عمائم أوروبا السوداء.. كيف انتشر التشيُّع في قلب القارة العجوز؟

اضيف الخبر في يوم الإثنين ٠٦ - مارس - ٢٠٢٣ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: الجزيرة


عمائم أوروبا السوداء.. كيف انتشر التشيُّع في قلب القارة العجوز؟

انطلقت رحلة الشابة الأميركية "مايا" من جامعة "بيركلي" بولاية كاليفورنيا طالبةً في العلوم السياسية. وفي إطار برنامج للتبادل الثقافي، حطَّت "مايا" رحالها بالجنوب الفرنسي، حيث بدأت في طرق أبواب لم تدرك وجودها قبلا، وهي أبواب الإيمان بخالق لهذا الكون، كما قالت في شهادتها.
مقالات متعلقة :


غير أن نطق الشهادتين لم يكن سوى البداية بالنسبة للشابة الأميركية، فهي وإن أدخلتها إلى دائرة الإسلام، فإنها لم تكن شافية بالنسبة لأسئلتها الكثيرة، حسب كلامها، فواصلت البحث والقراءة حتى وصلت إلى غايتها النهائية: التشيُّع. ما إن انتهت "مايا" من حكايتها التي أخذت تحكيها داخل مركز الزهراء الشيعي الواقع بمدينة "غراند سانت" شمالي البلاد، حتى صدحت الأصوات من خلفها: "اللهم صلِّ على محمد وآل محمد"، في مشهد احتفاء كبير. (1

شيعة أوروبا الأوائل
ساهم الوضع غير المستقر للشيعة في عدد من البلدان العربية مثل العراق وبعض دول الخليج في انتقال عدد مُعتبر من الشخصيات الدينية والسياسية الشيعية إلى أوروبا. (غيتي)
لا يُمكن عزل الحضور الشيعي في أوروبا عن حضور الإسلام في القارة العجوز، وهي قصة بدأت بالطبع مع فتح الأندلس وتوالت فصولها في عهد الإمبراطورية العثمانية. وقد دخلت علاقة أوروبا مع الإسلام في مرحلة ثانية إبان عهد الاستعمار، حين كانت في حاجة إلى يد عاملة تلبي نداء إعادة الإعمار بسبب الحروب المتعاقبة. ومن ثمَّ وصلت أفواج من المهاجرين إلى الأراضي الأوروبية، وبدا أن هناك اختلافات إثنية وثقافية واجتماعية ظاهرة في صفوف المسلمين القادمين إليها.

مع بداية السبعينيات، صار الاختلاف مذهبيا أيضا، مع بدء حضور معتنقي المذهب الجعفري الاثنا عشري بين الأوروبيين على قلة عددهم (2)، وقد تقوَّى الوجود الشيعي في القارة العجوز بسبب هجرات الطلبة إليها من أماكن مختلفة، مثل العراق وإيران، وكذلك أوغندا التي توجد بها طائفة الخوجة الشيعية وبعض دول جنوب آسيا. وزادت نسبة النزوح الشيعي نحو أوروبا بسبب أحداث أخرى، منها الثورة الإيرانية عام 1979، ثم حرب العراق عام 2003، وأخيرا وليس آخرا ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا بعد عام 2014

(فيديو يشرح صلاة الشيعة بالفرنسية)

كان الوضع غير المستقر للشيعة في عدد من البلدان العربية مثل العراق وبعض دول الخليج عاملا ساهم في انتقال عدد مُعتبر من الشخصيات الدينية والسياسية الشيعية إلى أوروبا، حيث أسسوا مكاتب ومراكز عملت على إنشاء بنية تحتية للنشاط الشيعي تستجيب للاختلافات اللغوية والدينية والسياسية للمسلمين في أوروبا. (3) وبداية من التسعينيات اختار بعض الشخصيات الدينية الشيعية المهمة العاصمة البريطانية لندن معقلا للتشيُّع في القارة، فظهر عدد من المراكز الدينية والبحثية والتدريسية التي أشرفت عليها مرجعيات شيعية كبرى، مثل "أبو القاسم الخوئي" و"علي خامنئي"، المرشد الحالي للثورة الإسلامية الإيرانية. (4)

حافظت الجاليات الشيعية في أوروبا على تنظيم صفوفها، رغم التحولات والتحديات الكبيرة لإثبات نفسها بوصفها أقلية وسط أقلية أكبر، وجماعة على علاقة وطيدة بمجتمعاتها الأصلية، ولذا غدت العواصم الأوروبية نقاط استقرار وتنظيم للشبكات الشيعية المتداخلة. وعلى سبيل المثال، فإن حزب "الدعوة" المعارض لحُكم صدام حسين، الذي أصبح إحدى أهم القوى السياسية في العراق بعد الاجتياح الأميركي، وصار الحزب المهيمن على الحكومة العراقية بداية من 2005 بقيادة رئيس الوزراء العراقي السابق "نوري المالكي"، قد اتخذ من بريطانيا معقلا للاستقرار ومعارضة نظام البعث من خارج البلاد، حتى سقوط الأخير.

بلجيكا.. كربلاء الغرب
"رحلتي نحو مذهب آل البيت عليهم السلام جاء بقراءة نصوصية للقرآن والسنة والتاريخ".

عز الدين الغميش، رئيس جمعية الثَّقَلَيْن الثقافية الشيعية البلجيكية
إذا أردنا أن نسوق نموذجا على الوجود الشيعي في أوروبا، فلن نجد أفضل من بلجيكا. وللإسلام قصة طويلة في بلجيكا، فهو وإن حضر بسبب الهجرة في المقام الأول على غرار بقية البلدان الأوروبية، فإنه انتشر سريعا بسبب تحوُّل عدد من البلجيكيين إلى الدين الإسلامي. ويُقدَّر عدد المسلمين هناك من 600 ألف إلى 800 ألف شخص، وفي بروكسل، العاصمة البلجيكية التي تُعَدُّ رمزا لتوحيد أوروبا، تُشكِّل الجالية الإسلامية نحو 25% من سكان المدينة. (5)

ويختلف تعامل الدولة البلجيكية مع الإسلام عن طريقة تعامل دول أوروبية أخرى، فقد شاركت المملكة منذ البداية في تنظيم وهيكلة الديانة الثانية في البلاد، وجاء تأكيد هذا التوجه رسميا عبر قانون عام 1971 الذي كفل للمسلمين الكثير من حقوقهم، بدءا من تمتع الجالية الإسلامية بالحرية في تفسير تعاليمها الدينية، وحتى تقنين الاستفادة من الدعم المادي الذي تتلقاه الهيئات الإسلامية من الدولة. ولم يكن هذا الدعم الرسمي بدون مقابل طبعا، حيث وفَّر للدولة مساحة للتدخل والتحرك في الهيئات الإسلامية. (6)
تسبَّبت هذه السياسة البلجيكية المنفتحة تجاه المنظمات الإسلامية في اشتعال المنافسة بين عدد من الهيئات الإسلامية الطامعة في حيازة مكانة مميزة عند الحكومة، مع الاستفادة من الموارد المادية التي تضعها الدولة تحت تصرُّف العاملين رسميا في تلك المؤسسات. وقد تلقَّت بعض المنظمات الإسلامية مساعدات من دول أخرى بطريقة قانونية، كما هو حال عدد من الهيئات السُّنية التي دعمتها المملكة العربية السعودية عن طريق المركز الإسلامي الثقافي البلجيكي، الذي تأسس عام 1970 وأُغلِق عام 2019 ضمن حملة شنَّتها السلطات للتضييق على المؤسسات ذات التوجه "السلفي". وبجانب التيارات السلفية، حضرت تيارات أخرى في المشهد الديني البلجيكي، مثل جماعة الدولة والتبليغ، وجماعة الإخوان المسلمين، والمنظمات الدينية التركية، وكذلك الجهات الشيعية وبعضها كان مدعوما من إيران، التي سعت هي الأخرى لإيجاد موطئ قدم لها في هذا التنافس المحموم. (7)

تتركز الجالية الشيعية البلجيكية بالعاصمة بروكسل وضواحيها، حيث أظهر الشيعة قدرة ملحوظة على الاندماج في المجتمع الذي يعيشون فيه على جميع الأصعدة، بداية من الجانب الاجتماعي وصولا إلى الجوانب المهنية. وصاحب هذا الاندماج الشيعي عمل قاعدي على مستوى الدعوة الدينية للمذهب الجعفري من أجل نشر التشيُّع وسط الجالية الإسلامية، التي تتمذهب غالبيتها العظمى بالمذهب السُّني، بالإضافة إلى نشر المذهب الشيعي والدين الإسلامي معا في صفوف غير المسلمين. وقد عملت الهيئات والجمعيات الشيعية في بلجيكا على نشر أهم أفكار مذهبها في الفضاء الافتراضي والواقع الاجتماعي على السواء. ورغم حساسية الأمر بسبب الغالبية السُّنية في صفوف الجالية الإسلامية، فإن تلك الجالية تمكَّنت من إنشاء جمعيات ومدارس وطَّنت بها نفسها وسط بروكسل والمدن الأخرى.

ولا يمكن نسيان عامل الانتشار الأهم، وهو المساجد، حيث يعود حضور المساجد الشيعية إلى بداية التسعينيات، حين تأسس مسجد "الإمام الرضا" بمدينة "أندرلخت" بواسطة رجل الدين الإيراني "جمال الدين الطباطبائي"، وأضحى المسجد بعد تأسيسه القبلة الأبرز للشيعة، ولعب المسجد بجانب الجمعية الإسلامية التابعة له دور الممثل الأهم للوجود الشيعي في بلجيكا. وقد ضمَّت مدينة أندرلخت مسجدا آخر هو مسجد "الهادي" الذي تأسس هو الآخر من طرف "جمال الدين الطباطبائي"، علاوة على مسجد "الرحمن" الذي يصلي فيه الشيعة والسُّنة على حدٍّ سواء. ورغم كونهم أقلية داخل الجالية الإسلامية، فإن التمايز العِرقي عرف طريقه إلى صفوف الشيعة، فظهرت مساجد يرتادها الشيعة العراقيون وأخرى للشيعة الأتراك وثالثة لشيعة باكستان. (8)

تشيُّع عقدي وآخر سياسي
"بعد إسلامي التقيت بأحد الإخوة الذي ساعدني ونصحني بمواصلة البحث، وحينها عثرت على كتاب يتحدث عن الثورة الإيرانية، وقال كاتبه إنه يجب فهم الإسلام والتشيُّع ومعرفة آل البيت من أجل فهم هذه الثورة، وحينها تعرَّفت على علي عليه السلام، والإمام الحسين عليه السلام".

فرنسي مسيحي سابقا يتحدث عن اعتناقه الإٍسلام على المذهب الشيعي

لا يمكننا الحديث عن الوجود الشيعي في مكان ما خارج المعاقل المعروفة للمسلمين الشيعة في العالم الإسلامي -مثل أوروبا- دون الحديث عن "نشر التشيُّع" الذي يُعَدُّ أحد الأسس الراسخة للتدين الشيعي. وقد أصبحت جهود "نشر التشيُّع" ظاهرة مهمة تسبَّبت في الكثير من المشكلات بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية، الدولة الشيعية الأولى في العالم، وبين عدد من الدول العربية والغربية التي تخشى على نفسها من بذور "الفتن الطائفية" وتداعياتها.

تسرب التشيُّع في بلجيكا وسط الجاليات السُّنية وفي الأوساط الكاثوليكية أيضا، وتقدَّم المغاربة قائمة الجنسيات التي اعتنقت المذهب الشيعي، إذ تشير إحصائيات إلى أن عدد الشيعة المغاربة وصل إلى 10 آلاف شخص. (9) ويرى الباحثون من متتبعي عملية تشيُّع المغاربة وجنسيات عربية أخرى في بلجيكا هذا التوجه تتمة لمحاولة القوى الشيعية بزعامة إيران الوصول إلى منطقة شمال أفريقيا، فيما يعتبر آخرون أن هذا التحول يأتي في إطار بحث عدد من السُّنة عن هوية دينية جديدة تستجيب لتطلعاتهم غير التقليدية. (10)

من جهة أخرى، لا يمكن قراءة هذه الموجات من التشيُّع دون العودة إلى أحد أهم الأحداث السياسية الشيعية في التاريخ المعاصر، وهي الثورة الإيرانية، إذ ساهمت الثورة في تعريف الناس بالأفكار الشيعية عن قُرب، وقدَّمت للعالم أجمع شخصية كاريزمية تمتلك تأثيرا لا يستهان به وهو "آية الله الخميني"، المرشد العام للثورة وقائدها الأهم. وقد ظهر أثر الثورة الإيرانية سريعا على الحضور الشيعي في شتى بقاع العالم، ففي الثمانينيات، أظهر الشباب المسلم في عدد من الأقطار اهتماما أكبر بالمذهب الشيعي الذي طرح أسئلة كانت حتى وقت قريب قليلا ما تُطرح في صفوف التيارات السُّنية التقليدية، وهي أسئلة تطرَّقت لمفاهيم مثل العدالة الاجتماعية والمساواة ولكن بنكهة إسلامية.

