". وقد تستر العديد من المتزمتين والمتطرفين، وحتى الإرهابيين وراء المنطوق المحرف لهذه المادة، ليبرروا "إرهابهم"، بل وسايرهم بعض القضاة أحياناً، فأروهم من بعض ما اقترفت أيديهم من عنف ضد ممثلين الحكومة وضد بعض الكتّاب والمثقفين بدعوى أنهم يطبقون "شرع الله"، أو أن ردع من ينحرف عن "حاده أو صحيح الدين" فهو "عاص" أو "مرتد"، وإن ردع هؤلاء العصاه والمرتدين هو "فرض عين"، على كل مسلم.
وهكذا أعطى نص "أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع"، رخصة يستخدمها أي مواطن ضد الدولة أو ضد أي مواطن آخر، انتصاراً للإسلام وحماية للعقيدة. وبهذا الفهم برر أولئك الذين قتلوا فرج فودة (1992)، والذين حاولوا وكادوا يقتلون الأديب العالمي د. نجيب محفوظ. وهم أيضاً الذين روعوا د. نصر حامد أبو زيد، متهمين إياه بالذندقة والردة، ومطالبين بتطليقه من زوجته، رغم أنف الزوجين، وهو ما اضطر الزوجين للفرار واللجوء إلى هولندا، إنقاذاً لحياتهما الزوجية، وحبهما الطويل.
وفي هذا كله كان الادعاء أو الدفاع أو أحد الأطراف المتنازعة، يتحصن بتلك المادة الثانية من دستور 1971. وكان بعض القضاة الذين يلتزمون بحرفية مواد الدستور يتجاوبون ويحكمون لصالح المتشدقين بتلك المادة، وهو الأمر الذي وضع الحكومة المصرية نفسها في موقف حرج أمام قطاع كبير من الرأي العام المحلي والعالمي، كما حدث في قضية د. نصر حامد أبو زيد. فهي إن نفذت حكم المحكمة بضرورة فصل الزوجين، رغم إرادتهما فهي ترتكب مخالفة قانونية ودستورية. ولذلك كان خروجها من المأزق هو بالإيحاء والتستر على خروج د. نصر حامد أبو زيد إلى خارج مصر، ثم التعديل الذي كان يعطي حق "الحسبة" (أي تطبيق شرع الله) لأي مواطن مسلم يعتبر تطبيق الأوامر الشرعية فرض عين، أي فرض على كل مسلم فرد. وفي هذا التعديل احتفظت الدولة بحق الحسبة لنفسها فقط، كممثلة لكل "المؤمنين".
والمهم لموضوعنا أن إلغاء أو تعديل المادة الثانية من الدستور الحالي (1971) قد يكون عسيراً في الوقت الحاضر، حيث سيكون هناك دائماً من يزايدون، ويصيحون "وإسلاماه... وإسلاماه" ولكن الممكن والملح فهو استحداث مادة تقرر "الطبيعة المدنية للدولة والمجتمع، وعلى رئيس الجمهورية وبقية الهيئات السيادية أن تحمي هذه الطبيعة المدنية". ولا نتوقع جدلاً كبيراً حول استحداث هذا النص سواء كإضافة للمادة الأولى أو الثانية، أو كمادة مستقلة. فحتى الإخوان المسلمون، وحزب الوسط، ذو التوجه الإسلامي، يقولون في وثائقهم الأخيرة أنهم "مدنيون ذو مرجعية إسلامية". وهذا حقهم. إن استحداث النص الدستوري المقترح هو الذي سيهدأ من روع النساء والمثقفين والمبدعين والأقباط، الذين زادت مخاوفهم بعد الصعود الإخواني في الانتخابات البرلمانية في عام 2005، ثم تضاعفت هذه المخاوف مع ابتزازهم لوزير الثقافة، د. فاروق حسني بسبب إبداء رأيه في ظاهرة الحجاب، ثم بعد أن قام طلاب محسوبون عليهم باستعراضات شبه عسكرية، وهم ملثمون في رحاب جامعة الأزهر. نعم لا بد من إقرار مبدأ الدولة المدنية صراحة في الدستور. وحبذا لو قاد الإخوان المسلمين أنفسهم الدعوة إلى ذلك. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولأبنائنا الملثمين الضالين.
ة
اجمالي القراءات
15442
مرحبا بك كاتبا ومعلما في رحاب موقع أهل القرآن ، واسمح لي أن أناقش مقالتكم الرائعة ليس مخالفا ولكن موضحا أمورا أظن انها لاتخفى على علمكم وثقافتكم ولكن حتى يصل المعنى الذين تريدون لأذهان القراء وليس كلهم أصحاب خلفية ثقافية وعلمية كالتي تتمتع بها ، وقبل ذلك أحب أن أنوه على أني لست ممن يتفقون معكم في كل آرائكم فمنطلقي الفكري يختلف في بعضه عن منطلقكم الفكري ولكن كنت من أشد المناصرين لكم في محنتكم مع النظام المصري وكنت أدعوا الله ليل نهار لكم بالحرية والتي كنتم تتنسمونها خلف قضبان سجنكم الغليظة أكثر مما يتنفسها سجانوكم في الهواء الطلق ، فما نتفق فيه معكم هو حبنا الجارف للحرية وتقديسنا لها فأنتم ونحن سدنة في محرابها رهبانا في صومعاتها خدما في صرحا الشاهق الذي تتوق له الإنسانية ولم تتدخله حتى الآن عبر تاريخها الطويل إلا في فترات قصيرة كانت بمسابة شذوذ عن قاعدة العذابات الانسانية والتي كان السبب فيها هو الانسان نفسه ، أما ما نختلف معكم فيه فإننا في تاريخ بحثنا الطويل عن الحقيقة توصلنا أن جميع منطلقاتنا الفكرية يجب أن تنبع من القرآن كأساس وهو ما أظن أنكم لا تبدأون من ذات قواعدنا الفكرية.
نعود لموضوع مقالتكم وأقول أن أحد القوانين الهامة التي إكتشفها اسحاق نيوتن هي أنه لكل فعل رد فعل مساوي له في المقدار ومضاد له في الاتجاه وهذا القانون حقيقة واقعة على الأشياء أما الانسان فإن كل فعل قد يكون له رد فعل وهو في الغالب مضاد له في الاتجاه ودائما غير مساوي له في المقدار ،وبإعمال ذلك على الموضوع الذي طرحتموه وهو العرض شبه العسكري للإخوان المسلمين فرغم إختلافي الأديولوجيي معهم ورغم رفضي لكل وسائلهم فهم جماعة برجماتية لها أجندة خاصة وعلى رأي المثل الشعبي المصري (ولامسلمين ولا يحزنزن) وأصح اسم لهم هو (الاخوان الميكيافلون) أقول برغم ذلك كله فإن لهم الحق كل الحق أن يقيموا عرضا عسكريا بل ولهم الحق في أكثر من ذلك والسبب هو الشعور لديهم بعدم المساواة وبالظلم الفادح فتصرفات الدولة معهم على المستوى الرسمي والحكومي تتصف بالعنف وقد عاينتم سيادتكم تصرفاتها على أنفسكم في محنتكم ، ووسائل الإعلام تصورهم على أنهم مجموعة من المخبولين الموتورين ، والمثقفون يتوجسون منهم خيفة ولهم الحق في ذلك ولكنهم يتعاملون مع أفكارهم بسطحية شديدة أو بتعالي واضح فوصلوا لمرحلة أنهم تميزوا عن مثقفي المجتمع ونخبته ولم يتمكنوا من التفاعل معه والانضمام فيه وفي نفس الوقت كسبوا تعاطف أفراد المجتمع للعبهم على وتر الدين المتجذر في العقلية العربية والمصرية خصوصا ولإتضهاد الدولة لهم.
أما ما ذكرتموه عن مادة الشريعة الاسلامية في الدستور المصري ، فإن كثير من الناس يتصورون أن السادات وضعها ليغازل بها الأخوان والجماعات الاسلامية ولكن أخالفكم جميعا الرأي فالسادات وضعها لهوى في نفسه ولعقيدة إرتضاها فالسادات كانت له توجهات صوفية فكان السادات يدين بدين التصوف السني كما سماه أحمد منصور .