السوق الكيماوية والسوق النووية
سألت نفسي من قبل ، ما الفرق بين التهديد والتنفيذ؟..وإذا لم يكن الجاني لديه الرغبة في الاعتداء فلماذا يُهدد؟!...إسرائيل تملك من السلاح الذري ما تهدد به كافة جيرانها الذين لا يملكون هذا السلاح، فما الفارق بينها وبين النظام السوري الذي يُهدد خصومه بالحرب الكيماوية إذا تعرض هو الآخر للاعتداء؟..وهل إذا ثَبَت ضلوع النظام السوري في الجريمة الكيماوية في ريف دمشق يكون قد صنع المبرر لضرب سوريا ومنشآتها العسكرية والمدنية؟..فلماذا تصرخ أمريكا إذاً من هذا العدوان الأحمق وهي تُعطي الذريعة لإسرائيل بأن تقتل الآلاف في مقابل حق الوجود؟
لا نقاش في أن ما حدث في ريف دمشق من عدوان كيميائي في 21 أغسطس الجاري.. هو جريمة تهتز لها المشاعر وتغضب لأجلها النفوس، وما يُحزِن المرء أكثر أن ما يجري في سوريا من حرب أهلية يصعب معها التنبؤ بالفاعل الحقيقي، حتى ما تقوم به الأمم المتحدة من جهود وإرسال بعثات للتفتيش ..هو رهينة للرأي الواحد الذي قد يُعلن نتائج التقرير بإدانة أحد الأطراف وهو برئ، سواء كان النظام أو المعارضة فلن نُجزم بالإدانة ولدينا احتمال تورط طرف ثالث لديه المصلحة في تدمير سوريا أكثر عبر توسيع رقعة الصراع وامتدادها خارج الحدود.
القوى العُظمى الأمريكية والروسية سارعت بتحميل خصومها المسئولية، فأعلنت أمريكا أن الحكومة هي المسئولة، بينما روسيا أعلنت أن المعارضة هي المسئولة، وبالنظر إلى قوة ودوافع موقف الطرفين سنرى أن الروس يقولون بأن لديهم أدلة على استخدام مسلحي المعارضة للكيماوي في خان العسل بمدينة حلب في 19 مارس من هذا العام، بينما أعلنت أمريكا في نفس الوقت أنها لا تملك أي دليل على تورط أحد الأطراف، وفي أوائل يونيو الماضي أعلنت لجنة تابعة للأمم المتحدة بأن هناك استخدام للسلاح الكيماوي 4 مرات على الأقل، وهذا يدل على أن هناك حرب كيماوية في سوريا تجري قبل جريمة ريف دمشق التي راح ضحيتها أكثر من 1300 قتيل..
هذا وإن كان استخدام الكيماوي قبل ذلك كان محدوداً إلا أن التحضيرات له بدأت منذ اعتقال السلطات التركية أعضاء في جبهة النصرة الإرهابية وبحوزتهم 2 كيلو جرام من غاز السارين القاتل، وهو من أقوى الغازات المستخدمة في الحرب الكيماوية، والملي جرام الواحد منه يكفي لقتل إنسان خلال دقائق، أي أن الشُحنة المضبوطة لدى مقاتلي جبهة النصرة تكفي لقتل 2مليون إنسان، حيث أن الجرام الواحد من الغاز يقتل ألف إنسان على الفور...لكن كان تصرف السلطات التركية ورعونتها في عدم الكشف عن نتائج التحقيق واكتفائها بأن الغاز كان مُخططاً له استخدامه في تركيا ..يكشف على أن السلطات التركية كانت لديها معلومات حول استخدام غاز السارين في دول الجوار.
وهذا يطرح الشبهات أكثر حول الدور التركي في الحرب السورية وجريمة الكيماوي في ريف دمشق، وتحريضها الآن للمجتمع الدولي على التدخل العسكري دون انتظار لنتائج التحقيق.
أنا لا ارتاح للسياسة التركية في هذه الأوقات ، وذلك لشعوري بسيادة التعصب وضيق الأفق وانعدام الضمير لقادة تركيا الذين لا يُألون بالاً لنُصرة جماعة سياسية دينية معروفة في المنطقة ، وقد شاع مؤخراً بأن العلاقة بين تركيا وجماعة الإخوان تتخطى حاجز الأفكار والخلفيات إلى فضاء واسع تعمه المصلحة، فهم يتبنون مواقف الجماعة من كافة الأحداث السياسية الإقليمية والدولية سواء في مصر أو في سوريا أو في البحرين ، عِلماً بأن فض اعتصام رابعة العدوية في القاهرة وصُراخ أردوجان من أجله كانت قد فعلته حكومة البحرين وفضت اعتصام ميدان اللؤلؤة في العاصمة وقتلت العشرات وأصابت المئات، ومع ذلك لم يُدين أردوجان فض الاعتصام وأثنى على دور الحكومة البحرينية في حِفظ الأمن.
من جانبٍ آخر فتكاد تكون تركيا هي السوق لتداول وتبادل الأسلحة الكيماوية في المنطقة، والأسباب لديها مبررة بأن بشار الأسد يمتلك سلاح ردع استراتيجي كيماوي هدد من قبل باستخدامه في يوليو من العام 2012..وقد كان ذلك هو السبب في انشغال الغرب بقضية الكيماوي منذ هذا التوقيت، فبعدها ضربت إسرائيل موقعاً عسكرياً سورياً يُشتبه أنه كان مخزناً لصواريخ باليستية ومواد كيماوية جاهزة للاستخدام العسكري، وتصريحات جون كيري العنترية ضد سوريا وكأن الرجل متفرغاً للسوق الكيماوية السورية واختلاق المبررات للعدوان، أو على الأقل حشد المجتمع الدولي ضد سوريا وإحراج روسيا والصين.
الدور التركي في سوريا لا يقل وصفه عن.."الوضاعة السياسية والأخلاقية"..التي بررت وأعطت غطاءاً سياسياً للعمليات الإرهابية في سوريا بينما صرخت من أي ردود أفعال للحكومة وجهودها في حِفظ الأمن وتحجيم عمليات تسلل الإرهابيين الذين يدخلون من الحدود التركية دون رقيبٍ أو حسيب..وهو نفس الدور الذي يبرر للإرهاب في مصر ويُعطيه غطاءاً سياسياً وشرعياً بدعوى تعرضهم للمجازر أثناء فض اعتصامهم في رابعة العدوية والنهضة، بل ويُهاجم كافة الرموز السياسية والدينية في مصر كونهم شاركوا في العملية الانتقالية التي أطاحت بحُكم جماعة الإخوان.
من هنا رأيت أن تركيا هي الحاضن الرسمي للكيماوي السوري، وهي الحلقة الأصغر داخل النووي الإسرائيلي الذي كان ولا يزال هو لُبّ الصراع في المنطقة، وطِبقاً للمنطق العقلي بتأثير الكل على الجزء فإنه ما دامت السوق النووية ستكون السوق الكيماوية، وربما تتطور الأحداث وتمتلك الجماعات الإرهابية والغير منظمة هذا السلاح وتستخدمه في إطارٍ واسع على غرار قنابلهم الزمنية وسياراتهم المفخخة، ولكن كل هذا مرهون بإفاقة -ولو جزئية- لهذا الحاضن التركي كي يشرع بالتصدي للخطر الداهم على شعوب المنطقة.
أخيراً فتسلسل الأحداث بشأن الأسلحة الكيماوية في سوريا هو دليل على أجواء تنافسية بين سوريا وإسرائيل ،كلٍ منهم أراد الاحتفاظ لنفسه بحق الردع، وما كان كيماوي سوريا ونووي إسرائيل إلا عناوين لمعارك دولية ووهمية بين أطراف تستغل بعضها في تحقيق أهدافهم المعلنة والمُبطنة، فبشار الأسد يخشى على دولته القومية ،والإخوان يخشون على مشروعهم الديني،وإسرائيل تخشى على أمنها القومي، وإيران تخشى على حليفها الاستراتيجي الذي يمثل لديها عُمقاً جغرافياً وسياسياً وأيدلوجياً هاما، وأمريكا والغرب يخشون على مصالحهم في المنطقة، وروسيا والصين كذلك ولكن يُضيفون لأنفسهم طموحات سيطرة ونفوذ ، ويعلمون أن معركة سوريا هي المدخل الرئيسي لتحقيق تلك الطموحات.
اجمالي القراءات
7615