لماذا انسلخت عن الفكر السلفي؟ (3-1)
كنت في وقتٍ ما سلفياً بالمعنى الحرفي للكلمة، لكن لم يُصبح ذلك لدي مدعاةً للتكفير والتشديد، ففطرتي تنفر من هذه الأشياء، وأميل إلى تأويل النصوص باليُسر وليس بالعُسر، ومعها اعتقدت أن لكل مشكلة حل في النصوص الدينية ، وهو ما اكتشفت زيفه بعد ذلك، فالنصوص بحاجة إلى عقلٍ راسخ وضمير متيقظ وقلبٍ صافٍ مُطهر من الدنايا، وبدون هذه الأشياء تُصبح النصوص مجرد أحجار في صحراء بحاجة لمن ينقلها أو يستخدمها لمصلحته، بالضبط كمن يستخدم النصوص لمنفعته بسبب أنه تعامل مع الحَجَر كأنه من أملاكه.
السلفيون يتعاملون مع النصوص كأنها تركة ورثوها من الآباء عن الأجداد، لذلك ترى نزعة احتكار الفهم فيهم واضحة، ومعها تفسير تلك النصوص حصرياً تُخالجُ ضمائرهم، وبما أن احتكار الفهم بحاجة إلى شجاعة ..فهُم يعتمدون في شجاعتهم على أمراض المجتمع العربي وأبرزها.."الجهل"..فطبيعة الجاهل أنه يرى النصوص برؤية ظاهرية تخلع عباءة النص وتُلبِسه رداءاً آخر أكثر قابلية وانسجاماً مع النفس، وهو ما أسميه بتكييف النصوص مع المصلحتين الآنية والشخصية.
كمثال تحريمهم لنكاح الزانية من قوله تعالى.."الزاني لا ينكح إلا زانيةً أو مشركة"..كانت الحُرمة نزولاً إلى الموقف العربي من المرأة بالعموم والزانية بالخصوص، والنتيجة أن كيّفوا النص الديني لثقافتهم وأعرافهم المحلية..وبالتالي مصلحتهم في بقاء الوضع اجتماعياً كما يرغبون، رغم أن النص الديني أوسع من ذلك، وقد قال الله في آية أخرى.."وأحل لكم ما وراء ذلكم"..وهو شامل لنكاح الزانية وغيرها، أي أن القرآن برئُ من هذا التفسير السلفي للنصوص ويتعامل مع المرأة كونها مخلوقاً يساوي الرجل في كرامته ومكانته.
لا أنكر أن من أسباب اختلافي مع الفكر السلفي هو عدم اهتمامهم بالفلسفة، فالأشياء التي في الضمائر والأذهان كثيرة بحاجة إلى واقع وفكر ولغة لتفسيرها، والفكر السلفي ضعيف لا يفسر هذه الأشياء، بل يردها -بغرابة-إلى عموميات دينية ، كمن يسأل عن حقيقة الوجود وطبيعة المواد نرى من يسارع بقوله.."ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء أن تبد لكم تسؤكم"..أو كمن يسأل عن حقيقة كُفر المسيحية واليهودية نرى من يسارع بقوله.."لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثلاثة"..رغم أن تحرير معنى الكُفر لغوياً يردنا إلى نتائج مختلفة تقول بأن ليس كل المسيحيين واليهود كفار، بل الكفر يثبت في شأن من عرف الحق وأنكره بعد حوارٍ وجدالٍ ظهر الحق للجميع.
وأزعم أن إطلاق صفة الكُفر في حق الآخرين بحاجة إلى تكليف ديني ووصاية بشرية تحمل فلاناً أو مجموعة من الناس أن تتحدث باسم الدين، وهذا الشرط غير موجود كون الحديث باسم الدين حرام، والأفضل أن يُقال.."هذا ما ظهر لي من أمر الدين"..وهو معنى ينفي أي امتلاك للحقائق أو جواز احتكار فهمها وتفسيرها.
كذلك فالسلفيون لا يفصلون بين رؤية السابقين لدينهم ودنياهم وبين واقعهم المعاصر، وهو ما يلزمه إسقاطاً تاماً لأقوال السابقين من 1000 عام -حيث عصر البداوة والتداوي بالأعشاب وبالحيوانات- وبين عصر الحضارة والثورة العلمية والطبية، وعندما نقول عصر البداوة فليس امتهانا للعصر أو لمن عاشوا فيه، بل على طريقة.." انظر كيف كانوا يعيشون"..وهي جملة حالية تحفز على الاعتبار باختلاف الزمن والكون، وربما يتعاطف القلب معهم مثلما تعاطفنا مع آبائنا وأجدادنا الذين عاشوا دون مياه أو كهرباء أو تلفزيون أو انترنت، فنسأل حينها لو كنا نعيش في زمنهم كيف سنبدع ونقضي أوقات فراغنا الصعبة.
الغريب أن أحدهم سيرد ويقول أن أجدادنا كانوا منسجمين مع واقعهم وبيئتهم، وأنهم كانوا يبدعون ويقضون أوقات فراغهم في أشياء هي بالنسبة لهم تعتبر مثل التلفزيون والإنترنت بالنسبة لنا، وهو إقرار ضمني بحقيقة.."أن لكل زمان نسبة وتناسب"..فلماذا يعيبون علينا رفض منطق السابقين وأن منطقهم-حتى لو كان صحيحاً لهم-فليس بالضرورة أن يكون صحيحاً لنا، وهو المعنى من وراء النسبة والتناسب الزمكاني، بل لا يكتفون بذلك ويريدون العودة كلياً إلى زمنهم بحُجة أن زمنهم هو خير القرون ويجب علينا اتباعهم وكأن الإنسان هو مجرد حيوان لا عقل له ولا منطق ليُفكر، وأن كل وظيفته في الحياة أن يقول ويعمل مثل فلان وعلان..!!
لقد شاءت حكمة الله أن يخلق الناس مختلفين ومتفاوتين في أفهامهم وعقائدهم وألوانهم وألسنتهم، وإلا فالناس لو كانوا أمةً واحدة تعرف معنى التواصل لساد الخير هذا العالَم، ويظهر معه أن اختلاف الناس هو لحكمة الاجتهاد في التعارف والحوار، ولحصار تلك الأمراض التي نجمت عن هذا التفاوت سواء من الفهم الخاطئ والتطرف، كيف سأفهم الآخر دون معرفته؟..هذا سؤال مركزي تُبنى عليه نظريات علمية واجتماعية، فيجتهد الإنسان لمعرفة نفسه كمقدمة لمعرفة الآخرين، وللحقيقة لم أرى هذه الميزة إلا في الفلسفة، فهي التي أتاحت لي المعرفة والانطلاق في فضاء الكون والتفكر في أحوال الموجودات.
وبما أن الفكر السلفي له موقف من الفلسفة فقد بدأت أشك في حقيقة هذا الفكر، وحقيقة اتصاله بالدين، فوجدت أن هذا الفكر له جذور راسخة في كل مصائب وبلايا التاريخ، وأنه كان سبباً في انحطاط المسلمين والعرب قروناً طويلة، فتكلمت في السلفية على استحياء، والسبب أنني كنت لا زلت عضواً في جماعة الإخوان، فما بين الإخوان والفكر السلفي ما يمنع من انتقادهم بحدة، أو الخروج على المفاهيم الرئيسة التي شكلت هذا الفكر، لأن هذه المفاهيم الرئيسة هي نفس المفاهيم التي شكلت العقل الإخواني تحت ظل السمع والطاعة وتحت سيف الخروج والبدعة..
اجمالي القراءات
12315