حلمى النمنم يكتب: حسن البنا الذى لا يعرفه أحد «الحلقة العاشرة

اضيف الخبر في يوم الثلاثاء ٠٥ - مارس - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً.


حلمى النمنم يكتب: حسن البنا الذى لا يعرفه أحد «الحلقة العاشرة

حلمى النمنم يكتب: حسن البنا الذى لا يعرفه أحد «الحلقة العاشرة»

حلمي النمنم
 
نشر: 5/3/2013 3:58 ص – تحديث 5/3/2013 5:37 ص

البنا اعترف بتلقيه أموالا من إنجلترا.. لكنه اعتبرها تبرعات وجزءا من حق مصر الذى اغتصبه الاستعمار

مرشد الإخوان يستعرض قوته أمام الأمريكان عام 1947: عددنا 600 ألف.. و30 ألفا مدربون عسكريا ويمكنهم استخدام الأسلحة

مسؤول أمريكى يعرض على البنا التعاون ضد خطر الشيوعية بخطة «أنتم برجالكم ومعلوماتكم ونحن بأموالنا»

تحالف ثلاثى بين البنا وأمريكا وبريطانيا ضد «الوفد» و«الشيوعية»

بين كل أعمال العنف والاغتيالات التى نفذها التنظيم الخاص لجماعة الإخوان المسلمين فى الأربعينيات، تستحق عملية اغتيال أحمد ماهر رئيس الوزراء التوقف أمامها، فهى عملية كاشفة لكثير من العمليات الإرهابية الأخرى ولطبيعة ذلك التنظيم الخاص، فضلا عن فكرة العنف لدى حسن البنا وفى فكره.

تم اغتيال د. أحمد ماهر (باشا) رئيس الوزراء فى بهو مبنى البرلمان (مجلس الشعب حاليا) يوم 25 فبراير سنة 1945م بعد أن انتهى من إلقاء كلمته فى جلسة سرية لمجلس النواب، ليقنع الأعضاء بما اتفقت عليه الحكومة من إعلان الحرب على اليابان، أى على دول المحور بزعامة ألمانيا الهتلرية.. وكانت الحكومة المصرية قد تلقت من الإدارة الأمريكية أن دول الحلفاء الخمس، وهى: إنجلترا وفرنسا والولايات المتحدة وروسيا والصين، سوف تعقد فى 25 أبريل من نفس السنة اجتماعًا فى «سان فرانسيسكو» لإنشاء منظمة دولية جديدة خلفًا لمنظمة «عصبة الأمم» التى كانت تأسست فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، وأن الخبراء القانونيين بالدول الخمس وضعوا أسس الاشتراك فى هذه المنظمة، ومن بينها أن تكون الدول الراغبة فى الاشتراك بها أعلنت الحرب على خصوم الحلفاء قبل أول مارس سنة 1945م، فكانت تلك فترة العسل بين كل من ستالين وتشرشل وروزفلت.

علاقة البنا ببريطانيا بدأت مع تأسيس الجماعة.. وقـــــــــت حصوله على معونة الـ500 جنيه من قناة السويس

إلى السفارة الأمريكية

علاقة وتعاملات حسن البنا مع بريطانيا مؤكدة، بدأت فى نفس لحظة تأسيس الجماعة، وطبقا لما رواه حسن البنا فى مذكراته بدأت العلاقة من جانبه هو وبسعى منه إلى شركة قناة السويس للحصول على معونة أو تبرع لبناء المسجد، هو الذى ذهب مختارا ومبادرا إليهم، طالبا المبلغ، وأخذ يساومهم ويفاوضهم، دفعوا مبلغ خمسمئة جنيه، وهو كان يريد وينتظر المزيد.. المبلغ كان ضخما بمعيار وعملة ذلك الزمان، لنتذكر أن ثمن متر أراضى المبانى فى حى مصر الجديدة وقتها -على أطراف القاهرة- كان بمبلغ مليمين.. وحين استهول بعض أنصار الشيخ أن يأخذ أموالا من الإنجليز الذين يحتلون البلاد كان رده حاضرا: إنها أموالنا نحن، هم ينهبون أموالنا وخيراتنا، لذا لا ضير أن نسترد بعض هذه الأموال، أى بعضا من حقوقنا لديهم، كان هذا التبرير منه، يعنى أن لا مانع لديه من قبول أموال أخرى من الإنجليز والسعى إلى الحصول عليها.. فى الجهة الأخرى لم يكن الأمر بهذه السهولة، الإنجليز لم يكونوا كرماء إلى هذه الدرجة كى يقدموا تبرعا إلى شاب مغمور، ولا هم من أهل الخير حتى يسهموا فى مساعدة جماعة ناشئة، لكن كل شىء لديهم بحساب وبقدر، فى الوثائق البريطانية أحاديث كثيرة عن أن هذه الأموال كانت أموال مخابراتية، فى المقام الأول، دفعت لهدف سياسى عظيم لديهم، فقد رأوا فى البنا خصما لدودا لـ«الوفد»، يمكن الاستفادة منه فى إضعاف الحركة الوطنية المصرية وهز صورة الحزب المناوئ لهم والمطالب باستقلال مصر، ولذا دعموا حسن البنا وجماعته، ولم تتوقف المبالغ المالية المدفوعة، وهى كما قلت أموال مخابراتية بالأساس.

وبسبب ذلك يذهب بعض الباحثين إلى أن المخابرات البريطانية هى التى كونت الجماعة وأسستها لهذا الهدف، حتى إن أحدهم أطلق على الجماعة اسم «إخوان الإنجليز»، وإن الجماعة صناعة بريطانية تماما.. وأظن أن الذين يرددون هذا الكلام مأخوذون بما قامت به المخابرات البريطانية فى المنطقة، سواء فى بلاد الشام والعراق أو الجزيرة العربية، وحتى إيران.. لكن يصعب القول إن حسن البنا وجماعته صناعة إنجليزية تماما، لكن المتصور أن الجماعة نشأت ووجدت بريطانيا أنه يمكن توظيفها لتحقيق أهدافها من إضعاف «الوفد» والفكرة الوطنية والقومية فى مصر -ويجب القول إنه كان هناك خصوم للفكرة الوطنية منذ بداية ظهورها، أنصار للدولة العثمانية.. دولة الخلافة، كانوا معادين للفكرة الوطنية، والمتباكين على دولة الخلافة حين سقطت كانوا كذلك معادين للفكرة الوطنية والقومية، وإلى اليوم ما زال هذا التيار موجودا أو قائما. حسن البنا كان واحدا من المتباكين على دولة الخلافة، وكان من الساعين إلى استعادتها، وهذا يعنى بالضرورة العداء للفكرة الوطنية والقومية التى حمل لواءها حزب الوفد- وكان الوفد وغيره من الأحزاب تدعو إلى دولة مدنية حديثة، لكن كان هناك من يريد الدولة الدينية، وكان حسن البنا واحدا من هؤلاء، لذا فإن ظهور حسن البنا كان نتيجة ظروف وأحوال موضوعية فى المجتمع المصرى، وقد وجد الإنجليز فيه طعما يجب تقويته وتغذيته، ليأخذ الجهد الوطنى والمصرى فى طريق آخر، وهذا ما فعله حسن البنا بامتياز واقتدار.

علاقات حسن البنا الإنجليزية ليست موضع شك، هى مؤكدة، هو اعترف بها واعترف بتلقى الأموال، لكنه اعتبرها تبرعات وجزءا من حقنا الذى يغتصبونه، وهم قالوا إنها أموال مخابراتية دفعت لأغراض سياسية، وأدوار أرادوه القيام بها، وقد قام بها فعليا.. وعموما فى عالم المخابرات تدفع الأموال -غالبا- تحت مسميات عديدة، ويندر أن تسمى الأشياء بمسمياتها، ولنتذكر أن إسرائيل حين كانت تجند عملاء لها فى مصرنا، كانت تدفع لهم الأموال تحت مسمى السعى إلى السلام ومساندة منظمات دولية تدعو إلى السلام فى المنطقة، وفى حالة حسن البنا والإنجليز، يبدو الأمر مختلفا فى بعض الشىء، فقد كان كل منهما يتصور نفسه أذكى من الآخر ويوظفه لصالحه، كل منهما تصور أنه (جند) الآخر لحسابه.

