الشروق تقدم عرضًا لكتاب زمن الخداع للبرادعى (1)

اضيف الخبر في يوم الأحد ٠٨ - مايو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: الشروق المصرية


الشروق تقدم عرضًا لكتاب زمن الخداع للبرادعى (1)

 

 إلى مايا، حفيدته ذات الأعوام الثلاثة، يهدى محمد البرادعى، المرشح الرئاسى المصرى والحائز على جائزة نوبل للسلام، كتابه الذى يحكى فيه قصة 12 عاما أمضاها على رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بحثا عن تقويض انتشار مدمر للسلاح النووى وتخفيض لترسانات نووية قائمة واستخدامات سلمية للطاقة النووية تسهم فى توليد الطاقة وعلاج السرطان ــ أى بحثا عن عالم أفضل يحلم البرادعى أن يسوده الأمن من الدمار والسعى للنماء، عالم يريد أن يتركه لهذه الحفيدة وحفيدات وأحفاد آخرين قد يكونوا له يوما، ولأجيال من الأطفال، من بينهم من يعنى به البرادعى بنفسه من خلال كفالة أيتام فى مناطق فقيرة فى القاهرة، وبينهم أطفال فى العراق وإيران وكوريا الشمالية وغيرها يرى البرادعى أنهم يستحقون عالما أفضل.

 كتاب البرادعى

نحن فى هذه الحلقات نعرض كتاب البرادعى الذى صدر قبل أيام، فى نسخته الأصلية باللغة الإنجليزية، وفى نسخته العربية التى أعدتها وتنشرها دار الشروق، وفى قرابة عشرين لغة أخرى يحمل عنوان «زمن الخداع ــ محمد البرادعى يروى تجربته فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية».
وفى 400 صفحة من القطع الكبير يستدعى البرادعى ذكريات الأعوام من 1997 حتى 2009 عندما شغل منصب مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ليبوح بما لم يقله من قبل عن علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية، خاصة إدارة الرئيس الأمريكى جورج دبليو بوش، وعن محادثاته مع قادة إيران، الإصلاحيين منهم والمتشددين، ولقاءاته مع قادة الدول المتقدمة والدول النامية.

يستدعى البرادعى الذاكرة، فتجود بتفاصيل دقيقة عن عشاء فى بغداد عشية حرب مدمرة وغير مبررة، بل غير قانونية، ومكتب فى طهران ليس به من الفخامة من شىء يدخله المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية لإيران ليتحدث عن حق بلاده فى تطوير التكنولوجيا النووية، ولقاء مع وزير الكهرباء والطاقة المصرى حسن يونس يفصح فيه البرادعى، بحياد مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية وقلب المواطن المصرين، خشية من غياب للرؤية فى حديث يبدو حماسيا أكثر مما يبدو واقعيا عن برنامج نووى مصرى، ولقاء مع أسطورة العناد العسكرى آرييل شارون الذى لا يأبه لشىء سوى لما يراه أمن إسرائيل، وغرفة بائسة وباردة فى بيونج يانج وخيمة القذافى الشهيرة ــ وقبل هذا وبعده مكتبه فى مقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية بفيينا حيث عقد اجتماعات لا نهائية بحثا عن تسويات سلمية لخلافات نووية، وأحيانا أيضا منزله الصيفى فى الإسكندرية، حيث كثيرا ما تخللت إجازته العائلية مكالمات هاتفية من هذا الرئيس أو ذاك، وهذا السفير وذاك، لمناقشات حول اتفاقات يسعى البرادعى لإبرامها لابعاد شبح المواجهة التى كثيرا ما تلح على منطقة الشرق الأوسط.

المرواغة

يتحدث البرادعى بلا تردد عن ضغوط تعرض لها هنا وهناك، مرواغات واجهته وإحباطات توالت عليه، وعلى لحظات انتصار الدبلوماسية على شبح الحرب ولحظات استمساك بعقيدة الأمن الانسانى وحق البشرية فى عالم أكثر آمنا ــ وبالتأكيد عن لحظة الحصول على جائزة نوبل للسلام مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 2005.

فى كتابه «زمن الخداع» يرفع البرادعى الستار للقارئ عن كواليس السياسة الدولية فى أشد لحظات التعقيد وأوضح لحظات التآمر، فيسرد بصورة واثقة، لا تخلو من طرافة الحكى، ولكن دوما بدقة التعبير عن سنوات تنقل فيها بين العراق وإيران وليبيا وكوريا الشمالية وغيرها.


أروقة صناعة السياسة الدولية

وكما تشير دار الشروق فى مقدمة الناشر التى تصدر بها النسخة العربية من «زمن الخداع» فإن البرادعى يتيح لقارئ هذا الكتاب «التعرف على الآلية المعقدة التى تعمل بها هذه الوكالة والصلاحيات المتاحة لها والمحددات التى تحول دون تمكنها من تفقد الترسانة النووية لدولة مثل إسرائيل».
قارئ «زمن الخداع»، كما تضيف مقدمة الناشر، يتسنى له أيضا أن «يدخل أروقة صناعة السياسة الدولية ما بين فيينا ونيويورك حيث مقر الأمم المتحدة وواشنطن عاصمة السياسة العالمية ليتعرف على خفايا ملفات تصدرت صفحات الجرائد وأثرت فى حياة الملايين سواء فى العراق أو إيران أو كوريا الشمالية».


العشاء الأخير فى بغداد

«كانت ليلة التاسع من فبراير آخر أمسية تقضيها فرق التفتيش الدولية عن أسلحة الدمار الشامل فى العراق. كانت تلك هى الليلة التى تناولت فيها عشاء كان الاخير فى بغداد قبل أن تشن الولايات المتحدة الامريكية الحرب على العراق»، بهذه الكلمات يفتتح البرادعى مقدمة كتابه «زمن الخداع» ليبدأ فى الحكى عن مائدة العشاء العامرة التى حضر إليها فى أحد أرقى مطاعم العاصمة العربية، بدعوة من ناجى صبرى وزير خارجية العراق ومجموعة من كبار الخبراء أعضاء فرق التفتيش ومجموعة من المسئولين العراقيين لحديث يوجز المعضلة المزمنة التى واجهت البرادعى فى كل مرة كان عليه فيها، بوصفه مديرا عاما للوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن يحسم أمر امتلاك أو عدم امتلاك أى دولة للسلاح النووى أو أسبابه: التباين بين ما يقول به مسئولو هذه الدولة وبين ما يمكن لهم إثباته من خلال وثائق ووقائع ومواقع.

ليلة العشاء الأخير فى بغداد، كما يتذكر البرادعى، جلس وهانز بليكس، المكلف بالكشف عن الأسلحة الكيميائية والبيولوجية التى ادعى الغرب باستمرار حيازة العراق لها، ليتحدثا إلى المسئولين العراقيين بالقول «إنكم تصرون على ان العراق ليس لديه أسلحة دمار شامل وتقولون لنا انكم لم تقوموا بإحياء أى من برامجكم السابقة لأسلحة الدمار الشامل التى تم تدميرها بالفعل ولكننا لا نستطيع اعتبار الأمر منتهيا قبل ان يكون لدينا ما يثبت ما تقولون».

وعبر صفحات «زمن الخداع» تأتى هذه الكلمات مرات ومرات، بعبارات مختلفة وفى مدن مختلفة حول العالم، ولكنها دوما كلمات السعى عن اثبات سلامة مواقف الدول التى يتهمها المجتمع الدولى بالسعى نحو امتلاك السلاح النووى، أو تلك التى يريد التيقن من خلوها من هذه الأسلحة.
«كان حسام أمين، المسئول العراقى المكلف بالتعامل مع الامم المتحدة، معنا فى ذلك العشاء الاخير، وبينما كنت انا وبليكس نتحدث عن ضرورة أن يقدم العراق الدليل الحاسم على خلو أراضيه من أسلحة الدمار الشامل، انحنى أمين للأمام قليلا ووجه حديثه ونظراته لى ولبليكس قائلا «دعونا نتحدث بصراحة، نحن لا نستطيع أن نقدم لكم أكثر مما قدمناه لأنه ليس لدينا أكثر مما قدمناه بالفعل»، حسبما يقول البرادعى فى مقدمة كتابه «زمن الخداع».


الحرب واقعة لا محالة

ويضيف البرادعى نقلا عن أمين، بسرد ينطق بالأسى، «ثانيا دعونا نقرر هنا إنه ليس بوسعكما ان تقوما بأى شىء يخدمنا لأن هذه الحرب واقعة لا محالة وليس هناك شىء يمكن لكما أو لغيركما ان يقوم به لمنعها، فالحرب مقررة لا محالة».

فى المقدمة ذاتها يتذكر البرادعى انه لم يتفق مع أمين فيما قال، ولكن وبعد صفحات قليلة، يعود ليروى كيف بدأت نذر الحرب تتداعى وكيف بدأت الحرب.
«وفى ساعة مبكرة من صباح السابع عشر من مارس 2003 تلقيت مكالمة من بعثة الولايات المتحدة الأمريكية بفيينا، حيث مقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، تدعونى للتحرك نحو إنهاء مهمة المفتشيين الدوليين فى بغداد. كان غزو العراق على وشك أن يبدأ»، يروى البرادعى.

الحرب التى قادتها الولايات المتحدة الامريكية، والتى يصر البرادعى انها «حطمت حياة الملايين»، والتى رآها بعض المسئولين العراقيين قادمة لا محالة، اثبتت بعد سنوات، حسبما يشرح البرادعى فى الفصل الأول من كتابه، ما كان البرادعى يود لو انه استطاع ان يثبته بصورة جازمة من ان العراق لا يمتلك من الاسلحة النووية شئيا، بل إنه ليس لديه ما يمكن ان يقيم به برنامجا للتسلح النووى ــ وذلك بالرغم من كل الدعاية الامريكية المضادة.


منشآت العراق النووية

حديث البرادعى فى فصله الأول «العراق ــ الجولة الأولى ما بعد المعركة»، يروى قصة الوصول إلى العشاء الأخير، فيتحدث عن الكثير من تفاصيل علاقة الوكالة الدولية للطاقة الذرية والعراق فى مرحلة ما بعد انهاء احتلال العراق للكويت بحرب دولية قادتها الولايات المتحدة الأمريكية، تلك المرة بموافقة من مجلس الامن الدولى حيث لم يكن «لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية معلومات حول برنامجها النووى فى ذلك الحين سوى ما تم الكشف عنه لمركز ابحاث نووية فى (التويثة) الواقعة على بعد بضعة كيلو مترات جنوب شرق بغداد». 

وفى أعقاب الحرب مباشرة، كما يضيف البرادعى، «تمكن المفتشون التابعون للوكالة الدولية للطاقة الذرية من الحصول على دلائل على وجود نشاطات نووية أخرى، خارج نطاق مفاعلى التويثة. ولم يكن العراق قد أخطر الوكالة بهذه النشاطات. وتعرضت الوكالة للوم لعدم معرفتها بهذه النشاطات من قبل رغم أن مهمتها فى العراق لم تكن تشمل أى شىء سوى التحقق من أن المنشآت النووية العاملة تستخدم بالكامل للأغراض السلمية». 

الحديث عن اللوم الذى تتعرض له الوكالة من قبل عواصم العالم لاسباب كثيرا ما تتعلق بأجندات سياسية لدولة أو دول بعينها، أكثر من كونها متعلقة بأجندة مجابهة انتشار الأسلحة النووية، هو أمر كثيرا ما يتوقف أمامه البرادعى الذى يبدو لقارئ «زمن الخداع» أنه كثيرا ما شعر بعدم الانصاف جراء ما تعرضت له الوكالة من نقد لا يرتبط بمدى التزامها بتنفيذ التكليفات الدولية المنوطة بها قدر ما يرتبط بالدوافع السياسية لهذه الدولة او تلك.

فى حال العراق، كما يضيف البرادعى فى الفصل الأول، فإن اللوم، فى رأيه، لم يكن مستحقا «لأنه إلى جانب محدودية الصلاحيات المخولة للوكالة فلم يكن هناك فى ذلك الوقت معلومات مخابراتية ذات بال على الإطلاق حول البرنامج النووى السرى للعراق».


سياقات نووية

ثم يذهب البرادعى بعيدا قليلا عن الحكى ليشرح لقارئ زمن الخداع ما لا يعلمه فى الأرجح حول تعبيرات شديدة التعقيد كثيرا ما يقرأها وهو يتابع ما تنشره الصحف حول العراق وإيران وكوريا الشمالية من حديث عن «دورة الوقود النووى» و«اليورانيوم» و«التخصيب» و«اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية»، ليؤكد أنه «لا يوجد فى المواد الخاصة بنزع التسلح فى هذه الاتفاقية ما يمنح الوكالة صلاحيات أو آلية واضحة ومحددة للتأكد من التزام الدول بتحقيق التقدم المتوقع فى مجال المفاوضات من أجل نزع التسلح، كما أنها لا تكلف جهازا أو هيئة ما بالاشراف على حدوث هذه المفاوضات والتأكد من انها تحقق التقدم المطلوب، بل انها لا تقرر أية عقوبة على الدول التى لا تلتزم بما هو مقرر فى الاتفاقية حال عدم سعيها للدخول فى مفاوضات جادة بغرض الوصول إلى مرحلة عدم التسلح»، وبالتالى فلا مبرر للعتب على الوكالة الدولية للطاقة الذرية فيما يتعلق بما تكشف فى العراق فى أعقاب حرب الخليج التى وقعت فى عام 1991.


أمريكا والعراق

وبعد هذا الاستطراد يعود البرادعى لتوالى فصول القصة العراقية عشية حرب 2003 التى شنتها الولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا وبعض من الحلفاء لهما دون تفويض من مجلس الأمن ليقول «لقد أشارت الولايات المتحدة الأمريكية إلى الطموحات النووية الناشئة لدى بغداد كأحد اسباب القيام بعمل عسكرى ضد العراق، فى حين انه لم يكن هناك الكثير من المعلومات عن حقيقة القدرات النووية للعراق قبل هذه الحرب. وإن كان لدى بعض قطاعات الاستخبارات الامريكية افتراض بأن العراق لديه طموحات لتصنيع السلاح النووى ــ وذلك بناء على جملة من الدلائل من بينها محاولة العراق الحصول على المكونات اللازمة لاجراء عملية التخصيب النووى وغيرها من القدرات التكنولوجية النووية وذلك من خلال عدد من الدول الأوروبية. غير أن الوكالة الدولية للطاقة النووية لم تتلق أية إفادة بهذه المعلومات».

ويضيف البرادعى أنه «فى الشهرين السابقين على الحرب قامت العديد من وسائل الإعلام بنشر واسع لتقارير غير موثقة حول قدرات نووية بعينها قالت ان العراق يمتلكها» دون ان تتمكن الوكالة من اثبات صحة هذه الادعاءات، بل انها فى بعض الاحيان وكما يطالع قارئ «زمن الخداع» قامت بدحض هذه الادعاءات.


التفتيش فى العراق

فى فصله الأول «العراق ــ الجولة الأولى ما بعد المعركة» يذهب البرادعى مع قارئه لأولى جولات التفتيش على أسلحة العراق فيما بعد حرب الخليج الأولى والتى تمت بمقتضى قرار مجلس الامن 687 والتى تولتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية ــ فى وقت لم يكن البرادعى فيه قد ترأس الوكالة الدولية بعد ــ والآونسكوم التى كان تكليفها متعلقا بالتفتيش عن الأسلحة الكيمائية والبيولوجية.
«وفى 14 مايو 1991 وصل إلى بغداد أول فرق التفتيش التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية تحت رئاسة كبير المفتشين دميتروس بيراكوس، الذى توجه مباشرة إلى موقع التويثة. وكانت الصورة المأخوذة من الجو قد مهدت للفريق أنه سيكون بصدد مكان تعرض لتدمير كبير جراء حرب الخليج، وبالفعل فلقد كانت كل مبانى التويثة قد تعرضت للقذف بالقنابل اثناء الحرب»، يروى البرادعى، مشيرا إلى ان «المهمة الأولى الموكلة للفريق هى وضع يديه على اليورانيوم عالى التخصيب المخصص للاستخدام فى المفاعلين المقامين فى التويثة».

وبحسب شهادة البرادعى فإن «الفريق العراقى المكلف بالتعامل مع فريق التفتيش الدولى أبدى رغبة حقيقية فى التعاون». ويضيف إن «أعضاء الفريق اكتشفوا، ولدهشتهم، أن الوقود المشع قد اختفى تحت وطأة القصف الشديد خلال الحرب ــ أو هكذا قال الفريق العراقى. ولتفادى تدمير الوقود وتشتته، قال العراقيون، إنه تم بناء حفر أسمنتية على عجالة لينقل إليها هذا الوقود ــ وكان المكان المختار لهذه الحفر بالقرب من حى جرف النداف فى أراض زراعية لا يوجد بها ما يميزها على وجه الخصوص». 

«وبمعاونة الفريق العراقى»، حسبما يتحدث البرادعى، «تمكن فريق التفتيش الدولى من إيجاد الأماكن التى تم فيها تخزين الوقود المشع وغير ذلك من المواد النووية ذات الصلة لتبدأ عملية التحقق بناء على المعلومات المتاحة للوكالة الدولية من قبل العراق قبل نشوب الحرب».

ويستفيض البرادعى فى توصيف ما قام به المفتشون فى العراق والعقوبات التى واجهوها وأيضا المشكلات التى تسبب فيها مفتشو الآونسكوم ــ دون أن يخلو الأمر من مقارنة بين مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومفتشو الآونسكوم ــ وإلى اتهامات تم توجيهها لبعض المفتشين بالتعامل مع بعض أجهزة المخابرات بعيدا عن سياق التزاماتهم.

ويتذكر البرادعى أحد مشاهد زيارات المفتشين لأحد المواقع فى وسط الصحراء، حيث كان العراقيون يطلعونهم على جهاز لفصل النظائر تم تدميره وتخبئته بحيث لا يمكن العثور عليه. 

«وكان الجو شديد الحرارة، كما هو الحال بالنسبة لأيام الصيف فى العراق، وكان واضحا أن المفتشين المكلفين بقياس وكتابة تقارير عن تلك الكتل الضخمة من المعدن بصدد مهمة شديدة القسوة بالنسبة لتأثير الحرارة المرتفعة جدا. وبصورة مفاجئة قرر ديفيد كاى ــ الموظف السابق فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية كان فى درجة وظيفية متوسطة وكان من أعضاء فريق المعاونة الفنية لم يكن لديه خبرة تذكر فى عمليات التفتيش ــ ان يتم استجواب احد العلماء العراقيين رفيعى المستوى مباشرة وفى الموقع. ورفع كاى ذراعه بصورة مسرحية قائلا «فليبدأ الاستجواب» وهو الأمر الذى تسبب فى إحراجى وإحراج بليكس».

كما يتحدث البرادعى عن التبعات التى وقعت عليه شخصيا وحملة التشهير التى تم توجيهها إليه جراء محاولته التأكيد علنا على أهمية حسن العلاقة بين المفتشين وبين المسئولين فى الدولة الواقعة تحت التفتيش وعدم إهانة هؤلاء واحترام ثقافتهم.


ثم يروى البرادعى تفاصيل لبعض ما كان من الخلافات الدائرة بين المفتشين والمسئولين العراقيين، ويقول «العراقيون كان يصرون على انكار وجود برنامج سرى للتخصيب، وبالتالى كان من المهم تعقب الاجهزة المستخدمة بوصفها الدليل على حدوث عمليات تخصيب غير معلنة. وبالتالى فمنذ البداية تحولت الجولة الثانية للتفتيش لعملية مطاردة، حيث قال العراقيون إن المكان الأصلى الذى تم فيه اكتشاف الاسطوانات المعدنية، المفترض أنها كانت تستخدم فى إطار عملية التخصيب، هو مكان عسكرى لا يسمح لمفتشى الوكالة بالدخول إليه عند وصولهم، حسب الاتفاق المسبق، وهو ما اضطر الوكالة إلى التخاطب مع قيادات عراقية أرفع وبالتالى بعد ثلاثة أيام تم السماح للمفتشين بدخول الموقع ليكتشفوا ان المعدات قد اختفت».

ويشرح البرادعى أن عمليات التفتيش فى العراق كانت تتم على ثلاث مسارات متوازية. الأول، بحسب حديث البرادعى، كان يهدف لتوضيح المعلومات المتاحة حول برنامج التسلح النووى العراقى، والثانى كان التمهيد لإخلاء العراق من اليورانيوم شديد التخصيب والثالث فقد تركز على تفكيك معددات التخصيب.

ويقول إنه «بعد قرابة عام من العمل على الارض فى العراق كان يمكن القول ان ما جاء به القرار 697 كان قيد التنفيذ بصورة جيدة».


إسرائيل والعراق

وفى معرض حديثه عن البرنامج النووى العراقى يتذكر البرادعى أمرا يعود لمطلع الثمانينيات عندما وجهت إسرائيل ضربة عسكرية لمفاعل عراقى نووى فى ذلك الوقت ــ دون أن يكون لتلك الضربة تبعات تذكر بالنسبة لإسرائيل. ويقول «ولم يتبع قيام مجلس الأمن بإدانة التصرف الإسرائيلى بوصفه خرقا للقانون الدولى بأية تبعات من أى نوع. بل إن اسرائيل تكاد تكون قد تجاهلت مطلب مجلس الأمن بتقديم التعويض للعراق وبأن تقوم بوضع منشآتها النووية تحت مظلة الضمانات للوكالة الدولية للطاقة الذرية». وبالتالى، كما يضيف البرادعى فى الفصل الأول من كتابه «زمن الخداع» كان قرار صدام حسين بأن «يتعامل مع هذه المشكلة بنفسه ــ وكانت النتائج ما رأيناه بعد ذلك» من محاولة سرية لتطوير برنامج لأسلحة الدمار الشامل كشفت عنه حرب الخليج التى وقعت فى 1991.

ويقر البرادعى بلغة تجمع بين الأسف والتفهم بأن التباين فى التعامل الدولى مع مجرد ادعاء بامتلاك العراق للسلاح النووى وصمت المجتمع الدولى عن سياسة الغموض النووى التى تتبعها إسرائيل هو أمر يلقى الرأى العام العربى بلائمته على الوكالة الدولية للطاقة الذرية. 

ويقول مع نهاية الفصل الأول من كتابه «وعندما بدأت بزيارة الدول العربية بوصفى مدير عام الوكالة كنت كثيرا ما أستمع لانتقادات موجهة للوكالة لعجزها عن «القيام بشىء ما» إزاء برنامج إسرائيل النووى». ويضيف أنه كثيرا ما كرر لمحدثيه فى العالم العربى أن الوكالة ليس لها الحق فى تفتيش منشآت إسرائيل النووية لأن إسرائيل وإن كانت عضوا فى الوكالة فهى لم تقم بالانضمام إلى اتفاقية حظر انتشار الأسلحة كما انها ليست ملتزمة بمظلة الضمانات التى تقررها الوكالة، ومع ذلك يقر بأن «هذا الحديث لم يكن ليريح الرأى العام الناقم فى العالم العربى والذى كان يصر على أن الوكالة منحازة لصالح إسرائيل ولا تقوم بمهماتها على الوجه الأكمل».


مصر والعرب والعراق

ولكن ما قد يثير أسى القارئ العربى هو ما يطالعه من تفاصيل وتقييم موقف يطرحه البرادعى حول موقف القاهرة والدول العربية إجمالا فى التعاطى مع تطورات الحرب على العراق، حيث يذكر «زمن الخداع» القارئ بقمة شرم الشيخ التى استضافتها مصر قبيل شن الحرب الأمريكية على العراق وعجز الدول العربية، أو ربما عدم رغبتهم فى ذلك ــ كما يلمح البرادعى ــ اتخاذ المبادرات أو المواقف السياسية التى تتيح درء الحرب ولو من خلال تبنى مبادرة الإمارات العربية الداعية لتنحى صدام حسين ومنحه اللجوء فى الإمارات ذاتها لإعفاء شعب العراق من مصير أليم بدا مقتربا فى الأفق.

ويقول البرادعى «وفى بداية عمليات التفتيش التقيت الرئيس المصرى حسنى مبارك الذى كان باديا أنه يبغض صدام حسين بصورة شخصية، حيث أخبرنى بأن الرئيس العراقى خدعه أثناء حرب الخليج الاولى بعد أن قام بغزو الكويت بالرغم من التعهد الذى أبداه للرئيس المصرى بعد القيام بذلك». 

ثم يضيف إنه فى حديث لاحق، حول العراق، طالب البرادعى من مبارك التدخل لدى صدام لتسهيل عمليات التفتيش لإبعاد شبح المواجهة عن العراق، «وأخبرنى مبارك بأنه تلقى رسالة من صدام حسين فى هذا الصدد وأنه ليست هناك مدعاة للقلق وأن كل شىء سيكون على ما يرام، وفى ذات الحديث أخبرنى مبارك بأن «صدام حسين لديه أسلحة بيولوجية وأنه يقوم بإخفائها فى المقابر» وكانت تلك أول وآخر مرة أسمع فيها هذه الشائعة» التى لم تعد إلا بعد سنوات من الحرب عن العراق عندما ذكرها الرئيس الأمريكى السابق بوش فى مذكراته عن تلك الحرب
اجمالي القراءات 4220
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق