حركة التاريخ والدولار:
حركة التاريخ والدولار

-د. ذوالفقار سويرجو   في الإثنين ١٣ - أكتوبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً


حركة التاريخ والدولار...؟؟؟ بقلم د. ذوالفقار سويرجو .      

يحاول الكثيرون من المثقفين والمهتمين بالشؤون السياسية المحلية و العالمية الابتعاد عن الخوض في تفاصيل الأزمة المالية العالمية الحالية... بسبب صعوبة فهمها وبسبب ارتباطها بالأرقام الخيالية واللوغارتمية..  عصيبة الاستيعاب ..وهنا في هذا المقال سنحاول تبسيط هذا المُعضلة بحيث نتمكن أن نفهم طبيعة هذه الأزمة وكيف حدثت وما هي سبل الحماية من عواقبها على الصعيد القومي والوطني.؟... وعليه يتوجب علينا العودة للوراء 65 عاماً لكي نفهم كيف بدأت هذه الإمبراطورية المالية ... وما هي الأسس التي ارتكزت عليها ..حتى نستطيع فهمها ... وبشكل مُبسط ......!

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 خرجت الولايات المتحدة من هذه الحرب كأقوى دولة في العالم وصاحبة نفوذ.. من نواحي ثلاث .. الأولى : النفوذ الاقتصادي القوي جداً ..مقارنة بإقتصاد  أوروبا المدمر بسبب الحرب واقتصاد اليابان المهزومة عسكرياً والمدمرة بنيوياً... واقتصاد الإتحاد السوفيتي الذي لم يكن يعتمد على سياسية السوق المالية العالمية ذلك الوقت... بطبيعة أنها كانت دولة إشتراكية مختلفة في نظامها المالي ... وكان ان ذاك إجمالي الناتج القومي الأمريكي يعادل 45 % من إجمالي الناتج القومي العالمي .... وهذا بالطبع كان يؤهلها بأن تقود العالم اقتصادياً ضمن نظام رأسمالي مُسيطر عليه من قبل الدولة أي اقتصاد غير ليبرالي خارج السيطرة ... هذه الخاصية جعلت من الولايات المتحدة دولة عظمى صاحبة نفوذ سياسي قوي ....و عليه  قامت الولايات المتحدة بفرض الدولار كعملة احتياط إستراتيجي عالمي يتم من خلاله  حل كل المشاكل المالية ...استناداً إلى القوة الاقتصادية الأمريكية الحقيقية والملموسة في حجم الإنتاج القومي الأمريكي .

أما العامل الثاني : فهو النفوذ السياسي العالمي والذي تحدثنا عن أسبابه وكيف استطاع أن يضع الولايات المتحدة كامبراطورية مالية سياسية تتحكم في اقتصاديات  دول العالم ككل ... وهذا دفع الولايات المتحدة لضخ أوراق مالية هائلة في السوق العالمي لا تتناسب مع إجمالي إنتاجها القوي بل تفوقه بمرة ونصف تقريباً في ذلك الحين  ووصل اوجه في عهد رونالد ريغان... وبدأت أيضاً في زيادة حجم القروض للمواطن الأمريكي استناداً  الى كرت السمعة والمعروف باسم } كريدت كارد { ... والذي يعني كرت السمعة... دون وجود أي ضمانات أخرى حقيقية وملموسة كالعقارات  والمصانع والثوابت الأخرى.. ولكن كما أسلفنا ذكره كانت الدولة تسيطر سيطرة شبه كاملة على نظام السوق مما أدى إلى تماسكه رغم عجز الكثيرون من سداد هذه القروض ... فكانت تتدخل الدولة لمساعدة المقترضين من الطبقات الوسطى صاحبة السمعة الطيبة إتقاءاً لحدوث أزمة مالية ...ونجح ذلك في العديد من المرات؟. طبعا هذا الثراء كان على حساب الدول الفقيرة في العالم والدول المهزومة في الحرب العالمية الثانية

أما العامل الثالث فهو النفوذ العسكري المرعب ... وهذا ليس بحاجة لشرح كثير إذا ما تذكرنا أن الولايات المتحدة أعلنت عن وجودها كإمبراطورية عسكرية من خلال إلقاء القنابل النووية على هيروشيما و نجازاكي اليابانيين في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 ... ناهيك عن حجم القوة العسكرية الهائل من ناحية العُدة والعتاد والأساطيل والثورة التكنولوجية العسكرية  التي قامت باستغلالها الولايات المتحدة بعد هزيمة ألمانيا والسيطرة على كل أسرار تكنولوجيا الصورايخ الألمانية والتكنولوجيا المدنية المتعلقة بتكنولوجيا السيارات والآلات الصناعية وحتى الحواسيب البدائية في ذلك الوقت .

إن هذه العوامل الثلاث جعلت من الولايات المتحدة أكبر قوة اقتصادية في العالم وتتحكم في سياسات الكثير من دول العالم وجعلت من اقتصاديات الدول الفقيرة مجرد توابع و ذنيبات للاقتصاد الأمريكي من خلال سيطرتها السياسية والعسكرية على تلك الدول وحكوماتها وخلق شرائح مستفيدة ومرتبطة بالامبراطورية الامريكية تقوم بحماية مصالح الولايات المتحدة  في المنطقة .. حفاظا على امتيازاتها وسلطتها التي تحميها الامبراطورية الجديدة...... وبعد انهيار دول المعسكر الاشتراكي ... أصبح هناك سيطرة مُطلقة للولايات المتحدة على كافة بقاع الأرض وأصبح العالم برأس واحد يتحكم بنا كما يشاء .

امتدت  هذه السيطرة المطلقة للدولار طوال عقود... وكانت تستطيع الخروج من الكثير من الأزمات بسهولة من خلال ضخ أوراق مالية جديدة في السوق الأمريكي والعالمي لا تتناسب على الإطلاق مع حجم إجمالي الإنتاج القومي الأمريكي ... حتى عهد الرئيس بيل كلنتون .....حيث كان هناك فائض في الإنتاج القومي الأمريكي حوالي 250 مليار دولار... بسبب تخليه عن سياسة التطرف الاقتصادي الليبرالي الذي انتهجه سلفه ريغان وسياسة افتعال الحروب غير المبررة............... ولكن منذ سيطرت المحافظون الجدد على سدة الحكم في الولايات المتحدة ( جورج بوش الابن ) ونتيجة لعوامل عديدة سنذكرها في السياق بدأ الاقتصاد الأمريكي في التراجع.. وانعكس ذلك بالطبع على الاقتصاد الأوروبي الشريك و دول العالم الثالث التابعة للإمبراطورية المالية الأمريكية وهنا يظهر السؤال .. لماذا حدث كل ذلك ..؟؟:

أولاً : لقد أصبح حجم الأقراض للمشاريع  غير الإنتاجية في الولايات المتحدة .. هائل جداً ( البناء , المنازل , ....) ونتيجة للسياسة  الليبرالية المتطرفة التي انتهجتها إدارة بوش برفع الرقابة والسيطرة الحكومية عن النظام الرأسمالي الأمريكي ... لم يعد هناك مقدرة  للمقترضين بسداد ديونهم للبنوك المقرضة  .......مما زاد من أزمة رأس المال الدوار.. في السوق الأمريكي ودفع الحكومة لإغراق السوق بالأوراق المالية الوهمية والتي لا يوجد لها أصول ثابتة وضمانات حقيقية ملموسة حتى وصلت إلى ما يقارب 170 تريليون دولار... في الوقت الذي يشكل الناتج القومي الأمريكي 45 ترليون دولار.. . أي بفائض سلبي 125 تريليون دولار مما اضطرها في نهاية المطاف لطلب دعم الكونجرس ب800 مليار دولار لمنع انهيار تلك البنوك القرضة كحقنة مسكنة لحين تدارك الامر بتغير السياسة المالية الحكومية المتطرفة وقد يكون ذلك متاخرا جدا.

ثانيا : تراجع الإنتاج القومي الأمريكي من 45 % من إجمالي الإنتاج العالمي ابان الحرب العالمية  إلى 27% من إجمالي الإنتاج العالمي في الوقت الحاضر  وهذا بسبب عدة عوامل : أهمها الصعود القوي والمتسارع للإنتاج القومي الصيني وإجمالي الإنتاج القومي الأوروبي وبعض دول العالم الأخرى كفنزويلا و إيران وروسيا وماليزيا و .... الخ ..

كل ذلك ضاعف من أزمة الاقتصاد الأمريكي وأفقده العامل الأول الذي تم التطرق إليه في أول المقال وهو النفوذ الاقتصادي القوى .

ثالثاً : تورط الإدارة الأمريكية بسبب سياستها الخارجية الخرقاء والتي دفعتها لافتعال العديد من الحروب غير الضرورية وغير المفيدة للاقتصاد والأمريكي ...بل كانت حروب  لخدمة أهداف سياسة غير أمريكية ... وإسرائيلية بالتحديد ..فرغم السرقات المأرثونية لثروات العالم والنفط العراقي بالتحديد إلا أن حجم الإنفاق الذي دفعته الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق بالتحديد كان أضعاف أضعاف المتوقع وكانت الولايات المتحدة وإدارتها الحالية  المُفحلة  بالغباء تعتقد أن حرب العراق مجرد نزهة للجيش الأمريكي وسيخدم الأهداف الأمريكية في المنطقة والوجود الغاصب لدولة الكيان الصهيوني بالدرجة الأولى.... ولكن السحر انقلب على الساحر وها هي العراق تضع الإمبراطورية الأمريكية في ورطة كبيرة  تهدد نظامها المالي بل و تهدد السوق المالي العالمي بالانهيار ..

أما رابعاً : فهي الخطوة الصينية التي تمثلت  ببيع الصين لكم كبير من احتياطاتها من الدولار مقابل اليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني مما شكل ضربة قوية للاقتصاد الأمريكي وجعل من أوراقها المالية مجرد وهم وأرقام لا وجود لها على أرض الواقع لانها غير مدعومة لا بالذهب ولا بالقوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية بالمفهوم النسبي طبعا .... وهنا نضرب مثال بسيط أن هناك شركة ما تمتلك ألف سهم قامت بيع أسهمها بدولار لكل سهم وكان حجم الربح في أخر العام 30% مثلاً ... وعند توزيع الأرباح كان نصيب كل سهم 30 سنتاً ....ولكن بعد ذلك ونتيجة للكم الهائل من الأوراق المالية الوهمية المطروحة في السوق تم التهافت على هذه الشركة لشراء أسهمها حتى أصبح سعر السهم 5 دولارات ولكن في العام التالي و عند توزيع الأرباح كان حجم الربح أيضاً 30% وهذا يعني أن نصيب كل 5 أسهم 30 سنتا... أي لا شيء لأن حجم الإنتاج الحقيقي في الشركة لم يتغير في الوقت الذي تضخم سعر السهم إلى خمسة أضعاف.. مما دفع بالمستثمرين لبيع هذه الأسهم بخسارة وهنا تحدث الانهيارات في سوق الأسهم وتتسبب في إفلاس الكثير من الأفراد والشركات ثم يعاد شراءها وتداولها ونتيجة لتضخم رؤوس الأموال الوهمية يعود السهم بالارتفاع  وتحدث نفس الدورة السابقة ... مما شكل كل هذا الإرباك المالي الذي نسمع به الآن .

على ما تقدم فإن كل الحلول التي طرحت لعلاج المشاكل المالية في الولايات المتحدة هي حلول مؤقتة وسيتم علاجها الآن ب 700 مليار دولار ولكن سرعان ما سيتهاوى هذا الحل نتيجة لتدهور النفوذ الأمريكي الاقتصادي والسياسي والعسكري في كافة بقاع الأرض ونتيجة لانخفاض اجمالي الانتاج القومي الامريكي بالنسبة لانتاج العالم ونتيجة لفقدان العديد من الاسواق العالمية .. ونشوء قوى جديدة مرشحة لمنافسة الولايات المتحدة في التحكم في سياسة الكرة الأرضية... وهذا يعني أن العودة للاستثمار في السوق المحلي الوطني والقومي وخاصة في المشاريع العينية ( أي الإنتاجية ) وليس في سوق البورصات الوهمية سيكون أكثر أماناً وأقل ربحاً .. رغم أن حجم الفائدة في السوق العالمي وصل إلى أقل من 2% وهي النسبة الأقل منذ الحرب العالمية الثانية هذا يعني أن الاستثمار في المنطقة العربية قد يكون أكثر ربحاً ولكن ذلك يحتاج إلى الخروج من التبعية الأمريكية.. والالتفات لمصلحة المواطن العربي قبل مصلحة الأفراد  المتنفذين والذين يقذفون بموارد الأمة إلى حض أعدائنا ... في الوقت الذي يمكن أن تصبح سلاحاً قوياً لهزيمة الرأسمالية الامبريالية الأمريكية والأوروبية وقواعدهم العسكرية ..إسرائيل وغيرها .

لهذا السبب كانت إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية والآن الصين وروسيا تعتبر محاور الشر بالنسبة للإدارة الأمريكية ... رغم أن الولايات المتحدة تعرف جيداً من هو الوطني ومن هو العميل .. ومن هو الحُر ومن هو السبب في تحويل شعوبهم إلى عبيد ولكن الإدارة الأمريكية لا يعنيها من الأكثر وطنية.. بل يعنيها من هو الأكثر خدمة للمصالح الأمريكية .

وفي الختام أقول الويل لكم .. إن مر عليكم عصر النار وكنتم شعباً متواضع ... يرضى بالقهر وبالتعذيب ويقنع بالأمر الوقع ...............لان الامبراطورية الامريكية في طريقها للاحتضار ويجب علينا كعرب ان نكون اول من يدق المسامير في نعشها.....تحضيرا لانهيار النظام الراسمالي الذي استعبد الشعوب وتسبب في قهرها وشقائها ...ولان حركة التاريخ لا يمكن ان تسمح لهذا النظام بالاستمرار و لان العدالة بكل اشكالها هي قدر هذه البشرية... والعدالة لا تكمن الا في توزيع الثروات بين البشر ضمن نظام يكفل كافة الحقوق لكافة البشر

اجمالي القراءات 7393
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق