كتاب : أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية
الفصل الثالث : أثر التصوف في انهيار الدولة المملوكية .
مدخل للفصل :ـ
عرضنا لدور التصوف في قيام الدولة المملوكية ( بحرية وبرجية ) وكيف تحالف الصوفية مع المماليك ونعموا بالغنائم السياسية على حساب ( الشعب ) الرعية طيلة الحكم المملوكي . ويأبى التصوف إلا أن يكون له دور في انهيار الحكم المملوكي فى هزيمته أمام العثمانيين في مرج دابق سنة 922هـ . والغريب أن الدولتين ( العثمانية ، المملوكية ) تنتميان معا للمذهب السني ضد عدو مشترك هو الشاه إسماعيل الصفوي حاكم إيران المتشيع الذي كان يسعى لنشر التشيع في البلاد المجاورة طمعا في مد نفوذه السياسي . وقد أدى موقفه إلى تحالف بين العثمانيين والمماليك ضد أطماع إسماعيل الصفوي الشيعى ، وقابل الشاه إسماعيل هذا التحالف السني ضده بالوقيعة بين عدويه السنيين ـ المملوكي والعثماني؛ـ فاجتذب المملوكي إلى صفه وجعله يحارب العثمانيين على غير استعداد تام منه لحربهم وعلى غير نية حقيقية من العثمانيين لتدمير الدولة المملوكية .وانتهى الأمر بانهيار الدولة المملوكية بسرعة لا يتخيلها المرء حين يتذكر أن قدوم الغوري الى حلب كان لمجرد حجة الإصلاح بين السلطانين المتنازعين ( الصفوي والعثماني ) . وهذا الانهيار المفاجيء يشي بضعف الدولة المملوكية من الداخل علاوة على تقاعس حلفائها عن نصرتها وقت الشدة .. وهنا دور الصوفية في الداخل .
وقد يسأل سائل : وما صلة التصوف بإسماعيل الصفوى والذي أدت جهوده لإسقاط الدولة وكان سببا مباشرا في انهيارها؟ .والجواب أن إسماعيل الصفوي يدين بالتصوف المتشيع وقد ولد في بيت صوفي ولقبه في المراجع المعاصرة له هو ( إسماعيل الصوفي ) ..فالتصوف سبب مباشر في انهيار الدولة المملوكية من الخارج .. والتصوف سبب مساعد في ضعف الدولة داخليا . كما أن الصوفية ـ وهم حلفاء الدولة ـ تخلوا عن المماليك في محنتهم بل وقدموا يد المساعدة للغازي العثماني ..ونحن بصدد تفصيل ذلك كله ..
دور التصوف في انهيار الدولة المملوكية من الخارج: إسماعيل الصوفي ( الصفوي ) وانهيار الدولة : 1ـ هناك صلات عقائدية وتاريخية تربط التصوف بالتشيع لفتت نظر بعض الأعلام في العصر المملوكي كابن تيمية الذي كان عدوا للصوفية والشيعة في عهده . وهو القائل ( أن الصوفية كالرافضة ـ يعنى الشيعة ـ من عادتهم تخريب المساجد وتعظيم المشاهد ) [1] .
وقارن ابن خلدون بين آراء الصوفية وآراء الشيعة الإسماعيلية [2] فوضع مؤشرا هاما للباحثين المعاصرين وأبرزهم كامل الشيبي الذي أفرد مجلدا ضخما تحت عنوان ( الصلة بين التصوف والتشيع ) انتهى فيه إلى أن هناك تطابقا بين النظم والمعتقدات الشيعية والصوفية في القول بالعلم اللدني والعصمة والكرامات والشفاعة والتقية والتفسير ـ كمقدمات للولاية عند الصوفية والإمامة عند الشيعة مع التشابه الكبير بين الفريقين في النظم والرسوم مثل الخرقة والصحبة والسلاسل والطرق .. الخ [3].
وحين علا نفوذ التصوف فيما بعد القرن السابع الهجري اتخذت الحركات الشيعية الوجه الصوفي ، وشهد المشرق ـــــ وهو موطن التشيع والتصوف ــــــ نجاحا في هذا المضمار، و نجح إسماعيل الصوفي ( وهذا لقبه في المراجع التاريخية المعاصرة ) في تأسيس دولة صوفية شيعية تسعى لمد نفوذها الديني والسياسي في العالم السني [4] المحيط بها ، فاصطدم بالعثمانيين والمماليك في وقت واحد، ثم انتهت جهوده بالقضاء على أحدهما بيد الأخرى .
والعلاقات بين الأطراف الثلاثة ( إسماعيل الصوفي ، الغوري ، سليم العثماني ) متشابكة ويسودها الغموض ولتيسيرها يمكن تقسيمها وتتبعها في مرحلتين : الأولى :ـ ظهور إسماعيل الصوفي كخطر يهدد العثمانيين والمماليك على السواء ، والثانية :ـ تحالف الغوري مع الصوفي وأثره في انهيار الدولة المملوكية .
المرحلة الأولى :ـ ظهور إسماعيل (الصوفي) الصفوى كخطر يهدد العثمانيين والمماليك .
1ـ في سنة 905 ظهر ببلاد العجم شاه إسماعيل بن الشيخ حيدر بن جنيد بن إبراهيم بن سلطان خوجة شيخ على بن حيدر بن صدر الدين موسى بن صفى الدين إسحاق الأردبيلي .
2ـ وكان صفى الدين صاحب زاوية في أردبيل ،وله سلسلة في المشيخة الصوفية أخذها عن الشيخ زاهد الكيلاني وبعده جلس ولده صدر الدين موسى الذي اعتقده السلاطين وقبلوا شفاعته ، ولا سيما تيمورلنك ، ولما تشيع حفيده حيدر كثر أتباعه ومريدوه بأردبيل ، فخافه السلطان جهان شاه صاحب أذربيجان، فأخرجهم من أردبيل ، فتوجه الشيخ حيدر إلى ديار بكر، وصاهره أوزون حسن بك ( حسن الطويل ). ولما استولى صهره ( حسن الطويل ) على أذربيجان عاد الشيخ إلى أردبيل ، وتزايد أتباعه. فلما توفى أوزون حسن بك تزوج الشيخ حيدر من ابنة السلطان يعقوب، فولدت له شاه إسماعيل سنة 892 . وشارك الشيخ حيدر في النزاعات السياسية المسلحة مستعينا بأتباعه الذين عرفوا ( بالقزلباش ) . وقُتل الشيخ حيدر وأُسر ولده إسماعيل وهو طفل ، فعرف الكفاح والهزائم منذ صغره، وتابع أباه في طريقه معتمدا على دعوته الشيعية الصوفية حتى تزايد أمره ( واستولى على ساير ملوك العجم وخراسان وأذربيجان وتبريز وبغداد وعراق العجم وقهر ملوكهم وقتل عساكرهم ، بحيث قتل ما يزيد على ألف ألف ، وكان عسكره يسجدون له )[5] .
خطر إسماعيل الصوفي على الدولة العثمانية
اتجهت الفتوحات العثمانية قبل سليم الأول إلى البلقان وأوربا، ثم تحولت في عهد سليم الأول نحو الشرق لأول مرة ، حيث انشغل سليم بمواجهة الخطر الشيعى الصفوى الزاحف من الشرق إلى صميم الأملاك العثمانية [6] . كان بإمكان إسماعيل الصوفي أن يترك العثمانيين والمماليك فى حالهم ، ويتفرّغ لمواجهة الغُزاة القادمين من اواسط آسيا ، خاصة وأن العثمانيين لم تكن لهم مطامع آسيوية بعيدة ، واكتفى المماليك في مصر والشام بموقف الدفاع ضد الهجوم الإيراني . ولكن مطامع الشاه كانت واسعة المدى ، شجعها ما اتصف به بايزيد الثاني( والد سليم ) من اتجاهات سلمية، فنشر إسماعيل الصفوى دعايته الشيعية في الأناضول وحول قونية بالذات ، وتمخضت عن ثورة مسلحة، قادها داعي دعاة الشاه الشيعي ( الشاه قول ) ضد العثمانيين ، والذي استطاع هزيمة الصدر الأعظم العثمانى وقتله . بل أن الصلة توثقت بين الثائر الشيعي ( الشاه قول ) وبين الأمير قرقد بن السلطان بايزيد الثاني الطامع في عرش أبيه..[7]
ووقع تحت تأثير التشيع الأميران شاهنشاه ومراد ابنا الأمير احمد أخي السلطان سليم ، وهذا معناه تهديد الدولة العثمانية دينيا من الداخل فضلا عن تهديدها من الخارج سياسيا ..[8] .
وكان الخطر الشيعي هو الدافع لثورة سليم على أبيه السلطان وأخوته ، وساعدته الإنكشارية فقد وجدت فيه رجلها المنشود الذي يصمد أمام الشاه فأجبروا بايزيد الثاني على التنازل لابنه سليم [9] .
ولم يكن سليم بعيدا عن الخطر الشيعي حيث أبعده أبوه إلى طربيزون واليا عليها، فراقب تحركات الشاه العسكرية ودسائسه وتصرفات أخيه قرقد ، وقد ثار على تساهل والده تجاه ثورة الشاه ( قول ) الشيعية. وبتولي سليم العرش العثمانى وطّد مركزه الداخلي، ثم تفرغ لمواجهة الشاه، فذبح الشيعة في الأناضول، ونقل باقيهم إلى أوربا العثمانية ليضمن مؤخرته في أي صراع قادم مع الشاه.
ويرى توينبي أنه من المستحيل على الإيرانيين تثبيت أقدامهم في الأناضول كما أنه من المستحيل على العثمانيين إيجاد فتوحات لهم في إيران لأن القوتين متوازنتان ، لذا كان لا بد من البحث عن قوة ثالثة ترجح إحدى الكفتين. وتهيأ المسرح لدخول الدولة المملوكية حلبة الصراع [10] .
ومعنى ذلك أن دور المماليك سيكون معاونة احد الخصمين ..
خطر إسماعيل الصوفي على الدولة المملوكية
1ـ وكان من المتوقع أن ينضم الغوري إلى العثمانيين السنيين ضد الشاه الشيعي الذي بدأ بالعدوان على الممتلكات المملوكية في الشرق ، لولا أن الشاه استطاع استقطاب الغوري إليه بما أوتى الشيعة من مقدرة على الدسائس وبما لهم من أعوان داخل الدولة المملوكية. وبذلك تمكن الشاه الشيعي أن يتحاشا اتحاد القوتين السنيتين على حربه ، واحتل مقعد المتفرج يشهد دولة سنية فتية ( العثمانية ) ــ لا مطامع لها ــ تُجهز على رفيقة لها هرمة ( الدولة المملوكية ) أتى بها ( الشاه ) من مأمنها لتلقى مصرعها عند حدوده، فلا يمد لها يد العون .!!..
ونعود إلى ترتيب الحوادث التاريخية لنصل إلى هذه النتيجة ..
2ـ يقول ابن إياس المؤرخ المعاصر لهذه الفترة :ـ
(أ) سنة 908 ( جاءت الأخبار من حلب أن خارجيا تحرك على البلاد، يُقال له: شاه إسماعيل الصوفي ، فلما جاءت الأخبار إلى القاهرة اضطربت الأحوال، وجمع السلطان الأمراء ، وضربوا مشورة في أمر الصوفي . وعين السلطان تجريده )[11] .
(ب)وفى سنة 913 ( وفيه جاءت الأخبار من عند نائب حلب بأن إسماعيل شاه الصوفي قد تحرك على بلاد السلطان ، ووصل أوائل عسكره إلى مالطية، وحكوا عنه أمورا شنيعة في أفعاله . فلما بلغ السلطان ذلك تنكّد إلى الغاية، وجمع الأمراء، وضربوا مشورة في أمر الصوفي، فأشار الأمراء بأن يرسل إليه تجريده فنادى للعسكر بالعرض، فطلع العسكر قاطبة إلى القلعة، فعرضهم . وكان قاصد ابن عثمان حاضرا .. ثم جاءت الأخبار بأن عساكر الصوفي عدّت من الفرات ، ووصلت إلى أطراف بلاد السلطان، وأن على دولات جمع التركمان وتحارب معهم واستعد العسكر بعد إهمال .. وانفق السلطان على العسكر، بعد إن كان قد أخر النفقة ، ثم عزم السلطان على قاصد بن عثمان في قاعة البحرة ، فأظهر في ذلك اليوم غاية العظمة برسم جماعة القاصد وعند انصرافه اخلع عليه ، ثم حضر من لدن العثمانيين أحد من خواص السلطان العثماني فأكرمه السلطان) [12]
( ثم حضر قاصد من عند على دولات ، واخبر بأنه كسر عسكر إسماعيل الصوفي، وأرسل عدة من رءوس القتلى ، وأسيرا من الأمراء على رأسه طرطور أحمر، فعلق الغوري الرؤوس على باب زويلة، وأبطل أمر التجريدة التي عينها إلى الصوفي .. واخلع على قاصد بن عثمان خلعة سنية ) [13] .
ثم بعث إسماعيل الصوفي برسل يعلمون الغوري أن ما وقع من عسكره حدث بدون علمه ، فأكرم الغوري القاصد وجماعته ( وكانوا في غاية الغلاسة ) على حد قول ابن إياس ..[14] .
ابن إياس لم يكن مؤرخا رسميا ينقل وجهة النظر الرسمية للأحداث وإنما هو أقرب للتعبير عن وجهة نظر الرأي العام لتلك الفترة .
ونلمح ذلك من خلال تعبيره عن الاستفزازات التي قام بها إسماعيل الصوفي على الحدود المملوكية والتي ترد أخبارها من الوالي المملوكي في حلب .
وحين سجل ابن إياس أخبار الصوفي نعته ( خارجيا تحرك على البلاد يقال له شاه إسماعيل الصوفي ) وكان ذلك سنة 908 ، فكانت المعرفة بالصوفي ضئيلة لم تسمح لابن إياس إلا بالاقتضاب في القول ، ولم يمنعه الاقتضاب من ذكر اضطراب الأحوال في القاهرة بسبب هجوم على الحدود البعيدة ، مما يدل على أهمية الأمر رغم قلة المعلومات لدى الرأي العام الذي يمثله ابن إياس. وأدى ذلك الاضطراب إلى عقد مجلس سلطاني أسفر عن إرسال حملة تأديب .
وحديث ابن إياس عن الصوفي سنة 913 فيه تفصيل كثير لتحركات الصوفي وموقف الغوري ومواجهة أمراء الحدود المملوكية للهجوم الإيراني ، ولكن الجديد الذي أورده ابن إياس هو حضور مبعوث عثماني لدى الغوري وإكرامه لذلك (القاصد ) ، ثم حضور سفير عثماني آخر تمتع بإكرام الغوري ووصفه ابن إياس بقوله ( ثم حضر من لدى العثمانيين أحد من خواص السلطان العثماني فأكرمه السلطان ) أي أن هناك مراسلات بين العثمانيين والمماليك واستهدف مواجهة الخطر الشيعي المشترك . ولابد أن تصل هذه الاتصالات إلى تحالف مشترك بازدياد الخطر الإيراني . وهذا ما كان متوقعا، لولا أن غير إسماعيل الصوفي من خططه تجنبا لتحالف غريميه السنيين عليه كما سيظهر فيما بعد. إلا أن ذلك لم يحدث إلا بعد أن جرّب إسماعيل مع الغوري صنفا آخر من التهديد هو التهديد الداخلي بالإضافة إلى تهديده الخارجي وهذا ما سنتعرف عليه من خلال كتابات ابن إياس ..
3 ـ وتلك المناوشات التي قام بها إسماعيل الصوفي من قبيل جس النبض قبل الدخول فى معركة حاسمة . ويلاحظ أن الشيعة قد قاموا بثورتهم في الصعيد سنة 911 بإيعاز من إسماعيل الصوفي. ولكن بفشل ثورتهم بحث الشاه الصوفي عن حلفاء آخرين أو كما يقول ابن إياس ( قبض على جماعة من عند إسماعيل الصوفي ومعهم مكاتبات منه إلى بعض ملوك الفرنج بأن يكونوا معه عون على سلطان مصر، وأنهم يأتون مصر من البحر ويأتي هو من البر ..) ومما يذكر أن الفرنجة قد استولوا في هذا الشهر على طرابلس الغرب ( وقد قبض شريف مكة على ثلاثة منهم متنكرين) ...[15]
وفى تلك الأثناء كان عسكر الشاه اسماعيل الصوفي يهاجم أطراف البيرة المملوكية من ناحية الشرق ، وخرجت تجريدة يقودها أزيك خان فانتصر عليها الشاه الصوفي وقتله ( فتنكد السلطان ( الغورى ) لهذا الخبر، وأقام الأمراء عنده إلى قريب الظهر يتشاورون بسبب ذلك . وكان أزبك خان ضد الصوفي وكان مشغولا بمحاربته عن ابن عثمان وسلطان مصر ، فلما أشيع قتل أزبك خان خشي السلطان من أمر الصوفي أن يزحف على البلاد ) [16] .
واتبع الشاه اسماعيل الصوفى سياسة التهديد مع الغوري ، فبعث له بقاصد يحمل رأس أزبك خان مع أبيات من الشعر يفخر فيها بقوته وتشيعه ، ورد الغوري عليه بأبيات صنعها له صفى الدين الحلبي. ومع ان الغورى أقام الاحتفالات لقاصد الشاه الصوفي إلا أنه منع الناس من زيارته وجعله كالمعتقل .
ووجد الشاه الصفوى الصوفي في الأعراب أعوانا له ، فثاروا علي الغوري، أو كما يقول ابن إياس ( تحالفت سبع طوائف من العربان بأن يكونوا يدا واحدة على العصيان ) ، هذا في الوقت الذي وصلت فيه عساكر الشاه الصوفي إلى البيرة، وانضمام جماعة من عساكرها إلى الصوفي . وخاف الغوري تحركات الأشراف فاخرج عنهم ( شيئا من الجهات الموقوفة عليهم )( وعقد مجلسا بالقضاة الأربعة للبحث فيمن اتهم بادعاء النسب الشريف ) منهم مخافة أن يكون بينهم من ادعى النسب وهو جاسوس للشاه الصوفي ..
ثم وصل قاض من الشاه الصوفي بعبارات (يابسة ) على حدّ قول ابن إياس ، و رد الغوري بمثلها وقد ( أفحش الصوفي في حق تمرباي قاصد الغوري ). ومع ذلك وربما بدافع الخوف والملق فإن الغوري قد أوكب المواكب لمقابلة ( قاصد ) الشاه الصوفي ، وكان هذا السفير غليظا شديد البأس . ووصل قاصد ابن عثمان وأشيع أنه تنازل عن الحكم لولده سليم ، وجاء الخبر بوفاته ، وبكى عليه السلطان [17] .
4ـ وقد أدت جهود الصوفي إلى تقارب بين العثمانيين والغورى، ظهرت في إكرام الغورى القاصد العثماني كما أتضح من كلام ابن إياس ، بل أن الغوري توسط للصلح بين الأمير قرقد الذي جاء لمصر مغاضبا لأبيه السلطان بايزيد وبالغ في إكرامه واستجاب لشفاعته في بعض الأمراء ثم عاد الأمير العثماني لبلاده شاكرا [18].
وبعث الغوري الأموال ليشترى الأخشاب والبارود والحديد من الدولة العثمانية فرد السلطان العثماني المال وبعث بمراكب محملة بها. ووصل من لدنه قاصد يمتدح فيها الغوري ويستفسر عن وصول المراكب [19] . وبعد ذلك بعام أرسل الغوري قاصدا لشراء مهمات أخرى فأكرمه ابن عثمان ـ وكان السلطان سليم قد تولى فأرسلها في مراكب موسوقة. [20] .
وكان فرار الأمراء العثمانيين ـــــ إبان التنازع على العرش ـــــ فرصة يتلقفها السلاطين المجاورون للضغط السياسي على الدولة العثمانية . وقد آوى السلطان برسباي أميرا عثمانيا [21] ، واحتفظ به ورقة رابحة ضد عمه السلطان مراد العثماني . واختلف الحال في عهد الغوري أثناء صفائه مع سليم ، ولقد فرّ الأمير سليمان إلى الغوري ، وفرّ والده احمد بك من أخيه السلطان سليم إلى الشاه إسماعيل الصوفي .ولم ينشرح الغوري لفرار الأمير سليمان إليه ، وخشي من إغضاب السلطان سليم ، فبعث قاصدا لسليم يهنئه بالملك ( ولنسج المودة بينهم ) . ورغم اضطراب الأحوال في القاهرة وانتشار الطاعون في مصر وتوعك الغوري إلا أنه بعث باقباي الطويل ( قاصدا للسلطان سليم على هيئة حسنة لم تتفق لقاصد قبله حتى عد ذلك من النوادر مع أن هذه كانت سنة الطاعون. ). واختلف موقف الغورى فيما بعد ، فالغوري حين عزم على محاربة سليم استقدم الأمير العثماني قاسم بن احمد سرا ( نكاية في عمه )[22].
وبدت بوادر التحالف بين الغوري وبايزيد الثاني العثمانى لمواجهة الشاه إسماعيل ، يقول بايزيد في رسالة للغوري ( ... وأما قصة غلبة الفرقة الضالة القزلباشية في البلاد الشرقية فإنها بلية عامة ظهرت في تلك النواحي ، فدفعهم لازم ، بل واجب على الأداني والأقاصي ، فالمقصود من دفعهم واستيصالهم بعناية الملك العلام الموافقة والاهتمام ، لأنهم أهل البدع والضلالة وأصحاب الشر والشقاوة. كلهم روافض ..) [23].
وقد أرسل الغوري إلى بايزيد الثاني رسالة يحث فيها على محاربة القزلباش وعرض عليه المساعدة وقال بوجوب محو ( فئة الصوفية والملاحدة القزلباش ) ومريديهم، وأنه أصدر أوامره إلى أمراء الحدود للاستعداد بجنودهم ، كما أرسل إلى ولايات الحدود لجمع الجنود، وأن الأمير جلال الدين قانصوه سيشترك في الحرب بجنوده مع العثمانيين ضد القزلباش ( لأن حضرة سلطان الحرمين (الغوري ) حفظ الله ملكه مهتم غاية بهذه الأمور وملتزم بها اشد الالتزام )[24].
المرحلة الثانية : ـ تحالف الغوري مع الشاه اسماعيل الصوفي وأثر ذلك في انهيار الدولة المملوكية
1ـ واخفق الشاه إسماعيل في سياسته ضد الغوري ولم يجن منها إلا مزيد التقارب بين الغوري والعثمانيين . ويبدو أنه شعر بخطورة السلطان سليم بعد والده المسالم . وشعر باقتراب اللحظة الحاسمة للصراع بينه وبين السلطان الجديد المتحمس للقضاء على الخطر الشيعي، فبذل وسعه في إزالة الخلاف بينه وبين الغوري وعقد أواصر التآلف بينهما في جو من السرية التي أتقنها دعاة الشيعة. وتوصل احدهم إلى أن يكون نديم الغوري ، فقد قام الشريف العجمي الشنقجي بدور هام في التحالف السري بين الغوري وإسماعيل الصوفي يقول ابن إياس: ( حضر إلى الأبواب الشريفة( اى لدى السلطان الغورى ) العجمي الشنقجي نديم السلطان، الذي كان توجه بأفيال إلى نائب الشام ونائب حلب ( للاستعانة بها في حرب العثمانيين ). وقد أبطأ مدة طويلة حتى أشاعوا موته غير ما مرة ، فظهر أن السلطان كان أرسله إلى شاه إسماعيل الصوفي في الخفية، في خبر سر للسلطان بينه وبين الصوفي كما أشيع بين الناس ذلك .. فلما كان يوم السبت خامس عشر ربيع الآخر خرج السلطان ... قاصد نحو البلاد الشامية والحلبية )[25] تنفيذا لذلك الاتفاق السري بين الغوري وإسماعيل الصوفي ( والذي لم تذكر المصادر شيئا عن بنوده )[26].
ويقول المؤرخ الغزي المعاصر للأحداث :( قبل معركة مرج دابق قرب الغوري إليه أعجميا كان ينسج المودة في الباطن بينه وبين شاه إسماعيل حتى أخرجه من مصر لقتال سليم بحجة الإصلاح بينه وبين الصوفي ) [27] .
وهكذا استطاع ذلك الرسول السري الصوفي الشيعي التأثير على الغوري وأن يخرجه من مأمنه إلى مقتله . بوسائل لا نعرف عنها شيئا .!!.
2ـ ولكن ما أثر ذلك التحول الجديد على العلاقات العثمانية المملوكية ؟
أـ قبل سلطنة الغوري استمرت العلاقات العثمانية المملوكية طيبة طالما لم يقع تدخل من جانب أحدهما في شئون الإمارات الواقعة بينهما والتي كان بعضها مشمولا بحماية المماليك والآخر تحت حماية العثمانيين [28] شأن الأمارات الصغيرة على حدود الدول الكبرى ، ومع ما كان يحدث بين الجانبين من شقاق مبعثه التنافس إلا أنه سرعان ما يعود الصفاء بينهما ، كما حدث من تنازع بين محمد الفاتح والظاهر خشقدم حول إمارتي زى الغادر وفرغان ، وتنازع قايتباي وبايزيد الثاني بسبب على دولات .[29] . ولكن الحال اختلف بظهور الشاه الصوفي الشيعي مناوئا للفريقين فتسبب في قضاء أحدهما على الآخر .
ب ـ فقد انعكست بوادر التحالف الجديد بين الغوري وإسماعيل الصوفي على الصراع بين الشاه الصوفي وسليم العثماني ، والذي حسمته موقعة جالديران سنة 920 ، فبدأت الشكوك تساور الغوري عندما تحرك سليم لقتال الصوفي ـ شأن من بدأ بالخيانة فحرك بعض قواته إلى حلب بحجة ( حتى نرى ما يكون من أمر الصوفي وابن عثمان )[30] وعرف سليم أثناء تحركه إلى جالديران بأن الشاه الصوفي طلب مساعدة الغوري ضد العثمانيين ، وأكد ذلك له تحرك بعض فرق الجيش المملوكي إلى حلب .[31]
جـ ـ ولم يحدث تصادم مباشر بين القوات المملوكية والعثمانية أثناء حربها مع الشاه الصوفي، وان قام أمير مرعش بإعاقة الإمدات العثمانية أثناء القتال، مما أثار سليم ، فقتل أمير مرعش ، وبعث برأسه إلى الغوري حليفه ، فأظهر الغورى حنقه وقال :( إيش أرسلي هذه الرءوس .. هي رءوس ملوك الفرنج انتصر عليهم ؟) واضطرب الأمر في القاهرة خاصة وقد ضم سليم إليه إمارة مرعش [32].
دـ ويذكر أن الغوري حين علم بانتصار سليم على حليفه الشاه اسماعيل الصوفي فى جالديران :( لم يرسم السلطان بدق الكوسات لهذا الخبر، وكذلك الأمراء اخذوا حذرهم من ابن عثمان ) وأرغم الغوري نائبه في الشام على أن يصهر إليه[33] ، ليضمن ولاءه في الحرب المقبلة بينه وبين سليم العثمانى .
والمراجع العثمانية المخضرمة عزت الفتح العثماني لمصر والشام إلى انقطاع الميرة بتأثير الجراكسة لتحالفهم مع إسماعيل الصوفي .[34]
ونصل إلى الصراع بين الغوري وسليم العثمانى، فالغورى ثار حين تحرك سليم للإجهاز على حليفه الشاه الصوفي ، وعمل الشاه الصوفي على أن يشغل العثمانيين بمواجهة الغوري ريثما يعيد تنظيم قواته ليجهز على المنتصر منهما ، فجعل الغوري يأتي ليصطدم بالعثمانيين المتجهين نحو فارس فكانت نهاية الغوري .
3ـ استعد الغوري وجهز عسكره ( وحلّف أمراءه على أن يكونوا يدا واحدة، وأشاعوا عزم سليم على حرب مصر ) [35]. ، أي أنهم تجهزوا لحرب العثمانيين وأشاعوا العكس أن سليم هو الذي ينوى الحرب .
وتحرك الغوري بجيوشه نحو حلب ، فأحسّ سليم العثمانى بالخطر الصفوي المملوكي ، فأرسل رسولين للغوري محاولا تحييده . ويقول سليم العثمانى في رسالته ، يعلل للغوري حربه للشاه اسماعيل الصوفي ( ... إن الطائفة الباغية التي اجتمعت في البلاد الشرقية حصلت منها أذية للعباد وتخريب للبلاد وسفك للدماء ... فلا جرم تضاعفت الأجور في غزوهم وجهادهم )، وفى نهاية الرسالة يلتمس منه ومن الصالحين ( الدعوات الصالحات لإعلاء كلمة الله وتنفيذ أحكام الشريعة ).
وقد اخبر جاسوس صوفي العثمانيين بأن القزلباش سيعاونون الغوري في الاستيلاء على قلعة روما مما أكد شكوك العثمانيين في تحالف الغوري مع الشاه اسماعيل الصوفي .
وأرسل الغوري لسليم العثمانى يعلل مجيئه بالجنود للشام بالصلح بينه وبين الصوفي لدفع الضرر عن أهل المنطقة ، وأن الشاه اسماعيل الصوفي قرر ألا يحارب العثمانيين بعد هربه الأخير . وأثناء مقام سليم في قونية أخبرته الجواسيس بقدوم الغوري ، فسار سليم في نفس الطريق الذي اجتازه قبلا في حربه للصوفي بينما وصل الغوري إلى حلب [36].
4ـ ولم ينخدع سليم في حجة الغوري في المجيء ، وأدرك دقة موقفه العسكري ، فجيش المماليك جد قريب منه ، وهو الجيش الذي هزم قوات أبيه في الماضي ، ويمكن أن ينضم هذا الجيش إلى جيش اسماعيل الصوفي. وقد أعلن سليم في 30 جمادى الآخر 922 أن المماليك إنما خرجوا متجهين نحوه، فقرر مجلس حربه في 5 رجب 922( أن الحرب مع الغوري لا يمكن تفاديها، وأن على السلطان( سليم ) أن يصرف نظره مؤقتا عن متابعة حربه مع فارس )[37] . وهذا الموقف كانت له دوافعه، وقد تأكد العثمانيون من هدف الغوري من المجيء بنفسه وجنوده لحربهم ، وقد وقع في يد سليم كتاب بعثه الغوري إلى إسماعيل الصوفي يتضمن ( أنني معك عليه ، وممسك قطري حذرا من أن يفر إليه .. ) وأفاد الجواسيس أن الغوري طلب المساعدة من الشاه اسماعيل الصوفي ..
استنفد السلطان سليم كل الوسائل السلمية من شرح أهدافه للغوري حتى أنه خاطبه في رسالة بقوله ( أنت والدي أسألك الدعاء ) ويطلب فيها إعادة الود والصداقة وأنه مستعد لإعادة إمارة مرعش ـ إلا أن الغوري أصر على حجته، وان هدفه الصلح بين الصوفي وسليم، وطلب من سليم في نفس الوقت جميع الأراضي التي كانت سابقا لأمير مرعش ليحكمها ابنه الذي فر إليه ، واشترط على سليم أن يمتنع عن محاربة الصوفي ـ ولأن بعثة قراجة التي أرسلها سليم الى الغورى ، وخوّلها عقد الصلح مع الغورى ـ تعرف أن سليم لن يوافق على الشرط الأخير، فقد ترددت في موقفها أمام الغوري، فما كان من الغوري إلا أن اعتقلهم، أي أنه أظهر لسليم العداء، ثم أرسل من طرفه بعثة عسكرية إلى سليم بحجة عقد الصلح. وفهم سليم أن غرضه هو التهديد ، فأمر بقتلهم، لولا توسط وزيره يونس باشا .
تلك هي الظروف التي اكتنفت قرار الحرب في المجلس العثماني وظهرت الأمور واضحة بين الفريقين بإعلان سليم للحرب على الغوري وقوله له :ـ ( ولما كانت همتنا العالية وعزيمتنا القوية منصرفة إلى الديار الشرقية لإحياء الشريعة الغراء اتضحت لنا بعض تصرفاتك التي لا تليق، والتي قصدت بها تقوية ذلك الملحد المفسد ذي العادات السيئة الذي لا يدين بدين، فقصدت إليك ذاتنا الهيمايونية لأنك أسوأ منه) ..[38]
أى إنه حتى حين أعلن سليم الحرب على الغوري فإن إسماعيل الصوفي استحوذ على ذهنه .. ورسالته ..
5 ـ ولكن .. هل كان سليم يطمع في الاستيلاء على الشام ومصر ؟..
إن استقراء الحوادث التاريخية ينفى ذلك .
فليست لسليم أطماع حتى في ممتلكات غريمه إسماعيل الصوفي الذي لا يكف عن الاعتداء عليه في عقر داره ، والذي كان ظهوره قلبا في استراتيجية الدولة العثمانية المتجهة في فتوحها نحو أوربا المسيحية . وقد صرح سليم في رسالته للغوري في محرم 922 بأن غرضه من تأديب القزلباش ( كان لمجرد إظهار النواميس الإلهية والشرائع النبوية .. ولم يخطر ببالنا الشريف حقيقة طمع في المملكة أو استيلاء على الديار واكتفينا بتفريق شملهم وكسر أنوفهم ... ويعلم الله ـــ وكفى به شهيدا ــ أنه لم يخطر على البال قط طمع في أحد من سلاطين المسلمين أو في مملكته أو رغبة في إلحاق الضرر به. لم يحدث ذلك، لأن الشرع الشريف ينهى عنه ) [39] . وإذا كان هذا هو الحال مع الصوفي فكيف يطمع سليم في حين سابق ـ في الدولة المملوكية ؟
وبهزيمة الغورى ومقتله فى مرح دابق تساقطت أمام سليم العثمانى بلاد الشام التابعة للدولة المملوكية . وزين له عملاؤه ـــ ومنهم بعض المماليك الذين إنضموا اليه ــ أن يواصل زحفه الى مصر ويستولى عليها ـ ولكن بعث سليم يستميل طومان باى الذى تولى السلطنة فى القاهرة بعد مقتل الغورى . وطلب سليم دخول طومان باى فى طاعته مع احتفاظه بمُلكه ، وكرر هذه الدعوة بعد هزيمة طومان وفراره للصعيد. وقد رضي طومان بأن يحكم باسم العثمانيين ولكن قتل بعض المماليك رسل العثمانيين ففشلت الوساطة .
والواقع أن سليم كان متخوفا من توغله في الشام ومصر ، وحين أصيب ببعض الخسائر صاح في خايربك ( أنت أغررتني وطمعتني في أخذ هذا الإقليم فأنظر كيف وحين تصنع وتدبر نفسك كيف تتصرف. وإلا فهي براسك ) وحين أسر طومان باى قال له سليم : والله ما كان قصدي أذيتك ونويت الرجوع من حلب ولو أطعتني من الأول وجعلت السّكة والخطبة بأسمى ما جيت لك و لا دست أرضك ) [40] .
الصوفي وسليم بعد وفاة الغوري
ولا بد أن إسماعيل الصوفي قد فوجيء بالانهيار السريع للدولة المملوكية غنيمة سهلة أمام خصمه العثمانى اللدود. وهذا الأتساع الجديد للدولة العثمانية ـ علاوة على ما فيه من مكاسب لسليم ـ فقد سد الطريق أمام إسماعيل الصوفي للتوسع غربا. ولم يعد أمامه إلا مواصلة ما برع فيه من دسائس اعتمادا على أعوانه من الشيعة في سوريا ومصر. ولم ينقطع عن نشاطه حتى موته بعد عمر قصير لم يتجاوز ثمانية وثلاثين عاما سنة 930 .
ولقد أرسل الصوفي رسالة إلى سليم بعد عودته من القاهرة إلى دمشق مؤداها ( ملكت كثيرا من البلاد .! استوليت على مصر خاصة وأصبحت خادم الحرميين الشريفين ، والآن أرضك أرض الإسكندر . لقد زال ما كان بيننا ولن يعود مرة أخرى . عد إلى مملكتك وأعود أنا إلى مملكتي فلنصُن دماء المسلمين سويا . أنني سأحقق رغبتك ومنيتك أيا كانت ) ولم يطمئن سليم إلى هذه الرسالة المعسولة ورفض عقد الصلح مع الشاه إسماعيل وأرسل الصدر الأعظم بيري محمد باشا على رأس ألفى جندي إلى ديار بكر لمرقابة تحركات الشاه [41] .
وواصل الشاه اسماعيل الصفوى الصوفى مساعيه في الشام اعتمادا على ما فيها من شيعة ، دار بعضهم في أسواق دمشق يندبون الحسين ، وأعتقل جاسوس بدمشق أقر بأن إسماعيل عزم على التوجه إلى آمد .
وراهن إسماعيل الصوفي على أطماع الأمراء المحليين ، وبدأ بابن حنش الأمير العربي الشيعي المقيم في صيدا ، وعُرف بشدته، فاستعان به الأمير جان بردى الغزالي وسلمه دمشق ليصد عنها العثمانيين بينما تابع مع الأمراء مسيره إلى مصر . وقبل ابن حنش تحمل المسؤولية ولا سيما وقد وعده طومان باى بتوليته على الشام إذا نجح في ذلك وعينه واليا على حمص إلا أن الأهالي اتفقوا على التسليم فرضخ ابن حنش للأمر الواقع ، خاصة وأن الإمدادات المملوكية لم تصله . ولكنه لم يكن مخلصا لسليم العثمانى ، والذي أحس بخطره كشيعي فأمر بعزله والقبض عليه .
وفى تاريخ ابن طولون[42] المؤرخ المعاصر للأحداث رائحة علاقات خفية بين ابن حنش والشاه إسماعيل الصوفي والمماليك المهزومين الذين اختبئوا عنده. وأخيرا ، ثار ابن حنش ، وانضم لثورته أمير شيعي آخر هو ابن حرفوش في سهل البقاع وابن فخر الدين المعنى الدرزي ، واستفحل أمر الثورة بعد مغادرة سليم دمشق إلى حلب. وانتهت الثورة بمقتل ابن حنش وابن حرفوش وهزيمتهما على يد جان بردي الغزالي . وكان سليم لا يزال في حلب [43] ..
وجرب الشاه إسماعيل حظه مع جان بردي الغزالي نائب الشام من قبل السلطان العثماني ، فثار على أسياده الجديد وفشل أيضا . وذكر الجواسيس أن إسماعيل الصوفي أخبر الغزالي بأنه جمع حوالي اثنى عشر ألف جندي لمساعدته ، وعلم العثمانيون بتحركات الغزالي المشبوهة في المنطقة [44] ..
وامتد نشاط الصوفي إلى مصر عن طريق داعيته ظهر الدين الأردبيلي، الذي اصطحبه سليم بعد أن دخل تبريز أثناء قتاله مع إسماعيل ، فأخذه سليم معه إلى بلاده ، وعيّن له كل يوم ثمانين درهما. ومع ذلك عمل الأردبيلي لصالح سيده السابق اسماعيل الصفوى الصوفى ، فاستمال أحمد باشا مملوك سليم ووالى مصر إلى التشيه ، وجعله يثور على سيده سليم ، وتسبب في قتله بعد فشل ثورته [45]..
دور المتصوفة في الداخل وقت انهيار الدولة المملوكية
كتاب : أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية
الفصل الثالث : أثر التصوف في انهيار الدولة المملوكي
دور المتصوفة في الداخل وقت انهيار الدولة المملوكية
انهار بناء الدولة المملوكية لتحالفها مع الشاه إسماعيل الصوفي ، وكان متوقعا أن يسارع الصوفية في داخل الدولة إلى نجدتها بحكم تحالفهم معها إلا أنهم على كثرتهم في نهاية العصر لم يقدموا نفعا للدولة في محنتها ، رغم كثرة ما قدمه الغوري وطومان باى في محنتهما من خدمات للصوفية لاستمالتهم وقت الشدة .
وان كان الصوفية في مصر قد تقاعسوا عن نجدة الدولة فان صوفية الشام ـ وحلب خاصة ـ تعاونوا مع العثمانيين ضد مصلحة الدولة الشرعية .. وسيتعرض البحث لتفصيل ذلك كالآتي :ـ
أ) ـ جهود الغوري في استمالة الصوفية :ـ
1ـ وصف ابن إياس آخر مولد نبوي أقامه الغوري للصوفية في مصر بأنه ( كان مشهودا وأبهج مما تقدم من الموالد الماضية، وأوسع في زينة الشرابخانة أكثر من كل سنة )[46] ، وقبل ذهابه الأخير أقام الغوري في خانقاه سرياقوس يوما وليلة بين الصوفية [47] ، وكان قد زار قبل ذلك أضرحة الشافعي والليث وتصدق في الصوفية هناك [48] ، بل أن جهد الغوري في استمالة الصوفية وصل إلى حد تقبيل يد الصوفي ابن عنان على مرأى من الشعراني [49] . القائل (.. وطلعت مرة مع سيدي أبى الحسن الغمري للسلطان الغوري في شفاعة فقام للشيخ وعضده من تحت إبطه وقال يا سيدي عززتني في هذا النهار فأنني ومملكتي كلها لا تفي حق طريقك .[50]
2ـ وفى حلب تابع الغوري سياسته في استمالة الصوفية بها ( فقرأ ختمة في الميدان الكبير بحلب حضرها الخليفة والقضاة ومشايخ الزوايا، وانعم على مشايخ الزوايا، لكل واحد منهم بخمسين دينارا، وانعم على الفقراء الذين سافروا صحبته ، لكل واحد منهم بعشرة دنانير، وأنعم على الفقراء الذين حضروا هذا الختم من فقراء حلب وغيرها ، لكل واحد منهم بخمسة دنانير )[51] .
ب) الصوفية المصريون مع الغوري في مرج دابق : ـ
1ـ اصطحب الغوري معه أعيان الصوفية المصريين رغم أنوفهم فحين عرض على خليفة البدوي الصحبة ( تعلل وأظهر أنه ضعيف ولا يقدر يسافر، فحنق منه السلطان، وألزمه بالسفر ولم يقبل له عذرا ) على حد قول ابن إياس [52]..وهكذا اصطحب الغوري معه ( السادة الأشراف القادرية والخلفاء الصوفية وابن شيخ مشهد السيدة نفيسة ).[53] . ووصل الغوري بحشوده العسكرية والصوفية إلى الشام. وشاهد المؤرخ الشامي ابن طولون مشايخ المتصوفة مع الغوري وذكر أسماءهم .[54]
2ـ واكتسب جيش الغوري المظهر الصوفي في معركة مرج دابق ، وذلك بترتيب الغوري نفسه، فجعل حوله أربعين مصحفا ( في أكياس حرير اصفر على رءوس جماعة أشراف . وكان حول السلطان جماعة من الفقراء ، وهم خليفة البدوي ومعه أعلام حمر ، والأشراف القادرية ومعهم أعلام خضر، وخليفة الرفاعي ومعه أعلام صفر. والشيخ عفيف الدين خادم السيدة نفيسة بأعلام سود ) فكان المنظر أقرب ما يكون إلى موكب المولد النبوي ، وحين هزم الغوري وهرب من حوله ( التفت للفقراء والمشايخ الذين حوله وقال له ادعوا الله تعالى بالنصر فهذا وقت دعاكم .. وفقد المصحف العثماني وأعلام الفقراء وصناجق الأمراء ) [55]..
وبعد تمام الهزيمة زجر السلطان سليم القضاة لأنهم لم يوجهوا سلطانهم التوجيه الصحيح، وأمر بقتل حملة الأعلام والمصاحف ومشايخ الطرق الصوفية [56]..
صوفية الشام بين الغوري والعثمانيين
1ـ قام بعضهم بمساندة العثمانيين في الشام بالرغم مما بذله الغوري لهم في حلب ، فقد أرسل صوفيتها إلى سليم يعرضون عليه الولاء والطاعة قبل حدوث المعركة ويقولون :( أن تخليصنا من يد الجراكسة بمثابة خلاص لنا من يد الكفار ) ،ويطمئنونه على ولائهم إذا دخل حلب، ويتعهدون بالوقوف إلى جانبه إذا هاجمه الغوري [57].. وقابل وفد منهم السلطان سليم، وسلموه مفتاح المدينة، فسلّمت جميع توابع المدينة [58]..
2ـ هذا في الوقت الذي نشط فيه الصوفية الأعاجم للتجسس لصالح العثمانيين ، فورد في رسالة سرية من حاكم الرها إلى سلطانه سليم (.. جاء إلى عبدكم أيضا رجل كردى يدعى الشيخ أحمد .. وحلف اليمين سرا ثم قال .. أن القزلباش سيعاونون السلطان المملوكي في الاستيلاء على القلعة، ويعتقد أهالي هذه القلعة أن السلطان المملوكي سيأتي إلى حلب، ثم يبعث برجل إلى القلعة، وفى هذه الحالة يسلمونها له ..ويجيب الشيخ أحمد على ذلك قائلا أنى أرى في هذه الحالة أنه من الواجب القبض على الرجل بسرعة واحتجازه في القلعة .. أرسلت إلى عتبتكم السعيدة الشيخ أحمد المذكور ) [59] .أي أن ذلك الصوفي لم يتجسس فقد وإنما شارك بالرأي .. وبهذا بكّر صوفية حلب بالتعاون مع العثمانيين وجاراهم الصوفية في بقية الشام :ـ
3ـ حيث تم تعاونهم مع العثمانيين على النحو التالي :ـ
أ ـ في بداية المعركة وقف الصوفية الظاهرون مع المنتصر دون تعيين بالاسم وذلك في وقت لم تعرف فيه نتيجة المواجهة يقول ابن طولون ( اجتمع في دمشق القضاة الأربعة والشيخ عبد النبي ومن يلوذ به من المرائين في جامع بنى أمية ، وقرأوا سورة الأنعام ودعوا للسلطان وعسكره و ألسنتهم ناطقة بالدعاء لمن قصده بالخير منهما ) [60] أي دعوا للمنتصر ..
ب ـ وبعد انتصار سليم في مرج دابق بدأ التعاون بينه وبين الصوفية في الشام يأخذ مجراه الطبيعي فذكرت لقاءات غامضة بينهم . يقول الغزي في ترجمة الشيخ البدخشي ( لما فتح السلطان سليم دمشق ذهب إلى بيت الشيخ المذكور مرتين وفى المرة الأولى لم يجر بينهما كلام ) [61]. وأنكر على الشيخ عبد النبي ذهابه مع الصوفية لمقابلة سليم .. ومع ذلك فقد كان سليم حريصا، فلم يجتمع بهم لما يعرفه عنهم من تعاون سابق مع المماليك ، لذا فإن عساكره حينما هاجمت دمشق ( لم يوقروا صغيرا ولا كبيرا ولا أهل القرآن ولا أهل العلم ولا الصوفية ) [62] كما يقول ابن طولون .
جـ ـ وآتت هذه الشدة أكلها، فقدم الصوفية المزيد من المساعدات المعنوية للعثمانيين تقربا لهم فأجاد ( ابن الفرفور في خطبته ،وذكر فيها السبعة الذين يظلهم الله بظله ومنهم الأمام العادل، وطبّق ذلك على ملك الروم مسجعا ، وذكر في الخطبة الثانية نسبه الدعاء له ولقبه بالملك المظفر. وصرح بأنه سلطان الحرمين وقبل الخطبة قرأ مؤذن الجامع عشرا من القرآن وقرأ الحافظ التبريزي عشرا من سورة مريم بصوت لطيف على طريقة العجم )[63]
أى الصوفية الأعاجم . وهكذا نظمت صلاة الجمعة كحفلة نفاق للسلطان العثماني، وبادر ابن الفرفور فلقب سليم بالملك المظفر وأعطاه السلطة على الحرمين . وهذه المبادرة من جانب الصوفية بالدعاء للسلطان سليم في الخطبة والدعاية له كانت مسوغا لمعاملة الصوفية معاملة خاصة، ففرّق العثمانيون بينهم المال الكثير .
دـ ــ وبذلك بدأ التعاون بين الفريقين يأخذ الصورة الجدية العلنية ، فكان الصوفية في الشام خير معين لسليم أثناء حربه مع طومان باي في مصر. يقول ابن طولون ( وردت مطالعة من نقيب الجيش إلى الشيخ عبد النبي بالإنكار عليه لمساعدة العثمانيين وتأييد ملكهم مع كونه خارجيا )[64]..
وفى هذا الوقت بدأت منامتهم الصوفية تأخذ مكانها كسلاح دعائي مع العثمانيين ، فأخبر ثلاثة منهم بأنهم رأوا النبي عليه السلام في المنام يأمرهم أن يذهبوا إلى ابن الكيال الواعظ ليجمع الناس ويدعوا للسلطان المظفر سليم بن عثمان ، ثم يتوجهوا بعد ذلك الواعظ ابن عراق و يفعلوا نفس الشيء: ( وغلب على رأى العقلاء أن هذه الرؤية مصطنعة من ابن الكيال وأنه بذل للرائين دراهم في مقابلة ذلك ) على حد قول ابن طولون .. [65] . والمهم أن الرؤيا المزعومة تحبذ جمع الناس أي تعقد اجتماعا عاما في مكانين مختلفين لتأييد العثمانيين بحجة أن النبي يأمر بذلك ..
وفى منام آخر يصف الصوفي سليما بأنه ( هذا الملك قد نُصر بالرعب مسيرة شهر، فأخذ الرائى العجب ، وقال أن هذا مخصوص بسيد العرب والعجم فلولا أنه على قدم الرسول ما أعطى هذا الأمر المهول ولا مانع من ذلك ، إذ الكرامة في حق الأولياء معجزة للأنبياء كما حققه الرائي في منامه ) [66] أي جعلوا من سليم وليا على قدم الرسول عليه السلام ينصر بالرعب مسيرة شهر حسب الحديث المشهور فى البخارى.
هـ ـ وأشيع في الشام هزيمة العثمانيين في مصر ، فتشجع أتباع المماليك في الشام ، فتصدى لهم الصوفية بالدعوات في المساجد والمنامات ( وتضرعوا أوقات الخلاوات...ثم في غضون ذلك قام رجل صالح بصالحية دمشق خطيبا وأعلن القول بما رآه في سنة الكرى ( أى المنام )ممتثلا أمر المصطفى صلى الله عليه وسلم ومجيب وهو ( أنه قال يا رسول الله الناس في أمر مريج واختلاق باطل وضجيج، فأجابه عليه الصلاة والسلام بأن السلطان ابن عثمان ملك مصر والقاهرة، وأمره أن يشهر هذا في الخطبة على رءوس الأشهاد ويذكره . فلما قرر الخطيب ما أمره به كثر اللغط من الشياطين عليه .. ) ( .. وكانت الرؤيا الصالحة ردعا للمفسدين . ثم في الليلة الثالثة رأى رجلا آخر موسوما بالصلاح ... النبي المختار فقال له مثل ما قال للرائي الأول وسأله أحقا ما يقول الخطيب عنك يا نبي الله قال نعم وعليه المعول ...
وما نطق به بعض المجاذيب والأولياء أبلغ نهاية من أن تستقصى ) [67] ..
هذا ما أورده اللخمي في سيرة سليم مؤيدا له ولأتباعه. ونستشف مما قاله أن الصوفية في الشام في هذه المرحلة أظهروا تأييدهم علنا للسلطان سليم في وقت لم يتأكدوا من نتيجة معاركه في مصر. وتلك ظاهرة غير عادية في التحرك الصوفي . كما يظهر من كتابات اللخمي وجود أنصار للمماليك في الشام يصفهم بقوله الشياطين ـ إلا أن جهدهم لم يثمر في مواجهة تلك الدعاية المنظمة من الصوفية والتي تبدوا واضحة بتأييد المنامات بعضها للبعض ..
( ب ) طومان باي واستمالة الصوفية : ـ
1ـ ( في مصر ) راحت جهود طومان باى عبثا في استمالة الصوفية مذ كان أميرا للغيبة والغوري في مرج دابق( فتصدق الأمير الداودار طومان باى في مصر على الفقراء بمبلغ له صورة ، ورسم بقراءة ختمات في جميع الأسواق للدعاء للسلطان بالنصر )[68] وبعد توليه السلطنة جعل للصوفية في مصر النفوذ الأكبر في أيامه القليلة ـ ومع ذلك رتبوا أمورهم للتعامل مع العثمانيين ..
2 ـ بعد مقتل الغوري ( ظلت البلاد بدون سلطان نحو خمسين يوما، فلما دخل الأمراء للقاهرة اجتمعوا على تولية طومان باى ،فامتنع ،فاستعانوا بالشيخ أبى السعود الجارحى ، فحلفهم على المصحف بألا يخونوه ويرضون بقوله وفعله ، ثم حلفهم على ألا يظلموا الرعية .. فحلفوا على ذلك ) [69] يقول باحث : ( ولهذا الحادث دلالاته من حيث إيثار الجارحى على شيخ الإسلام ومفتى الديار وفقهاء المذاهب وسائر العلماء) ..[70]
3ـ ولقد مارس الصوفي أبو السعود الجارحى نفوذه كما يتمنى ؛ فقد وقع خلاف بين الزيني بركات المحتسب وبين أحد الدلالين ، واستجار الأخير بالشيخ الجارحى، فشفع فيه، فلم يقبل شفاعته، فأرسل الشيخ للمحتسب فحضر ووبخه وقال له :( يا كلب.!.. كم تظلم المسلمين، فحنق منه المحتسب، فقام . فأمر الشيخ بكشف رأسه وضربه بالنعال حتى كاد يهلك ، ثم أرسل للأمير علان الداودار الكبير ، وأمره بأن يضعه في الحديد ويشاور السلطان عليه .. فأشار السلطان بأن يعمل فيه الشيخ ما يرى .. فأمر الشيخ بإشهاره في القاهرة ثم بشنقه على باب زويلة فأخرجوه من زاوية الشيخ وهو ماش مكشوف الرأس وهو في الحديد وهم ينادون عليه . ثم عاود الشيخ في أمره بأن عليه مالا للسلطان ومتى شنق ضاع على السلطان ماله ، فعفا الشيخ عنه من القتل )
وقد تعجب ابن إياس من فعل الشيخ مع ابن موسى المحتسب. وأنكروا على الشيخ الجارحى فأطلق المحتسب من الاعتقال ( وأظهر أنه قد رضي عليه ) وصار الشيخ ( يتصرف في أمور المملكة عزل وولاية )[71]
4 ـ ولم يترك طومان باى وسيلة لإرضاء المتصوفة إلا وبذلها ، وقد رأى الشعراني بعينه السلطان طومان باى يقبل بفمه رجل الشيخ محمد عنان والشيخ ( ماد رجله لم يضمها )[72] وعندما غرق الشيخ ابن الكركى تردد طومان باى إلى بيته وذهب ماشيا إلى جنازته [73] ، واخلع طومان باى على ابن خليفة احمد البدوي الذي قتله سليم ( فقرره عوضا عن أبيه في الخلافة، فنزل من القلعة في موكب حافل وعلى رأسه الأعلام وقدامه سائر الفقراء في الزوايا والمزارات بالقرافة وغيرها ،وفرّق عليهم القمح، لكل زاوية خمسة أرادب ، وقرأ عدة ختمات في المزارات ) [74] .
واستجداء معونة المتصوفة لم يقتصر على السلطان بل تعده إلى أعيان الناس ( وقد نقل أعيان الناس قماشهم إلى التراب وإلى المدارس والزوايا والمزارات وإلى بيوت العوام ) [75].
5 ـ وكانت المؤسسات الصوفية مسرح العمليات العسكرية بين المماليك والعثمانيين حيث لجأ إليها جند المماليك كمستجيرين. وقد هجم العثمانيون على زاوية الشيخ عماد الدين وقبضوا على المماليك المختبئين فيها ، واحرق العثمانيون البيوت التي حول الزاوية، ونهبوا قناديلها ، والحصر التي فيها. وبعد هزيمة طومان باى فى الريدانية( مكانها الآن مدينة نصر ): ( شرعت العثمانية تقبض على المماليك الجراكسة من الترب ) أما طومان باى فقد( نزل في جامع شيخو وصار يكرُّ من الصليبية إلى قناطر السباع .. في ذلك الوقت طلعت طائفة من العثمانيين من على القرافة الكبيرة وملكوا من باب القرافة إلى مشهد السيدة نفيسة، فدخلوا إلى ضريحها، وداسوا على قبرها، واخذوا قناديلها الفضية والشمع الذي كان عندها وبسط الزاوية، وقتلوا في مقامها جماعة من المماليك ) . ثم هاجم العثمانيون الصليبة واحرقوا جامع شيخو الذي احتمى به طومان باى .. ثم صاروا يهاجمون الجوامع ليأخذوا منها المماليك ( فهجموا على جامع الأزهر وجامع الحاكم وجامع ابن طولون وغير ذلك من الجوامع والمدارس والمزارات ويقتلون من فيها من المماليك [76] )
واستعذب العثمانيون نهب الأضرحة: ( وبعد الأمان هجم العثمانيون على مقام الإمام الشافعي ونهبوا ما فيه من البسط ومن القناديل في حجة (قتل) المماليك الجراكسة، وكذلك مقام الإمام الليث [77] )
ومن الطبيعي أن تكون هزيمة المماليك هزيمة للمتصوفة المصريين فالمولد النبوي ( لم يشعر به أحدا من الناس وبطل ما كان يعمل في ذلك اليوم ،وما كان يحصل من الشقق ( القماش ) والأنعام في تلك الليلة فبطل ذلك جميعه ، وأشيع أن ابن عثمان لما طلع إلى القلعة وعرض الحواصل التي بها فرأى خيمة المولد فأباعها للمغاربة بأربعمائة دينار ) [78].. ومن الطبيعي أن يتدارك الصوفية في مصر وضعهم فيعملوا على خطب ود السلطة الجديدة حتى لا تعتبرهم أعداء لها . وذلك يستحق وقفة فيما بعد .
6ـ وهناك أثر صوفي غير مباشر في انهيار قوة المماليك أمام العثمانيين ، ونعنى به ضعف مدفعية المماليك بالمقارنة بالمدفعية العثمانية التي حسمت المعركة لصالح العثمانيين ، فقد زرع سليم مقدمة جيشه بالمدفعية وحماها بمتاريس من العربات . ولعبت هذه المدفعية دورها حين اجبر المماليك العثمانيين على الفرار مخلفين ورائهم الغنائم فانشغل المماليك بجمع الأسلاب، فحصدتهم المدفعية العثمانية وأحدثت ارتباكا في صفوفهم مكن العثمانيين من إعادة تنظيم صفوفهم . ولقد عزا معظم المؤرخين النصر العثماني إلى المدفعية التي كانوا يمتلكونها [79] ، فقد بلغت ما بين ( 300: 500) مدفع بينما كان المماليك لا يقتنون منها شيئا [80]، ولم يحاول المماليك الاستفادة من استعمال العثمانيين للمدافع بمهارة في حربهم مع حسن الطويل ومع الصفويين مع ما أسفرت عنه من نتائج حاسمة ، وكان لدى المماليك الوقت الكافي للاستفادة منها بتطوير جيوشهم وتنظيمها .[81]
ولم يكن الجيش المملوكي ضعيفا وإلا ما كان سعيه إلى حلب مهددا للعثمانيين. وقد سبق لهذا الجيش أن هزم العثمانيين ـ إلا أن الظروف الحربية تغيرت بظهور المدفعية كاتجاهات متطورة ادخلها العثمانيون بينما تمسك المماليك ـــــ بدافع التقليد الذي أشاعه التصوف ــــــــ بالأسلحة التقليدية واعرضوا عن التطوير الحربي .. وعندما اسر سليم طومان باى قال له الأخير محتجا ( لما أن عجزوا عن ملاقاة عساكر الإسلام جيت بهذه الحيلة التي تحيلت بها الإفرنج التي لو رمت بها المرأة قتلت .. وكذلك نحن قوم لا نترك سنة نبينا وهو الجهاد في سبيل الله تعالى بالسيف ، وقد جانا بهذه البندقية واحد مغربي للسلطان الغوري وأخبره بأن هذه البندقية ظهرت من بلاد البندقية فجربها وقال للمغربي نحن لا نترك سنة نبينا ونتبع سنة النصارى ) [82] ..فالغورى وطومان باى يعبران عن الحياة العقلية في العصر المملوكي والتي أرهقها التصوف بالتقليد والجمود بدعوة التمسح بالدين .
جـ ـ سياسة المتصوفة مع العثمانيين بعد انهيار الحكم المملوكي
وضح من تتبع علاقة العثمانيين بصوفية حلب أن العثمانيين احتاجوا وقتا ليتأكدوا من إخلاص الصوفية في حلب لهم مع ما قدمه أولئك لهم من خدمات ، وحتى جاء الوقت الذي اقتنع فيه العثمانيون بصدق إخلاص أولئك الصوفية قاسى الكثيرون من غلظة العثمانيين الفاتحين الذين لم يوقروا صغيرا ولا كبيرا ولا أهل العلم ولا الصوفية ) كما قال ابن طولون سابقا .
والأمر هنا في مصر سيكون أصعب بالنسبة لصوفيتها ، فهم أكثر التصاقا بالحكم المملوكي البائد، وما مرأى الغوري والصوفية حوله عن السلطان العثماني ببعيد ودماؤهم في مرج دابق لم تجف بعد . والمنتظر أن يعامل الفاتحون الجدد الصوفية بإرهاب يعبر عنه الشعراني :ـ بقوله ( اخذ علينا العهود إذا عملنا مشايخ على فقراء في زاوية أو على خرقة من الخرق المشهورة أن نفرّ من طريق الناموس جهدنا، ولا نمكن أحدا من الفقراء يقف بين أيدينا غاضا طرفه كما يقف في الصلاة ، ولو أن ذلك كان من عادة ذلك الفقير مع شيخ قبلنا فنأمره بأن يخالف عادته إذا حضر ، لأن هذه الأمور لا تناسب فقيرا ، وربما جره ذلك إلى النفي من بلده كما وقع للشيخ أويس بالشام والشيخ على الكارزوني بحلب ... والقانون العثماني أن كل من تظاهر بصفات الملوك وعارض أركان الدولة فيما يفعلونه يحبسونه أو ينفونه لخوفهم أن تكثر أشياعه فينازع السلطان في مملكته. نسأل الله اللطف..!! ) [83]
ولم يكن منتظرا في جو الإرهاب هذا أن يخالف شيخ صوفي القانون العثماني فيكثر أتباعه ويعظم نفوذه كما حدث في الدولة المملوكية ، وإنما انحصر جهد الصوفية المخضرمين ـــــ ممن حضروا الدولتين ــــ في التقرب للعثمانيين بادعاء كراهيتهم للغوري ودولته وأن إزالة ملكه كان بتأثير دعواتهم وكرامتهم التي صوروا فيها الغوري ظالما تاركا للجهاد ، فالشعراني نسب كرامة لابن عنان أنقذ بها الشريف بركات من انتقام [84] الغوري وأن الغوري حين سافر لحرب سليم جاء الشيخ الزواوي القاهرة ليرد ابن عثمان عن مصر ( فعارضه الأولياء وأخذه البطن ومات في الطريق ) [85] ، ونقلت المراجع العثمانية[86] هذه الأسطورة دليلا على تصديقها وما توحي به من ميل صوفية مصر للعثمانيين وما فيها من توافق بين موت الزواوي وتاريخ الفتح لمصر .
ونسبوا للشيخ الديروطي أنه (حطّ على الغوري في ترك الجهاد وعنفه ، وما رؤى أعزمن الشيخ في هذا المجلس ولا أذلّ من السلطان فيه ) [87]
ونسب للصوفي ابن أبى شريف أنه ( عارض الغوري في واقعة فما أفلح الغوري بعده، وسُلب ملكة، وكان الناس يقولون جميع ما وقع للغوري ببركته )[88] .
وادعى آخرون منامات رأوا فيها الملائكة يكنسون بأيديهم الجراكسة من ارض مصر [89] ، وتناقلت المراجع العثمانية المخضرمة حكاية الصوفي الذي ظلمه جندي من جنود الغوري فدعا على الجندي وعلى سلطانه وأن تلك الدعوة كانت سبب انهيار ملك الغوري بعد قليل [90] .
ولم يتورع بعضهم عن إسناد علم الغيب لنفسه أو لأشياخه خاصة أولئك الذين ماتوا إبان الفتح العثماني أثناء المعارك وأكثرهم من المجاذيب[91] نسبوا إليهم الأخبار مسبقا بأخذ سليم لمصر [92] مع أن الغيب لا يعلمه إلا الله جل وعلا ..
وتزلف آخرون للعثمانيين بشتى الطرق فيقول الشعراني مثلا ( وما رأيت أحدا من علماء الشرع يفتش على ما أندرس من معالم أخلاق الشريعة المحمدية نصرة لرسول الله عليه السلام كما فعل جماعة مولانا السلطان نصرة الله ) .
واستجاب العثمانيين له بع"_ftn1" title="">
[1]مخطوطة تكسير الأحجار : دار الكتب 404 مجاميع تيمورية رقم 6 .
[2]مقدمة ابن خلدون 473 .المطبعة التجارية ..وانظر 475 .
[3]راجع التفاصيل في كتاب الصلة بين التصوف والتشيع .ط. دار المعارف 1969 .وانظر كتابه الفكر الشيعي والنزعات الصوفية مكتبة النهضة ببغداد ..
[4]( السني ) و( الشيعي أو الرافضي ) كان يقصد بها في العصر المملوكي المذهب السياسي ، وفقد مدلولها العقائدي حيث سيطر التصوف على الطائفتين من أهل السنة والشيعة فكانت الدولة المملوكية الصوفية السنية تحارب الشيعة حتى ولو تصوفوا ..
[5]أخبار القرن العاشر مخطوط 41 ، تاريخ القدس مخطوط 67 .
[6]أحمد فؤاد متولي .الفتح العثمان256
[7]ليلى الصباغ . الفتح العثماني في سورية 27 : 28 .
[8]احمد فؤاد متولي . الفتح العثماني 256
[9]ليلى الصباغ . 29 .
[10]ليلى الصباغ 30 : 31 .
[11]تاريخ ابن إياس 4/ 39 ، 118 .
[12]تاريخ ابن إياس 4/ 39 ، 118
[13]تاريخ ابن إياس 118 : 123
[14]تاريخ ابن إياس 118 : 123
[15]تاريخ ابن إياس 4/ 191 ، 205
[16] تاريخ ابن إياس 4/ 191 ، 205
[17]تاريخ ابن إياس 4/ 219 : 221 ، 257 ، 260 ، 265 ، 271
[18]تاريخ ابن إياس 4/ 152 :167 ، 186 : 187 .
[19]تاريخ ابن إياس 4/ 196 ، 285
[20]تاريخ ابن إياس 4/ 196 ، 285 .
[21]أنباء الغمر 3/ 499: 500
[22]تاريخ ابن إياس 4 / 289 ، 324
[23]احمد فؤاد متولي : الفتح العثماني لمصر : 63
[24] احمد فؤاد متولي : الفتح العثماني لمصر ... الملاحق 323 ، ص 45 : 46
[25]تاريخ ابن إياس 5 / 35 ، 38
[26]زيادة : المجلة التاريخية 4/1/215
[27]الكواكب الثائرة 1/ 297
[28]احمد فؤاد متولي الفتح العثماني 47
[29]ليلى الصباغ الفتح العثماني لسوريا 50
[30]تاريخ ابن إياس 5/22
[31]تاريخ ابن طولون 2 /23
[32]تاريخ ابن إياس 4/ 462 : 463
[33] تاريخ ابن إياس 4/ 398 . 399 ، 402 : 404
[34]الفقيتاريخ سليم والغوريمخطوط 13 ، 14 رقم 376 ، تاريخ تيمور ، تاريخ المقدسي مخطوط 67 ، 68 رقم 2026 تاريخ مرعى الحنبلي مخطوط 133 :134 ، البكرى ولاة مصر مخطوط 22 رقم 2407 تاريخ تيمور عيون الأخبار مخطوط 2/ 533
[35]تاريخ ابن إياس 4 / 471 : 475 ، 483
[36]فؤاد متولي 128 ، 145
[37]ليلى الصباغ الفتح العثماني لسوريا 66
[38]احمد فؤاد متولي : الملاحق في كتابه 155 ، 152
[39]احمد فؤاد متولي : الملاحق في كتابه 127 : 128
[40]ابن زنبل الرمال الغوري وسليم 70 ، 133 : 136 ط 62 .
[41]فؤاد متولي المرجع السابق 232 .
[42]تاريخ ابن طولون 2/ 78 : 79 ، 74 : 75
[43]ليلى الصباغ 75 : 78 ، 118
[44]احمد فؤاد متولي 244 :245
[45]الكواكب الثائرة 216 ، 159
[46]تاريخ ابن إياس: 5 /24 : 25
[47]تاريخ ابن إياس: 47 : 38
[48]تاريخ ابن إياس: 4 / 382
[49]قواعد الصوفية 1/ 19 تحقيق طه سرور ط1
[50]قواعد الصوفية 1/ 19 تحقيق طه سرور ط1
[51]تاريخ ابن إياس 5 / 63 تاريخ ابن زنبل الرمال 14 ، وتاريخ الفقي30 .
[52]تاريخ ابن إياس 5 / 66
[53]تاريخ ابن إياس 5 / 34
[54]تاريخ ابن طولون 2/ 15
[55]تاريخ ابن أياس5/ 68 : 71
[56]تاريخ ابن زنبل الرمال 105
[57]احمد فؤاد متولي الفتح العثماني 126 ، 127 ، 137 ، 164
[58]احمد فؤاد متولي الفتح العثماني 126 ، 127 ، 137 ، 164
[59]احمد فؤاد متولي الفتح العثماني 126 ، 127 ، 137 ، 164
[60]تاريخ ابن طولون 2/ 23
[61]الكواكب الثائرة 1/ 89 وتاريخ ابن طولون 2/ 36
[62]تاريخ ابن طولون 2/ 32 ، 34 ، 35 ، 36
[63]تاريخ ابن طولون 2/ 32 ، 34 ، 35 ، 36
[64]تاريخ ابن طولون 2/ 42 ، 63
[65] تاريخ ابن طولون 2/ 42 ، 63
[66]اللخمي.. سيرة سليم .. 9 تحقيق ارنست القاهرة 1962
[67]اللخمي.. سيرة سليم 16 ، 17
[68]تاريخ ابن إياس 5/ 66
[69]تاريخ ابن إياس 5 / 85 ، 103 ، 104
[70]توفيق الطويل . التصوف في مصر 48
[71]تاريخ ابن إياس 5 / 112 : 115
[72]البحر المورود 243 ، قواعد الصوفية 1/19
[73]شذرات الذهب 8 / 104
[74]تاريخ ابن إياس 5 / 117 ، 128 ، 139 ، 154 ، 156 ، 160
[75]تاريخ ابن إياس 5 / 117 ، 128 ، 139 ، 154 ، 156 ، 160
[76] تاريخ ابن إياس 5 / 117 ، 128 ، 139 ، 154 ، 156 ، 160
[77] تاريخ ابن إياس 5 / 117 ، 128 ، 139 ، 154 ، 156 ، 160
[78]تاريخ ابن إياس 5/ 172
[79]ليلى الصباغ المرجع السابق 70 ، 71، 73، احمد فؤاد . الفتح العثماني : 158 ، 254 .
[80]ليلى الصباغ المرجع السابق 70 ، 71، 73، احمد فؤاد . الفتح العثماني : 158 ، 254 .
[81]ليلى الصباغ المرجع السابق 70 ، 71، 73، احمد فؤاد . الفتح العثماني : 158 ، 254 .
[82]الفقيتاريخ سليم والغوري مخطوط 46 .
[83]البحر المورود 328
[84]الطبقات الكبرى 2/ 105 ، 126
[85]الطبقات الكبرى 2/ 105 ، 126
[86]شذرات الذهب 8/ 107 ، والكواكب السائرة 1/ 153
[87]الطبقات الكبرى 2/ 157
[88]الشعراني الطبقات الصغرى 46 ط 1
[89] عيون الأخبار مخطوط 2 / 535 تاريخ مرعى الحنبلي مخطوط 118 ، 119
[90]شذرات الذهب 8 / 114 تاريخ المقدسيمخطوط 60 ب ، أخبار القرن العاشر 190 : 191 عيون الأخبار مخطوط 2 / 535
[91]المناويالطبقات الكبرى مخطوط 388 .
[92]الكواكب السائرة 1/ 93 ، 167 ، 259 ، 287 الطبقات الكبرى للشعراني 2 / 129
[93]تنبيه المغترين 3، 4
[94]الكواكب السائرة 288
فهرس كتاب (أثر التصوف السياسي في الدولة المملوكية )
تمهيد : كتاب (أثر التصوف السياسي في الدولة المملوكية )
الفصل الأول : استفادة المماليك من الصوفية
الفصل الثاني : استفادة الصوفية سياسياً
الفصل الثالث : أثر التصوف في انهيار الدولة المملوكية
خاتمة كتاب: أثر التصوف السياسى فى الدولة المملوكية
دعوة للتبرع
لا مجيب حتى الآن : بسم الله الواح د القها ر الذي اومن بكتاب ه ...
بعضكم لبعض عدو: قال جل وعلا لآدم ( اهْبِ طُوا بَعْض ُكُمْ ...
غطاء عن ذكر الرحمن: ما معنى الذين كانت اعينه م فى غطاء عن ذكر الله...
نتمنى ..ولكن .!!: سمعت عن اهل القرآ ن منذ التسع ينات ولكن كان...
لعنة التجويد: يا استاذ ي انا قرات مقالة لعنة التجو يد ...
more