فاروق جويدة يكتب: بين إسلام المظاهر وإسلام الضمائر
بين إسلام المظاهر وإسلام الضمائر
من الظلم الفادح أن نختصر الإسلام فى لحية، وأن نجسد حضارة أمة فى نقاب.. ولهذا كنت حزينا وأنا أتابع مشايخنا الأجلاء وهم يطالبون المصريين بتربية اللحية وارتداء النقاب، وأن غاية ذلك كله أن يزيد عدد الملتحين فى مصر مليون شخص قبل قدوم شهر رمضان المبارك ومليون أخرى من المنتقبات.. هذا هو أكبر أحلام مشايخنا للإسلام فى أرض الكنانة والأزهر والألف مئذنة.
وأنا لا أعترض إطلاقا على ترك اللحية أو ارتداء النقاب، فالإسلام ليس لحية ولا نقابا لأنه دين عظيم وعقيدة سمحاء فيها الفكر والرؤى والإصلاح وتهذيب النفوس وتنقية القلوب وصحوة الضمائر.. إن 90% من العقيدة الإسلامية ترسخت فى المعاملات والباقى هو العبادات، والإسلام دين سلوك وليس دين مظاهر، ومن الظلم للإسلام ولنا أن يصبح بين أيدينا مجرد إطلاق للحية أو ارتداء للنقاب، لأن إطلاق اللحية ليس دليلا على الإيمان وارتداء النقاب ليس وحده الفضيلة.. إن من بين علمائنا الأجلاء ورجال ديننا الحنيف عشرات بل مئات لا يتركون لحاهم.. إن خالد محمد خالد لم يكن ملتحيا.. والدكتور سليم العوا والدكتور محمد عمارة ود. عاشور ليسوا ملتحين.. وحين يعتقد أحد مشايخنا أن إطلاق مليون لحية وارتداء مليون حجاب فى شهرين وقبل شهر رمضان هو المطلب الإسلامى الأول، فهذا فكر يحتاج إلى ترشيد لأن الإسلام أكبر كثيرا من تربية اللحى وارتداء النقاب.
إن الحضارة التى أضاءت سماء العالم مئات السنين لم تكن باللحى أو النقاب ولكنها كانت بالفكر والعقل والعمل والاجتهاد.. والتاريخ حين يتحدث عن دور المسلمين فى الحضارة الإنسانية لم يذكر طول لحاهم ولكنه توقف كثيرا عند عبقرية عقولهم.. الإسلام الذى أضاء ربوع أوروبا فى الأندلس قدم لها زادا حضاريا وفكريا وثقافيا مازال التاريخ يتحدث عنه.. مازال التاريخ يذكر بطولات عسكرية خارقة، ابتداء بخالد بن الوليد وانتهاء بطارق بن زياد.. التاريخ يتحدث عن دور المسلمين فى الفلسفة عند الغزالى وابن رشد وفى الرياضة والطبيعة والكيمياء والطب عند ابن سيناء وابن الهيثم والخوارزمى.. إن التاريخ يتحدث عن العمارة الإسلامية والموسيقى والفنون ويتوقف كثيرا عند نماذج إنسانية رفيعة فى العدل والحكم والسياسة.. التاريخ يتوقف عند المرأة المسلمة والحقوق التى كفلها الإسلام قبل أن يعرف الغرب شيئا يسمى حقوق الإنسان والديمقراطية.. هذا هو الإسلام الحقيقى الذى نريده اليوم وحين يتصور البعض أن انتشار اللحى بين الناس دليل إيمان وتقوى فهذا فهم خاطئ لأن الإسلام دين ضمائر وليس دين مظاهر.
كنت أتمنى لو أن مشايخنا الأفاضل طالبوا بمحو أمية مليون مسلم ومليون مسلمة من بين 25 مليون مواطن مصرى لا يقرأون ولا يكتبون، معظمهم من النساء.. والأمية مرض عضال وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يفرج عن أى أسير من الكفار يعلم عشرة من أبناء المسلمين.. وكنت أتمنى لو أن مليون مصرى من الملتحين المتعلمين قاموا بتعليم مليون آخرين من الأميين قبل أن يأتى الشهر المبارك وقامت مليون أمرأة منتقبة بتعليم مليون فتاة لا تقرأ ولا تكتب.. لا أدرى أيهما أفضل وأكثر قربا لروح الإسلام، الدين والعقيدة أن ندعو الناس للعلم أم ندعوهم لتربية اللحى وارتداء النقاب.. إن تربية اللحى سلوك لا يخص المسلمين وحدهم وفى شوارع المدن الأوروبية تجد عشرات الآلاف من أصحاب اللحى من غير المسلمين.. واليهود من أكثر شعوب العالم الذين يتركون لحاهم.. والشباب فى أوروبا يعتبرون ترك اللحى من الموضة مثل الشعر الطويل وبنطلونات الجينز والملابس المزركشة.. إن الدعوة إلى ترك اللحى لا يرتبط إطلاقا بالمظهر الإسلامى ولا يدل عليه، والأخطر من ذلك أن تشاهد اللحى الضخمة فى الفرق الموسيقية الغربية وبين الفنانين الكبار وهم ليسوا مسلمين.
كنت أتصور فى هذه الأيام وبعد نجاح ثورة 25 يناير أن تكون الدعوات للعمل والإنتاج والمشاركة حتى نتجاوز المرحلة الصعبة التى نعيشها الآن.
لقد تراجعت معدلات الإنتاج.. وارتفعت أسعار السلع.. وزاد حجم البطالة والفوضى وانتشرت أعمال العنف والبلطجية فى الشوارع.. أيهما كان أولى أن يدعو علماؤنا الأجلاء المواطنين إلى العمل والإنتاج أم إلى ترك اللحى وارتداء النقاب.. لماذا لا يدعون الشباب إلى العودة لأعمالهم.. ولماذا لا يطالبون التجار بالرحمة وتخفيض أسعارهم.. ولماذا لا يطالبون البلطجية بالكف عن ايذاء الناس لأن ذلك يتعارض مع تعاليم دينهم.
إن تحول عقول البسطاء والعوام نحو الظاهر من الأشياء والسلوكيات والمعاملات خاصة فى الدين خطيئة كبرى، حيث يتصور المسلم الأمى أن تربية اللحية هى الإسلام الحقيقى وأن ارتداء النقاب هو الفضيلة وحدها.. مثل هذا الإنسان الذى لا يقرأ صحيفة ولا يتابع أحداثا يمكن أن تقتصر رحلته مع الحياة على لحية يتركها دون أن يطالب بحقه فى حياة حرة كريمة.. إن الساحة المصرية الآن تشهد تناقضات كثيرة تقوم على مظاهر الأشياء وليس بواطنها.. إن المطلوب من التيارات الإسلامية التى انتشرت فى الساحة الآن أن توجه الملايين نحو غايات نبيلة لبناء إنسان خربته سنوات القهر والاستبداد وامتهان الآدمية.
نحن فى حاجة إلى ترسيخ قيم الإسلام الحقيقية فى العدل والمساواة والتسامح والحوار.. ليس من المنطق أن نحاول تأكيد المظاهر فى السلوك والشكل والعمل وننسى أهم وأخطر ما تتطلبه ظروف مجتمعنا الآن.. نحن فى حاجة إلى مجتمع صحى سليم يتجاوز أمراضه التى سكنته عشرات السنين ما بين الجهل والسلبية والاستبداد والبطش وانتهاك الحريات.. نريد أن نسترجع الإنسان المصرى الجميل بثقافته وتدينه وأخلاقياته وضميره القديم.
إن مصر أحوج ما تكون الآن لشباب يعمل ومجتمع ينتج وأمن يشمل بالعدل الجميع.. أمام مجتمع يعانى من نسبة فى الفقر تتجاوز 40% ونسبة فى الأمية تزيد على 25 مليون مواطن و13 مليونا آخرين يعانون من فيروس «سى» وأمام 450 ألف بلطجى تركهم لنا الحزب الراحل ونظامه المخلوع.. وأمام معدلات غير مسبوقة فى القتل والجرائم والاعتداء على حرمات الناس.. وأمام انتشار أعمال الفوضى لا ينبغى أبدا أن يصبح الدين لحية ونقابا بل ينبغى أن يصبح فكرا وضميرا وسلوكا.. ما أسهل أن يترك المسلم لحيته ولكن الصعب أن يكون مسلما يخاف الله فى عمله وسلوكه وأخلاقه.
إن الدول الإسلامية التى تقدمت فى العالم لم تتقدم باللحى والنقاب ولكنها تقدمت بالفكر والإنجاز.. لا أعتقد أن الشعب التركى كان أكثر التزاما من غيره بتربية اللحى أو ارتداء النقاب ولكنه كان ملتزما بالعمل بروح العصر وأن يدرك أن مواكب التقدم لن تعترف بالكسالى النائمين على أرصفة التواكل حتى ولو تركوا مليون لحية كل يوم.
إن المسلمين فى ماليزيا سبقوا العالم كله بعقولهم وإيمانهم الحقيقى بالتقدم ولا ينبغى أن يتصور البعض أن الإسلام دعوة للعودة للوراء ولكن الإسلام كان دائما دعوة للبناء والتقدم والرخاء.. إن الفقر لن يبنى شعوبا والجهل لا يبنى حضارة والتخلف لا يمكن أن يكون بديلا للتقدم وإذا كان البعض يرى أن مليون ملتحٍ ومليون منتقبة قبل رمضان هو إنجاز الثورة المصرية فإن مليون مؤمن متعلم أفضل كثيرا من مليون ملتحٍ جاهل أو مليون منتقبة لا تعرف دينها الصحيح.
إن الإسلام دين الباطن وليس دين الظاهر، وعند الصوفية رضوان الله عليهم حديث للظاهر وحديث للباطن وكلما اتجهنا إلى الظاهر تقطعت الصلات والتواصل بين الظاهر والباطن.. وإذا كان البعض يرى فى الإسلام تربية اللحى فإن الإسلام فى حقيقته تربية للضمائر وشتان بين من يبحث عن الظواهر ومن يبنى الضمائر.
عندما اجتمع المصريون فى ثورة 25 يناير فى كل أرجاء مصر كانت قلوبهم واحدة ومشاعرهم تتجه إلى سماء واحدة وكانت يد الله معهم جميعا الملتحين وغير الملتحين وأصحاب الجينز وأصحاب النقاب والمسلمين والمسيحيين والعلمانيين والسلفيين كان الله جل جلاله معنا ولم ينظر إلى وجوهنا ولكنه كان يخاطب ضمائرنا وقلوبنا.
هل بعد ذلك نختصر الأشياء كل الأشياء بهذه الصورة فيصبح الإسلام لحية.. وتصبح الثورة وقفة احتجاج فئوية.. ويصبح الوطن وسيلة لغاية رخيصة.. ويصبح الحوار بالأيدى والاختلاف بالصراخ.. والحرية بنفى الآخر.. ما حدث فى ثورة 25 يناير كان زلزالا ينبغى أن يغير كل شىء فى نفوسنا وضمائرنا وليس فى لحانا وأشكالنا.
يعلم الله أننى أقدر كثيرا اللحية والحجاب واعتبر ذلك حقا مشروعا لكل إنسان أن يختار ما يحب وما يريد ولكننى لا أتصور أن يقف عالم جليل ويرى أن إطلاق مليون لحية فى مصر قبل شهر رمضان هو أهم إنجاز حضارى وتاريخى لثورة 25 يناير لأن تعليم مليون أمى أهم كثيرا من هذه الدعوة.. نريد إطلاق العقول.. وتربية الضمائر.. لأن هذا هو الإسلام الحقيقى الذى نعرفه.
اجمالي القراءات
2129