الدراسات والوثائق كثيرة وعديدة حول الدعم البريطانى للإخوان طوال سنوات حسن البنا وحتى حسن الهضيبى -المرشد الثانى- وبعد ثورة 23 يوليو 1952م. لكن الجديد هو علاقة حسن البنا بالولايات المتحدة الأمريكية، والتى بدأت مبكرا.. وهنا تفيدنا شهادة هيرمان آيلتس، الذى عرف حسن البنا والتقاه مرارا فى المملكة العربية السعودية، وقال إنه «وجده ودودا»، وإنه «لا يتردد فى الالتقاء بالشخصيات الغربية»، وذكر آيلتس كذلك أنه تجنب أن يتحدث مع البنا فى موضوع الإخوان، والواقع أنه لم يكن يريد أن يتدخل فى غير اختصاصه، فضلا عن أنه لم يشأ أن يتدخل فى عمل زملاء له بالقاهرة، إلى أن قال «أعرف أن أحد زملائى فى السفارة الأمريكية بالقاهرة كان يلتقى مع البنا بانتظام». ورغم أن الجماعة جنحت إلى العنف فى الأربعينيات، وكان ذلك مصدر قلق لدى السفارة البريطانية ولدى الملك فاروق، كل لأسبابه الخاصة، لكن الدبلوماسيين الأمريكيين فى المنطقة، وفى القاهرة تحديدا، حافظوا على اتصالاتهم بحسن البنا وجماعته، فقد جذبهم إلى الجماعة ما تبديه من العداء للشيوعية.

وثائق السفارة الأمريكية بالقاهرة تكشف الكثير والكثير، ففى 29 أغسطس 1947م يلتقى حسن البنا والسكرتير الأول بالسفارة الأمريكية، ودار الحديث بينهما فى الوضع العام بمصر والمظاهرات التى جرت.. كان حسن البنا قاد مظاهرات تأييد للنقراشى باشا، رئيس الوزراء، الذى سافر إلى مجلس الأمن لعرض مطالب مصر.. وكان هناك قلق من أن تمتد المظاهرات وتنشط لتنقلب إلى فوضى، ويحاول البنا تهدئة مخاوف المسؤول الأمريكى بالقول «لن يكون هناك مزيد من الاضطرابات وبوسعى بدؤها وإنهاؤها». فيرد عليه المسؤول الأمريكى مستفزا له أو مشككا فى ما يقول «من المشكوك فيه أن تتمكن من إنهاء الفتنة بعد اشتعالها». لكن المرشد يرد مستعرضا نفوذه وقوته بالقول «ازداد الإخوان قوة ونفوذا فى الشهور الأخيرة بعد أن انضم إليهم المنشقون عن (الوفد).. وأصبح عدد الإخوان 600 ألف، وتوجد مجموعة عمل يتراوح أعضاؤها بين 25 و30 ألفا من الجوالة، وهم منظمون تنظيما عسكريا ويتلقون تدريبا عسكريا إجباريا مستخدمين أية أسلحة أو معدات يمكن الحصول عليها».

ولا يترك السكرتير الأول بالسفارة الأمريكية عبارة حسن البنا تفلت هكذا، فيرد عليه مذكرا إياه بأنهم يعرفون حجم ما لديهم ونوعية الأسلحة بالقول «فى مناسبات عديدة اتصل أعضاء من الجماعة بمكتب الملحق العسكرى الأمريكى طلبا لكتيبات تتعلق بالأسلحة الصغير والتدريب العسكرى».

القائم بالأعمال فى السفارة الأمريكية «جيفرسون باترسون» أكد ما قاله البنا «الإخوان ازدادوا قوة ونفوذا فى الشهور الأخيرة»، وقال أيضا عن البنا «نظرا إلى سجله الماضى الحافل بالانتهازية يمكن أن نستنتج أنه سيواصل تأييده لهذه السياسة -يقصد سياسة النقراشى- ما دام ذلك يناسبه شخصيا».

وكان لدى السفارة البريطانية تفسير لازدياد قوة الإخوان فى تلك الفترة، وهو أنها تعارض «الوفد» بضراوة، الأمر الذى «يضمن للجماعة قدرا من التأييد وتسامح الحكومة والقصر معهم».

ولا بد من القول إنه مع انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة تستعد لإزاحة بريطانيا من مستعمراتها القديمة لتحل محلها وتأخذ دورها، كانت الولايات المتحدة هى التى تدخلت فى الحرب وحسمت النصر لصالح الحلفاء، وانتهت الحرب بتدمير ألمانيا واليابان وإضعاف بريطانيا وفرنسا، وصعدت مع الحرب قوتان جديدتان هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى، كانا حليفين فى أثناء الحرب، لكن بعد الحرب كان واضحا أن التنافس والصراع سوف يكون بينهما هما، وهذا ما كان طوال الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفييتى يملك الفكرة الاشتراكية أو الماركسية التى بدأت تبهر قطاعات واسعة من شباب ذلك الجيل، خصوصا بعض أبناء الأرستقراطية المصرية، وكان لدى الملك فاروق «فوبيا الشيوعية»، كان يتخوف منهم على عرشه، رغم أنه لم تكن لهم قوة يمكن أن تهدده.. وكانت الولايات المتحدة تسعى إلى إزاحة بريطانيا وإلى مواجهة الإعجاب بالسوفييت ومنعهم من الوصول إلى المنطقة، فى المقابل لم يكن هناك عداء تجاه أمريكا فى مصر ولا رفض لها، كانت قوة جديدة.. صاعدة، وهى -آنذاك- بنظر الكثيرين قوة ليست استعمارية، على الأقل ليست مثل بريطانيا، وكان الملك فاروق يوطد علاقته بالسفير الأمريكى والسفارة فى القاهرة، وكان يجد فيهم ملاذا من الغطرسة البريطانية، وكانت الولايات المتحدة تحاول تأسيس وجود قوى لها، وفتحت قنوات اتصال مع كثيرين وعلى رأسهم الإخوان.

يلفت النظر فى لقاء البنا مع السكرتير الأول للسفارة الأمريكية أنه يصارح السكرتير الأول بالحجم الحقيقى لقوته العسكرية وتسليحه، ونفاجأ بأن رجالا من الإخوان يلجؤون إلى الملحق الأمريكى بالقاهرة، والواضح أن البنا كان يعرف ذلك جيدا، فلم يفاجأ بما سمعه ولم يكذبه.. وتكتمل الصورة بلقاءات أخرى للبنا مع «فيليب إيرلاند»، حيث سيذهب إليه بمشروع كامل للتعاون أو للتحالف المالى والعسكرى ضد الشيوعية والشيوعيين.

ذهب المرشد إلى منزل السكرتير الأول بالسفارة، ولم يكن منفردا هذه المرة كان معه محمود عساف مدير إعلانات جريدة الإخوان والقائم بعمل السكرتير الخاص للمرشد للشؤون المعلوماتية -سوف يستقيل من الجماعة زمن حسن الهضيبى- وكان معه أيضا محمد الحلوجى من الجماعة.. وما دام أنهم ذهبوا إلى بيت المسؤول الأمريكى، وكان المرشد هو من طلب اللقاء، لذا بدأ هو الحديث، ودخل فى الموضوع بشكل مباشر قائلا «الشيوعية فى الشرق الأوسط خطر داهم على جميع الشعوب، والإخوان المسلمون يحاربون الشيوعية بكل الوسائل الممكنة. ومن الطبيعى أن يترك أعضاء الجماعة عملهم الأصلى لدخول الخلايا الشيوعية للحصول على المعلومات، وعندما يفعلون ذلك فإنهم يتركون وظائفهم، وبذلك يفقدون مرتباتهم. وإذا أمكن تعيينهم على أساس أنهم محققون وباحثون فإن هذه المشكلة يسهل حلها».

محمود عساف كتب عن هذا اللقاء فى مذكراته، التى صدرت سنة 1993م، ويذكر أن اللقاء تم بناء على طلب رجل السفارة الأمريكية، وأن اللقاء كان مقررا أن يتم فى مقر المركز العام للجماعة، لكن المرشد هو الذى طلب أن يتم فى منزل رجل السفارة، فقد تخوف المرشد من أن يرصد رجال القلم السياسى دخول المسؤول الأمريكى إلى مقر الجماعة، وكأنهم لن يرصدوا اللقاء فى الزمالك، وأظن أن المرشد لم يكن يريد لأعضاء الجماعة أن يروا مرشدهم مع هذا المسؤول، ويذكر عساف أن الحلوجى حضر اللقاء للترجمة الفورية بين المرشد ورجل السفارة، وقد فوجئوا بأنه يعرف العربية جيدا، والمفاجأة لنا نحن، فقد سبق للمرشد أن التقى هذا المسؤول وتحدث معه، اللهم إلا إذا كان ذلك المسؤول تعمد فى اللقاءات السابقة أن لا يكشف معرفته بالعربية، وطبقا لما ذكره عساف فإن رجل السفارة هو الذى بدأ بالحديث بأنه يعرف موقف الجماعة من الشيوعية، وأنها إلحاد يجب محاربته، وينفى عساف تماما أن يكون المرشد طلب أموالا أو إعانات من رجل السفارة، بل إنه رفض عرضا بهذا الخصوص من «إيرلاند».. تساءل إيرلاند: «لماذا لا يتم التعاون بيننا وبينكم فى محاربة هذا العدو المشترك وهو الشيوعية؟! أنتم برجالكم ومعلوماتكم ونحن بمعلوماتنا وأموالنا». فرد المرشد قائلا «فكرة التعاون فكرة جيدة، غير أن الأموال لا محل لها، لأننا ندافع عن عقيدتنا، ولا نتقاضى أجرا عن ذلك». غير أن حسن البنا عاد كى يبدى عدم ممانعة فى الأموال، بل يطلبها بأسلوب آخر، يقول، طبقا لرواية عساف «لا مانع لدينا من مساعدتكم بأن نمدكم بالمعلومات المتوافرة عنها. وحبذا لو فكرتم فى إنشاء مكتب لمحاربة الشيوعية، فحينئذ نستطيع أن نعيركم بعض رجالنا المتخصصين فى هذا الأمر، على أن يكون ذلك بعيدا عنا بصفة رسمية، ولكم أن تعاملوا هؤلاء الرجال بما ترونه ملائما دون تدخل من جانبنا غير التصريح لهم بالعمل معكم».

محمود عساف لا ينكر فى تقرير المسؤول الأمريكى شيئا سوى أنه هو الذى طلب المقابلة لا المرشد، والواقع أن هذه ليست القضية، بل القضية هى ما دار فى المقابلة.

وتثير هذه المقابلة وما دار فيها وحرص المرشد على طابع السرية بدءا من رجال القلم السياسى، أى جهاز الأمن المصرى، وكذلك عن عموم أعضاء الجماعة، وهنا لا بد من التوقف لإثارة العديد من التساؤلات والملاحظات، حول المرشد العام والجماعة، فإذا كان رجل السفارة سعى إلى مقابلة المرشد، فهذا جزء من عمله وواجبه الوظيفى تجاه حكومته التى يمثلها، ومن ثم لا ضير عليه، ولذا وجدناه يسرد تقريرا إضافيا إلى الخارجية الأمريكية (جهة عمله الرسمى) ينقل ما دار فى المقابلة، بينما حرص المرشد على أن يخفى ذلك عن الجميع، لم يذكر هو شيئا عنها فى مذكراته ولا ذكر شيئا للمقربين وإلا لكتب عنها أحدهم، ولم يكتب عنها فى حينه فى صحف الإخوان، بل إن محمود عساف الذى حضر المقابلة -لم يكتب عنها سوى بعد إعلان الوثائق الأمريكية وإتاحتها للاطلاع العام طبقا لقانون تداول وحرية المعلومات- والواضح أن عساف كان يدفع عن نفسه تهمة، لذا ذكر أنه لم يحدث أى اتصال بينه وبين المسؤول بالسفارة بعد ذلك، ولا أى مسؤول آخر غيره.

ويمكن أن نضع هنا عدة ملاحظات أو تساؤلات:

أولا: يثير ما دار فى هذه المقابلة أمرا بالغ الخطورة، يتعلق ببيع المعلومات وتوظيفها، كانت الجماعة تزرع بعضا من أعضائها داخل الخلايا والتنظيمات الشيوعية، وهذا تم بعلم المرشد، وكانت هذه المعلومات تستخدم فى أغراض عديدة، من بينها أنه كان يتم تقديمها إلى جهات الأمن فى مصر، يقول عساف إنه زرع فى عام 1946م أحد المتعاطفين مع الإخوان بين اليساريين، وكان يدفع له راتبا شهريا قدره خمسة جنيهات، ولكن لنتأمل كيف كان يتعامل مع المعلومات التى يقدمها ذلك العميل. «ما كان يصلح منها للنشر فى مجلة الكشكول الجديد (التى كنت صاحبها) نشرناه، ومثال ذلك المساخر التى كانت تحدث فى فيلاتهم بشارع قصر العينى ويجتمع فيها الأولاد والبنات يسكرون ويعربدون». أى النشر بهدف الفضح والتشهير، فضلا عن تخويف الآخرين من هذه التجمعات، لكن هذه معلومات عامة، ووقائع قد تحدث من آخرين وبينهم، فالسكر والعربدة إن صحت لم تكن من صميم الفكر الاشتراكى، لكنها سلوك أخلاقى وأمور شخصية، يمكن أن تقع حتى من بعض الإخوان، وقد صدرت اتهامات أخطر من هذه بحق بعض الإخوان، مثل ما نسب إلى عبد الحكيم عابدين سكرتير الجماعة وزوج شقيقته حسن البنا، وأحيل إلى التحقيق فى فضائح أخلاقية مع بعض زوجات وبنات أعضاء من الجماعة وأدانه التحقيق، وتدخل حسن البنا فى اللحظة الأخيرة ليمنع توقيع أى عقوبة على عابدين، بل ويلتمس له الأعذار والمبررات، واعتبر أن ما صدر من عابدين ووقع منه هو من قبيل «اللمم»، وحدث أن ارتكب أحد الإخوان فى معسكرات الجوالة فعلا شائنا، وتوقع الإخوان أن يفصله المرشد من الجماعة أو يوقع به عقابا قاسيا، لكن المرشد اكتفى بأن فرض عليه صيام عدة أيام.

بقية المعلومات والأخبار التى كان يجىء بها هذا العميل كان عساف يتعامل معها على نحو آخر يقول «كنا نعرض ما يهم الدعوة منها على الإمام الشهيد، والباقى كنا نخطر به مدير الأمن، فوكيل الداخلية المرحوم أحمد مرتضى المراغى، الذى حاول أن يعرف منى مصدرى فى هذه الأخبار ولكن هيهات». أى أن الجماعة من البداية قررت أن تقوم بدور الأمن السياسى، تلقائيا، زرعوا العناصر داخل الجماعات الأخرى ووظفوا العملاء ثم يمدون كبار المسؤولين بالداخلية بما يريدونه، ثم ها هم قرروا أن يصبح نشاطهم دوليا ويقدموا المعلومات إلى السفارة الأمريكية بالقاهرة، وأن يدخلوا طرفا فى لعبة الحرب الباردة، مبكرا جدا، وبالتأكيد لن نساوى تماما بين التعاون طواعية مع وزارة الداخلية المصرية والسفارة الأمريكية، لكن المعيار الأول عندهم ثابت وهو اختراق الآخرين والتجسس عليهم والمتاجرة بالمعلومات التى يتوصلون إليها، وإذا كان عساف يعترف بأنه كان يمد مدير الأمن العام ببعض المعلومات، ثم شرعوا فى التعامل مع الولايات المتحدة، ترى أى الجهات الأخرى تعاملوا معها معلوماتيا أو مخابراتيا؟!!

ثانيا: ما قام به محمود عساف واعتراف المرشد الأول به من زراعة أعضاء داخل اليساريين والشيوعيين، هل يفسر ذلك ما كان يحدث من تحول بعض اليساريين عن الأفكار الاشتراكية والماركسية ويتجهون إلى التيارات الإسلامية وإلى الإخوان تحديدا! هل كان هؤلاء أعضاء الإخوان أو المتعاطفين معهم، تمت زراعتهم فى اليسار ثم حين يتم سحبهم بعد انتهاء مهامهم تتم تغطية هذا الانسحاب بدعوى العودة ثانية إلى الإسلام، ومهاجمة اليسار وأفكاره؟!

ثالثا: يرتبط بذلك كله ما ورد فى بعض تقارير السفارة البريطانية من أن التنظيم الخاص والبنا شكلا جهاز مخابرات خاصا، وأن هذا الجهاز يتجسس على المناوئين للجماعة، وعلى كبار الشخصيات وعلى بعض السفارات الأجنبية، بل وعلى الحكومة المصرية نفسها، ولم يأخذ المراقبون الأمر بجدية، واعتبروه مبالغة من كتبة التقارير بالسفارة البريطانية، لكن ها هو المرشد يعترف أمام مسؤول السفارة الأمريكية، وسكرتيره الخاص للمعلومات يؤكد، والواقع أن من يتابع عمليات الاغتيالات والأعمال الإرهابية التى قام بها التنظيم الخاص يدرك أن هناك جهدا مخابراتيا مهما فى الاجتماع الذى عرض فيه السندى اغتيال أحمد ماهر، كان من الواضح أن هناك من تابع موكب أحمد ماهر، ويعرف تحركه.. مكانا وزمانا، ويعرف النقطة التى تتحرك فيها السيارة ببطء، وهى منطقة آنذاك قريبة من الصحراء، أى يمكن الهرب منها بسهولة، وهكذا فى بقية العمليات، أى أن هناك جهاز مخابرات بالفعل داخل الجماعة، أسسه حسن البنا بنفسه، وقد قدم محمود عساف فى مذكراته تحت عنوان «الجواسيس» كيف كان البنا بوسائله يعرف أعضاء الجماعة الذين جندهم القلم السياسى لنقل معلومات عن الجماعة، وكان المرشد يحولهم إلى عملاء له داخل جهاز الأمن، فقد كان عساف يكتب الأخبار التى يريدون أن تصل إلى الأمن، ويذهب الجواسيس بها ليسلموها، وكان عساف يدفع لهم راتبا شهريا مقابل ذلك، ولضمان الولاء التام، كان يراعى أن يكون هناك خبر أو أكثر مشترك بين أكثر من عميل، كى يتأكد الأمن من أن الخبر صحيح.

رابعا: إن المرشد اصطحب معه المترجم ومدير إعلانات الصحيفة الخاصة بالجماعة، ومن الناحية المهنية فى عالم الصحافة حين يذهب رئيس مجلس إدارة جريدة أو مالكها الفعلى إلى أحد المصادر ومعه مدير الإعلانات، فهذا يعنى أن هناك اتفاقا ورغبة فى عقد صفقة إعلانية، بأى صيغة من الصيغ، قد تكون إعلانا مباشرا أو فى حالة السفارات ومسؤوليها يكون الإعلان غير مباشر، أو ما يسمى إعلانا تحريريا، أو مواد صحافية تنشر وتقدم للقارئ على أنها مادة تحريرية، ومهنية خاصة، بينما هى بالفعل إعلان مدفوع الثمن، وقد يكون المقابل هو التوقف عن مهاجمة أو انتقاد بلد السفارة فى الصحيفة أو أى وسيلة أخرى، المهم أن هناك اتفاقا على أو سعيا إلى الاتفاق على أموال سوف تدفعها السفارة.

خامسا: المرشد لا يمانع بالمرة أن يعمل أعضاء من الجماعة «عملاء» ويقدمون معلومات للسفارة الأمريكية مقابل أجر، وأن يتم توظيفهم بمسمى «باحثين»، شريطة أن لا يكون ذلك باتفاق رسمى مع الجماعة، أى أن يتعامل كل من هؤلاء مع السفارة بشخصه، صحيح أن المرشد حاضر فى العملية ويقف فى الخلفية، لكن دون أن يترك بصمة تدل عليه وتشير إليه، وهنا يثور التساؤل ماذا لو ضبط أى من هؤلاء واتهم بالتجسس أو العمالة والتخابر مع سفارة أجنبية، ساعتها سوف تكون الجماعة خارج الاتهام، ويتحمل التهمة بالكامل الفرد ذاته، وبالتأكيد سوف تتبرأ منه الجماعة نهائيا، كما حدث مع قتلة النقراشى، الذين قال فيهم المرشد ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين. هو اتجاه فى الجماعة منذ حسن البنا إلى اليوم، الدفع بالشباب الصغار إلى الانتحار العملى، ويظل قادة الجماعة ومرشدها العام فى صورة البرىء.. المترفع دائما.

سادسا: إن المرشد فى حديثه مع مسؤول السفارة الأمريكية استعمل المصطلحات السياسية الأمريكية، ولم يستعمل مصطلحاته هو ولا المصطلحات السائدة فى مصر، فقد استعمل مصطلح «الشرق الأوسط»، وهو مصطلح أرادت به أمريكا أن يكون بديلا عن كلمة الشرق العربى أو كلمة العالم العربى أو الشرق الإسلامى وهكذا، كان مصطلح الشرق الأوسط يعنى أن تدخل الدولة الصهيونية التى كان يجرى العمل على تأسيسها فى خريطة المنطقة بلا تعقيدات وبلا مصاعب، أما المصطلحات السائدة عندنا فكانوا يريدون استبعادها، والواضح أن المرشد لم ينتبه جيدا أو استعملها عابرا وربما مجاراة للمسؤول الأمريكى وليبدو «ودودا» معهم كما كان يقال عنه.

سابعا: استعمل المرشد الفكرة التى كان يروج لها الأمريكيون، وكانت فى طريقها للبزوغ فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، وهى أن الشيوعية خطر داهم على جميع شعوب الشرق الأوسط، وأنها تسبق ما عداها من أخطار ومشكلات، والحقيقة أن الشيوعية لم تكن وقتها خطرا داهما على مصر ولا على البلاد العربية، رآها الدبلوماسيون الأمريكيون خطرا على نفوذهم الذى كان يسعى إلى التمدد فى المنطقة وفى العالم، لكنها لم تكن خطرا علينا، كان الخطر الأهم بالنسبة إلى مصر هو الاحتلال البريطانى الذى ظل جاثما على مصر والمصريين، وكان الخطر هو الفقر والجهل والمرض، وكان الخطر كذلك إعادة رسم خرائط بلاد المنطقة وفق النظام العالمى الذى تقوده الولايات المتحدة، وقد ثبت فى ما بعد أن الشيوعية لم تكن خطرا حتى على الولايات المتحدة نفسها، فقد سقط الاتحاد السوفييتى وحده.. تلقائيا سنة 1990م، دون حرب ودون طلقة رصاص واحدة، سقط بفعل عوامل تآكل داخلية. لكن المرشد كان يريد أن يلعب على الأرضية الأمريكية بأفكارها ومصطلحاتها وكذلك بآلياتها وأموالها.

ثامنا: أن يتجه المرشد إلى زرع عناصره داخل الجماعات الأخرى، أيا كان الخلاف الأيديولوجى معها، يؤكد أن المرشد لم يكن يؤمن بالحوار الفكرى والجدل بين التيارات وتبادل الأفكار والآراء اتفاقا واختلافا، ومن ثم لا يؤمن بالتداول، بل يؤمن بالعمل التحتى والسرى، وأكاد أقول «العمل القذر» ضد الخصوم، الذى لا يتردد فى الوشاية بهم لدى أجهزة الأمن، بل ولدى السفارات الأجنبية. وهذا يعنى اغتيالا معنويا تاما، ومن ثم يصبح الاغتيال المادى والجثمانى شيئا عاديا ولا غضاضة فيه لديه، طالما أنه سيزيح الخصم من أمامه.. هاجمه الشيوعيون فبعث إليهم بالجواسيس ليشهر بهم ويبلغ عنهم أجهزة الأمن والسفارة الأمريكية. ولا يتردد أن يطلب مقابلا ماليا لهؤلاء العملاء يدفع لهم، وأن يسموا «باحثين» للتغطية، فهذا يعنى أنه يجعل من رجاله هؤلاء، مجرد جواسيس وعملاء ومرتزقة لدى دولة أجنبية، على مواطنين مصريين من أبناء وطنهم، فقط يختلفون معهم فى الأفكار والتوجهات.

تاسعا: التساؤل الأهم.. هل أحاط البنا أى جهة مصرية علما بما يعرضه على السفارة الأمريكية؟ نعرف أنه لم يكن هناك وقتها جهاز مخابرات فى مصر، لكن كان هناك الأمن السياسى، وكان هناك الديوان الملكى، فهل أحاطهم علما؟ هل استأذن؟ هل نسق معهم؟ الواضح أنه لم يفعل، وهى بمعيار اليوم قضية تخابر وجاسوسية بامتياز. وجرت العادة أن تسعى السفارات الأجنبية أو أحد رجالها إلى المواطنين تطلب منهم معلومات أو تجندهم، أما أن يحدث العكس ويتقدم المرشد للسفارة بتقديم عناصر يتولى هو تجنيدها وتدريبها ويتولون هم التمويل فهو المفاجأة الحقيقية. وقدم المرشد للمسؤول الأمريكى الإطار أو الغطاء الذى يمكن أن يعمل من خلاله هؤلاء المجندون أو الباحثون، وهو إنشاء مكتب مستقل مشترك بين الجماعة والحكومة الأمريكية لمحاربة الشيوعية.

عاشرا: طلب حسن البنا استثناء واحدا وهو «أمريكا تؤيد حاليا الأهداف الصهيونية. ولذلك يجب أن يكون للإخوان حق الاعتراض على أمريكا فى هذه النقطة». أى مجرد اعتراض فقط، أما صور التعاون المشترك فستستمر ولن تتأثر بذلك، هو اعتراض لحفظ ماء الوجه، أو كما يقال اعتراض للاستهلاك المحلى.

اجمالي القراءات 6208
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق