أطفال للبيع... «وشروه بثمن بخس» ... :
ترحيل الأطفال التشاديين كشف تجنيد لاجئين في صراع دارفور

اضيف الخبر في يوم الجمعة ٢٥ - يناير - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: الحياة


أثارت قضية محاولة ترحيل أكثر من مئة طفل تشادي إلى فرنسا بدعوى أنهم من أيتام الصراع في دارفور موجة كبيرة من الاستياء في أوساط المنظمات الإنسانية الدولية، وكذلك لدى كل من لم يتوقع أن تعمد منظمة تنشط في المجال الإنساني إلى محاكاة أساليب عمل منظمات الجريمة المختصة في اختطاف البشر والمتاجرة بهم.



فتحت هذه القضية أبواب الجدل حول أساليب عمل المنظمات الإنسانية في أفريقيا على مصراعيه مجدداً، وبدا أن العمل الإنساني سيكون أكبر المتضررين. قد لا يكون الدفاع عن العمل الإنساني في هذه الظروف وفي المطلق أمراً حكيماً، فالعمل الإنساني يخضع أيضاً لقوانين الطبيعة والسياسة. وقد لا يكون الناشطون في هذا المجال ملائكة، غير أن ذلك ليس داعياً لإلقاء جميع الأطفال مع ماء الغسيل. ففي تشاد تنشط حوالى 80 منظمة إنسانية يقوم عدد كبير منها بجهد كبير من أجل مساعدة الشعب التشادي، والأمر ليس مقتصراً حتماً على تشاد. هذا هو نوع الجدل الذي أراد الرئيس التشادي إدريس ديبي أن يؤسس له عندما كشف عن تلك الجريمة البشعة في حق الطفولة التشادية المعذبة.

كانت المسرحية ناجحة في نظر من لا يعرفون الوضع في تشاد: رئيس في فورة غضبه يهدد الجميع بأقسى الملاحقات «مهما كانت جنسياتهم». يربت على ظهور الضحايا ويغمرهم بحنان لم يخطر ببالنا أنه يملك منه شيئاً. رئيس جسور يرتعد الجميع خوفاً من احترامه للمؤسسات «التي يجب أن تقوم بدورها»، يضبط بالجرم المشهود بعض البيض الذين كادوا يحرمون وطنه من رجال الغد. المشهد مربك فعلاً. فمعه تعود إلى الذاكرة أكثر الصور إيلاماً: تجار الرقيق يشحنون بضاعة بشرية إلى بلاد بعيدة ليستغلوهم بعد أن ضمنوا ثمناً مجزياً. لكن هيهات. فالعبيد تحرروا، وأصبح لهم الآن أب وزعيم يرفع لواءهم، ويضعهم تحت جناحه ويقف متحدياً الجميع، بمن فيهم السادة البيض الذين اعتقدوا أن في إمكانهم إذلال شعبه الأبي.

المسرحية ناجحة فعلاً، وريعها سيعود من دون شك الى منتجها. وأول الغيث سيكون حتماً تقييد نشاط الجمعيات العاملة في المجال الإنساني. قد يكون ذلك نتيجة طبيعية لفضيحة الترحيل، ولكن لنمعن النظر قليلاً. فتشاد التي تحرقها الحرب الأهلية والديكتاتورية منذ استقلالها تشكل عقدة أساسية من عقد الصراع في وسط أفريقيا، ذلك الصراع المتصل في آن معاً بالحرب في دارفور والحملة على الإرهاب. ونتيجة لذلك انخرطت حكومة إدريس ديبي في مسار يرمي إلى تأجيج الصراع في دارفور بمساندة العشائر المنتفضة ضد الخرطوم وتسليحها، فساعدت على تجنيد اللاجئين في المخيمات المقامة على أراضيها في الحركات المسلحة الدارفورية. وليس للمسألة علاقة بحق الشعوب في تقرير المصير، فإدريس ديبي انخرط بذلك في صراع عرقي يتجاوز السودان، إذ انه يواجه هو الآخر مجموعات مقاتلة تدعمها الخرطوم وتتخذ من شرقي البلاد معقلا لها. وتختلط في هذا الصراع عناصر عدة، عرقية وقبلية ودينية واستراتيجية ونفطية. وأدت الأوضاع المتقلبة في دارفور وطريقة ديبي في التعامل معها إلى حلول عشرات المنظمات الإنسانية الدولية في المنطقة التي لم تعد تراقب ما يفعله الجنجويد فقط، وإنما أضحت أيضا شاهداً مزعجاً على ما ترتكبه القوات النظامية التشادية من عمليات ضد سكان المنطقة الشرقية من البلاد، حيث تقوم مثل القوات المتمردة عليها تماماً، بتجنيد الأطفال وإرسالهم إلى الموت في جبهات القتال. لذلك فإن ديبي الذي وافق مُكرهاً على استقدام قوات أوروبية إلى شرق تشاد في كانون الأول (ديسمبر) 2007 سيكون في موقع شديد الحرج عندما تصبح الانتهاكات التي تقوم بها قواته ضد المدنيين في شرق البلاد تحت طائلة المحاسبة المباشرة. هل استبق ديبي ذلك بمسرحيته؟ الفكرة واعدة بالنسبة إليه، فهي تمكنه في الوقت نفسه من الظهور في مظهر المدافع عن الطفولة البريئة التي يُتهم بإرسالها وقوداً لحرب طاحنة، وفي صورة المدافع أيضاً عن شرق البلاد الذي يمقته ويمقت حكمه. وهو إلى ذلك يُقيد عمل المنظمات الإنسانية التي كانت تفضح باستمرار أساليبه ضد معارضيه، وتضع القوات الأوروبية في موقع شديد الحرج حتى قبل حلولها في البلاد.

أما فرنسا، فستدفع على ما يبدو الثمن الأكبر. سينقلب اتجاه البخار ويصبح المضغوط عليه ضاغطاً. لن يكون في وسع وزير الخارجية برنار كوشنير إعطاء دروس لأحد حول حقوق الإنسان بعد اليوم، وستسقط ادعاءاته بحق التدخل الإنساني في مناطق النزاع ولو كرهت الحكومات. لن يكون في إمكان الفرنسيين، مثلما فعل الرئيس جاك شيراك في أواخر ولايته، التهديد بسحب القوات الفرنسية التي تحمي نظام ديبي بمناسبة أو من دون مناسبة. سيطير إليه «المكوك» نيكولا ساركوزي مثلما طار سابقاً إلى طرابلس في قضية أطفال الإيدز الليبيين والممرضات البلغاريات، ليحل في عشر دقائق مشكلة استعصى حلها طوال سبعة أعوام.

لنعد إلى أطفال تشاد. لم يكونوا أيتاماً في ما يبدو، بل أبناء عائلات فُجعت بفقدهم وبحثت عنهم من دون شك، وربما توقفت في لحظة ما عن البحث خوفاً من أن يكون اختفاء أبنائها «ضرورة وطنية». هل بحثت عنهم حكومة ديبي؟ ماذا فعلت من أجل مئات الأطفال المختفين قبلهم منذ تسلم الجنرال ديبي الحكم بعد انقلاب كانون الأول 1990؟ ماذا فعلت من أجل آبائهم وأمهاتهم الذين تطحنهم الأمراض والمجاعات والحروب؟ إدريس ديبي في الحكم منذ حوالى عقدين، ولا يبدو أنه يعتزم الرحيل قريباً. فقد نسج علاقات ومصالح قوية مع الشركات الأميركية المستثمرة في نفط تشاد وانخرط، إلى جانب البنتاغون، في الحرب على الإرهاب مغازلاً في الوقت نفسه ليبيا والجزائر. ما هو دور هذه المعطيات في تمسك القوى الكبرى بحكم إدريس ديبي وغضها الطرف عن انتهاكاته حقوق مواطنيه وقمعه الصحافيين وتزييفه الانتخابات (1996 و2001) واستثمار الحرب الأهلية لتصفية معارضي حكمه؟ لا شك في كونه يشعر أنه يقوم بدور مهم وأنه لا يمكن التخلي عنه.

لننظر الآن الى الأمر من زاوية أخرى. لو قُدر لهؤلاء الأطفال أن يعيشوا على رغم سوء التغذية والأوبئة والحروب وبلغوا سن الشباب، هل سيشكرون ديبي أم سيلومونه؟ أغلب الظن أنهم لن يكونوا سعداء هم وعائلاتهم. فقد حرمهم من حيث لا يدري من فرصة الانتقال إلى «الفردوس الأوروبي» بعد أن كادوا يصلون إليه كي يبدأوا حياة جديدة. سيتوجب عليهم أو على بعضهم آنذاك أن يدفعوا لوسطاء الهجرة السرية من أجل قطع المسافة نفسها، وربما انتشلت جثث بعضهم في الأطلسي أو في المتوسط. سيكرهون إدريس ديبي أكثر وأكثر وسيرون أنهم كانوا عملة سياسية للمقايضة تتجاوز أحلامهم الصغيرة وأنه باعهم بثمن بخس من أجل مصلحة نظامه. لينتظر أهلهم الآن وقد وقع ما وقع إلى أن تشتغل المؤسسات. سيهتم القضاء بالأمر كما كان يفعل دائماً. لقد أقسم ديبي أنه لن يتدخل في عمل القضاة. ومن يعرف ديبي يعلم أنه «الصادق الأمين» الحريص على مؤسسات دولة المؤسسات. ألم يخطب في التشاديين عند دخول قواته إلى نجامينا في كانون الأول (ديسمبر) 1990 مؤكداً أنه «لم يأتهم لا بالذهب ولا بالفضة وإنما بالحرية»؟

في الوقت نفسه بدأ الوسطاء، الذين فقدوا آخر ذرة حياء، يعرضون خدماتهم مستندين إلى «نجاحاتهم» السابقة، عندما شغلوا شعوبهم بقضية مشابهة للوصول إلى أهداف مشابهة. أما الأوروبيون، فلا يمكن أن نتوقع منهم أن يحترموا ذلك القضاء، وسيدخلون اللعبة ويمزجون الضغط بالترغيب مثلما يحسنون فعل ذلك دائماً. أما الأطفال، يتامى دولهم وحكوماتهم، فسيعانون ويموتون طوال حياتهم، صغاراً وشباناً وكهولاً، جوعاً أو غرقاً أو حرباً أو بالإيدز، وما بدلوا تبديلاً.

اجمالي القراءات 3570
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق