هيئة "الفضيلة" في اليمن.. بين الديني والسياسي والحقوقي
على الرغم من الانتقادات الموجهة لدعاة "الفضيلة" (أو هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) التي أطلقها العديد من الفعاليات المجتمعية والحقوقية، يبدو أن الهيئة ماضية، بعد انعقاد جمعيتها التحضيرية أواخر الأسبوع المنصرم، في استكمال تكويناتها والشروع بممارسة نشاطهاالوعظي والزجري كشرطة آداب، غير مكترثة بآراء معارضيها ومنتقديها وإن كان بعض المراقبين يرجحون أن ذلك لن يكون سهل المنال.
ويعطي المتابعون أكثر من تفسير لولادة هذه الهيئة التي ستكون مماثلة لهيئة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في المملكة العربية السعودية؛ ففي حين يقول مؤسسوها أنها جاءت كاستجابة لما تعتبره "انتشاراً غير مسبوقٍ للرذيلة والفاحشة داخل المجتمع" خاصة من قبل السياح الخليجيين الذين استدرجوا فتيات يمنيات وصوروهن في وضعيات فاضحة وانتشرت صورهن في اليمن وخارجه.
ولكي يقنعوا السلطات العليا في البلاد بتأسيس هيئة للفضيلة، حملوا أواخر شهر مايو الماضي بعضاً من تلك الأفلام المتداولة إلى رئيس الجمهورية بغية إقناعه بوجهة نظرهم للتصدي للرذيلة، ومنذ ذلك الحين بدءوا يباشرون نشاطهم وسط موجة انتقادات حادة من قبل العديد من الفعاليات المجتمعية والنسوية والحقوقية، باستثناء بعض الزعامات القبلية التي ظهرت بقوة إلى جانب مؤسسي هذه الهيئة خلال الجمع التأسيسي الأخير.
بالمقابل، يرى المعارضون في هذا الكيان الرقابي على سلوك المجتمع مجرد غطاء لتكتل سياسي يختبئ تحت رداء الفضيلة، يؤلف بين تيار ديني متشدد وزعامات قبلية تقليدية، وحجتهم في ذلك أن الهيئة عقدت مؤتمرها التأسيسي مؤازرة بمشاركة أبرز الزعامات القبلية، في إشارة لا تخلو من الدلالة والإيحاء بما تركن إليه من داعمين، خاصة أن الكثير منهم ورد اسمه ضمن الموقعين على البيان الختامي للملتقى الأول للفضيلة، مما ينفي برأيهم حجية المنزع الديني الصرف لوحده.
ويذهب هؤلاء المناوؤون إلى أنه على الرغم من اختلاف المنطلقات بين التيار الديني والرموز القبلية - باعتبار أن الأول مشدود وفق ما يعلن عنه ويصرح به إلى وطن روحي أممي يتخطى الحدود الاجتماعية التقليدية بينما التيار القبلي أضيق ولاء من الدعوة الأممية للدين حيث عصبية الولاء لا تكاد تبارح مرابع القبيلة - فإن ثمة انسجاماً ملحوظاً بين الفريقين، وبالتالي فإن الأمر لا يعدو عن كونه "زواج مصلحة"، ظاهره الدفاع عن الدين وباطنه الاشتغال به كنشاط يعزز به كل طرف حظوظه وفرصه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وذهب المنتقدون، في هذا الصدد، إلى أن "جامعة الإيمان" التي يترأسها الشيخ عبدالمجيد الزنداني والذي يشغل رئيس اللجنة التحضيرية لهيئة الفضيلة ويعد من أكثر المتحمسين لها، لديه طوابير طويلة من خريجي جامعته العاطلين عن العمل وأن الهيئة - بممارسة نشاطها - ستستوعب الكثير منهم مما يوفر لهم فرص عمل، خاصة وأن المؤسسين يعولون كثيراً على دور الدولة في تمويل ودعم نشاط هذه الهيئة.
الظواهر.. والأسباب العنيقة
الباحث والكاتب اليمني زايد جابر، في تفسيره للتحالف الذي ظهر خلال الملتقى الأول للفضيلة، قال لسويس إنفو: "إن التحالف بين الإسلاميين ومشائخ القبائل له جذور تاريخية ومبررات دينية يطرحها الإسلاميون السلفيون تحديداً، إذ يرون أن هذا التحالف سيصب في مصلحة الدعوة باعتبار أن المشائخ يناهضون الحداثة والليبرالية والتيارات العلمانية، وهو ما يحاربه هؤلاء أيضاً".
وفي معرض تقييمه لولادة هيئة الأمر بالمعروف في هذه الظرفية بالذات، يرى جابر أنه لا يخلو من حسابات سياسية ظرفية ترتبط بالمرحلة التي تمر بها البلاد. وفي هذا الإطار، يعتقد أن "ظهور هيئة الفضيلة في هذا التوقيت بالذات يأتي كمحصلة للتحالف بين السلطة والتيار السلفي وذلك لتحقيق عدة أهداف أهمها:
1- خلط الأوراق السياسية على أحزاب اللقاء المشترك المعارض، ومحاولة تفكيك العلاقة بين الإصلاح وبقية أحزاب المشترك، أو نقل الصراع إلى داخل الإصلاح نفسه.
2- مواجهة الإصلاح في الانتخابات القادمة وذلك بتخويف الناس من هذه الهيئة واحتمالات وصول الإصلاح إلى السلطة.
3- مواجهة الحراك الجنوبي والتمرد في صعدة تحت مبرر محاربة الدعوات الانفصالية وأفكار التشيع".
وحول ما إذا كانت الهيئة ستتسبب في حدوث انشقاق داخل حزب التجمع اليمني للإصلاح بين تيار عقائدي متشدد وبين تيار تحديثي، اعتبر جابر أن وجود هذه الهيئة وعلى رأسها قيادات إصلاحية كبيرة يعد مؤشراً على اتساع حجم الخلاف والتباين داخل حزب التجمع اليمني للإصلاح وتزايده، لكنه استبعد تطوره إلى انشقاق على المدى القريب، على الأقل داخل هذا الحزب الديني بسبب هذه القضية، معتقدا أن حزب الإصلاح يمتلك إمكانية احتواء هذه الخلافات، كما أنه ليس في مصلحة الزنداني وتياره السلفي الانشقاق عن التجمع في هذه الفترة.
الصحفية والناشطة الحقوقية ابتهال الضلعي من جهتها قالت لسويس إنفو في سياق تفسيرها لإنشاء الهيئة الجديدة أن "تشكيل هيئة الفضيلة الداعية على حد تعبير أعضاءها إلى حماية المجتمع اليمني وتنقيته من المنكرات في توقيت كهذا تعاني فيه البلاد من مشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية وغيرها، تتطلب الالتفات إلى الأهم وبدلاً من الدعوات التي يطلقها أعضاء الهيئة لمراقبة الناس ومنع الانحلال والتضييق، عليهم التفكير في الأسباب المؤدية لما يزعمونه بالانحلال الاجتماعي" وأضافت "أرجو أن يعوا بأن الفقر والبطالة وتفشي الفساد والمحسوبية هي الأسباب الحقيقة التي تنتج مثل هذه الظواهر".
ولا تستبعد ابتهال الضلعي أن يكون إنشاء هذه الهيئة "ناتجاً عن ابتعاد المشائخ والعلماء عن المجتمع في السنوات الأخيرة، وعن شعورهم بعدم الحاجة للعودة إليهم في كل شاردة وواردة مما دفعهم لتفعيل دورهم من جديد عبر هذا الهيئة"، حسب قولها.
مخاوف الشارع
وعقب مباشرة الهيئة إغلاق بعض المطاعم والمنشآت الترفيهية في إطار ممارستها للنهي عن المنكر، سادت الشارع اليمني موجة من القلق خشية ملاحقتهم والتضييق عليهم من قبل أفراد الهيئة ومنعهم من الجلوس أو السير في الأماكن العامة، لاسيما بعد أن أطلق أحد شيوخ السلفية المتشددين (عبدالمجيد الريمي) اتهامات بالكفر لكل من انتقد الهيئة أو مسّ بعلمائها، معتبراً أن نشاطها "يُعد من شعائر الدين ومن متممات كماله".
وفي دلالة على حجم المخاوف من نشاط هيئة الفضيلة، طالب اتحاد نساء اليمن يوم السبت 19 يوليو الجاري حظر نشاطها "لما قد يسببه من مضايقة للمرأة اليمنية والتعدي على حقوقها". ومن جهتها، تقول ابتهال الضلعي، التي اعتادت أن تذهب إلى مقر عملها بسيارتها، "إني كامرأة عاملة أخشى أن يتم إعاقة حركتي اليومية وحريتي الشخصية في قيادة السيارة وإجباري على تغطية وجهي أو حظر سفري"، وتستدرك قائلة "إلا أني لا أستطيع أن أجزم بأن مثل هذه الأمور ستكون ضمن أولويات الهيئة وعلى جدول أعمالها في الوقت الحالي، كما أني لا أستبعد مع مرور الوقت أن تلجأ إلى مثل تلك الممارسات ما سيؤدي إلى نسف كل ما قامت به نساؤنا من إنجازات حقوقية في المجال النسوي، رغم محدوديتها، على مدار العقود الماضية".
وزاد من مخاوف الشارع اليمني أن العديد من مؤسسي "الفضيلة" رغم تأكيدهم مراراً أن هيئتهم لن تكون بديلة لأجهزة الضبط القضائي، إلا أن البيان الختامي الصادر عن اجتماعهم التأسيسي الذي وقع عليه 47 من رجال الدين والزعامات القبيلة، قد انطوى ضمناً على مطالب تُخولهم صفات الضبطية القضائية عندما شددوا في إحدى فقراته على "إنشاء هيئة حكومية متخصصة تعنى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أسوة بإنشاء الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد"، والمعلوم أن هذه الأخيرة خوّل القانون أعضائها صفة الضبطية القضائية "العدلية".
تحركات المجتمع المدني
المراقبون والمحللون للظاهرة الإسلامية النشطة في مثل هذه المجالات التي يتداخل فيها الديني بالسياسي، يسجلون دوماً أن مثل هذه الممارسة تصدر عادة عن حاجة متبادلة بين السلطة ورجال الدين، ويرون أنه على مر التاريخ، قديمه وحديثه، تتكئ المؤسسة الدينية (العلماء) على اعتراف السلطة بهم ورعايتهم ومنحهم بعض المزايا المادية أو الرمزية، فيما هم يقدمون لها المسوغات والتبريرات التي تضفي على ممارساتها المشروعية، وبالتالي تمنحها شرعية الاستمرار. وهذا الزخم الذي تكتسبه الجماعة الدينية غالباً ما يؤدي إلى ارتفاع الطلب عليها جماعات أو أفراد. والثابت في التاريخ اليمني، بعيده وقريبه، أن الحاجة إلى العلماء تزداد في الملمات والنوازل لما يقدمونه من دعم عقائدي وفقهي ينفع للحشد والتأليب المجتمعي.
والملاحظ لدى هؤلاء المراقبين والمتابعين للخلفية التي ولدت فيها هيئة الفضيلة اليمنية، أنها جاءت في ظروف مشابهة للظروف التي انتعش فيها التيار الديني؛ فقد تعاظمت قوة هذا الأخير عندما التحم بالتيار القبلي خلال حروب المناطق الوسطى بين الجبهة الوطنية المدعومة من الجنوب والحكومة في شمال البلاد، وزاد حضوره بقوة خلال حرب صيف 1994 عندما قاتل إلى جانب القوات الحكومية ضد الحزب الاشتراكي، إلا أن نجمهم خبا بعد أن أصبح الرئيس علي عبدالله صالح الرجل القوي بعد خروجه من تلك الحرب منتصرا، إذ قلص من نفوذهم لاسيما في المواقع التي كانوا ينافسون فيها الحزب الحاكم (المؤتمر الشعبي العام) دون أن يضطره ذلك إلى قطع علاقاته كلية بهذا التيار وعلى وجه التحديد العقائدي منه.
فقد أبدى الرئيس اليمني حرصاً على إبقاء خيوط الود مع بعض رموزه كالشيخ عبدالمجيد الزنداني الذي طالبت أمريكا بتجميد أرصدته وتقييد تحركاته وتسليمه لها إلا أن صالح رفض تسليمه وشدد، في غير مناسبة، على ذلك الرفض وهو ما لقي تقديرا بالغا لدى رجالات الدين، الذين لم يترددوا في الإعلان صراحة عن دعمهم لترشيح الرئيس صالح في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في سبتمبر عام 2006.
اليوم، ونتيجة للقلاقل والاضطرابات التي عرفها اليمن في الآونة الأخيرة، عاود التيار الديني السلفي نشاطه مستغلاً المصاعب التي تعاني منها السلطة كضغط الحراك الجنوبي، وتمرد الحوثيين في صعدة، واتساع الأزمة بين السلطة والمعارضة حول الإصلاحات السياسية وحول تشكيل اللجنة العليا للانتخابات، وكلها عوامل هيأت لهذه الجماعة أن تطل برأسها مجددا، لكن هذه المرة ليس بوجهها السياسي السافر وإنما تحت مسمى الذود عن الفضيلة ووقاية المجتمع من الرذيلة.
إجمالا، يبدو أن الهيئة بقدر ما أنتجتها ظروف استثنائية فإنها تُقابل برفض العديد من الأوساط المدنية والحقوقية اليمنية التي تحركت بكثافة مما يعني أن هناك حركة حقوقية نشطة لا تقبل أن يكون أحد وصياً على أخلاق وسلوك الناس والمجتمع، مما يعكس تحولا في الفهم المجتمعي لوظيفة مثل هذه الهيئات التي ما فتئت تثير لغطا مستمرا حول وظيفتها في السعودية التي تعد المرتع الأول لمثل هذا النشاط الوعظي والزجري، إذ بدأت السلطات هناك تضيق ذرعا بها في الآونة الأخيرة وعمدت إلى الحد من نشاطاتها.
وبالتالي يرى كثيرون أنه لا يُعقل أن تكون اليمن التي تقدم نفسها دائما كبلد ديمقراطي يصون ويحمي حقوق أفراده ومجتمعه، مكانا لمثل هذا النشاط الذي يطلق فيه رجال الدين سلطاتهم، خاصة والبلاد مازالت تكتوي بنيران حرب المتمردين في صعدة وتعاني من هجمات الإرهاب منذ سنوات، وكل ذلك تحت دعاوى ومبررات دينية. ولعل مثل هذه الحقائق تبعث على الاعتقاد بأن "الفضيلة" ربما لن يكتب لها النجاح خاصة بعد إعلان السلطات مؤخرا عن نهاية الحرب مع المتمردين الحوثيين وهي التي كانت وراء بعث وتحريك الجماعات الدينية السلفية والقبلية في السنوات الأخيرة.
اجمالي القراءات
1816