يبنون الفيلات ويسكنون «العشش».. الحياة القاسية لعمال البناء في مصر

اضيف الخبر في يوم الجمعة ١٤ - سبتمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: ساسه


يبنون الفيلات ويسكنون «العشش».. الحياة القاسية لعمال البناء في مصر

في البدء لم يكن يعرف ما إذا كان الذي انتابه حلم أم حقيقة، فقد رأى نفسه يتناول كوبًا من الشيكولاتة الساخنة التي يحبها كثيرًا على أريكة فخمة ومريحة، وتمتد أمام ناظريه أرضية لامعة ناعمة يعرفها جيدًا، نعم لم يكن يعرف من الصورة التي يشاهدها في منامه سوى الأرضية، يعرف جيدًا مقاسات البلاط المكونة لها، ويعرف المواد التي وضعت أسفل هذا البلاط لكي يتم تثبيته، ويعرف كم من الوقت الذي استغرقه العمل بهذه الأرضية، بل ويعرف أسماء العمال الذين ركّبوا هذه الأرضية، فقط لأنهم زملاؤه، ولأنه واحد منهم.

مقالات متعلقة :

هو يوسف عبد الله، شاب مصري في العشرينات من عمره، يعمل عامل معمار، يتولى بناء الأبنية المختلفة من عمارات وشركات، ويتولى أيضًا مهمة تشطيبها وتنفيذ الأرضيات وطلاء الحوائط وعمل الواجهات المُبهرة لها، وبعدما ينتهي العمل ويكتمل البناء، يُصبح المكان الذي نفذه يوسف بيديه هو محط أحلامه، يحلم أنه يتحرك بين جنباته، يحلم أنه ينام في الحجرة الكبيرة التي يعرف أن أصحاب المكان سيخصصونها حجرةً لنومهم، ويحلم أنه يصنع لنفسه المشروبات الساخنة ويجلس في ردهة المكان أمام تلفاز كبير مثبت على منضدة صغيرة، كل هذا يراه يوسف في أحلامه وبعين خياله، بعدما ينتهي العمل ويكتمل البناء، بحسب ما يحكي لـ«ساسة بوست».

مرحلة الحلم تلك هي أفضل ما يواجهه يوسف في مراحل عمله المختلفة، فبعد حمل الرمال والأحجار، وبعد التسلق على «السقالات» – وهي الوسيلة التي يستخدمها عمال البناء للصعود للأدوار العليا من البناء قبل بناء السلالم- وبعد المحارة والطلاء وتبليط الأرضيات، بعد كل هذا الشقاء يتمثل الأجر الحقيقي الذي يحصل عليه يوسف في الحلم!

الحلم ليس كل شيء

وعلى الصعيد الواقعي يعدّ يوسف الجنيهات التي يحصل عليها قبيل العودة إلى بيته، لم يحظ يوسف سوى بتعليم متوسط، وعانى كثيرًا في البحث عن فرصة عمل، ويرى أنه أسعد حظًا بكثير من زملائه الذين يراهم في العمل ويتعامل معهم، فهو قد حصل على قدر من التعليم، و يقطن بشقة سكنية في أحد أحياء القاهرة بسيطة الحال، فيما أغلب زملائه نازحون من الأقاليم ويضعون جنوبهم في كل ليلة بحجرة واحدة مشتركة يستأجرونها، ويشترك كل خمسة أو سبعة منهم في هذا الإيجار، وبحكم كونه أصبح حاليًا بدرجة مراقب للعمال ومعاونًا لهم في العمل دومًا، فهو يفوقهم أجرًا -فمنهم من يأخذ يومية لا تتجاوز الستين جنيهًا بينما هو تصل يوميته لـ250 جنيهًا-.

يعود يوسف إلى بيته القابع بحي بولاق الدكرور حيث الزحام في كل شيء، زحام السيارات والمواصلات وزحام المحلات التي تفترش الأرصفة لتعرض بضاعتها، وزحام الباعة الجائلين الذي لا يمتلكون محلات ولا يملكون سوى الرصيف وحده مجالًا لعرض ما يحملونه يوميًا من بضائع، وفي حيّه المزدحم لا يوجد ترف لخصوصية والهدوء، فلا خصوصية في منازل لا يفصل بينها سوى بضعة سنتيمترات وفي شرفات إذا خرجت لتطل منها على الشارع فستتمكن بمنتهى السهولة واليسر أن تمد يديك لتُسلم على جيرانك في شُرفاتهم، وفي كل هذا الزحام والتكدس لا مجال لشيء من الهدوء بالطبع.

طوال اليوم يملأ يوسف عينيه من الأشجار والحدائق التي تحفل بها التجمعات السكنية التي أصبح الناس يستخدمون اللفظة اللاتينية للتعبير عنها، فيطلقون عليها اسم «كومباوند»، يبني يوسف العمارات والِفلل والقصور في هذه التجمعات، والتي تنبهر من تصميم بنائها حينما تراها من الخارج فقط.

الروايات والخيال يهونان مرارة الواقع

أما عن عبد الله محمد، وهو عامل بناء مصري عشريني، فيرى إن أكثر ما يهم الناس عند تصميم فيلاتهم وقصورهم هو الواجهات، قائلًا لـ«ساسة بوست»: «نحن نصمم واجهات مًبهرة من الزجاج والتماثيل، يمكنها أن تسحر لب الناظر إليها ولا تبهره فحسب، وكلما زاد الثراء كان الاهتمام بالواجهات أعلى وأكثر، وصرف المالك المزيد من الآلاف لجعل واجهة فيلته أو قصره أكثر إبهارًا».

أتى عبد الله من إحدى قرى صعيد مصر، وبعد حصوله على شهادة الثانوية العامة، التي لم يتمكن من إكمال تعليمه بعدها لأسباب مادية، ظل يقرأ الكثير والكثير من روايات الجيب، يحب تلك الروايات البوليسية، ويُدمن قراءة سلسلة «ما وراء الطبيعة» التي كان يكتبها الراحل دكتور أحمد خالد توفيق.

بعدما ينفذ عبد الله تصميم الواجهات كما يريدها أصحابها ينظر إليها، فيأخذه الخيال إلى تلك القصور التي كان يرسمها في خياله وهو يقرأ رواياته البوليسية.

يرى القصور التي يبنيها كقصر قديم مهجور قابع على واحدة من صفحات إحدى روايات الجيب، ويرى الفيلا غريبة المدخل التي أرادها مالكها هكذا، كذلك المنزل الذي كانت تسكنه الساحرة فارهة الثراء، يعرف عبد الله أن خياله مضحك بعض الشيء، ولكن يتحول ضحكه إلى سخرية أليمة عندما يعود إلى محل سكنه حيث ينام فقط بعد نهار طويل من الشقاء، ليتذكر أنه يشترك في غرفة واحدة مع خمسة من زملائه، بينما كانوا يبنون اليوم قصرًا مكونًا من أكثر من 20 غرفة.

وما يُضحك عبد الله حينًا ويؤلمه أحيانًا هو قصة القصر الذي بذل هو وزملاؤه الكثير من العمل والجهد لتشييد جوانبه وأركانه وتنفيذ واجهته المُبهرة، والذي أصبح بعد بنائه -في أحد الأحياء الراقية بمدينة السادس من أكتوبر- مهجورًا فعلًا؛ فمالكه كان يقطن في مكان آخر وأراد أن يؤجر هذا القصر بعدما بنائه ويستفيد ماديًا من تأجيره الشهري، لكنه لم يجد من يستأجره منه بالسعر الذي حدده، يعرف عبد الله هذا، ومنذ سنوات ثلاث وحتى الآن يمر عبد الله من أمام القصر أثناء ذهابه للبناء الجديد الذي يتولى العمل فيه أو عودته منه، ليجده مجهورًا كما هو ويتخيله محلًا للأشباح التي تسكنه بدلًا من البشر

حالة الكساد التي عانى منها صاحب القصر، وإن كانت في صورة مُترفة، يرتبط بها حالة كساد من نوع آخر يُعاني منها عبد الله وزملاؤه وسط موجات الغلاء المتكررة والتي تبدو أنها لا نهائية، فارتفاع أسعار مواد البناء ومكوناته الأساسية جعل العمل يقل بين موجات الغلاء المتتالية، فالكساد الذي يتعرض له قطاع المعمار نظرًا لارتفاع أسعار الحديد والإسمنت بشكلٍ ملحوظ في الآونة الأخيرة، لدرجة وصل فيها سعر طن الحديد لنحو 12400 جنيهًا، وارتفع خلالها بشكل غير مسبوق طن الأسمنت إلى 1200جنيه، وهو ارتفاع تسبب في قلة فرص العمل المعروضة وتوقف بناء العديد من المنشآت.

4 مليون عامل بلا تدريب ولا تأمين ولا معاش

يقول حسن عبدالعزيز، رئيس اتحاد المقاولين، لجريدة «المصري اليوم» أن هناك نحو 4 ملايين عامل دائم في القطاع ويرتكز العدد الأكبر منهم في الشركات الكبرى ومنها «المقاولون العرب»، التي تضم نحو 76 ألف عامل وكذا شركة «أوراسكوم»، التي لديها عدد مماثل، بالإضافة إلى الشركات الأخرى ومنها: «مختار إبراهيم» و«أبناء حسن علام»، وغيرها بالإضافة إلى 4 ملايين عامل «موسمي» وفي الماضي كان العدد العامل في القطاع أكبر من هذا، ولكن بعد الاستعانة بالمعدات والآلات في عمليات الحفر والإنشاء تراجع عدد العاملين في القطاع.

ويبدو أن يوسف وعبد الله وزملاءهم، ما هم إلا جزء من كل كبير من طبقة العمال غير النظاميين الذين يقدر عددهم بالملايين، 40% منهم يعملون في البناء والتشييد، بحسب إحصاءات دار الخدمات النقابية والعمالية. فيما أعلنت وزارة القوى العاملة والهجرة في بيان رسمي أن العمالة غير المنتظمة تمثل 55% من إجمالي القوى العاملة على مستوى كل قطاعات العمل الخاص والعام.

ويضاف إلى يوسف وعبد الله، حالة عبد الرحمن محمد ذلك الشاب العشريني الذي خرج من قريته بالفيوم باحثًا عن فرصة عمل لم يجدها في قريته ولا في القرى المجاورة، لا يعرف عبد الرحمن شيئًا في الحياة، لم يتعلم القراءة والكتابة، وليس لديه أي مهارة، عندما أتى للقاهرة أخبره أقرانه الذين سبقوه بالعمل في العاصمة أنه لا يملك سوى ذراعيه، وبالتالي عليه العمل في مجال البناء وكل ما عليه فعله هو حمل مواد البناء ونقلها لحين أن يتعلم مهارة جديدة.

عبد الرحمن كمئات غيره يعملون في مجال البناء بلا مهارة ولا خبرة سابقة، وبشأنهم يؤكد عبد العزيز، رئيس اتحاد المقاولين، ضرورة الاهتمام بعمليات تدريب العمال، ما يسهم في توفير عمالة ماهرة سواء للسوق المصرية أو إتاحة فرص لهم في الدول العربية، موضحًا أن العمالة المصرية أصبحت تواجه منافسة من العمالة القادمة من شرق آسيا التي جرى تدريبها على أعلى مستوى، ما ساهم في حصولهم على فرص عمل ورواتب مرتفعة على حساب العمالة المصرية، ووفقًا لعبد العزيز فإن عمليات التدريب في مصر «دمها مهدور بين القبائل»؛ حسب قوله، إذ يوجد ما بين 30 إلى 40 جهة مسؤولة عن عمليات التدريب لكن كلها لا تقدم برامج تدريبية، وتاهت المسؤولية بينها جميعًا، والنتيجة أنه على الرغم من وجود جهات رسمية للتدريب وتوفير بنود مالية لها لكن لا يستفيد منها العمال.

ظلت الأيام تسير بيوسف وعبد الله وعبد الرحمن متشابهة ومكررة، إلى أن جاء يوم أرق منامهم ولم تتمكن ذاكرتهم من نسيانه أو تخطيه أبدًا، بدأ هذا اليوم طبيعيًا وعاديًا مثل كل الأيام الأخرى، وفي منتصف فترة عملهم فوجئوا بواحد من زملائهم يسقط من دور مرتفع حيث كان مربوطًا بحبل وهو ينفذ تصميم إحدى الواجهات الزجاجية، رأوا ثلاثتهم زميلهم وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، حملوه لبيته على أكتافهم، وحاولوا أن يجدوا أي حق مادي يعين زوجته وأطفالها على الحياة، لكنهم لم يجدوا شيئًا، فليس لزميلهم أي حقوق تأمينية أو معاشية.

ليس لدى الكثير من عمال البناء حقوق تأمينية تُذكر، يقول حسن عبد العزيز عن ذلك: «نتعاون حاليًا مع وزارة التضمان الاجتماعي لزيادة المعاش إلى 800 جنيهًا بدلًا من نحو 160 أو 180 جنيهًا يحصل عليها العامل حاليًا».

وحتى هذا المعاش الضئيل لا يحصل عليه الكثير من العمال، ويرى عبد العزيز أن مسؤولية ذلك تعود عليهم، فيقول «تلتزم الشركات بتسديد حصتها في التأمين ولكن العامل لا يلتزم، ما يؤدي إلى أن كلا من الشركة والعامل لا يستفيدان من هذه الأموال، وما نسعى له حاليًا أن تسدد الشركة حصتها وكذا حصة العامل، ولكن لا بد من تخفيض قيمة إجمالي التأمين حتى تلتزم به الشركات ليكون للعامل في النهاية معاش يحصل عليه».

اجمالي القراءات 1912
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق