رقم
(
3 )
:
قضية الحساب فى النسق القرآنى
حديث القرآن عن قضية الحساب يأتى ضمن منظومة كاملة تتحدث عن خلق النفس وموتها وحياتها والبرزخ والموت والنوم والبعث والنشور. وكى نفهم الموضوع لابد أن نبدأ البداية ونسير إلى النهاية وكل ذلك بالآيات القرآنية وبالترتيب.
وبداية لابد أن نقرر أنه لم يرد فى القرآن الكريم مطلقاً ذكر ما يسمى بعذاب القبر أو نعيمه أو الثعبان الأقرع، وحيث أن القرآن الكريم هو المصدر الوحيد المعتمد فى القضية فالحكم هنا قاطع فى نفى عذاب القبر ونعيمه وثعبانه.
لكن البعض يخلط بين القبر وما ورد فى القرآن حول البرزخ، ويرتبون على ذلك القول بعذاب القبر ونعيمه، وهذا يدعونا للبحث فى ماهية النفس الإنسانية، وفى علاقتها بالجسد وفى ماهية الموت وفى مصر الجسد بعد الموت، لنصل إلى تحديد المقصود بالبرزخ ومصير النفس الإنسانية فيه حتى البعث يوم القيامة حيث يتم الحساب.
الخلق- الموت- البرزخ- البعث:
إن الله تعالى خلق كل الأنفس البشرية فى وقت واحد، يقول تعالى: ﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء 1). ومن النفس الأولى انبثقت الأنفس الأخرى. وكل نفس تحمل فى داخلها مستقراً للسابقين والمستودع للاحقين ﴿وَهُوَ الّذِيَ أَنشَأَكُم مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ (الأنعام 98).
وكل نفس تكون ميتة فى عالم البرزخ إلى أن يأتى الوقت الذى ترتدى فيه الجسد البشرى، وحينئذ ينتفض الجنين فى بطن أمه، وتدخل فيه تلك القوة المجهولة التى نسميها النفس، ذلك الكائن العاقل المسئول الذى يعطى للجسد ماهيته وكينونته، وتظل النفس حية بذلك الجسد طيلة العمرالمقدر لها أن تعيشه فى ذلك الكوكب الأرضى المادى، إلى أن ينتهى الأجل ويحل موعد الوفاة أو الموت، وحينئذ تفارق النفس الجسد وتغوص فى البرزخ الذى أتت منه وتعود إلى نفس الموات الذى كانت فيه فى البرزخ..
وهكذا.. فكل الأنفس البشرية مخلوقة معاً، ولكن تدخل كل نفس جسدها وترتديه فى الوقت المحدد لها حين ينتفض الجنين، ثم بعد أن تقضى عمرها فى الحياة الدنيا تعود إلى العدم أو البرزخ.. وبعد أن تدخل كل نفس تجربتها أو حياتها الدنيا تموت، تكون القيامة.. ويكون البعث، بعث الموتى جميعاً من البرزخ.. وتكون الحياة الأبدية فى الآخرة فى الجنة أو فى النار..
ومعنى ذلك أننا كنا موتى أولاً فى البرزخ ، ثم ندخل الحياة الدنيا الأولى، ثم سنموت راجعين الى البرزخ فى أوقات مختلفة عندما يفارق الواحد منا هذه الحياة ، ثم البعث للجميع حيث سنحيا فى الآخرة الحياة الأبدية.. يقول تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمّ يُمِيتُكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ﴾ (البقرة 28).. ويوم القيامة يدرك أصحاب النار هذه الحقيقة فيقولون ﴿قَالُواْ رَبّنَآ أَمَتّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىَ خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ﴾ (غافر 11). إذن هو موت فى البداية، ثم الحياة الدنيا التى نحياها الآن، ثم الموت ، ثم الحياة فى الآخرة.. موتتان وحياتان..
والموت بالنسبة للنفس أن تكون بلا جسد.. وأنا قبل ميلادى كانت نفسى ميتة فى البرزخ.. وعندما ينتهى أجلى وأموت ستفارق نفسى جسدى وتغوص فى البرزخ الذى أتت منه.. وبالنسبة لى فى البرزخ توجد أنفس أجدادى الذين عاشوا قبلى هذه الحياة الدنيا، كما توجد فى البرزخ أنفس أحفادى الذين لم يأت بعد وقت دخولهم فى الحياة الدنيا.. ففى البرزخ أنفس السابقين والذين لم يأتوا للدنيا بعد..
ومن المستحيل أن يتعرف أبى الميت فى البرزخ على حفيدى الذى لم يأت الحياة بعد، لأن البرزخ موات لا إحساس فيه ولا حياة للجميع من الموتى.. والله تعالى يقول عن انعدام الحياة والإحساس فى الموتى ﴿وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مّن فِي الْقُبُورِ﴾ (فاطر 22). ويقول عن عبادة الأولياء الموتى فى الأضرحة قال تعالى: ﴿إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ﴾... ﴿أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ﴾ (النحل 21).
إذن فالموتى من الأولياء والآخرين مجرد تراب لا إحساس فيه.. ولو كان هناك إحساس لالتقى الأجداد بالأحفاد كما نتخيل فى أضغاث الأحلام.
الموت والنوم والبرزخ:
إن النفس البشرية وهى فى الحياة الدنيا لا تتحمل البقاء فى السجن المادى المسمى بالجسد، لذلك تعود فى الليل إلى البرزخ الذى أتت منه، ولكن تظل مرتبطة بذلك الجسد بحبل أثيرى وتعود إليه بعد النوم.. فالنوم موت مؤقت، يقول تعالى: ﴿اللّهُ يَتَوَفّى الأنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا وَالّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِـهَا فَيُمْسِكُ الّتِي قَضَىَ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الاُخْرَىَ إِلَىَ أَجَلٍ مّسَمّى﴾ (الزمر 42). ومعنى يمسك الله النفس التى قضى عليها الموت أنه لم يعد لها شأن بالقبر أو بأسطورة عذاب القبر. فالميت المدفون فى القبر ليس مدفونا منه الا جسده الفانى فقط، أما ذاته الحقيقية ـ كينونته ـ اى نفسه فقد أمسكها الله تعالى عنده،أى أنها أصبحت حبيسة البرزخ، وهو مستوى فى الوجود بين الدنيا والآخرة تغوص فيه الأنفس عند الوفاة.
فالوفاة هنا نوعان، موت ونوم، والنوم موت مؤقت، يتميز عن الموت المعروف بأنه عارض وقتى ومتكرر، وبأن النفس لا تقطع صلتها فيه مطلقاً بالجسد بسبب ذلك الحبل السرى بينهما، والذى يعطى نوعاً ما من الإحساس تخلله الأحلام.. ويجمع بين الموت والنوم أن النفس تغوص فيهما فى البرزخ الذى يعنى الموت أو انعدام الإحساس بالزمن، ولأن الزمن هو الضلع الرابع للمادة فإن النفس عندما تتحرر من الجسد المادى تتحرر أيضاً من الزمن وعندما تعود النفس إلى الجسد يتهيأ للإنسان أنه نام أو مات منذ يوم أو بعض يوم فقط.. لأن فترة البرزخ سواء كانت نوماً أو موتاً لا إحساس فيها بالزمن.. وأعرف صديقاً دخل فى عملية جراحية عصر يوم الجمعة قبيل مبارة الأهلى والزمالك وكان مشغولاً بها، وأفاق يوم الثلاثاء، فسأل عن نتيجة المباراة وهو يظن أنه يوم الجمعة.. أى أنه لم يحس فى نومه أو إغمائه بمرور الأيام.
والقرآن يعطينا الأمثلة على انعدام الإحساس بالزمن أوانعدام الشعور بالحياة فى البرزخ فى الموت أو النوم.. كالرجل الذى مر على قرية خربة وتعجب كيف ستعود لها الحياة يقول تعالى: ﴿أَوْ كَالّذِي مَرّ عَلَىَ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا قَالَ أَنّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ﴾ (البقرة 259). فالرجل نام مائة عام وعندما استيقظ ظن أنه نام يوماً أو بعض يوم، والقرآن يجعل النوم موتاً، لأن النوم موت مؤقت وأهل الكهف حين استيقظوا بعد (309) سنة قالوا: ﴿لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ (الكهف 19). وتذكروا مطاردة قومهم لهم على أنها حدثت بالأمس القريب ﴿إِنّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلّتِهِمْ﴾ (الكهف 20). ولم يعرفوا أن قومهم قد انقرضوا منذ ثلاثة قرون...!! ونفس الحال فى البعث حين يستيقظ البشر جميعاً يظن المجرمون أنهم ماتوا بالأمس القريب ﴿كَأَنّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوَاْ إِلاّ عَشِيّةً أَوْ ضُحَاهَا﴾ (النازعات 46). أى يظنون أنهم لم يلبثوا فى البرزخ إلا يوماً أو بعض يوم.. ويحكى القرآن تساؤلهم عن الحشر ﴿يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ عَشْراً. نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ يَوْماً﴾ (طه 103، 104).
ولو كان هناك عذاب فى القبر لأحسوا به، خصوصاً وهم عصاة مجرمون، ولكنهم ماتوا وفقدوا الإحساس وحين استيقظوا ظنوا أنهم ماتوا بالأمس القريب، بل إنهم يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم ما لبثوا فى البرزخ إلا ساعة، والساعة هنا تعنى يوماً أو بعض يوم، وليس (60) دقيقة، يقول تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ. وَقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّهِ إِلَىَ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَـَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَـَكِنّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (الروم 55، 56).
هم المجرمون الذين يدعى أصحاب الخرافة القائلة بعذاب القبر أنهم يعذبون فى القبر- هؤلاء المجرمون يحكى القرآن أنهم يقسمون عند قيام الساعة إنهم ما لبثوا غير ساعة.. ومن الطبيعى أنهم لو كانوا يعذبون فى القبر وكانوا يحسون بذلك العذاب لأحسوا بمرور الوقت ألاف من السنين يزيدها العذاب بطئاً وقسوة.. ولكن لأنه لا وجود لعذاب القبر ولأنه مجرد موت فى البرزخ بلا إحساس فإن المجرمين أنفسهم يقسمون أنهم ما لبثوا غير ساعة.. ويقول لهم المؤمنون العلماء إنهم لبثوا فى البرزخ إلى يوم البعث ولكنهم لم يعلموا لأنهم كانوا نياماً ففقدوا الإحساس بالزمن.
بين البرزخ ولحظة الاحتضار:
ولأن البرزخ منطقة انعدام للزمن والإحساس والشعور والحياة فإن القرآن يتخطاه أحياناً ويربط بين آخر شعور للإنسان عند الاحتضار والموت وأول شعور له وإحساس له عند البعث والقيامة. يقول تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ. وَنُفِخَ فِي الصّورِ ذَلِكَ يَوْمَ الْوَعِيدِ﴾ (ق 19، 20). فآخر إحساس هو سكرة الموت ثم ينعدم الإحساس فى البرزخ ويبدأ الإحساس بنفخ الصورعند البعث.
وعند سكرة الموت يرى الميت ملائكة الموت، فإن كان خاسراً يصرخ طالباً فرصة ثانية ﴿حَتّىَ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ. لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون 99،100) فالخاسر عند الموت يطلب فرصة أخرى ليعمل صالحاً!!.
وقد يكون الميت خاسراً جداً حتى إن ملائكة الموت تضربه ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ (محمد 27). ﴿وَلَوْ تَرَىَ إِذْ يَتَوَفّى الّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (الأنفال 50).
إن ملائكة الموت تنذر العصاة بالعذاب الذى ينتظرهم، كما تبشر المتقين عند الموت وبعدها يدخل الميت البرزخ أو الموت ويستيقظ فى البعث وكأنه نام أو مات منذ يوم أو بعض يوم..
إن لحظات الاحتضار تشهد حواراً بين ملائكة الموت والميت، تبشره إن كان تقياً وتؤنبه وتؤذنه بالنار إن كان خاسراً، ومن أكثر الخاسرين أولئك الذين يكذبون على الله ورسوله، ولأنهم أعظم الظالمين يفترون على الله أكاذيب ما أنزل بها من سلطان كالشفاعات وغيرها فإنه يقال لهم نفس التأنيب عند الموت وعند البعث، ويقول تعالى يصف لحظاتهم الأخيرة فى الدنيا ولحظاتهم الأولى فى الآخرة ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَىَ إِذِ الظّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُوَاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوَاْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَتَرَكْتُمْ مّا خَوّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىَ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تّقَطّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلّ عَنكُم مّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ (الأنعام 93،94).
عند الموت تقول لهم الملائكة: ﴿أَخْرِجُوَاْ أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾.
وعند لقاء الله يوم القيامة يقال لهم ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ. وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىَ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَتَرَكْتُمْ مّا خَوّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَىَ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تّقَطّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلّ عَنكُم مّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ﴾.
وما بين الموت ولقاء الله تعالى برزخ لا إحساس فيه ولا حياة ﴿لَعَلّيَ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاّ إِنّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىَ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون 100). وحين البعث يقسمون أنهم ما لبثوا غير ساعة ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ﴾ (الروم 55).
ولأن البرزخ منطقة انعدام للإحساس فالقرآن تجاوزه أحياناً مكتفياً بالتأكيد على أفظع إحساس للإنسان (عند الموت) فى آخر حياته، وعند البعث.. وما بينهما يمر كأنه يوم أو بعض يوم..وذلك فى حد ذاته أكبر دليل على أنه لا وجود لما يعرف بعذاب القبر أو نعيمه أو حسابه.. أو الثعبان الأقرع.
وهذه هى القاعدة..
ولكن لها استثناءات محددة.. ذكرها القرآن، وهى القتلى فى سبيل الله وآل فرعون وقوم نوح..
القتلى فى سبيل الله:
الشهداء فى الآخرة- حسب مفهوم القرآن- هم الذين يشهدون على أقوامهم بتبليغ الحق ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَىَ رَبّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَـَؤُلآءِ الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىَ رَبّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ﴾ (هود 18). ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىَ هَـَؤُلاَءِ وَنَزّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لّكُلّ شَيْءٍ﴾ (النحل 89). ويقول تعالى عن أولئك الشهداء يوم القيامة ﴿وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِـيءَ بِالنّبِيّيْنَ وَالشّهَدَآءِ﴾ (الزمر 69). أولئك هم الشهداء الذين يشهدون على قومهم..
أما الذين يموتون قتلاً فى سبيل الله فقد يكون منهم دعاة يشهدون على قومهم يوم القيامة وقد لا يكون. ولكن يذكر القرآن أنهم أحياء عند ربهم يرزقون، ولأنهم استثناء فى موضوع البرزخ فالله تعالى ينهانا أن نقول عنهم أنهم موتى ﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاّ تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة 154). هم أحياء لأنهم وهبوا حياتهم الدنيا لله تعالى فمنحهم الله تعالى حياة خالدة بعد الحياة الدنيا التى فقدوها ابتغاء مرضاة الله، ولأنه حياة فى مستوى آخر من الوجود لا نعرفه فالله تعالى يقول ﴿بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاّ تَشْعُرُونَ﴾ وإن كنا لا نشعر بهم فى حياتنا المادية البشرية فهم يشعرون بنا، ونعلم ذلك من قوله تعالى- وهو عالم الغيب والشهادة ﴿وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (آل عمران 169،170).
فالله تعالى يؤكد على النهى بألا نحسبنهم أمواتاً بل أحياء عنده تعالى وهم يتمنون نفس النعيم لرفاقهم فى الحياة الدنيا، أى يشعرون بهم، ونظير ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن الرجل المؤمن فى قصة القرية المذكورة فى سورة (يس): ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنّةَ قَالَ يَلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ﴾ (يس 26،27).
وربما تكون تلك الجنة هى الجنة التى كان فيها آدم وزوجه.. وربما تكون جنة المأوى المذكورة سورة النجم.. الله تعالى أعلم.
ولكن المهم أنه لا صلة بين ذلك وموضوع القبر من النعيم والعذاب.. فأولئك (أحياء) وليسوا موتى، وهم (عند ربهم) وليسوا من سكان القبور، ولا يصح لعاقل أن يستشهد بذلك الاستثناء على إثبات خرافة ما أنزل الله بها من سلطان.
آل فرعون وقوم نوح:
الذى يفقد حياته قتلاً مضحياً بها فى سبيل الله تعالى يهبه الله حياة أبدية وقت البرزخ وفى الآخرة يعيش فى نعيم دائم.. وفى المقابل فهناك من عاش حياته الدنيا بأكملها يحارب الله تعالى ويضطهد النبى المرسل إليه حتى يفقد حياته فى سبيل الشيطان وذلك ما ينطبق على آل فرعون وقوم نوح فقط، ونقول فقط مع كثرة المكذبين الذين حاربوا الله ورسله لأن القرآن ذكرهم فى هذا الخصوص بالتحديد وذكر أيضاً أن المجرمين حين تقوم الساعة يقسمون ما لبثوا غير ساعة، إذن القاعدة العامة أن المجرمين يستيقظون عند البعث وقد مرت عليهم فترة البرزخ بدون إحساس أو شعور أو عذاب.. والاستثناء هو حالة آل فرعون وقوم نوح..
يقول تعالى عن قوم نوح ﴿مّمّا خَطِيَئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مّن دُونِ اللّهِ أَنصَاراً﴾ (نوح 25). أى بسبب خطاياهم أغرقهم الله فأدخلهم النار مباشرة بعد الغرق. أى فى البرزخ..
وقد استمرت خطاياهم عصياناً مدته ألف سنة إلا خمسين عاماً رفضوا فيها دعوة نوح حتى قال نوح فى النهاية يائساً من هدايتهم ﴿وَقَالَ نُوحٌ رّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيّاراً. إِنّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوَاْ إِلاّ فَاجِراً كَفّاراً﴾ (نوح 26، 27).وأوحى الله تعالى الى نوح بمصير قومه المشركين ومجىء الطوفان الذى لن يبقى منهم أحدا. وأخذ نوح فى صنع السفينة وكبار المشركين يمرون به يسخرون منه ويرد عليهم نوح بما يدل على أن الله تعالى أوحى اليه بمصيرهم فى الموت بالطوفان والعذاب بعده فى البرزخ. يقول تعالى: وأوحى الى نوح أنه لن يؤمن من قومك الا من قد ءامن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون.واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا انهم مغرقون. ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه، قال ان تسخروا منا فانا نسخر منكم كما تسخرون. فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم."هود36-39." أى ان نوح سيرد على سخرية المشركين به حين يأتيهم عذاب الخزى فى البرزخ وبعده العذاب المقيم المستمر فى يوم القيامة. نوعان من العذاب قال نوح لقومه انهم سيعلمون بأمرهما، اول نوع من العذاب هو فى البرزخ بعد الموت غرقا بالطوفان، وعنده سيرد نوح على سخريتهم بسخرية مماثلة تشعرهم بالخجل من أنفسهم. أما العذاب الاخر فهو مؤجل ليوم القيامة.
وأصبح كفار قوم نوح أئمة للكفار فى كل الأمم اللاحقة، ويأتى كل نبى يخوف قومه بمصيرهم.. وقصة الطوفان تحتل مكانتها فى كل تراث قديم للشعوب المنقرضة..
وكما كان قوم نوح أول الأمم التى أهلكها الله بالطوفان كان آل فرعون هم آخر من أهلكه الله بطوفان البحر الأحمر.. وقد سار فرعون وآله على نفس الطريق الذى سار عليه قوم نوح. رفضوا بإصرار كل الآيات التى جاء بها موسى وأخوه هارون، ووصل فساد فرعون إلى ادعاء الألوهية العظمى والربوبية العظمى ولم يسمح لموسى أن يهرب بقومه من استبداده، وقضى فرعون آخر أيامه فى مطاردة الفارين من ظلمه واستبداده، ووهب حياته حتى آخر لحظة للشيطان..
لذلك جعله الله وآله أئمة للكافرين الآتين بعده ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمّةً يَدْعُونَ إِلَى النّارِ﴾ (القصص 41). تماماً مثلما كان قوم نوح.. وقال تعالى أن المشركين اللاحقين ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا﴾ (آل عمران 11)، ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذّبُواْ بآيَاتِ رَبّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلّ كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ (الأنفال 54). أى يشبه بفرعون كل مشرك أتى بعده.
واختص الله فرعون وآله بعذاب فى البرزخ يكون مقدمة العذاب الأسوأ فى الآخرة ﴿فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا مَكَـرُواْ وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوَءُ الْعَذَابِ. النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أَدْخِلُوَاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ﴾ (غافر 45،46). اذن هنا أيضا نوعان من العذاب.الأول هناوصفه الله تعالى بأنه"سوء العذاب" والآخر هناك موصوف بأنه "أشد العذاب" .
فالقرآن فى قوله تعالى" فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب" يتحدث عن كيف أنجى الله تعالى مؤمن آل فرعون من مكر فرعون وآله، وتم ذلك باغراقهم فى البحر ودخولهم سوء العذاب فى البرزخ وليس عن القبر , والآية القرآنية تشير إلى عذاب فرعون في البرزخ إلى قيام الساعة حيث سيدخل بعدها الى نوع آخر من العذاب هو " أشد العذاب ", ولنا أن نتخيله فى البرزخ وهو يعانى فيه العذاب بينما يرى ما انعم الله تعالى به على المستضعفين من بنى إسرائيل ، وهكذا معنى قوله تعالى في قصة موسى وفرعون " إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم .. " إلى أن يقول الله تعالى عن بنى إسرائيل " ونمكن لهم في الأرض ، ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " القصص 4 : 6 .
فقد كان فرعون في طغيانه يضطهد بنى إسرائيل خشية منهم ، وحدث ما كان يحذر منه وتم تمكين الله تعالى لبنى إسرائيل بعد غرق فرعون مصداقاً لقوله تعالى " فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم " إلى أن يقول تعالى عن بنى إسرائيل " وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها، وتمت كلمة ربك الحسنى على بنى إسرائيل بما صبروا ، ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون " الأعراف 136 : 137 إذن فالتدمير لما كان يصنع فرعون والتمكين لبنى إسرائيل حدث بعد غرق فرعون .. إذن فكيف يرى فرعون ذلك بعد غرقه ..؟ لأن فرعون وآله كانوا ولا يزالون في البرزخ يعيشون في عذاب إلى أن تقوم الساعة . ثم سيأتي أشد العذاب يوم القيامة بعد سوء العذاب فى البرزخ ، مصداقاً لقوله تعالى عنهم " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب " غافر 46
ان عذاب فرعون ليس فى القبر ولكنه عذاب فى البرزخ لأن الخصوصية التالية لفرعون أن الله أنجى جسده وقال له عند الموت ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ (يونس 92). ولو كان هناك عذاب قبر كما يقول أشياع الثعبان لظل جسد فرعون فى القبر ينهشه الثعبان.. ولكن أمر الله بأن يظل جسد فرعون سليماً ليكون عبرة لمن بعده... والخصوصية الأخيرة لفرعون أنه يأتى إماماً لقومه يدخل النار بهم ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ. وَأُتْبِعُواْ فِي هَـَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾ (هود 98،99).
لقد كان فرعون وقومه أئمة الضلال.. لذلك كانت له خصوصيات فى العذاب ومنها عذاب البرزخ، يظل يعيش فيه معذباً إلى يوم القيامة، يمثل ما كانت خصوصيات قوم نوح تمنحهم دخول النار.. وفى المقابل فإن الذى يهب حياته الدنيا لرب العزة يهبه الله تعالى نعيماً أبدياً فى البرزخ والآخرة..
وفى النهاية هى استثناء للنعيم والعذاب فى البرزخ حيث لا نشعر وحيث لا نعلم إلا مما ذكره علام الغيوب فى القرآن الكريم، ولأنها قضية غيب فالمؤمن يقتصر فيها على التسليم والتدبر للآيات دون أن يدخل فى الأساطير، وإذا فعل ذلك فقد وفر طاقته للبحث فى الكون المادى مطيعاً قوله تعالى ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللّهُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ إِنّ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُواْ فِي الأرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمّ اللّهُ يُنشِىءُ النّشْأَةَ الآَخِرَةَ إِنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (العنكبوت 19،20).
ولكن بعضنا يحشو عقله بالخرافات وينشرها فى الأرض معرضاً عن النظر العلمى فى الكون الذى خلقه رب العزة ﴿وَكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ (يوسف 105).
ولو اتبع المسلمون المنهج العلمى التجريبى فى القرآن لأصبحت حضارة الغرب من نصيبهم ولكنهم تركوا منهج القرآن العلمى والعقلى واتبعوا منهج الثعبان الأقرع.
وتلك قضية أخرى..