رقم ( 2 )
الفصل الأول

(كتب ، وكتاب ) فى السياق القرآنى

الفصل الأول

المقال : 1

(1)(بمعنى الالتزام والفرض)

أولا : (كتب ) بمعنى إلتزام لله تعالى بوعده :

مقالات متعلقة :

يتكرر ويتأكّد فى القرآن الكريم حقيقة أن الله جل وعلا لا يخلف وعده ولا يخلف الميعاد، نقرأ مثلا : (إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) ( آل عمران 9، الرعد 31)(وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُوَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )( الروم 6 )( أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّوَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ )( يونس 55 )(وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ؟) ( التوبة 111 )(فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ)( ابراهيم 47 )(كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْؤُولًا) ( االفرقان 16 ).وهذا الالتزام الالهى بالوعد يعنى الفرض المكتوب الذى ألزم رب العزة جل وعلا به ذاته . ونتوقف مع نوعى الالتزام المكتوب المفروض باستعمال مصطلح ( كتب ، كتاب ) بمعنى الفرض والالتزام    :

(كتب ) فى الرحمة : الله جل وعلا كتب على نفسه الرحمة ،اى ألزم بها ذاته.

 1 : يقول جل وعلا فى حكم عام (قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة)( الأنعام 12 )

2ـ وجاء تخصيص هذه الرحمة بمن يستحقها من المؤمنين ، قال جل وعلا لرسوله الكريم خاتم المرسلين :(وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَأَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ  ).(الأنعام 54 .).أى إنه جل وعلا كتب على نفسه الرحمة أى إلتزم بها لمن يستحقها من المؤمنين.

3ـ وأعلنها من قبل فى خطابه لموسى عليه السلام : دعا موسى ربه جل وعلا قائلا :(وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَـا إِلَيْكَ ) وردّ عليه رب العزة : (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف 156 ).أى إن عذابه يصيب به من يشاء من البشر الضلالة فيشاء الله جل وعلا له العذاب ، أمّا رحمته التى وسعت كل شىء فسيكتبها للمتقين المؤمنين ، والكلام هنا عن المستقبل فى اليوم الآخر حيث تحلّ رحمة الله جل وعلا بالمؤمنين فتنجيهم من عذاب النار. والمقصود هنا من يتبع القرآن الكريم :( قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ( الأعراف: ـ  157 )، لذا يقول  رب العزة للمؤمنين بعد معركة بدر:(لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(الأنفال 68).أى لولا وعده والتزامه جل وعلا وما كتبه على نفسه لأخذهم بالعذاب عقابا لهم على أخذ الفداء المالى من أسرى بدر، وكان مفترضا المنّ عليهم باطلاق سراحهم.

 (كتب ) فى الالتزام بنصرة المؤمنين وإنقاذهم وهزيمة الكافرين المعتدين:

1ـ كتب الله جل وعلا والتزم بنصرة المؤمنين المسالمين المتمسكين بالحق ضحايا الاضطهاد والاكراه فى الدين ، شأن مسيرة كل الأنبياء والرسل : (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِيإِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (المجادلة 21 .)

2 ـ هذا المعنى باستعمال ( كتب وكتاب ) يأتى أيضا بدون استعمال ( كتب وكتاب ) أى يأتى بتعبيرات أخرى تفيد الالتزام أيضا، كقوله جل وعلا يستعمل كلمة ( الحق ) ( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ) ( يونس 103 )، أو يستعمل اسلوب التأكيد (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوافِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ  ) ( غافر 51 ) ، أو يستعمل مصطلح السّنة الذى يعنى هنا المنهج اللازم المتبع بلا تغيير ولا تحوير : (وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً)( الاسراء 76 ـ )( اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)( فاطر 43 )(وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) ( الفتح 22 : 23 )

ثانيا:  كتب بمعنى فرضية الشرع الالهى أو هو الشرع الالهى:

ويتنوع الفرض الشرعى هنا الى عدة أنواع يأتى فيها استعمال ( كتب ـ كتاب ) بمعنى الفرض الشرعى , ونعطى أمثلة :

1 ـ العبادات : فى الصلاة :(إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) (النساء 103)، أى فرضا موقوتا. وفى الصوم :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَعَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(البقرة 183) ، أى مفروض عليكم الصيام كما كان مفرضا على من كان قبلكم .

2 ـ الحقوق :فى الوصية قبل الموت : (كُتِبَ عَلَيْكُمْإِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ  ) ( البقرة 180 )، أى هو فرض عليكم الوصية عند الموت للأقارب والأرحام . وصلة الرحم :(وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِإِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )(الأنفال 75)،(النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِمِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِمَسْطُورًا) ( الأحزاب 6). فى كتاب الله اى شرع الله .

3 ـ العقوبات فى القصاص :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُفِي الْقَتْلَى ) (البقرة 178) أى فرض عليكم القصاص.(  مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَأَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ).(المائدة 32 )أى فرضنا على بنى اسرائيل. (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَاأَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة 45 ).أى فرضنا عليهم فيها اى فى التوراة .

4 ـ القتال الدفاعى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُوَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ) ( البقرة 216 )،أى فرض عليكم القتال. (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْأَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ) ( النساء 66 )أى لو فرضنا عليهم .

5 ـ عدة النساء (وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ) ( البقرة 235 )،أجل الكتاب هنا أى فرضية العدة.

6 ـ المحرمات من النساء فى الزواج :(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللّهِ عَلَيْكُمْ)(النساء 24 )،أى إن المحرمات المذكورات هو تشريع مفروض مكتوب .

إضافة : ( كتب ) بمعنى الكتابة العادية فى التجارة والمعاملات والمراسلات:

1 ـ كتابة الديون والمعملات التجارية :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ) ( وَلاَ تَسْأَمُوْاْ أَن تَكْتُبُوْهُصَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ)(إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا)(وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌوَلاَ شَهِيدٌ) (البقرة 282 ). فى الآية الكريمة تكرر لفظ الكتابة ومشتقاتها بمعنى الكتابة العادية فى المعاملات التجارية والديون .

2 ـ كتابة عقد فى تحرير الرقيق الذى يشترى حريته:( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ)(النور33 ).

3 ـ الكتاب بمعنى الرسالة المكتوبة بخط اليد :(اذْهَب بِّكِتَابِيهَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ ) (النمل 28 :29 )

4 ـ الكتاب العادى المعروف المألوف :( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) (الأنبياء 104 ).

مقال : 2

ــــــ (كتب ، وكتاب ) فى السياق القرآنى: (2) (كتب بمعنى الكتاب السماوى)

  أم الكتاب : وله معنيان :

1 : أم الكتاب أصل الكتب السماوية

(أمّ الكتاب ) هو الأصل وفيه اسس الدين الالهى من إخلاص الدين لله جل وعلا وحده ، من العبادة والعقيدة أو الدعوة. وهو بالمعنى ،أى بالضمير أو اللغة العالمية التى يشترك فيها البشر جميعا مهما اختلفت ألسنتهم . ولان كل رسالة تأتى بلسان معين ، وتخاطب أقواما وتعكس بعض ظروفهم الزمانية والمكانية فإن هذه التغييرات الوقتية فإن الكتاب السماوى لأولئك القوم يأتى نسخة من (أم الكتاب ) ولكن مع تعديل يستدعى محوا وإثباتا من الأصل أو (أم الكتاب ) لتأتى منه الرسالة السماوية مختصة بأولئك القوم ومتجاوبة مع ظروفهم ولسانهم. يقول جل وعلا : (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.) (  الرعد 39 ).

ومن (أم الكتاب ) جاء القرآن الكريم أو الرسالة الخاتمة للبشر جميعا من وقتها الى قيام الساعة. ولأنها الخاتمة وتخاطب البشر جميعا وتستمر من بدايتها الى نهاية العالم فإن موقع الرسالة الخاتمة يأتى مميزا فهى النسخة المعدّلة من (أم الكتاب ) لبنى آدم بل والجن أيضا. يقول جل وعلا عن القرآن الكريم : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَالَعَلِيٌّ حَكِيمٌ .) (  الزخرف 4 )

 2 :أم الكتاب بمعنى الآيات المحكمات فى القرآن الكريم فى مقابل الآيات المتشابهة :

يقول جل وعلا :( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِوَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ) ( آل عمران 7 ).   الآية المحكمة تعبر عن المعنى بوضوح وبساطة وباسلوب علمى تقريرى ،أما الايات المتشابهة فتعطى تفصيلات للأية المحكمة وقد تستعمل أسلوب المجاز . والمنهج البحثى فى القرآن الكريم يعتمد على تجميع كل الآيات الخاصة بالموضوع المراد بحثه فى السياق العام والخاص ، ثم تحديد الآيات المحكمة ، والآيات المتشابهة ، وفهم الآيات المتشابهة من خلال الآيات المحكمة الحاكمة فى الموضوع. 

 ( كتاب ) اسم جنس مفرد لكل الكتب السماوية ، وتأتى معه مترادفاته:

1  : حين تقول:(إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَوَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ )( الأعراف 196 ) فالمقصود هنا كل الكتب السماوية و ليس القرآن الكريم وحده.

2  : وقد يأتى السياق بلفظ الكتاب وشروح له كالحكمة و البينات والميزان ، وكلها مترادفات شارحة للكتاب السماوى كقوله جل وعلا : (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ) ( آل عمران 81) هنا الكتاب مدلول عام لكل الكتب السماوية ، وتأتى الحكمة مرادفة وشارحة لمعنى الكتاب..

 3 : ويوصف الكتاب السماوى عموما بأنه الميزان : ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَلِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ .)(الحديد 25 .) الميزان هنا شرح لكل كتاب سماوى.

 4 : وبنفس المعنى يوصف الكتاب الالهى بالمنير وبالزبر والبينات كقوله جل وعلا :(فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآؤُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِالْمُنِيرِ.)( آل عمران 184 .) (وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ) ( فاطر 25 ) فالكتاب المنير مراد به كل الكتب السماوية ، وتأتى شروح له توضح معنى الكتاب  السماوى:(بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ). ولكن هناك وصفا ضمنيا للقرآن الكريم فى الآيتين بأنه أيضا كتاب منير . وهذا يجعلنا نتوقف فى لمحة سريعة على إنطباق تلك الصفات على أشهر الكتب السماوية : القرآن والانجيل والتوراة

 إنطباق وصف الكتاب السماوى على القرآن والتوراة والانجيل

1 : إذ يلاحظ وصف القرآن الكريم بتلك الصفات نفسها ، فالقرآن الكريم هو الحكمة أوهو موصوف بأنه الحكمة (  لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(آل عمران 164  ) فالكتاب هنا هو الحكمة ، والحكمة وصف للقرآن أو الكتاب لأن العطف بالواو هنا يفيد التبيين والتوضيح والتوصيف ، ومن هنا أمر الله جل وعلا أزواج النبى بقراءة القرآن فى بيوتهن واصفا القرآن بالحكمة فقال جل وعلا :(وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) ( الأحزاب 34  )وقال جل وعلا للمؤمنين ( وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ  ) ( البقرة 231 )، ولو كانت الحكمة شيئا مستقلا عن الكتاب لقال جل وعلا ( يعظكم بهما ) ، ولكن لأنهما شىء واحد قال جل وعلا (وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ  ). ووصفت التوراة والانجيل بالحكمة : يقول جل وعلا لعيسى عليه السلام :(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ  ) ( المائدة 110 )وقيل عن عيسى ( وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ ) ( آل عمران 48 )،بل تم إختصار ذلك كله فى كلمة الحكمة التى تدل على التوراة والانجيل معا ، يقول جل وعلا عن عيسى عليه السلام : (  وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة ) ( الزخرف 63 ).

2 ـ والقرآن الكريم موصوف بأنه (ميزان ) : (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ )( الشورى 17 )

3ـ وموصوف القرآن بأنه نور (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا  ) ( النساء 174 ) (فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ  ) ( الاعراف 157 ) (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا) ( الشورى 52 ) (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا ) ( التغابن 8 )

وقال جل وعلا عن التوراة (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ  ) (المائدة 44  ) ( قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ  ) (  الانعام 91 ) وقال عن عيسى والانجيل (وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ )  ( المائدة 46 ).

4 ـ والبينات وصف للكتب السماوية كلها ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ )(الحديد 25 .)، ويقول جل وعلا : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ  ) ( البقرة 213 ). والبينات وصف للقرآن الكريم :(وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ  ) ( البقرة 99 ). وقد أنذر الله جل وعلا وحذّر من يكتم تلك الايات البينات ، وهو تهديد فظيع لكل من يعرف حقيقة قرآنية ولا يعلنها على الناس ـ يقول جل وعلا :(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ  )( البقرة 159 : 160 ). وتكرر كثيرا وصف القرآن بأنه كتاب مبين . ونفس الحال مع التوراة فهى بينات : (وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ) (  البقر ة 92) والانجيل فهو أيضا بينات (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) (البقرة 87)

 الايمان بكل الكتب السماوية أو بالكتاب السماوى أجمالا :

يقول جل وعلا عما ينبغى أن يكون عليه الايمان القلبى الحقّ : (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ .) (البقرة 285 ). فالايمان الحق من عناصره الايمان بكتب الله جميعها إيمانا عاما ،أى إن الله جل وعلا أنزلها على رسله ممن ذكرهم القرآن أو لم يذكرهم. وعلى هذا كانت السيدة مريم رضى الله جل وعلا عنها تؤمن بكلمات ربها وكتبه: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ)( التحريم 12 .)، وهنا وصف للكتب السماوية بأنها كلمات الله جل وعلا . فالايمان بكل الكتب السماوية، أو بالتعبير القرآنى :( وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ.) ( آل عمران 119) أو بالتعبير القرآنى البليغ :(وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ .) ( الشورى 15 ).

 أخيرا : لماذا جاء التعبير عن الكتب السماوية بلفظ المفرد أى ( كتاب ):

1 ـ لأنها من مصدر واحد هو (أم الكتاب ) ولأنها مع اختلاف اللسان والأقوام والمكان والزمان وبعض التفصيلات التشريعية فكلها تقرر أساسات الاسلام من الايمان يالله وحده لا إله غيره ولا إله معه ، وأن يكون الدين من دعاء وعبادة وعقيدة وشريعة لله جل وعلا وحده . وهذا هو الاسلام دين الله الحق الذى نزلت به كل الشرائع يصدق بعضها بعضا . ومن الطبيعى أن يخترع البشر أديانا أرضية ينسبونها للنبى كما فعل المنتسبون للمسيح فى المسيحية والمنتسبون لمحمد من المحمديين فى أديانهم الأرضية من سنة وتشيع وتصوف وغيرها. وكل ذلك لا علاقة له بالاسلام الحق الذى قال عنه رب العزة (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ   ) (قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ  ) (آل عمران 19 ، 84 : 85  ).

2 ـ وقد ترددت فى القرآن الكريم معالم الاسلام الحق فى الكتب السماوية فى مظاهر شتى : كالقصص الأنبياء فكل نبى يدعو قومه بنفس الكلام مع اختلاف الزمان ، وهذا ما نلاحظه فى سور الأعراف وهو والشعراء على سبيل المثال . وفى سورة الأنبياء يقرر جل وعلا وحدة الرسالات السماوية أو الكتب السماوية أو الكتاب السماوي فيما يخص العقيدة أو الدعاء أو الدعوة والعبادة : (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ ) ( الأنبياء  25)، بل تتكرر نفس الآيات فقد قيل لكل رسول نفس التحذير من الوقوع فى الشرك والكفر : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ ) ( الزمر 65 ـ  ). بل يتشابه كفار كل عهد فى نفس الثقافة وردود الأفعال تجاه الرسول ـ يردون عليه بنفس الكلام ويتصرفون بنفس العداء ، أى كما يقال للرسل جميعا وحى واحد مع اختلاف اللسان والزمان والمكان فان الكفار يواجهون أولئك الرسل بنفس الكلام ونفس التصرفات مع اختلاف الزمان والمكان واللسان ـ يقول جل وعلا : (مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ )( فصلت 43 )

3 ـ بل ينقل القرآن الكريم سورة كاملة مما نزل على ابراهيم وموسى ، وهى سورة (الأعلى ). وينقل حوالى نصف سورة النجم مما نزل أيضا على ابراهيم وموسى ؛ يقول جل وعلا عن بعض المعاندين :(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ) ثم يذكر آيات مما نزل عليهما : ( أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ؟ ) وبعدها يؤكد رب العزة أن ما سبق هو نذير من الرسالات السماوية السابقة وليس فقط نقلا عن كتابى ابراهيم وموسى : (هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى ) ثم بعدها يخاطبنا نحن البشر آخر الزمان فيقول مذكّرا بقرب الساعة التى نحن عنها لاهون معرضون : ( أَزِفَتِ الآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) ( النجم 36 ـ ).

4 ـ من الطبيعى أننا لن نجد هذه الآيات ضمن التوراة أو العهد القديم فى عصرنا ، وهذا يفرض علينا التعرض لما حدث فى التوراة والانجيل وموقف القرآن الكريم من ذلك ، وموقف أهل (الكتاب ) من ( الكتاب ) الأخير أو القرآن ، وخصوصية القرآن .. كل ذلك ضمن بحث الكتاب السماوى . ثم بعد الانتهاء من الكتاب السماوى نتعرض للكتب المزيفة لأصحاب الأديان الأرضية ، وبعدها نتوقف مع ( كتاب الأعمال ) و( كتاب الحتميات ) . والله جل وعلا هو المستعان .

مقال 3

ـــــ (كتب،وكتاب ) فى السياق القرآنى:(3)(كتاب ) القرآن مصدق للكتب السماوية

   كتاب القرآن والكتاب السماوى السابق :

1 ـ كلمة ( كتاب ) قد تأتى فى آية واحدة تعبر عن القرآن مرة وتعبر مرة أخرى عن الكتب السماوية السابقة ، يقول جل وعلا :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِالَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِوَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا )( النساء 136 ). كلمة (الكتاب ) الأولى تعنى القرآن الكريم . وكلمة ( الكتاب ) الثانية جاءت مفردة وتدل على (جميع ) الكتب السماوية قبل القرآن الكريم . وكلمة ( كتبه ) تدل على جميع الكتب السماوية بما فيها القرآن الكريم. .

2 ـ ويقول جل وعلا  عن القرآن الكريم مشيرا الى الكتب السماوية السابقة : (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ  ).( العنكبوت 48 )، أى إنه عليه السلام قبل نزول الكتاب السماوى الخاتم على قلبه لم يكن له علم بالكتب السماوية السابقة ، لم يكن يقرؤها ولم يكن يعرف كيف يكتبها أو ينسخها . أى كانت موجودة وكان بإمكانه أن يقرأها وأن ينسخها أى يكتبها ولكنه لم يفعل ، ثم اصبح يقرأ ويكتب بعد أن نزل الكتاب الخاتم ( القرآن ) على قلبه . ولو كان لديه علم بالتوراة والانجيل وصحف ابراهيم لاتهمه المبطلون بأنه كان ينقل عنها .

بين العرب الأميين وأهل الكتاب :

1 ـ الواقع إنه عليه السلام كان (أميا ) من العرب (الأميين ) . وقد ناقشنا مفهوم ( الأمية ) فى القرآن من قبل فى مبحث يؤكد أن خاتم النبيين هو الذى كتب القرآن بيده وأنه كان يعرف القراءة والكتابة وأن مفهوم (أمّى )و(أمّيين ) لا يعنى الجهل بالقراءة والكتابة ولكن يعنى أن العرب لم يكونوا (أهل كتاب ) ، فالعرب من ذرية اسماعيل ومن ذرية قحطان لم تأتهم رسل ولم تنزل عليهم كتب ، فكانوا (أميين ) مقابل (أهل الكتاب ). لذا يقول جل وعلا لخاتم النبيين عن قومه العرب الأميين : (لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ) ( يس 6 )، ويقول عنهم جل وعلا: (وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) ( سبأ 44 ). وهذا التحديد لمفهوم الأميين جاء مرتين فى سورة آل عمران (وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ  )(20  ) أى قل (أأسلمتم ) لأهل الكتاب وللعرب الأميين الذين لم ينزل عليهم كتاب سماوى من قبل . ويقول جل وعلا عن بعض أهل الكتاب وتعاملهم مع العرب : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ )(75 )،أى إنهم يقولون عن العرب ( ليس علينا فى الأميين سبيل ) أى يستحلون أكل أموالهم .

2 ـ وفى مواجهة أهل الكتاب كان العرب الأميون يتمنون أن ينزل عليهم كتاب سماوى مثل (أهل الكتاب) ،  بل كانوا يقسمون بالله جل وعلا جهد أيمانهم لو جاءهم رسول بكتاب سماوى لآمنوا به ، فلما بعث الله جل وعلا لهم خاتم المرسلين أعرضوا عنه، يقول جل وعلا : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُورًا ) (فاطر 42  ).وهذا الموقف إستدعى التنديد بهم ، يقول جل وعلا عن القرآن الكريم : (وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ثم يرد عليهم رب العزة يذكرهم بأمنياتهم السابقة بنزول كتاب سماوى عليهم مثلما نزلت التوراة والانجيل ووعدهم بأنهم سيكونون عندئذ أهدى من اليهود والنصارى : ( أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ) ( الانعام 155 : 157 ) .

كل الكتب السماوية يصدق بعضها بعضا ، وكل الرسل أيضا

1 ـ لأنه كتاب سماوى واحد فى الأصل ومن منبع واحد هو (أم الكتاب )فإن القاعدة أن يصدّق كل رسول من جاء قبله من الرسل ومن جاء بعده منهم. بل لقد أخذ الله جل وعلا العهد والميثاق على الرسل  بذلك ، يقول جل وعلا  ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ )( آل عمران 81 ). والواقع إن رب العزة أخذ على البشر عهدا عاما ـ قبل وجودهم فى العالم الحسى ـ أخذه على أنفسهم حين خلقها وقبل أن يخلق آدم . وهو عهد الفطرة التى فطر الله جل وعلا الناس عليها بأنه لا اله إلا الله . يقول تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ) ( الأعراف 172 : 173 ). فهناك عهد عند خلق الأنفس يذكّر النفس البشرية قبل أن تتقمص جسدها فى الموعد المحدد لها بأنها ستلقى الله جل وعلا يوم القيامة ، ويحذرها من نسيان ذلك العهد حين تتقمص جسدها فى الدنيا وتنسى لقاء الله ، وتأنى يوم القيامة تعتذر عن النسيان والعصيان بالغفلة واتباع الأسلاف . وفى مقابل هذا العهد العام على البشر جميعا ـ بما فيهم أنفس الأنبياء ـ فهناك عهد خاص بالأنبياء بأن يصدق بعضهم بعضا حيث سيتلقون كتابا سماويا واحدا فى أساساته ، يقول جل وعلا (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ) ( الأحزاب 7 : 8 ). ويوم القيامة سيجمعهم رب العزة ليسائلهم عن مدى الاستجابة للحق من اقوامهم فيردون بأنه لا علم لهم : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة 109 ).

2 ـ وعليه فإن التصديق برسالة سماوية يوجب التصديق بكل الرسالات السماوية ، وأن التصديق بكتاب سماوى يستلزم التصديق والايمان بكل الكتب السماوية ايمانا عاما وتصديقا عاما لأننا لا نعرف عددها ولا نعرف لغاتها و حتى لا نعرف كل الأنبياء والرسل. وفى المقابل فإن تكذيب كتاب سماوى يعنى التكذيب والكفر بكل الكتب السماوية وكل رسل الله جل وعلا . نفهم هذا من قوله جل وعلا عن قوم نوح : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ  )( الشعراء 105 ) (وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ ) (الفرقان 37). المفهوم سطحيا أن قوم نوح لم يكذبوا إلا رسالة نوح فلم يكن لهم علم بالرسالات السماوية اللاحقة التى أتت بعد هلاكهم ، ولم يكونوا يعرفون الأنبياء اللاحقين وما سيحدث فى المستقبل ، ولكنهم حين كذبوا بكتاب نوح ورسالته فقد كذبوا فى الحقيقة وفى الواقع بكل الرسالات السماوية اللاحقة وكفروا بكل الكتب وكل الرسل وليس نوحا فقط .

3 ـ ووصف الله جل وعلا بعض الأنبياء بتصديق الكتب السماوية السابقة أو بكلمة الله ، فقال جل وعلا عن بشلرة الملائكة للنبى زكريا عن ابنه النبى يحيى عليهما السلام :( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ )(آل عمران 39 )، وجاء عيسى مصدقا بالتوراة، وقد أعلن هو هذا بنفسه : ( أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ )(آل عمران 49 : 50 ). وجاء هذا تأكيدا من رب العزة عن عيسى عليه السلام : (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران 46 ). أي إن عيسى جاء مصدقا للتوراة وأيضا جاء بالإنجيل مصدقا للتوراة. بل أعلن عيسى تصديقه بالتوراة من قبله وبشارته بمحمد خاتم المرسلين من بعده ، عليهم جميعا السلام : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ )(الصف 6 )

نزول القرآن يصدق ويؤكد ما جاء فى الكتب السماوية السابقة

1 ـ نزل جبريل ـ روح الله ـ بالكتاب على قلب خاتم النبيين ، أو نزل بالقرآن مكتوبا على خاتم النبيين مصدقا لما سبقه من كتب سماوية . يقول رب العزة : ( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( البقرة 97 ). ويقول جل وعلا عن الكتاب الخاتم المصدّق لما سبقه من كتاب سماوى : (وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ)(فاطر 31 ). والله جل وعلا أرسل وفدا من الجّنّ استمع للقرآن الكريم ثم رجعوا الى قومهم يدعونهم الى الحق : ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ) ودعوا قومهم للحق (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( الاحقاف 29 : 30 )،أى وصفوا القرآن بأنه مصدق لما بين يديه .

2 ـ وتحتل التوراة موقعا هاما فى تتابع وتاريخ الكتب السماوية ، يقول جل وعلا : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ( القصص 43 )،أى نزلت التوراة بعد انتهاء مرحلة فى تاريخ الأنبياء كان يتم فيها إهلاك الأمم المعاندة ، وكان فرعون موسى هو آخر من تعرض مع قومه للإهلاك . وصار إماما للكافرين الذين جاءوا من بعده، وبالتالى نزلت التوراة بعد هلاك فرعون وقومه دليلا على مرحلة جديدة . ومن هنا يأتى الربط بين القرآن والتوراة فى كونه مصدقا للتوراة ، كقوله جل وعلا : ( وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا لِّيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ ) ( الاحقاف 12)، فكتاب موسى موصوف بأنه إمام ورحمة وأن القرآن مصدق له.

وحين تطرف بعض بنى إسرائيل وزعموا ـ فى معرض تكذيبهم للقرآن الكريم ـ إن الله جل وعلا لم ينزل كتابا على بشر ردّ عليهم رب العزة فقال  إنهم ما قدروا الله جل وعلا حين قالوا ذلك الإفك : ( وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ) ثم قال جل وعلا عن القرآن الكريم :(وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)(الانعام 91 : 92 ).

3 ـ وبعد التوراة توالت الكتب السماوية فى بنى اسرائيل ، وجاءت الرسل يقفوا بعضهم بعضا ، وانتهت هذه المرحلة بعيسى عليه وعليهم جميعا السلام : (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)( البقرة 87 ). وقلنا إنه كان عيسى والانجيل يصدقان بالتوراة : (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ) ( المائدة 46 ). ومن هنا يحتل عيسى موقعا مميزا لآنه الرسول الأخير قبل خاتم النبيين ولأن الانجيل هو آخر كتاب سماوي ( محلى ) لقوم بعينهم هم بنو اسرائيل ، قبل نزول القرآن الكتاب السماوي العالمى والخاتم من وقته الى قيام الساعة ، يقول جل وعلا :(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ )(الحديد 26 : 27 )

4 ـ ولهذا يتردد فى القرآن الكريم تصديقه لما سبقه من كتب سماوية مع الاشادة بالتوراة والانجيل ( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ ) ( آل عمران 2 : 4 ).

ولكن هل صدّق جميع أهل الكتاب آخر كتاب سماوي نزل يصدّق بالتوراة والانجيل وبشرت به التوراة والانجيل ؟ نلتقى فى الحلقة القادمة ..

مقال 4

( كتب،وكتاب ) فى السياق القرآنى :(4) (كتاب ) القرآن و( أهل الكتاب )ــــ

  وسائل(الكتاب ) السماوى الأخير فى دعوة (اهل الكتاب ) للايمان به :

1 ـ مجىء القرآن مصدقا للتوراة والانجيل وما بينهما، يقول جل وعلا لبنى اسرائيل : (وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) ( البقرة 41 )، فطالما يؤكد القرآن ويصدّق ما أنزل اليهم من كتب فلا يليق بهم أن يكونوا أول كافر بالقرآن ، لأنهم لو كفروا بالقرآن فقد كفروا بالكتب السماوية التى يزعمون الايمان بها.

2 ـ وفى الفترة ما بين عيسى ومحمد عليهما السلام مرت عدة قرون بلا وحى ولا رسالة على بنى اسرائيل ، وكان هناك ترقب لارسال رسول ، واستخدم القرآن هذا الترقب فى دعوتهم للايمان بالكتاب السماوى الخاتم حتى لا يقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فجاء القرآن لهم بشيرا ونذيرا ومصححا وموضحا أيضا ، يقول جل وعلا :( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ) ( المائدة 19 )

معرفة أهل الكتاب بالقرآن

1 ـ والواقع إن علماء أهل الكتاب كانوا يعرفون مقدما موعد ومكان نزول الكتاب الخاتم على نبى من ذرية اسماعيل بن ابراهيم من العرب الأميين الذين لم يأتهم رسول من قبل . وفى الوحى الذى تلقاه موسى عليه السلام عندما تلقى الألواح عند جبل الطور سبق أن قال رب العزة لموسى يصف المؤمنين من أتباع القرآن الكريم :(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ)(الأعراف 157)،فهنا تأكيد مسبق بوجود البشارة بالقرآن والنبى الأمى فى التوراة والانجيل حتى قبل نزول الانجيل .

2 ـ وإتخذ رب العزة من معرفة علماء بنى اسرائيل بالقرآن حجة على العرب الذين كانوا يحترمون أحبار بنى اسرائيل ، يقول جل وعلا:( أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ)(الشعراء  197).واتخذ من إيمان بعضهم بالقرآن حين يتلى عليهم حجة على العرب الكافرين بالقرآن الكريم ، يقول جل وعلا لهم :(قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)(الاسراء 107 :109 ) . أى كانوا يعلمون بوعد الله جل وعلا الموجود فى كتبهم بمبعث خاتم المرسلين ، وعندما أدركوا زمانه وقرأوا القرآن خروا لله جل وعلا سجدا وبكيا وازدادوا خشوعا . فإذا كان هذا حال أولى العلم من أهل الكتاب فالعرب أولى باتباع الحق الذى اليهم خصوصا.

3 ـ ودعا رب العزة العرب الى الاحتكام الى القرآن مؤكدا أن علماء اهل الكتاب يعلمون أن القرآن الكريم منزل من لدن الله رب العزة بالحق: (  أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ َ) ( الانعام 114 )

مقارنة بين مؤمنى وكفار اهل الكتاب فيما يخص موقفهم من القرآن الكريم  

1ـ وعلم أهل الكتاب بالقرآن لا يعنى أن يؤمنوا به جميعا ، فقد كان أهل الكتاب فى عصر النبوة يعلمون باقتراب زمن النبى الخاتم والرسالة ويترقبون الوقت ، ومع ذلك  فمنهم من كفر به وكتم ما يعلم حسدا ، ومنهم من آمن به وسجد خاشعا عندما قرأ آياته أو تليت عليه آياته . وفى المقارنة بينهما يقول جل وعلا : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ) ( المائدة 82 : 85 ). أى كان من القساوسة من يعلن إيمانه بالقرآن الكريم باكيا داعيا رب العزة أن يجعله من الشهود على الضالين بالحق القرآنى. وبسبب موقفهم هذا إستحقوا الجنة .

2 ـ وفى موضع آخر جاء التنديد بالمعاندين من أهل الكتاب ، ثم جاءت الاشادة بالمؤمنين منهم ، يقول جل وعلا عن المعاندين : (  وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) فالأغلبية معاندة فاسقة ولكن الأقلية مؤمنة . وتلك الأغلبية كتنت تقرن كفرها العقيدى بالكفر السلوكى المعتدى بالقول والتآمر ، والله جل وعلا يطمئن المؤمنين وقتها وقد كانوا مسالمين بأن تآمر واعتداء الكفار من أهل الكتاب لن يضرهم ضررا حقيقيا : ( لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ) ( آل عمران 110 : 112 )، أى هم فى عصر خاتم النبيين يسيرون على سنة ومنهاج أسلافهم المعاندين الذين كانوا يقتلون الأنبياء ويكفرون بآيات الله فى كتبهم السماوية ، فالذين عاندوا هم أتباع الذين كفروا من قبل بالرسالات السماوية وقتلوا الأنبياء ، واستمروا على عنادهم وكفرهم مع مجىء الرسالة الخاتمة والكتاب الخاتم .ومع هذا فليس أهل الكتاب على نفس الشاكلة ،لأن منهم مؤمنين اعتادوا الايمان بما أنزل اليهم فلما جاءهم القرآن مصدقا لما معهم آمنوا به أيضا ،يقول جل وعلا:( لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران 113 : 115 ).

3 ـ ونفس الحال مع بنى اسرائيل ، كان منهم معاندون أطلق عليهم رب العزة لقب ( اليهود ) ، كانوا يؤلهون ما يسمى بعزير أو ( أوزير ـ أوزيريس )إله الموت  الفرعونى فى اسطورة ايزيس واوزيريس الفرعونية تأثرا بالديانة المصرية القديمة ، او بالتعبير القرآنى (يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ ) يقول جل وعلا :(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ)( التوبة 30 ). وكان أولئك اليهود يطلبون آية حسية عنادا بمثل ما كان أسلافهم يفعلون مع موسى حين طلبوا منه أن يروا الله جل وعلا جهرة فعوقبوا بالصاعقة ، يقول جل وعلا عنهم فى عصر خاتم النبيين : (يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ). وعدّد رب العزة كبائرهم وجرائمهم فقال : ( ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ) الى أن يقول رب العزة عن بقية جرائمهم:(فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا )(النساء 153 : 161)، ثم أوضح رب العزة جل وعلا انه ليس كل بنى اسرائيل على هذه الشاكلة ، فمنهم مؤمنون ظهرت حقيقة إيمانهم حين أعلنوا ايمانهم بالكتاب الخاتم ، يقول جل وعلا :( لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ) ( النساء 162 ).

4 ـ وتكرر هذا فى قوله جل وعلا عن المعاندين من أهل الكتاب الذين سبّوا رب  العزة تطرفا فى الكفر بعد نزول القرآن الكريم ، وأكد مسيرهم علة المعاندين السابقين من قتلة الأنبياء :( لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ )، وردّ رب العزة على مقولتهم الكاذبة بأن الله جل وعلا عهد اليهم ألا يؤمنوا برسول إلاّ بعد أن يأتيهم الرسول بقربان أو نذر تسقط عليه نار فتأكله :(الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) وبعد استطراردات وردود قال جل وعلا عمّن آمن من أهل الكتاب :   (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ( آل عمران 199 181 : 199 )

5 ـ وفى كل الأحوال  فهناك من آمن ، ومن جحد الحق عالما بأنه حق ولكن رفضه استكبارا للحفاظ على مكانته ولدوافع دنيوية ، ولا يزال هو نفس الموقف من القرآن حتى الان حتى بين أصحاب الديانات الأرضية من المسلمين واهل الكتاب ، منهم من يؤمن به حقا وأغلبيتهم يجحده حرصا على جاه دنيوى ، يقول جل وعلا مقررا حقيقة تنطبق على كل زمان ومكان : (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ)( العنكبوت 47) 

بعض أهل الكتاب كفروا بالقرآن مع علمهم به

1 ـ كما قلنا فإن العلم بالشىء لا يعنى التمسك به أو الايمان به والجهاد فى سبيله ، فنحن نعلم إننا سنموت حتما ونترك كل شىء ، ومع هذا فتصرفاتنا تعنى أننا لن نموت . ولقد كان أهل الكتاب فى عصر النبوة يعلمون باقتراب زمن النبى الخاتم والرسالة ويترقبون الوقت ، ومع ذلك كفروا به وكتموا ما يعلمون حسدا ، وقد أكّد هذا رب العزة فى القرآن الكريم متحدثا عن الكفرة من علماء أهل الكتاب :(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) ( الانعام 20 )(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ )(البقرة 146 ).

2 ـ وقد سجلوا على أنفسهم موقفا فى يثرب ، إذ أنهم فى ترقبهم لظهور خاتم النبيين كانوا يتوعدون الأوس والخزرج بقرب مبعثه وأنهم سيوالونه ويتحدون معه ضدهم . فلما ظهر وهاجر للمدينة اسرع الأوس والخزرج باتباعه بينما وقف اولئك اليهود ضده عليه السلام ، يقول جل وعلا : ( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّه عَلَى الْكَافِرِينَ ) ، وهو موقف غريب مريب ، أن يبدلوا إيمانهم كفرا وأن يجحدوا الحق الذى فى قلوبهم بغيا وحسدا ، وفى النهاية فهم الخاسرون الذين باعوا أنفسهم بالباطل ، يقول جل وعلا معقبا على موقفهم :(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ فَبَاؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ )( البقرة 89 : 90 ) .

3 ـ هذا يطرح تساؤلا ، إذ يعنى أن أهل يثرب ( المدينة ) كان لديهم علم بقرب مبعث خاتم النبيين ، وانهم آمنوا به مبكرا حتى قبل نزول القرآن عليه ، أو حتى آمنوا به قبل أن يؤمن به من أصبحوا فيما بعد من المهاجرين . وهذا صحيح مذكور فى القرآن الكريم الذى يصف الأنصار بأنهم تبوؤا الدار والايمان قبل المهاجرين ،أى أسبق فى الايمان من المهاجرين ـ يقول جل وعلا: ( وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)(الحشر 9 ).

4 ـ ويبق تساؤل آخر عن جهد أولئك المعاندين فى تحريف ما لديهم من الكتاب ليبرروا موقفهم . نناقش هذا فى الحلقة القادمة بعونه جل وعلا.

مقال 5

ــــ تأصيل معنى (كتب وكتاب ) فى القرآن الكريم( 5 ):كتب بمعنى كتاب الحتميات

مقدمة 1ـ اللفظ القرآنى ( كتب ) ومشتقاته يلعب دورا أساسيا فى حياتنا . فالله جل وعلا (كتب ) علينا الفرائض من صلاة وصيام وزكاة وحج ،وكتب على (نفسه ) إلتزاما ، وأنزل لنا ( كتبا ) أو ( كتابا ) سماويا ، كما إنه جل وعلا ( كتب ) علينا الحتميات أو القضاء والقدر الذى لا مفرّ منه ، ثم إنه جل وعلا له ملائكة (تكتب ) اقوالنا وأعمالنا.ولا يخلو الأمر من قيام البشر ب( كتابة ) رسالة أو خطابا أو تحريف فى الكتاب السماوى . جاءت تفصيلات هذا كله فى القرآن الكريم. وفى هذا المبحث سبق نشر أربع حلقات .

2 ـ ولأننا ندخل البحث القرآنى بلا فكرة سابقة ، ولأننا نترك أنفسنا لآيات القرآن تسير بنا الى آفاق ليس لنا بها علم من قبل فإن العادة أن يطول بنا البحث بتولد أفكار جديدة جاءت بها آيات القرآن الكريم . لذا فهى ظاهرة مألوفة لمن يتابع كتاباتنا أننا نبدأ مقالا بحثيا فيتحول الى عدة مقالات ، وقد يطول الى سلسلة تكتمل أو أترك استكمالها الى وقت آخر. حدث هذا فى موضوع ( كتب / كتاب فى السياق القرآنى ). كان فى الأصل مقالا واحدا يشرح المفاهيم الأربعة الأساس لكلمة (كتب ومشتقاتها )، ثم تحول الى أربع مقالات عكسته المقدمة المتكررة فى كل مقال ،أى كتاب بمعنى الفرض والالتزام ، وكتاب بمعنى الكتاب السماوى . ويبقى مقال عن كتاب بمعنى كتاب الاعمال ومقال عن كتاب بمعنى كتاب الحتميات المقدرة سلفا . ولكن حين توقفت مع معنى كتاب بالكتاب السماوى إتسع البحث ليكون مقالين الثالث عن تصديق القرآن بالكتب السماوية ، وجاءت الحلقة الرابعة عن كتاب القرآن و(أهل الكتاب )، وختمنا الحلقة بقولنا : ( ويبقى تساؤل آخر عن جهد أولئك المعاندين فى تحريف ما لديهم من الكتاب ليبرروا موقفهم . نناقش هذا فى الحلقة القادمة بعونه جل وعلا.).ودخلنا فى بحث الموضوع فتبين لنا أننا ندخل فرعا مستقلا يحتاج الى توضيحه بسلسلة مقالات تناقش قيام أديان المسلمين الأرضية على تحريفات (أهل الكتاب ) أو متابعة ( المحمديين ) لأسلافهم أهل الكتاب من خلال رؤية قرآنية. لذا نرجىء هذا الموضوع فى تفصيلات معنى كتاب بالكتاب السماوى لنتوقف معها فى وقت لاحق .

وهنا نكمل سلسلة (كتب / كتاب ) فى السياق القرآنى بحلقتيها الأخيرتين : كتاب بمعنى ( كتاب الأعمال ) وكتاب بمعنى ( كتاب الحتميات ).ويجمع بينهما أن هناك ( حتميات مكتوبة) عليك لا مفر منها ، ولست مسئولا عنها و لن يحاسبك عليها رب العزة يوم الحساب . فهذا هو الجزء الحتمى المكتوب عليك فى هذه الدنيا . ولكن هناك جزءا آخر لك فيه تمام الحرية ، تمارسه بالقول والفعل والفكر والاعتقاد . ومقابل حريتك فأنت مساءل عنه وأنت مسئول عنه يوم الحساب. ولكى يكون الحساب صادقا ومثبتا بالدليل فإن أعمالك وأقوالك وأحاسيسك يتم تسجيلها وحفظها فى ( كتاب أعمالك ) . إذن هنا ( كتاب أعمال ) ، مقابل (كتاب  الحتميات ) التى لا بد أن تحدث لك، ولست مساءلا عنها لأنها (قدر مكتوب ). ونبدأ بها:(كتب بمعنى كتاب الحتميات).

 أولا :  مدخلان لفهم الموضوع

1 ـ (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ). نبدأ بتقرير هذه الحقيقة القرآنية : يقول جل وعلا :(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( الاعراف 54 ). إن الخالق جل وعلا له وحده الخلق فهو وحده فاطرالسماوات والأرض وكل الموجودات،وله وحده (الأمر ) سواء الأمرحتميا بكلمة (كن ) للشىء فيكون ،أى فى موضوع الخلق ،أو (الأمر ) التشريعى الذى نزلت به الرسالات السماوية، وهو (أمر ) مختلف لإن الله جل وعلا لكى يختبر البشر أعطاهم الحرية فى طاعة أمره التشريعى ، لهم إختيارهم فى الطاعة أو فى المعصية فى هذه الحياة الدنيا ، ثم يفقدون هذه الحرية عند الاحتضار ، وتظل حريتهم مفقودة عند البعث والحشر والحساب ، ويفوز الفائزون يوم الحساب بحريتهم يتمتعون فى الجنة حيث شاءوا ، بينما يظل أهل النار مجبرين مقهورين فى عذاب الجحيم أبد الآبدين . إذن يتمتع الانسان بحريته فى الاختيار بين الحق والباطل ، بين الضلال والهدى ، بين الطاعة والمعصية بضعة عقود من الزمن فى حياته على هذا الكوكب. ثم يفقد حريته عند الاحتضار ، ويتحتم عليه أن يواجه مصيره بين نعيم أزلى متمتعا بحريته فى النعيم  أوعذاب أزلى يتمنى الفرار منه بالموت فلا يستطيع . وهنا نفهم عظم الاختبار الذى نجتازه فى هذه الدنيا ونحن عنه لاهون . نرجع الى موضوعنا لنعيد التأكيد على أن الله جل وعلا هو وحده صاحب الخلق والأمر ـ حتى مع وجود تلك الحرية فى الطاعة والمعصية ،وذلك لأسباب ثلاثة : لأن مساحة تلك الحرية ضئيلة زمنيا فى حياتنا فى الدنيا وفى الاخرة، وهى تعيش زمنا متحركا تقل بمرور الزمن وبالاقتراب من الموت ، ولأنها مجرد جزء من الصورة ، وهى حرية القول والفعل مقابل جزء أساس وهو الحتميات التى نعرض لها فى هذا المقال.

2 ـ  فى فقه المصطلحات القرآنية : مصطلح (كتب /كتاب ) تترادف وتتداخل مع مصطلحات أخرى مثل (الأمر ، القضاء ـ القدر ـ الميزان ). وميدان هذا التداخل فسيح يشمل الكون كما يتضمن الانسان بجسده ونفسه . هذا موضوع طويل نقتصر منه على لمحات بالقدر الذى يفيد هذا المقال . ويجمع بين كل تلك المصطلحات أن لها جانبين : حتمى فى الخلق ، وتشريع فيه حرية الطاعة وحرية المعصية ومسئولية الانسان على حريته واختياره . ونعطى أمثلة :1 ـ ( كتب ) تأتى بمعنى التشريع ، فقد كتب الله علينا الصيام ، ولكن هناك من يصوم وهناك من يفطر عصيانا. و(كتب ) تأتى بالحتمية ، وهو موضوع هذا المقال.

2 ـ (أمر ) يأتى بالحتمية فى الخلق كقوله جل وعلا : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) ( يس 82 )ويأتى فى التشريع : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ) ( الاعراف 29 )،فالله جل وعلا يأمر بالقسط ولكن السائد هو الظلم

3 ـ (قضى ) يأتى بالحتمية فى الخلق:(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ )  ( البقرة  117 )، ويأتى فى التشريع :( وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ) ( الاسراء 23 )،فالله جل وعلا قضى بالتشريع ألا نعبد إلا الله ولكن أكثر البشر مشركون.

4 ـ موضوع القدر والتقدير أكثر تعقيدا ، وحتى لا تأخذنا التفصيلات فيه بعيدا عن موضوعنا (كتب / كتاب بمعنى الحتميات ) فإننا نحاول الايجاز بإعطاء اللمحات السريعة الآتية عن موضوع (القدر والتقدير ):

4/ 1 :يأتى القدر بمعنى الحتمية فى الخلق فى الكون المرئى لنا :( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ )( يس   38 : 40 )

4/ 2 : معقد جدا موضوع الحرية فى التشريع فيما يخصّ القدر والتقدير. وسنتوقف معه فى مقال مستقل، ولكن  نشير سريعا الى نوع من الهداية  الحتمية تأتى ملحقة ولاحقة بالخلق والتقدير ، يقول موسى عليه السلام عن ربه جل وعلا:( قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ( طه  50 ). الحديث هنا عن عموم خلقه جل وعلا. فالله جل وعلا أعطى كل مخلوق وسائل حياته وهداه اليها بالغريزة والفطرة . ويقول ربى جل وعلا : ( الَّذي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى )(الاعلى 1 :3 ).هنا الخلق والتسوية والتقديرمرحلة أولى، ثم تأتى الهداية لهذا المخلوق كى يعيش ويأكل ويحمى نفسه ويتكاثر وفق غريزة أودعها الخالق فيه. ينطبق هذا على الانسان من بدايته جنينا ،يقول جل وعلا: (مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ )( عبس 19 / 20 ). خلق الانسان من نطفة طبق تقدير الاهى ، بعده ييسر الله للجنين سبل الحياة ، ثم الخروج من مضيق المهبل الى حياة لا يعرفها فيبحث بفمه عن الثدى ويلتقمه ليشبع أول غريزة وهى الأكل . أفلام قناة ديسكفرى تكتشف لنا أسرار الغرائز لدى الحشرات والطيور والحيوانات فى الغابات وفى البحار بما يزيد المؤمن إيمانا بأن الله جل وعلا قد أودع (هداية ) طبيعية لدى تلك الأحياء من أصغر أميبا الى  الانسان . بالاضافة الى هذه الهداية الحتمية التى تتبع الخلق والتقديرفلكل انسان أن يختار بحريته ومشيئته ( هداية ) تشريعية ملتزما بالميزان التشريعى الذى أنزله الرحمن جل وعلا . هذه الهداية إختيار شخصى وهو يتحمل مسئوليته طبقا لقوله جل وعلا :( مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا)(الاسراء15 ).

 ثانيا :العلم الالهى الشامل المكتوب سلفا مرتبط بقضاء الله جل وعلا وأمره وقدره    

1 ـ كل شىء تم إحصاؤه وتسجيله مكتوبا فى كتاب خاص به ، يشمل هذا الخلق والتقدير و(أم الكتاب ) فى التشريع والتشريعات الالهية ، وليس فقط الحتميات للانسان،إذ يقول جلّ وعلا :( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا ) ( النبأ 29 ).

2 ـ كل ذلك يدخل فى (علم الله ) الذى يتضمن تسجيل كل شىء مثل الحتميات كالحمل والولادة ومن الأفعال التى يفعلها الانسان بحريته وما يطويه فى سريرته وحركته وما ينطق به جهرا أو همسا وتسجله ملائكة الحفظ التى تسجل أعمالنا: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)(الرعد 8 : 11 ). ويشمل هذا المكتوب ما هو أصغر من الذرة وما هو أكبر من المجرة  (عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( سبأ 3 ) ، كما يشمل كل دابة تدبّ على الأرض ، يتكفل رب العزة برزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها وبدايتها ونهايتها ، وكل ذلك مسجل مكتوب:(وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( هود 6 ).حتى ورق الشجر الأخضر النابت واليابس المتساقط لا تسقط ورقى إلا بعلمه ولا تنبت ورقة إلا وفق ما هو مسجل فى كتابه :(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( الأنعام 59 ). يستوى فى ذلك إن كنا نشهد هذا أو يغيب عنا ، فكل ما هو مشهود وكل ما غائب عنا يتم  تسجيله :( وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) ( النمل 75 )، وحتى تاريخ الأمم السابقة : (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى )(طه51 : 52 ) ، وحتى بعد الموت فهناك كتاب للبعث : (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ( الروم 56 ) . وفى النهاية فكل هذا شىء يسير على رب العزة جل وعلا :( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) (الحج 70 )

ثالثا : الحتميات الأربع المكتوبة على الانسان فى هذه الحياة الدنيا :

1 ـ حتمية الخلق والولادة والنسب :

1/1 :لا أحد يختار أباه وأمه وعائلته ، بل يأتى ليجد نفسه منتسبا الى أسرة لا شأن له فى إختيارها . ولا أحد يختار ملامحه ولونه وطوله أو قصره، الذى يختار ذلك هو الخالق جل وعلا . من بين ملايين الاحتمالات فى ملامح الوجه والجسد يختار الله جل وعلا ملامح محددة لكل فرد منذ تكوين الجنين فى الرحم :(هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء )( آل عمران 6 ).وبعد الولادة يتعين على الفرد أن يعيش عمرا محددا له سلفا . هذا العمر هو الفترة التى تقع بين الولادة والموت . موعد الولادة محدد ، وموعد الموت محدد. ويبدأ العدّ التنازلى للعمر من وقت الولادة ، فكل دقيقة تمر تنقص دقيقة من العمر المحدد ، وكلما مرت سنوات العمر تناقص بقدرها ما يتبقى من العمر ، وكل منا يركب قطار الحياة من محطة ولادته الى أن يصل الى محطة وفاته فيترك القطار، ويظل القطار سائرا يستقبل زبائن بالميلاد ويهبط منه زبائن بالموت . نحن نعيش زمنا متحركا ، إنه قطار متحرك لا سبيل الى إيقافه ، وسيظل بنا سائرا الى أجل مسمى هو قيام الساعة. هذه هى حتمية الحياة وحتمية الموت ، لا سبيل للهروب منها . وكل ذلك فى كتاب ومكتوب سلفا لكل منا من الحمل الى الوضع الى قضاء العمر ، يقول جل وعلا :( وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) ( فاطر 11 ). أنت الآن مثلا فى الأربعين وقد حدد الله جل وعلا أجلا لك بأن تموت فى السبعين وأربعة أشهر وخمسة أيام وساعتين ودقيقة واحدة . كل دقيقة تمضى من عمرك حيا تقترب مقابلها دقيقة من موعد موتك . وكل دقيقة يجرى تسجيلها فى كتاب أعمالك الذى يوثّق حياتك ويدونها ويسجلها ويحفظها على نحو ما سنتعرض له فى (كتاب الأعمال ).

 1/ 2 : هذه الحتمية يمكنك تجاوزها بعملك الصالح فى الدنيا . مثلا ، أنت هنا لا تختار لونك فى هذه الدنيا الفانية . ولكنك تختار لونك فى الآخرة طبقا لحريتك فى الطاعة أو المعصية . إن إخترت الطاعة فسيكون وجهك مضيئا بالنور ، وإن ألهتك الدنيا وعصيت وفسقت فسيكون وجهك مسودا مظلما : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ   ) ( آل عمران 106 ـ  ) (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ  )  ( يونس 26 ـ ) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ  ) ( عبس 38 ـ ). أيضا أنت لا تختار عائلتك ، ولكنك بعملك الصالح يمكن أن تكون فى الجنة مع النبيين والصديقيين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا

2 ـ حتمية الرزق :

كل فرد يتمنى أن يصبح مليونيرا ، ولكن ليس كل فرد يصبح مليونيرا. وكل مليونير يسعى لأن يكون بليونيرا ولكنه قد يفقد كل شىء ويفلس. الرزق ليس بيد الانسان ولكنه بيد رب العزة جل وعلا . ونذكر على عجل بعض ملامحه :

2/1 : إنه مرتبط بخلق السماوات والأرض وخلق الموارد فى الأرض . وهنا مدخل (التقدير والقدر ) فى البداية ، يقول جل وعلا:(وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا )( فصلت 10 ).

2/2 : وبعد تمام الخلق فرب العزة هو المسيطر على الكون وبيده مقاليد السماوات والأرض ، وهو الذى  يتحكم فى توزيع الرزق يبسطه لمن يشاء ويقدره وبقلله لمن يشاء : (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ   )( الشورى 12 )

2/ 3 : الدواب من أدنى الأحياء الى الانسان كلهم سواء فى احتياجهم للرزق من الرحمن ، وكلهم سواء فى الحصول على المقدار المكتوب لهم سلفا : (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (هود 6 )،(وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )(العنكبوت 60  ). يستوى فى استحقاق الرزق الأب والابن :( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) (الانعام 151)( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم )(الاسراء 31 )، والمؤمن والكافر (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) ( البقرة 126 )

2/4: وشاء الله جل وعلا أن يتفاوت البشر فى الرزق إختبارا :(وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) ( النحل 71 )وهذا التوزيع المتفاوت للرزق مرتبط بعلم الله جل وعلا بخلقه وبكونه الخبير البصير : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا  ) ( الاسراء 30 ) .وأشد الابتلاء هو كثرة المال  ( لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ)(آل عمران 196 )( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ )( الشورى 27 )

2/ 5 : المؤمن يستطيع الخروج من حتمية الرزق لو أراد الآخرة وعمل لها . فيكون فائزا . لأنه فى الدنيا ينال المكتوب له من الرزق ، ثم يفوز بالجنة بعمله الصالح وبإيمانه الخالص. أما من يجعل الدنيا هدفه الوحيد وتستغرقه بصراعاتها غافلا عن الآخرة فلن ينال من الرزق إلا ما هو مقدر له سلفا ثم يكون مصيره جهنم : (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً  ) ( الاسراء 18 ـ  )

2/ 6 : هناك قواعد الاهية فى توزيع الرزق ، منها يستفيد المؤمن :

2/6/1 :اليسر مع وبعد العسر : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) ( الشرح 5 : 6 )(سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا )( الطلاق 7 )

2/6/2 : التقوى (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ   ) ( الطلاق 2 : 3 )

2/6/3 : الصدقة والانفاق فى سبيل الله جل وعلا (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)   ) ( سبأ 39 )( مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ  )( مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(البقرة 261 ، 245)

3 : حتمية المصائب:

3/1 :لا بد لكل إنسان أن ينال نصيبه من المصائب ،أى ما يصيبه من أمراض وكوارث لا شأن له بتدبيرها ، قد تكون من فعل إنسان آخر ، أو مصادفة . كل هذه المصائب مكتوبة سلفا قبل وجودنا ، يقول جل وعلا :(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )

3/2 : والمؤمن يعلم هذا فيتخذ موقفا معتدلا ، لا يستسلم للحزن واليأس ، ولا يستغرقه الفرح ، طالما إن هذا قدر حتمى مكتوب لا مفرّ منه ، تقول الآية التالية : (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (الحديد 22 : 23 ).لذا يواجه المؤمنون احتمالات المحن بشجاعة ، يجاهدون فى سبيل الله جل وعلا موقنين أنه لن يصيبهم إلا ما كتب الله تعالى لهم ، وأنه لا مفر من مواجهة المكتوب ، وفى نفس الوقت فما ليس مكتوبا عليهم لن يصيبهم ولن يقترب منهم ، وهذا معنى الأمر الالهى لنا :(قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة 51 )

4 : حتمية الموت :

4/1 : الموت (تقدير) الاهى محتوم (نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ ) (الواقعة  60 )، والموت (قضاء ) الاهى محتم ، فكل نفس لا بد أن تموت :(اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى )(الزمر 42 ). والموت ( كتاب ) أو (أجل مكتوب ) ينتظر كل نفس الى أن يحين أجلها ،أى وقت موتها :(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً )( آل عمران 145 ).ولقد تكرر مرتين قوله جل وعلا:(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)(آل عمران 185)(الأنبياء 35). ولا تستطيع قوة بشرية أن تميت إنسانا قبل موعد موته ، ولا تستطيع أن تؤجل موعد موته إذا جاء ،بل إن رب العزة لا يؤجل نفسا إذا جاء أجلها (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) (المنافقون : 11)( إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( نوح 4 ).

ولأنه حتمى فلا سبيل الى الفرار منه لأننا سنلاقيه فى وجهنا (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ  ) ( الجمعة 8 )ولأنه من خلفنا (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ) ( النساء 78 ) فلابد لكل منا أن يموت فى الموعد المحدد سلفا ،بل فى المكان المحدد لموته سلفا. وبعد هزيمة (أحد ) جادل بعض المنافقين متحسرا على الضحايا القتلى زاعما إنهم لو أطاعوا رأى اولئك المنافقين ما تعرضوا للقتل ، وجاء الرد من الله جل وعلا بأنهم كان لا بد لكل من أولئك القتلى أن يذهب الى مكان مقتله :( يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (آل عمران 154).ويمكن للمؤمن أن يتجاوز حتمية الموت بأن يموت قتلا فى سبيل الله جل وعلا. عندها سيفوز بحياة برزخية يتمتع فيها برزق الله جل وعلا:( البقرة 154 )( آل عمران 169 : 171)

ملاحظات أخيرة

1ـ يتكون الانسان  من نفس وجسد . تتمتع النفس بحرية الارادة وهى التى تسيّر  الجسد ولكن لا تسيطر عليه، فالجسد تسيطر عليه حتميات الخلق والحياة والمصائب (كالمرض ) وغيرها . أنت (أى نفسك ) لا تسيطر على عمل القلب والرئتين والكبد والأمعاء . هى تعمل بقوانين حتمية تخضع لله جل وعلا . ولكن النفس لو شاءت الهداية يمكن لها أن تخفف من بعض الحتميات أو تفلت من بعضها أو تعوضها فى الآخرة. تكلمنا عن الهداية الحتمية المرتبطة بالخلق والتقدير والمتمثلة فى الغريزة . ولكن هناك هداية بالصلاح وطاعة الشرع الالهى تجعل الجسد يعلو ويسمو فوق الغريزة . النفس الزكية المهتدية تتعلم كيف تنجو من إختبار التفاضل فى الرزق ، فإذا كانت فقيرة صبرت وحمدت الله جل وعلا ،وإن كانت غنية ميسورة تصدقت وأنفقت فى سبيل الله جل وعلا. تلك النفس الزكية تواجه المصائب بشجاعة وتتخذ من الحتميات طريقا للتربية القائمة على الشجاعة والحياة فى عزة وكرامة . فالمؤمن لا يخشى حاكما مستبدا أوبشرا ظالما طالما أن الرزق بيد الله جل وعلا وليس بيد الحكومة، وطالما أن موعد الموت ومكانه محدد سلفا ولا يستطيع بشر أن يقتلك قبل موعد موتك ولا يستطيع بشر أن يصيبك إلا بما هو مكتوب عليك سلفا ..هذا المؤمن لا يخشى الموت فى سبيل الله جل وعلا ،بل يتمناه لأن الموت قتلا فى سبيل الله جل وعلا يعنى الحياة البرزخية فى جنة المأوى . وهكذا فالايمان بالحتميات مفيد تربويا ، وبه يمكن أن تتزكى النفس.

2 ـ يبقى سؤال هام ليس وثيق الصلة بموضوع ( كتب / كتاب فى القرآن ). هو أصيل فى موضوع حتميات القضاء والقدر. والسؤال يتعلق بتداخل الارادة البشرية فى حدوث الحتميات . ففى القتل والمصائب نجد منها ما يقع جرائم بيد الانسان ، فهل حتمية موت القتيل تنفى مسئولية القاتل ؟ وفى الرزق تجده معتمدا اساسا على أسباب وعلاقات البشر ببعضهم ، وكذا فى الميلاد والانجاب من زواج شرعى أو غير شرعى. ثم (علم الله ) جل وعلا .  

تأصيل ( كتب / كتاب ) فى القرآن الكريم
مقدمة
اللفظ القرآنى ( كتب ) ومشتقاته يلعب دورا أساسيا فى حياتنا . فالله جل وعلا (كتب ) علينا الفرائض من صلاة وصيام وزكاة وحج ،وكتب على (نفسه ) إلتزاما ، وأنزل لنا ( كتبا ) أو ( كتابا ) سماويا ، كما إنه جل وعلا ( كتب ) علينا الحتميات أو القضاء والقدر الذى لا مفرّ منه ، ثم إنه جل وعلا له ملائكة ( تكتب ) اقوالنا وأعمالنا. ولا يخلو الأمر من قيام البشر ب ( كتابة ) رسالة أو خطابا أو تحريف فى الكتاب السماوى . جاءت تفصيلات هذا كله فى القرآن الكريم. وهذا المبحث نتوقف مع معنى (كتب وكتاب ) فى النسق القرآنى. وفى الفصل الأول نبحث ( كتب و كتاب ) بمعنى الالزام والفرض والشرع ، و( كتب بمعنى الكتاب السماوى ) مع ( كتب ) بمعنى الحتميات المقرة سلفا . وفى الفصل
more