قيل ضمن ما قيل أخيراً أن مسئولاً كبيراً بجهة سيادية قال للأقباط في مدينة الخصوص بمحافظة القليوبية أثناء الهجمات عليهم: "دا أنتم هاتشوفوا أيام سودة"، والحقيقة أنه من الحصافة عدم تصديق أو تكذيب أي مما ينتشر الآن في وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت، فالأكاذيب والتلفيقات تختلط بالحقائق بصورة مذهلة، ومع ذلك فالمقولة السابقة سواء قيلت أم لم تقل من قبل من نسبت إليه فهي صحيحة بكل تأكيد، فالشعب المصري عموماً، ومن بينه الأقباط خصوصاً وبصورة مضاعفة مقبلون على أكثر الفترات سواداً في التاريخ المصري، لذا فما نشهد الآن من اعتداءات وحشية على الأقباط رغم أنها امتداد لتاريخ بدأ مع بداية سبعينات القرن الماضي، إلا أنها مرشحة الآن لتأخذ منحى جديداً أشد خطورة ووبالاً.
الاختلاف بين عصر مبارك وعصر الإخوان في الموقف من الاعتداءات على الأقباط، هو أن نظام مبارك كان عاجزاً ومتستراً على ما يفعله كوادر ومناصرو الإخوان والسلفيين، الذين يقودون الغوغاء للقيام بهذه الاعتداءات، أما الآن فنظام الحكم يقف متفرجاً سعيداً فيما بينه وبين نفسه، فيما رجاله في الشارع يقومون بنفس المهمات الجهادية التي أدمنوها، وبالطبع يقوم رجال النظام أيضاً بذات مهمة التموية والمغالطة والتدليس.
تقول نظرية المؤامرة أن نظام مبارك كان يصطنع الفتنة الطائفية ليلهي الناس ببعضها البعض، وأن الإخوان الآن يفعلون نفس الشيء، ليحيلوا الصراع السياسي الموجه ضدهم إلى وجهة أخرى، هي الصراع بين المسلمين والأقباط أو بين الإسلام والمسيحية، بما يوفر لهم شعبية هائلة بدلاً من التآكل الراهن لشعبيتهم، ونحن وإن كنا نرفض ذلك القفز المريض في كل مشاكلنا إلى نظرية المؤامرة اللعينة، دون استناد إلى أي دلائل حقيقية بخلاف تلك التهويمات المعتادة، فإن أشد ما يقلقنا هو أننا هكذا نتستر على الفاعل الحقيقي، وما يفضي له هذا ليس فقط من إفلات للجاني من القصاص والردع، ولكن أيضاً إلى بقاء الحال على ما هو عليه، فتظل العناصر المولدة لتلك الحالات الجنونية من الإجرام الجمعي الشعبي ضد أخوة الوطن تمارس فعلها بل وتتفشى أكثر، فيما نحن كل يغني على ليلاه، ويشير بإصبع اتهامه لمن يروق له من الأعداء الذين يستهدفهم.
في كل من حالتي عصر مبارك وعصر الإخوان لا نظن أن هناك تدبيراً أو تخطيطاً مسبقاً للاعتداءات الطائفية الوحشية على أقباط مستضعفين، فهي ممارسات طبيعية وتلقائية ناتجة عن تفشي وباء التعصب الذي تلعب الدور الأبرز فيه عدد من القنوات الفضائية وجيوش جرارة من خطباء المساجد، لهذا نقول أن اضطهاد الأقباط غير ممنهج حتى الآن، ويتم "حسب التساهيل"، لكن الأيام دول، فكما روج الإخوان لإلصاق تدبير مذبحة القديسين بنظام مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي عدوهم اللدود، والذي استطاع في سنوات وزارته قهر وحش الإرهاب وإدخال ذئابه إلى الجحور، الآن يتم إلصاق تدبير الأحداث الطائفية بنظام مكتب الإرشاد، مع مراعاة أن كوادر الإخوان والسلفيين ومناصروهم هم من يقومون بالتنفيذ بالفعل، وإن كان دون تدبير من قمة هرم السلطة المصرية أو الإخوانية (إن كان ثمة فارق الآن بينهما).
في عصر مبارك كان المسؤولون يمارسون التمويه والتضليل عقب الاعتداءات الطائفية هرباً من المسئولية، أما الآن فهم يمارسون ذات التضليل حماية للأهل والعشيرة، وهذا في حد ذاته عجيب، فالآن والإخوان يحكمون البلاد من المفترض أن رغبتهم في حفظ النظام وهيبة الحكم تعلو على رغباتهم الدفينة والمعلنة في التنكيل بالأقباط، وكان المتصور أن يوجهوا كوادرهم في كافة أنحاء البلاد لوأد أي بوادر لاعتداءات طائفية، وهم من يتفاخرون أنهم جاءوا وفق أغلبية شعبية حقيقية، فأين إذن تواجدهم المتغلغل في الشارع المصري، إلا إذا كانوا لا ينتوون حفظ عهد الذمة لمن ينتوون تحويلهم من مواطنين إلى أهل ذمة؟!!
الأزهر ما زالت قيادته حتى الآن تلعب ذات الدور الوطني الوسطي المعتدل كما كانت في أيام مبارك، وهذا لا يرجع فيما نعتقد إلى ما يقولون أنه "وسطية" فكر مؤسسة الأزهر بصورة عامة، وإنما إلى طبيعة شخصيات قادته التي كان يتم اختيارها بعناية في العهود السابقة، وهو الأمر الذي نتوقع عكسه تماماً في العهد الحالي، خاصة بعد أن يتم له عاجلاً أو آجلاً التمكن من السيطرة على الأزهر، فقيادات الأزهر المستنيرة المتسامحة هذه لم تقدر أو تجرؤ على تغيير المناهج الدراسية لطلاب الأزهر الذين تزايدت أعدادهم في الفترة الماضية بصورة كبيرة جداً، بانتشار المدراس الأزهرية، بالتوازي مع تصاعد المد الديني، ونعرف جميعاً ما هي مقررات التعليم الأزهري، وأنها باليقين لا تؤدي إلى تربية إنسان "وسطي" و"متسامح"، وإنما تمثل الحضانة التي ينشأ فيها من يلتحقون بالتنظيمات الراديكالية الدينية باختلاف تنويعاتها، وإن كانت أعداد لا بأس من هؤلاء الطلاب تنتهج نهج الوسطية المصري المتفق مع طيبة ومسالمة الإنسان المصري بشكل عام، وتنحي في خلفية ذاكرتها ما قد تلقنته طوال فترة دراستها الأزهرية، وهنا نستطيع باطمئنان أن نحمل الأزهر بمؤسساته التعليمية مسئولية تدهور التوافق الوطني وتفشي التعصب الديني، بأكثر مما نحمل تنظيمات الإخوان والسلفيين، فتأثير الأزهر الكمي نتيجة الانتشار الواسع، يفوق تأثير هذه الجماعات الكيفي المتمثل في عنف وتعصب خطابها، وهو ما نضعه على طاولة "بيت العائلة"، الذي يقول أنه يدرس أسباب العنف الطائفي بمنج علمي رصين.
الكنيسة القبطية أيضاً لها تاريخها الممتد لأربعة عقود ماضية على الأقل، إن لم يكن هذا حالها منذ القرن السابع الميلادي، في تهيئة الأقباط لكي يكونوا ذبيحة سهلة الهضم في أمعاء ذئاب الهوس والتطرف الديني، وقد احترف بطاركتها وأساقفتها باسم "الحكمة" في معالجة الأمور بيع الأقباط بثمن بخس، مقابل الحفاظ على كراسيهم وسلطانهم وثرواتهم التي يمتصونها من دماء الأقباط الأتقياء، وقد أقنعوا الأقباط أنهم "ليسوا من العالم الذي وضع في الشرير" وأن "لهم وطناً آخر سماوياً"، لذا ينبغي عليهم أن"لا يحبوا العالم ولا الأشياء التي في العالم"، ليصبح المتشبعون بخطاب الكنيسة كما جثث هامدة سياسياً ووطنياً، وقد ارتضوا ضمنياً بأن يكونوا "أهل ذمة"، لا يستشعرون أن شيئاً ينقصهم إلا أن يكون لدى الطرف الآخر بعض"الذمة" فيحفظ عهد "الذمة" المتفق عليه ولو "من تحت الطاولة"!!
طريف أن يستمر أسيادنا الأساقفة على ما دأبوا عليه في عهد "معلم الأجيال المتنيح"، فنجد مانشيتاً يقول "الأنبا موسى:أداء الشرطة أثناء الاعتداء على "الكاتدرائية" كان"لطيفاً"". . ونحن بدورنا لا نطالب أساقفة "معلم الأجيال المتنيح" بما يفوق طاقتهم وهو أن يكونوا رجالاً مخلصين، فقط نطالبهم بالتزام الصمت عملاً بالمثل الشعبي المصري "إن خوفت ماتقولش، وإن قلت ما تخافش"، فهل هذا صعب عليهم؟!!. . العجيب أنني لاحظت أن بعض الأقباط الذين يهاجمونني بضراوة لنقدي تدليس بعض الأساقفة، لا يؤيدون أو يعلقون على تأييدي لمواقف البابا تاوضروس والمجلس الملي الرجولي والوطني المخلص إزاء الأحداث الأخيرة، فهل أفهم من هذا أنهم يفضلون من يقدمون لهم المخدرات التي أدمنوها، على من يدفعونهم للاستيقاظ من سبات جميل لا يكلفهم عناء الحركة حتى لو كانت سلمية، أم أن ملحوظتي غير صحيحة من أساسها؟!!. . عموماً لقد تعود الأقباط على العيش محنيي الرؤوس طوال 14 قرناً، ولم تكن لديهم مشكلة أو اعتراض على ذلك، لكن الضربات الموجعة التي توجه إليهم الآن سوف تحرضهم على المطالبة بأن يعيشوا كبشر ومواطنين كاملي الحقوق، هكذا يكون الشكر واجباً لذئاب الإرهاب والغوغاء الذين يدفعون الأقباط الآن دفعاً للاستيقاظ من غيبوبة القرون الطويلة!!
واضح من مواقف الأنبا تاوضروس من الأحداث الأخيرة أن بابا الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الجديد يمتلك مقومات ما نسميه"رجولة وإخلاص"، وهذا كل ما كان يفتقده الأقباط، وبعض ما يفتقده الوطن، وأتمنى أن تصدق توقعاتي أن تكون مدرسة التدليس التي استشرت في عهد "مبارك والأنبا شنودة" قد انتهت بتولي الأنبا تاوضروس، وأن نكون الآن بصددنا لوضع الشعب المصري وزعمائه الشعبيين وحكامه وقواه السياسية أمام مسئوليتهم تجاه أمن مصر وسلامة وحدتها الوطنية، وأتوقع لو استمر الأنبا تاوضروس على موقفه الرجولي المخلص، أن يصير قريباً أيقونة لكل أحرار مصر باختلاف عقائدهم وانتماءاتهم. . معاً لنبني مصر الجديدة الحرة، فتحت راية الوطنية المصرية ينبغي أن يجتمع كل شرفاء هذا الوطن، لصد الهجمة الظلامية التي تحاول اجتياحنا. . مصر أبداً لن تموت!!
kghobrial@yahoo.com
المصدر ايلاف
اجمالي القراءات
6417