في الأسبوع الماضي، أكد بعض المعاني السابقة، الليبرالي السعودي عبد الرحمن الراشد مقالاً (ذموا الليبرالية كما تحبون) ("الشرق الأوسط"، 17/12/2010) قال فيه:
"الليبرالية مفهوم إنساني بسيط، يؤمن بحرية الاختيار فقط، وهذه الحرية تضيق وتتسع وفق رؤية كل فرد.. فإن اختارت الأغلبية أن تكون محافظة، فهذا حقها وخيارها، وإن فضلت العكس، فالأمر لها. لهذا تسمح هولندا بتدخين الحشيش، في حين تسجن الشرطة البريطانية من يتعاطاه. فحرية الفرد مقيدة في النهاية باختيار الجماعة، فإذا كانت أغلبية المجتمع محافظة، فخيارها هو الذي يسود. لهذا فالليبراليون، من الناحية النظرية، أقرب الناس إلى الجميع، حيث يفترض أنهم يؤمنون بحق الإسلاميين، والشيوعيين، والقوميين، والمحافظين الاجتماعيين."
ونحن نزيد على هذا بالقول إن الليبرالية – بكل بساطة – هي الحرية في إطار العقد الاجتماعي، والسياسي، والديني، للفضاء الذي نعيش فيه.
-2-
الليبرالي الإسلامي السعودي، يوسف أبا الخيل، كان جزاؤه على ليبراليته الإسلامية، إهدار دمه بفتوى دينية، صدرت في 14/3/2008 ومحاكمته مع زميله الليبرالي الآخر عبد الله بن بجاد العتيبي. فإذا لم يرجع أبا الخيل عن أقواله "وجب قتله مرتداً، فلا يُغسل، ولا يُكفَّن، ولا يصلى عليه، ولا يرثه المسلمون." وقد أيّد الفتوى مجموعة من المشايخ والأكاديميين. بينما أصدرت مجموعة من الليبراليين السعوديين بياناً تضامنياً، (لا للتكفير.. نعم لحرية التعبير، 31/3/2008). ورفضاً للفتوى، التي قالوا إنها تهدد السلم الاجتماعي السعودي.
ولم يرجع أبا الخيل عن أقواله. وكان أبا الخيل، قد كتب مقالا قال فيه:
"إن الإسلام لا يُكفِّر مَن لا يَدِين به، إلا إذا حال بين الناس وبين مُمارسة حرية العقيدة التي يَدينون بها."
وأبا الخيل، من الذين يرفضون مقارنة الليبرالية بأية أصول مذهبية، لأنها لا تلتقي والتمذهب من وجهة نظره أبداً. ويقول "أن الليبرالية نشأت في أساسها ضد التمحور حول المذاهب."
فلنتعلم منه، وليتعلم جميع الليبراليين العرب من هذا!
-3-
ولكن الجمال والحق في ليبرالية يوسف أبا الخيل الإسلامية، يتجلّيان في فهمه للنصوص المقدسة، وكيفية التعامل مع هذه النصوص تاريخياً، وليس من فوق التاريخ. ففي مناقشته لآراء الشيخ الراحل جمال البنا الفقهية، بخصوص الحجاب والمرأة، والتي أثارت زوابع كثيرة في العالمين العربي والإسلامي، أخذ أبا الخيل بتاريخية النصوص الفقهية، ومحدودية واقعها التاريخي، وقال بشجاعة الفقهاء العقلانيين، الذين لا يفسرون النصوص المقدسة من فوق التاريخ، ولكن من خلاله، ومن داخله، وعلّق على هذه الآراء بقوله في مقاله: ("الإحيائية الفقهية الجديدة"، جريدة "الرياض"، 8/4/2006):
" إن هذه النصوص - كما هو مقطوع به لدى كافة طوائف المسلمين - محدودة ومحصورة بواقع تاريخي محدد بنوازله ووقائعه. وهي حقيقة مُعبَّرٌ عنها لدى كافة تلك الطوائف بشعار: ندرة النصوص، ولانهائية الحاجات والوقائع الجديدة. ولم تكن ثمة وسيلة للتعامل مع الوقائع، التي استجدت بعد انقطاع الوحي غير تفعيل المَلَكة العقلية، حيال استنباط ما يمكن أن تُكيّف به تلك الوقائع المستجدة. وهذه المَلَكة العقلية قُيِّدت على مرِّ تاريخ التشريع الإسلامي، بتحديد مجالات عمل العقل الإسلامي، وعلى رأسها تدشين "آلية القياس على أصل سابق"، من قبل الإمام محمد بن إدريس الشافعي (150 – 204هـ). وهي الآلية التي يتطلب تفعيلها البحث في أصل من أصول التشريع، لاستنتاج علَّة الحكم فيه، ليتمكن الفقيه المجتهد على ضوء ذلك، من إلحاق حكم الفرع بحكم ذلك الأصل بجامع العلِّة بينهما. وقد عرَّف المتكلمون من المسلمين (أصحاب مذاهب علم الكلام) القياس بأنه " قياس الغائب على الشاهد."
ويضيف أبا الخيل مفسراً، وشارحاً:
"فالشاهد هنا، هو الوقائع الجديدة. أما الغائب فهي الأصول، التي حملت أحكام التشريع لوقائع معينة، مرتبطة تاريخياً بزمنها. والأحكام المُنتَجة بواسطة القياس ليست شيئاً غير الفقه. وبالتالي، فهذا الفقه، بصفته استنباطاً من الأدلة بقياس الفروع على الأصول، ليس هو الشريعة نفسها، بل هو اجتهاد بشري، داخل حدود الشريعة. والأحكام المستنبطة بواسطة الاجتهاد، اعتماداً على آلية القياس، لا تعتبر أحكاماً قطعية، بل هي أحكام ظنيّة فقط. إذ أن الحكم القطعي الذي لا يسوَّغ الخلاف فيه، هو الحكم الذي جاء به الأصل (المقيس عليه) ، خاصة إذا كان قطعي الدلالة والثبوت. أما المقيس، وهو الفرع، فلا يعدو حكمه أن يكون ظنيّاً، لان الفقيه عندما يستخدم القياس، لا يستطيع الجزم بعلة الحكم في الأصل المقيس عليه."
فلنتعلم منه، وليتعلم جميع الليبراليين العرب من هذا!
-4-
نستخلص من هذا كله:
1- أن هذه الآراء في الأحكام الشرعية، هي لبُّ "الليبرالية الإسلامية"، التي تتأسس الآن بقواعد مكينة، ترتكز على العلم، والمعرفة، واستعمال العقل في طرح المسائل. وهي كما وصفها -حقاً - أبا الخيل، هي "الاحيائية الفقهية الجديدة".
2- أن النصوص المقدسة، يجب أن تُفسَّر ضمن سياقاتها التاريخية، وليس خارج هذه السياقات. وتفسير النصوص المقدسة ضمن سياقاتها التاريخية، يُظهر منها "المقاصدية"، التي نستطيع توظيفها في مختلف مظاهر وسلوكيات الحياة المعاصرة. وتلك ركن أساسي من أركان التأويل الليبرالي للنصوص المقدسة.
3- تمَّ تقييد المَلَكة العقلية على مرِّ تاريخ التشريع الإسلامي، بتحديد مجالات عمل العقل الإسلامي. ويتطلب تفعيل هذه المَلَكة، البحث في أصل من أصول التشريع، لاستنتاج علَّة الحكم فيه، ليتمكن الفقيه المجتهد على ضوء ذلك، من إلحاق حكم الفرع بحكم ذلك الأصل، بجامع العلِّة بينهما.
4- إن الفقه ليس هو الشريعة، ولكنه اجتهاد بشري. إنه استنباط من الشريعة. والأحكام الفقهية ليست قطعية، ولكنها ظنيّة فقط.
وهذه الإحيائيات الفقهية الجديدة، تأسيس على تأسيس للإحيائيات الفقهية التي قال بها محمد عبده، وعلي ومصطفى عبد الرازق، وأمين الخولي، وخالد محمد خالد، وغيرهم من المصلحين الليبراليين في مصر. كما قال بها الطاهر حداد، والطاهر بن عاشور، وابنه محمد الفاضل بن عاشور، وشدد عليها فيما بعد العفيف الأخضر، ومحمد وعبد المجيد الشرفي، ومحمد حداد، وهشام جعيط، في تونس. وهي كلها تصب في نهر الليبرالية الفكرية المتدفق، تحت صخور السلفية والأصولية الدينية.
فلنتعلم منه، وليتعلم جميع الليبراليين العرب من هذا Minimize