الثورة الإيرانية
قدَّمت الثورة الإيرانية للعالم شخصية تمتلك تأثيرا لا يستهان به وهو "آية الله الخميني"، المرشد العام للثورة وقائدها الأهم. (مواقع التواصل)
ظهرت في هذه الفترة النواة الأولى للتشيُّع في بلجيكا عن طريق مواطنين من أصول مغربية تواصلوا مع بعض الأئمة الإيرانيين الذين أرسلتهم طهران لمتابعة الوضع الديني والسياسي للجالية الإيرانية في أوروبا. ووصل عمق التواصل بين هؤلاء المُتشيِّعين الجُدد وإيران حدَّ ذهابهم إلى مدينة "قُم" لطلب العلم والعودة إلى بلجيكا للدعوة. وقد تعزَّز في التسعينيات الحضور الشيعي في إيران بمكوِّن مهم وأساسي هو شيعة العراق الذين تركوا البلاد فرارا من نظام صدام حسين، إذ قدمت الجالية العراقية إلى أوروبا ومعها سلاحان مهمان: أولهما تاريخها في معارضة نظام البعث العلماني، وثانيهما تمكُّنها من اللغة العربية، ما جعل مهمة التواصل مع عرب بلجيكا أقل صعوبة.
مع حلول الألفية الجديدة، وتألق نجم "حسن نصر الله"، الأمين العام لحزب الله اللبناني، زادت قوة التأثير الشيعي في صفوف الجالية السُّنية الأوروبية، خصوصا مع اتخاذ الحزب مواقف واضحة للدفاع عن القضية الفلسطينية وظهوره بمظهر القوة القادرة على مجابهة إسرائيل كما أثبت ذلك في حرب لبنان عام 2006. ورغم هذا التأثير المهم للجانب السياسي في مسألة إعجاب بعض السُّنة في أوروبا بالمذهب الشيعي واعتناقه، فإن السياسة لم تكن السبب الوحيد، إذ وجد بعض أبناء الجاليات المسلمة في المذهب الشيعي قدرة أكبر على تحدي نمط الحياة الغربي الذي رأت أنه ينتزع السمات الثقافية للمسلمين في أوروبا.

في الإطار نفسه، ولكن في رقعة جغرافية مختلفة هي إيطاليا هذه المرة، تمكَّن التشيُّع من إيجاد مكان له في عدد من المدن، منها "روما" و"ميلانو" و"بريشيا" و"نوفارا" و"كومو". وتحتضن كومو مقر جمعية المحامين اللبنانية التي كانت تنشر في صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك مقاطع لرجال دين شيعة مثل "عبد العزيز حمزة" و"بسال قاروط" إضافة إلى رجل الدين الإيطالي المعتنق للمذهب الشيعي "عباس دي بالما"، الذي درس التشيُّع في دمشق السورية وقُم الإيرانية. ورغم أن المقاطع التي تنشرها الصفحة مجردة من أي حمولة سياسية، تماما كما هو حال أنشطة الجاليات الشيعية بمدن مثل "نافورا" و"بالِرمو" و"كابري"، التي تكتفي بالاحتفال بالمناسبات المهمة مثل عاشوراء، فإن تحركات أخرى موازية تجري بنكهة سياسية بين صفوف الجالية الشيعية بإيطاليا. (11)

رجل الدين الشيعي الإيطالي "عباس دي بالما"
رجل الدين الشيعي الإيطالي "عباس دي بالما" (مواقع التواصل)
على سبيل المثال، ينشط في مركز "الإمام المهدي" بروما إيرانيون وأفغان وباكستانيون في المقام الأول، مع حضور قليل للجالية العربية، ويُديره رجل الدين الشيعي الإيطالي "عباس دي بالما"، وهو المركز الأكثر حضورا في المجال السياسي عبر تنظيم فعاليات من قبيل "الاحتفال بتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي". كما سبق أن استقبل المركز "نوَّار الساحلي"، السياسي اللبناني وعضو حزب الله، علاوة على إشادة "دي بالما" أكثر من مرة بحسن نصر الله وموقفه الداعم لنظام الأسد في سوريا وتنظيم "زينبيون" الذي كان يقاتل بجانب النظام السوري في الحرب السورية. (12

التشيع البريطاني
في يوم 12 مارس/آذار 2012، توجه "رشيد البخاري"، مهاجر مغربي مقيم بالديار البلجيكية، إلى مسجد "الإمام الرضا" الشيعي بمدينة أندرلخت، وأضرم النار فيه مُتسبِّبا في مقتل إمام المسجد "عبد الله دحدوح"، المغربي الأصل، وهو أحد أبرز الدعاة الشيعة في البلاد. وقد نفى المتهم الذي حُكِم عليه بالسجن 27 سنة أيَّ رغبة في قتل الإمام الشيعي أو إصابة الشخصين الآخرين اللذين كانا في المسجد حينها، بل اعترف أمام المحكمة بأنه رغب في حرق المسجد فقط لتنبيه الشيعة في بلجيكا على خطورة دعمهم لنظام الأسد والميليشيات التي تقتل أهل السُّنة في سوريا. (13)

سلَّطت هذه الحادثة الضوء على بوادر التراشق المذهبي في أوروبا، الذي انتقل من البلدان المشرقية إلى المغرب البعيد. وفي السياق ذاته، وبسبب الصراع في سوريا وما اتَّسَم به من مواجهات مذهبية بجانب تلك السياسية والأيديولوجية، ظهرت مشاحنات في دول أخرى داخل صفوف الأقلية المسلمة بين الشيعة والسُّنة. ففي بريطانيا، التي شهدت مظاهرات ومواجهات مع بداية الأزمة السورية، تحوَّل انتباه المجتمع المسلم من مجابهة الإسلاموفوبيا إلى الدخول في مواجهات داخلية فرضتها القضايا الطائفية المشتعلة، بحسب مراقبي الشأن الإسلامي في البلاد. (14)

ورغم أن التشيُّع غالبا ما رُبِط بإيران في بريطانيا، فإن هناك نوعا من التشيُّع تقول طهران إنها تعاديه بقوة، ويطلق عليه "التشيُّع البريطاني"، الذي يُعَدُّ رجل الدين الشيعي الشهير "ياسر الحبيب" أحد أبرز دعاته. ويتميز هذا النمط الديني الشيعي بالتركيز على رسائل الكراهية الموجَّهة إلى السُّنة، وهو ما جعل حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني المعروف بقُربه من إيران، يهاجم في تصريح له هذا النوع من التشيُّع الذي "يهدف إلى خلق الحروب الطائفية"، فقد اتهم نصر الله رجال الدين الشيعة ممن يتبنون هذا المنهج بأنهم عملاء يخدمون المخابرات البريطانية، وتكرَّر الكلام نفسه على لسان المرشد الإيراني علي خامنئي، الذي أضاف "صادق الحسيني الشيرازي" إلى "قائمة العملاء" في نظره، وهو رجل دين شيعي عراقي معروف بتأثيره في الشيعة البريطانيين. (15) (16) (17)
وبجانب الخلاف السُّني-الشيعي والشيعي-الشيعي، يواجه الحضور الشيعي مشكلات تظهر بين الفينة والأخرى، كما حدث في فرنسا، حين قررت السلطات الفرنسية إغلاق مركز الزهراء الشيعي، الذي تشيَّعت فيه "مايا" في يوم من الأيام كما ذكرنا سابقا، وذلك بسبب عثور الشرطة الفرنسية على بندقيتين من عيار 12 و16 ملم مع 200 خرطوشة. وقد قال المتهمون إنها كانت مجرد أداة لحمايتهم من أي هجوم قد يتعرَّض له المركز الشيعي من طرف أعضاء القاعدة أو أعضاء تنظيم الدولة الإسلامية. (18)

لا يبدو إذن أن الإسلاموفوبيا هي آخر هموم الجالية الإسلامية في أوروبا، بل تتزايد التعقيدات السياسية لحضورها ولأنشطتها الدينية بسبب الخلافات المذهبية بين السُّنة والشيعة، والخلافات بين شتى مدارس الإسلام السُّني، وكذلك الخلافات المماثلة بين الاتجاهات الشيعية المختلفة، والتبعات المُعقَّدة لخشية هذا الفريق أو ذاك، ليس من قبضة الدولة المُتشكِّكة فيه فحسب، بل وكذلك من "إخوانه" في الدين ممن لا يشاركونه مذهبه نفسه. وفي حالة المذهب الشيعي أكثر من غيره، تلعب السياسة بطبيعة الحال دورا كبيرا في علاقات الجالية الشيعية ببقية المسلمين وبالمجتمع الأوروبي الأوسع.
اجمالي القراءات 458
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق