لماذا انسلخت عن الفكر السلفي؟ (3-2)
وهناك جوانب أخرى تشمل تورط الفكر السلفي في الصراعات الطائفية، وأن الموقف السلفي السياسي مرتبط بالمصلحة غالباً، والمصلحة ليست جميعها على ضلال، بل لو انحصرت لمصالح في دائرة العفو والإيمان بحقوق الآخرين فهي مصالح عامة وشخصية مزدوجة، حتى لو آمنت باختلاف مصلحتي عن المصلحة العامة، ولكن ضمان بقاء الحياة واستمراريتها –كفائدة مرجوة من المصلحة العامة-يجعل مصالحنا الخاصة مجرد نزوات ورغبات غير مشروعة، وهو ما اعتقدته في مصالح الفكر السلفي حيث خرجت لدي بصورة غير مشروعة لأنها تعارضت مع المصلحة العامة.. التي تقتضي الاعتراف بحقوق الآخرين التي هي لديهم ثانوية وأحياناً معدومة.
وزاد الموقف سخونة أن السلفيين يرون مصالحهم بصورة دينية، وهي أقذع وأبشع صورة في الوجود، أن ترى مصالحك مقدسة وليذهب الآخرين إلى الجحيم، حينها يحل الكذب والفجور محل الصدق والإيمان، فيكذبون على الله وعلى الناس من أجل مصالحهم التي هي لديهم مصلحة الدين، فلا اعتقاد نسبي لديهم ، الجميع لديهم إما أبيض وإما أسود، وهكذا نعود إلى صورة الأفلام القديمة التي اعتقد فيها جيل الشباب أن البشر في هذا العصر لا يعرفون الألوان، وأن حياتهم كانت بالأبيض والأسود، رغم أن فيلم.."رد قلبي"..عرضته السينما المصرية بالألوان في الخمسينات حيث فترة ازدهار أفلام الأبيض والأسود.
إن أقرب تشبيه للفكر السلفي أنه لا زال يعيش في أفلام الأبيض والأسود، وما لهذه الأفلام من سطوة معرفية حملت البعض على إنكار الألوان والزعم أنها مصطنعة، حتى لو لم يحدث فهو استثناء كالذي يحدث مع السلفية، هم يرون الحياة دون ألوان ويصرون على أنها كذلك، حتى عندما يختلفون مع أنفسهم أو يتمردون أو يحاربون تصبح نظرية.."الأبيض والأسود"..هي السبب في تدميرهم، ويعودون بحماقة مرة أخرى للسؤال لماذا لا ينصرنا الله، والجواب من أنتم ومن هم، عليكم بتعريف أنفسكم والآخر، حرروا علاقتكم بالغير، إن ما قرأتموه وانطبع في أذهانكم من سيرة السابقين كان في عصور انتشرت فيها الرؤية المحلية، فيجري تفسير النصوص على ما تراه العين دون القلب.
فلو قيل أن تلك العصور لم تكن محلية وأن علماء المسلمين كانوا عالميين قلنا أخرجوا لنا شعباً غير العرب والمسلمين يعرف ابن تيمية وابن حجر والبخاري والذهبي، بل أخرجوا من يعلم حرفاً واحداً في الشرق والغرب عن الأئمة الأربعة، بل لا يوجد مشهور في العالم سوى من اتُهِمَ في دينه عند العرب كابن سينا والفارابي وابن رشد وابن حيان ...وغيرهم، هؤلاء من أعطوا صفة العالمية للمسلمين كانوا متهمين ومضطهدين وأحرقت كتبهم وصودرت أفكارهم.
نفهم من ذلك أن الأفكار التي تعيش يجب أن تتصف بالعالمية، وهي لن تكون كذلك حتى تخاطب الإنسان لا المعتقد، فقولوا لنا بربكم هل خاطب أئمتكم الإنسان أم دينه؟..فلو قلتم أنهم خاطبوا الإنسان قلنا لو حدث ذلك ما ذبح المسلمون بعضهم على الدين، إن خطاب الإنسان يعني خطاب العقل والروح والضمير..يعني خطاب المنطق والتوافق..يعني خطاب الحوار والتواصل..يعني خطاب الرأي والرأي الآخر، فلو تحقق هذا الخطاب كانت معه قواعد الدين راسخة.. لأن الأديان شرعها الله للإنسان، فكيف يكون الخطاب عقدياً قبل أن يكون إنسانيا؟..لو صح هذا الادعاء بأن الخطاب عقدي فالإنسان ليس له دور سوى التسليم بمواقف كهنة العقيدة.
فما من عقيدة إلا ولها كهنة يقومون على أمرها ويحرسونها ضد المخالفين، وهم الذين يحتكرون الحديث باسمها ، ورغم ذلك توجد لديهم بواقي رحمة يستعينون بها على التمكين ، فيشيع بينهم خطاب.."التسامح"..لإقناع ذوي القلوب، بينما خطاب التسامح هو من منطق وصائي يملك حق القرار، وكم شرحنا وأسهبنا في رفض هذا الخطاب وقلنا أن البديل له هو خطاب.."قبول الآخر"..هنا كان الاعتراف بحق الآخر في الوجود كأساس لقبول معتقداته وكافة حقوقه، بينما خطاب التسامح يجعل هذه الحقوق رهينة لتقدير هذا الطرف أو ذاك لتلك العلاقة.
وهو تقدير محكوم بالمصلحة وبالنسبية ومقيد بالعاطفة، فأيما أحببت فلان فهو صالح يستحق الخير، وأيما كرهت فلان فهو فاسد مفسد يجب التحذير منه ومن شروره، هنا كان التسامح ينظر لنصف الكوب الفارغ ويضع الأديان والقيم في مهب الرغبات والأهواء والصور الخاطئة، بينما القبول يُعالِج فكرة الإنسان عن الأديان والمعتقدات ويحميها من قصور الإنسان وجهله، ويُحسن من توظيف الأخلاق في المعاملات، فالقبول يعزز من فكرتي .."التواضع والإيثار"..وكفى بهما مكرمةً للإنسان، فبهما تتعايش البشرية وتقل النوازع والحروب.
الغريب أن الفكر السلفي عندما يتعامل مع الأخلاق فهو أيضاً يتعامل بالمصلحة، وعندما تسأل لماذا آثر الأنصار المهاجرين عن أنفسهم قالوا لوجه الله وللإسلام ولنصرة الدين، فهم لا ينزعون الفعل عن نتائجه ويخرجون بنتيجة هي لديهم الهدف النهائي من وراء الفعل، ولو كان ذلك صحيحاً فحروب داعش وجبهة النصرة في سوريا هي لنصرة الإسلام..فأي إسلامٍ يرغبون؟!...هنا كانت النسبية وراء تفسير الأعمال فلا يحق لأحد أن يربطها بالأفعال/ الأخلاق، والصحيح أن تجريد الأخلاق عن أهدافها الدنيوية ونتائجها البعيدة هو حصن منيع لها ضد الكذب والرياء والنفاق، والمعنى أنني أتواضع لوجه الله حتى لو خسرت، وأن أؤثر فلاناً على نفسي لوجه الله حتى لو كان ذلك في النهاية ضدي وضد منفعتي.
لأن خروج صور المنافع في النهاية قد تكون بصورة نسبية، أنا أكره فلان فالأفضل تجنبه، لأنه ليس كل تفسير للمصلحة هو حقيقي أو مطلق ، وهذه آفة فكر سلفية يعاني منها الشباب المتدين بكثرة، فتجد الشاب السلفي يربط بين مصلحته والدين، وعندما يوظف ذلك في العمل السياسي تكون كارثة، وقد كنت يوماً أعتقد بأشباه ونظائر تلك الأفكار، ولكن كانت تحدثني نفسي لماذا هؤلاء.."الكفار"..منسجمين مع أنفسهم وبلادهم نظيفة ولا يهتمون لأحوالنا وبما نقوله عنهم، ورغم ذلك نزعم أنهم سيدخلون النار، حينها كانت تصدمني النصوص بصورتها التأويلية التي احتكرها المشايخ منذ القِدم، وكان لدي شعوراً فياضاً بأن هذه النصوص لم تخرج لتكفير أو لعن هؤلاء، بل كانت موجهة ضد أقوام وجماعات بينها وبين العدل والإخلاص ما صنع الحداد.
اجمالي القراءات
11869