تابع:
إغتيال العقل في الحضارة العربية

عبد العزيز أفندي Ýí 2008-04-29



وكان يطوف من جدي
مع المد
هتاف يملأ الشطآن يا ودياننا ثوري
أيا إرث الجماهير
تشظ الآن واسحق هذه الأغلال
وكالزلزال
تحد النير أو فا سحقه واسحقنا مع النير .
السياب .
الواقع العربي المعاصر شاهد على تردي أوضاع الإنسان عندنا , فهو أرشيف يراكم تفاصيل الظلم و الطغيان في ميادين الحكم و السياسة و الإقتصاد, و يسجل بكل حسرة و اسى الإنقسامات و الحروب الدموية التي تحصد ألاف الضحايا كإرث خلفه لنا الأجداد منذ القرن الأول الهجري. و لعل المرء وهو يرى المشهد العربي اليوم ـ المكرس لإيديولوجيا العنف و الجهل ـ يصاب بالصدمة فما هو بقادر على تغيير الأوضاع و ما هو بقادر على ضمان الأمن لنفسه.


إنه حقا لمشهد قل نظيره المرعب في تاريخ الحضارات الأخرى من حيث امتداده الزمني الطويل و استمراره في تغذية الأحقاد و الضغائن عبر الزمن و بدون ملل أو وقفة تأمل قد تفضي بنا إلى وقف هذا الخراب !
أجل  إن الدمار قد عم كل ميادين الحياة عندنا و أصبح الإنسان مجرد شيء : بضاعة ,سلعة , سخرة , أو قل إن شئت قطعة من الحلوى , تتلا عب به المذاهب و تتقاذفه التيارات ككرات البلياردو .. و اختفت تلك القيمة و المنزلة العظمى التي إحتلها في الوحي الإلهي طالما التزم التعاليم الإلهية الإسلامية ـ ملة إبراهيم ـ هذا الدين الذي نزل بمشروع ضخم قوامه القسط و العدل و الحرية.
هذا الدين العظيم الذي نظر فرأى في الإنسان أعظم مخلوق من بين غيره من المخلوقات بفضل تكريم الله تعالى إياه أيما تكريم..
ولعل الجزيرة العربية التي كانت مركزا للوحي الهابط من السماء - الذي طالما دافع عن الإنسان و كرامته -كانت و لا شك مكانا للتناحر و الصراع و الشرك و الإعتداء و ليس فقط مهدا للتوحيد و تعايش الأديان و مكانا للسلا م و العدل و الأمن و الآمان. وهو المكان نفسه الذي احتضن دعوة نبي الإسلام محمدا عليه السلام ـ هذا النبي العظيم ـ الذي أسس الدولة الإسلامية المؤسسة على العدل القرآني. و هو المكان نفسه الذي انطلقت منه حملة عسكرية عشواء انتهت إلى توسع ضخم في ظرف زمني وجيز أدى باسم الإسلام إلى اختزال القوميات الأخرى في القومية العربية. و بامتطاء الدين تمكن أعراب نجد بالسيف و الدم من كتابة فصول تاريخ جديد بإعلان دينهم الحقيقي ,دين رعاة الإبل و قطاع الطرق , دين عنوانه الإرهاب و الإغتصاب.
إن الفتوحات العربية العسكرية ـ ذات الأهداف الاقتصادية المحضة ـ لحادثة تاريخية تنهد لها القلوب و يندى لها الجبين بحيث قامت بترحيل أزماتها القبلية و الاقتصادية..إلى خارج الجزيرة وأودت بسبب ذلك بحياة آلاف الأبرياء و غيرت خارطة العالم جغرافيا و دينيا و اقتصاديا و سياسيا ,و أبادت تراث الأمم..بسقوط الدولة الفارسية و اجتياحها على يد سعد بن وقاص أيام الخليفة عمر و كذلك باجتياح الشام و العراق و شمال إفريقيا..
لقد زئر أعراب نجد , المتعطشين للدماء و الثروة , والذين أعياهم شظف العيش و قسوة الصحراء , فامتلكوا العالم , و غزوا العقول بالقوة . لم يلتزموا بدين النبي محمد(ص) المؤسس على الإرادة الحرة في الاعتقاد و السلوك و احترام الآخر بل كانوا ـ تجسيدا لقمة الغباء و ذروة الجهل البشع ـ بعيدين عن قيم القرآن الذي طالما حرم الاعتداء و منع البغي و حذر من نار الخلد لمن ضل عن تعاليمه و تحداه و مات و لم يتب توبة قرآنية. و بالرغم من أنْ لا إكراه في الدين ..إلا أن هذا لم يطفئ تعطش الأعاريب لاستنزاف موارد الأمم و سبي ـ الساحرات من نسائها قصد مصهن و إلتقام أثدائهن ـ و قتل ما استطاعوا إليه سبيلا.
إن أساليبهم العسكرية صدرت, ولا بد , من مرضى لقساوتها و و حشيتها و كذلك لعدم إعتداء هذه الأمم على الجزيرة و دينها. و نبي الإسلام لم يعتد قط على أحد..بل كان يدافع عن نفسه و دينه و كل ذلك بتوجيه خالقه.
و حتى أقترب من الموضوعية سنستمع بعد قليل لشهادة المؤرخين حتى لا يتهمنا جَدْي ما بشيء ما.
و نظرا لفظاعة الأعاريب فقد فضل أغلب الناس في البلدان المغزوة اعتناق دين جديد لا علاقة له بدين محمد (ص) إ لا بالقرآن و الصلاة - أما ما أحدثوه فكان إمتدادا لدين الآباء المناقض للإسلام..-على أن يئنوا تحت وطأة عذاب لا مثيل له سوى ما أحدثه أتباع المسيحية باسم المسيح عليه السلام بالهنود في العالم الجديد.
فالتاريخ يحدثنا عن الجيوش التي أرسلها أبو بكر لفتح الشام بقيادة عدد من القادة العسكريين من بينهم عمرو بن العاص و أبو عبيدة الجراح بالإضافة إلى تكوينه لقوة عسكرية هدفها حماية القوات الموجهة لغزو الشام.
وتوجهت جيوش أخرى لغزو العراق بقيادة خالد بن الوليد و عياض بن غنم.
و بتولي عمر للخلافة سيزداد عدد الجيوش الداعمة لغزو الشام و العراق و سيحاول عمرو بن العاص إقناع عمر بغزو مصر نظرا لموقعها الإستراتيجي و ثرواتها الاقتصادية.
مما أدى بعمر إلى مراسلة قائده عمرو موضحا له أمرين هامين : أن ينصرف عن مصر إن لم يدخلها بعد أو يستمر في غزوها إن وطأت أقدامه أرضها..غير أن عمرو الذي توصل بالرسالة قبل دخول مصر سيؤجل قراءتها إلى حين دخوله إياها لإنه فطن لما فيها.. و كذلك لرغبته الدفينة في مصر فمضى مسرعا للدخول إليها ,فلما تحقق له ذلك فض الكتاب و قرأه مطلعا جيشه بفحواه فبدأ غزو مدائنها.يقول اليعقوبي في تاريخه:وسار عمرو مسرعاً، فلما كان برفح، وهي آخر عمل فلسطين، أتاه رسول عمر ومعه كتاب، فلم يفض الكتاب، ونفذ حتى صار إلى قرية بالقرب من العريش، وقرأ الكتاب، ثم قال: من أين هذه القرية قالوا: من مصر! قال: فإن أمير المؤمنين أمرني إن أتاني كتابه، وقد دخلت شيئاً من أرض مصر، أن أمضي لوجهي وأستعين بالله، حتى أتى الفرما، فقاتلوه نحواً من ثلاثة أشهر، ثم فتح الله عليه. فعمر اقتنع بغزوها إلا أنه غير رأيه بعد نقاش مع عثمان الذي حذره من إمكانية الهزيمة.. فجاءت رسالته تطلب الإنصراف عنها إن لم تغز بعد.
و من العجب أن عمر الذي هيأ العدة لغزو بلدان لم تعتد عليه فأمعنت جيوشه في القتل و النهب.. هو نفسه عمر الذي حن قلبه لبعض المعذبين الذين رفضوا دفع الخراج حسبما يحكي المقريزي :
ومر عمر راجعا إلى المدينة فمر على قوم قد أقيموا يعذبون في الخراج، فقال عمر: دعوهم ولا تعذبوهم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الذين يعذبون الناس في الدنيا يعذبهم الله في الآخرة، يوم القيامة، فأرسل إليهم، فخلى سبيلهم.
ولنلتحق مجددا بعمرو الذي استولى على مدينة بلوز حيث هدم حصنها و خرب كنائسها .. و استمر استيلائه إلى الفيوم حيث عذب و قتل ما استطاع إليه سبيلا حين أمده عمر بالمدد لدعمه لما فوجئ بقوة ضخمة أرسلها الروم دفاعا عن مصر..و أمعن عمرو فيما بعد في النهب و التخريب .. بالمدن التي دخلوها .. و مصادر التاريخ تقف شاهدة على الأسى و الكمد الذي احتضن الولدان و النساء و الشيوخ و هم يدافعون عن أرض ترعرعوا فيها , عن أرض تختزن أحلامهم و إرتباطهم بها ,تلك الأرض التي لو نطقت لبكت ألما و أبكت و هي تنسل ـ هكذا و بدون سابق إنذار ـ تحت ظلال الرماح و قلوبهم الواجلة تحكي أقسى وأقصى حدود المأساة التي أحدثها أعراب نجد ..ليس حبا في الله أو طاعة لأمره ـ فهو جل و علا لا يظلم أحدا ـ و لم يدخلوها لإنقاذها من ظلم المسيحيين الغربيين.. أو لإخراج قومها من الظلمات إلى النور..عن طريق البطش و الانتقام .. و إنما ولجوها لحلبها و ازدراد خيراتها .و بمدينة الإسكندرية حل عمرو, و لما علم يهودها بوصوله و هم ألوف هربوا حتى يخلو المكان لعمرو و رفاقه لتحقيق غرضه النفسي : الولاية و جمع الكنوز و الثروة... و كذلك فعل الغزاة بشمال إفريقيا حيث إمتلكوا البلاد و العباد و سبوا و نهبوا.. ولما كان الهدف من هذا التوسع ليس إيصال الدين ..بل تصدير لأزمات الجزيرة العربية فإن التاريخ حفظ لنا ما دل على ما أسلفنا و هذا ما يؤكد من جهة أخرى صدق مذهبنا و منه ما قاله عمر لعمرو:يقول ابن الأثير: فورد الجواب من عمر: لعمري جزية قائمة أحب إلينا من غنيمة تقسم ثم كأنها لم تكن، وأما السبي فإن أعطاك ملكهم الجزية على أن تخيروا من في أيديكم منهم بين الإسلام ودين قومه فمن اختار الإسلام فهو من المسلمين ومن اختار دين قومه فضع عليه الجزية، وأما من تفرق في البلدان فإنا لا نقدر على ردهم.بل أقدم عمر بن الخطاب على جعل عمرو مسئولا عسكريا فقط بينما اختار عبد الله بن سعد بن أبي سرح واليا على الفيوم و الصعيد مكلفا بالخراج و الكنوز لنهب ما يمكن نهبه في إطار النهب الشامل . وفي نفس السنة قتل عمر و تولى عثمان الخلافة, هذا الأخير سيعمد إلى طرد عمرو و الاكتفاء بعبد الله بن سعد بن أبي سرح واليا على مصر. فعاد عمرو إلى المدينة يجر أذيال الخيبة ناقما على عثمان حسبما ذكر صاحب المنتظم.
بعدها ستسقط الإسكندرية من جديد تحت يد الروم و ستثور ليعود عمرو مرة أخرى لإخضاعها من جديد للعرب فنشبت حرب حامية الوطيس كان النصر حليفا له فعاد الدمار و عم الخراب كما ذكر المؤرخ الطبري و غيره و تدخل عثمان بن عفان ليجعل عبد الله بن سعد بن أبي سرح مسئولا الحكم و الثروة بينما أ بقى عمرو قائدا عسكريا مما جعل عمرو يقلق و يثور قائلا لعثمان: أنا إذا كماسك البقرة بقرنيها وآخر يحلبها . هكذا أفصح عمرو عن الأهداف الحقيقية للغزو العربي.. و هو نفسه عمرو الذي سيتولى حكم مصر أيام معاوية حتى يتمكن من مص البقرة الحلوب بعد أن تلاعب بعلي و نصب معاوية خليفة.و جعلت النسابة منه رجلا مؤمنا .. و أنطقوا النبي بما لم يقل.. فالترمذي كتب يقول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه: أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص.
ولنستمع لعمروا و هو يعظ الناس .. قائلا :الرجال ثلاثة: رجل تام، ونصف رجل، ولا شيء. أما الرجل التام فهو الذي كَمُل دينه وعقله، فإذا أراد أن يقضي أمرًا استشار أهل الرأي، فلا يزال موفقًا. وأما نصف الرجل فهو الذي لم يكمل الله له دينه وعقله، فإذا أراد أن يقضي أمرَا لم يستشر فيه أحدًا وقال: أي الناس اتبعه وأترك رأيي لرأيه، فيصيب ويخطئ. وأما الذي لا شيء، فهو من لا دين له ولا عقل فلا يزال مخطئًا مدبرًا. والله إني لأستشير في الأمر حتى خدمي.
انتهى كلامه.. و حسب منطقه لو طبقناه عليه .. للزمنا القول بكونه من صنف لا شيء لأنه لم يلتزم هو نفسه بمنطقه في : غزو مصر, وفي التحكيم وفي مال مصر و عذاب أهلها..
أن عمرو بن العاص لما غزا مصر قال لقبط مصر: إن من كتمني كنزاً عنده فقدرت عليه قتلته :المواعظ ص 96.و هو من قال لقبط مصر :إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم.وقال لسكان مصر : لقد قعدت مقعدي هذا وما لأحدٍ من قبط مصر علي عهد ولا عقد. إن شئت قتلت، وإن شئت خمست، وإن شئت بعت، إلا أهل أنطابلس فإن لهم عهداً يوفى لهم به.
فتوح البلدان ص88 . أوليس هو من قال لما رأى مصر طبقا للمؤرخ الطبري : ارضها ذهب ونيلها عجب وخيرها جلب ونساؤها لعب و مالها رغب وفي اهلها صخب وطاعتهم رهب وسلامهم شغب وحروبهم حرب وهم مع من غلب.و نقرأ في كتاب فتوح مصر و اخبارها لابن عبد الحكم:ارسل عمر بن الخطاب الي عامله في مصر عمرو يسأله:بلغني انك فشت لك فاشيه من خيل وابل، فاكتب لي من اين لك هذا المال! 
فرد عمرو ابن العاص: أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه فاشيه مال فشا لي، وانه يعرفني قبل ذلك، لا مال لي، وإني أعلم أمير المؤمنين إني ببلد السعر فيه رخيص، وإني أعالج من الزراعة ما يعالجه الناس، وفي رزق أمير المؤمنين سعه.
و حتى نتأكد من براءة القرآن الكريم من الاعتداء و الظلم و النهب دعنا نقرأ مراسلا ت عمر بن الخطاب و عمرو : {‏مسند عمر‏}‏ عن الليث بن سعد قال‏:
‏ كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص :.. أما بعد فإني فكرت في أمرك الذي أنت عليه، فإذا أرضك أرض واسعة عريضة رفيعة... ولقد أكثرت من مكاتبتك في الذي على أرضك من الخراج، فظننت أن ذلك شيئا بينا على غير نزر ورجوت أن تفيق فترجع إلى ذلك، فإذا أنت تأتيني بمعاريض تغتالها ولا توافق الذي في نفسي ...وقد تركت أن أبتلي ذلك منك في العام الماضي رجاء أن تفيق فترجع إلى ذلك... قال‏:‏ فكتب إليه عمرو بن العاص : .. أما بعد فقد بلغني كتاب أمير المؤمنين في الذي استبطأني فيه من الخراج، والذي ذكر فيها من عمل الفراعنة قبلي، وإعجابه من خراجها على أيديهم ونقص ذلك منها منذ كان الإسلام... وذكرت أن النهر يخرج الدر فحلبتها حلبا قطع ذلك درها، وأكثرت في كتابك وأنبت ...‏ والله يا ابن الخطاب لأنا حين يراد ذلك مني أشد لنفسي غضبا ولها إنزاها ‏‏ وإكراما، وما علمت من عمل أرى علي فيه متعلقا ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت .. قال ابن قيس مولى عمرو بن العاص فكتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص سلام عليك: أما بعد فقد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج وكتابك إلي ببنيات الطريق وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق البين، ولم أقدمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك لكني وجهتك لما رجوت من توفير الخراج وحسن سياستك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج، فإنما هو فيء المسلمين وعندي من تعلم قوم محصورون، والسلام.
فكتب إليه عمرو بن العاص:.. أما بعد فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج، ويزعم أني أعند عن الحق أنكب عن الطريق وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيرا من أن يخرق بهم فنصير إلى ما لا غنى لهم عنه، والسلام‏.‏
و لعل هذا كاف للبرهنة على أن جل السلف انقلب عن دين محمد (ص). ولعله مفتاح لفهم أن مشروع النبي في بناء الدولة العادلة قد هدمه السلف بعد وفاته مباشرة و حتى قبل أن يدفن عليه السلام. إنهم من اعتنق الإسلام نفاقا بعد فتح مكة و من أغتر بعد ماض من الإيمان..من دخلوا البلدان ظلما..و هم من ارتد و النبي على فراش الموت ,و إستقر بهم الأمر من جديد بعد إنقضاض الخليفة الأول عليهم دفاعا عن الإسلام ـ على الإسلام المنقب ..فكانوا العدة التي داهمت العالم و نسبت إرثا ضخما لنبي الإسلام زورا و كذبا ..و لعل فترة حكم الخليفة الأول شهدت ضمورا للصراع القبلي بسبب تركز الأنظار على البقرات الحلوب و كان هذا متنفسا و وقودا لأزمة كبرى ستبقى نتائجها ملاصقة لنا إلى يومنا هذا.
إن الثروات المنهوبة ستتراكم لتشعل حربا بين طبقات المجتمع العربي إبان الخلافة الراشدة و موت النبي لم يمض عليه سوى سنين معدودة , فهل غادر الإسلام القلوب بهذه السرعة ؟؟!!!
كلا ! فهو لم يدخلها إلا لتحقيق مآرب مادية و شخصية فكان إسلاما منقبا ـ اي لبس النقاب .
و تماشيا مع سنن الحياة و منطق التاريخ سيؤدي الصراع الطبقي الحاد إلى إنهيار كامل للأمن الداخلي للمجتمع آنذاك و جاءت الفتنة الكبرى تتويجا لمجتمع ملغوم و التي أودت بحياة الاف الضحايا و مهدت السبيل للأمويين و العباسيين..فيما بعد لقيادة الإمبراطورية العربية بالإرهاب و القمع.
و لعل معضلة القمع و الإرهاب من المشكلات الكبرى التي ـ و برغم تناقضها مع السير الطبيعي لحياة المجتمع ـ رافقت تاريخنا المديد و لقيت إعانة عظمى من طرف ممثلي العلم و الدين و السياسة طوال الحكم العربي إلى يومنا هذا , و من العجب أن يتعرض دعاة العقلانية للبطش بإسم الدين و أن يصبح التدمير عنوانا لحضارتنا و حكامنا..و دينا عنه يدافع سلفنا و خلفنا , جهالنا و علماؤنا ..و لعل كل هذا يطرح إشكالا عويصا على مستوى مفهوم الإيمان و مضمون العلم عند السلف و الخلف ..كيف يمكن تقبل و تحمل تاريخ كهذا بدون نقد ؟ لا يعقل أن يظل الإنسان طوال التاريخ كالكراكيز بدون حراك إلا فيما قل .لقد قام الحاكم و معه اغلب رجال الدين بخرق قوانين السواء بإيقاف مفعول القرآن و تدبره و منعوا النظر العقلي المجرد و جعلوا الدعوة للثورة على الجهل و الطغيان مرادفا للكفر العقدي و الذي يستوجب القتل ..و أسسوا لبنية عقلية متحجرة , منغلقة على الأسطورة , تستمد قوتها من دين العلماء : منظري الكذب و العنف. لقد خلقوا تصورا دينيا لم يعرفه عصر النبي (ص) بتأ سيسهم للحديث و علوم الدين حيث تعددت مصادر الإسلام كي يستطيعوا إفراغ الإسلام من فحواه و حشوه بإرث الأجداد العرب و كذلك حتى تتسع عقيدته و قانونه ليشملا معا ترسانة العقل الإيراني و الهندي و اليوناني..لقد مددوه و بنوا منهجا متهافت المبنى لمسايرة نفس المنحى..و حتى نمضي بحديثنا هذا إلى تخومه النهائية يلزمني البرهنة على كل هذا كي لا يقول جدي ما لم لم تفعل ؟ 
سنتعرض لرجال أفذاذ خرجوا من عزلتهم و توجهوا لمخاطبة عقول الحكام و المحكومين من أجل تأسيس الدولة العادلة و بناء الحرية و تعرضوا للتعذيب و القتل .. إنها تلك النخبة التي كانت دوما مستعدة لكل شيء وظلت شاهدة على عصرها , كاشفة حقائقه , مكابدة الويلات و المحن , و لعله أمر عاشته جميع الأمم و ستظل تقاومه طالما ركنت للجهل و لفظت التعقل .
و لعلك تتذكر الحوادث الشهيرة التي راح ضحيتها مفكرون كبار في تاريخ الفكر الإنساني و لا زالوا ليس لشيء و إنما كما تعلم أمنوا بالعقل و اصطنعوا تصورات جديدة تخالف الفكر القديم و تنسفه.. 
و نظرا لهشاشته بسبب مخالفته للعلم فمجرد مسائلته و إخضاعه للبحث العلمي كاف لانهياره..لهذا و خصوصا عندنا يلجأ ذوي اللحى و العمائم إلى التعري من الإنسانية بالعنف و الإرهاب لحماية الأساطير من التبخر ولاء للجهل ..فعقولهم لا تتحمل سوى حفظ تعاويذ الأجداد حتى و إن ضلوا و أضلوا ..و حمايتها بالحديد و النار تعويضا للعجز العقلي.. لذلك فأنت ترى الشخص يحمل أساطير إيران في اليد اليسرى و السيف في اليمنى ..
و المعضلة الكبرى هي إخضاع التاريخ العربي للنقد و التعرض للتراث بالدراسة الموضوعية في عيون الخلف وارثي السلف , و الناقد الموضوعي يعرض حياته للخطر كما علمنا التاريخ .. و سنناقش هذا في معرض حديثنا عن رواد العقل في تاريخ الإسلام بعد قليل , تلك الأنوار التي إنطفأت بالقتل و التعذيب و الأضطهاد لتترك الجهالة تقود أمة كاملة بالحديد و النار.
و من الخطأ الفاحش الظن أن محاكم التفتيش و سلطة الكهنوت و إرهاب العقلاء لم يعرفها تاريخنا و أن ذلك مرتبط فقط بالباباوات و العصور الوسطى حيث كانت مطاردة المفكرين الأحرار و حيث كان رجال الدين يمنعون كتب الفلاسفة و العلماء ,الذين أرسوا دعائم الحضارة , مسألة معتادة و مشهورة .
أجل ليس صحيحا أن ذلك العصر قد مضى .. بالنسبة لنا على الأقل في الحضارة العربية , فتاريخنا مشوار حافل بالنكبات و المأسي , مشوار إنتصر فيه الجهل و حوصر فيه العقل الحر بسبب التحجر العقلي للحاكم و أغلب المحكومين. و لعله تاريخ يمتد مذ أن طرد القرآن نهائيا من العقول و منذ أن جعلوه ـ وفقا لعلمهم ـ صديقا للرفوف.
و إننا لنعلم أ ن الحضارة الغربية لم تنشأ عن الصدفة .. بل بفضل تراكم النضال بالدم حيث ضحى الناس بأنفسهم ضد الاستعباد بينما تكفل العلم و الفلسفة في تدرج معارفهما بنقض اللاعقل و الإمعان في هدم قداسة الكهنوت و تقسيم ادوار كل مجال فكري..الشيء الذي أفضى إلى إعادة بناء العلم و المنهج و من ثم الشروع في صياغة مفهوم جديد للإنسان و الدولة و الحكم و الدين.. و تناول النقاش العقلاني التراث الفكري اعتمادا على النقد العلمي للمعرفة فاصطنعوا تصورا جديدا للكون أصبح فيه الإنسان مركز الكون : تخدمه الدولة , يعتني به العلم , يحفظ حقوقه القضاء .. في جو من الحرية . 
و عندنا ـ كما تعلم ـ لازال أبو هريرة و ما نطق به بلعومه دينا مقدسا , يحميه ذوي القبعات و اللحى و العمائم متمعين بالصديق الحميم : السيد المحترم : الجهل البشع .
و ينبغي الاعتراف كذلك بأننا أمام خصم ألف التسكع في دروب الإرهاب و الصعلكة , هذا الخصم الكئيب لم يرق له ولو للحظة النقد العلمي لبناه المعرفية المقدسة و إخضاعها للتشريح بفضل التكامل العلمي و المنهج القرآني.و لن يسعد خصمنا و هو يرى ألهته من صحابة و رجال دين يتساقطون صرعى أمام الدليل القرآني .. ففضحه و كشف زيف إدعاءاته لأمر شاق عليه .. إذ يهتز و يئن .. و ما عساه يفعل سوى أن يكتئب.. و سحقا للدعاة الجهل و الدعارة الثقافية.
نعم فالباحث في التاريخ سيجد بذور هذه الأزمة قديمة قدم الإنفجارات الداخلية التي عرفها المجتمع العربي منذ الخلافة الراشدة بسبب الصراع على السلطة و الثروة .. حيث أسسوا للطغيان و التيه و الخلاف , وكان لكل حزب مذهبه الخاص و طرحه الإيديولوجي المغاير لطرحات المذاهب الأخرى .
لقد اعتمدوا على إفراغ القرآن الكريم من حمولته المعرفية الواضحة و من معانيه الجلية و حشوه بمضامين ذات قطيعة إبستمولوجية / معرفية و سياقه , زد على ذلك الحضور القوي لأهل الكتاب و مصادر معرفتهم , و العقل الإيراني و الهندي..و تدخل كل هذا في إنتاج الأحداث والمذاهب..مما أدى بالفرق و الشيع إلى أن تنأى عن الحدود التي رسمها القرآن : سواء في الميتافيزيقا حيث أعلن القرآن و بقوة الفرق بين الله و العالم و الإنسان ,أو عندما تناول نظرية المعرفة و حدد معنى الدليل و مصادر و و سائل المعرفة...أقول أن الأ حزاب (الأسلامية) إبتعدت عن الإسلام و عقلانيته في العقيدة و الشريعة و الحكم و السياسة..فأصبح المجتمع آنذاك ملغوما .. و الأنزياح الفكري لهذه الفرق أدى بدوره إلى إنتاج إنزياح مماثل على الواقع .. و أثير الضجيج و كان ما كان من حروب دامية و رؤى سياسية لم تلد سوى مجتمعات عاقة ستؤطر الخلافات و تغلفها بقوالب نظرية ستظل جاثمة أبد الدهر , و كانوا في ذلك أوفياء للنعرات القبلية.. و لم يصدروا قط عن القرآن الكريم إلا فيما ندر.
و اطمأن الشيطان على تعاليمه كما اطمأنوا هم في بحار الدماء, و حفلت حياتهم بالأدران و رأوا في تطبيق القرآن ترفا إيمانيا بعدما شاءت لهم الأقدار معاصرة النبي محمد (ص) .
إنهم أعراب نجد من صاغ دواليب الحكم و من كون جبابرة التاريخ و مهدوا السبيل لأبناء البلدان المغزوة لبناء ركام من الخرافة و قليل من العلم , و على أكتافهم ستدفن قيم العدل و الحرية و النظر في عرس لا ينسى إحتفاءا بالإرهاب.
و دائما ـ كما تعلم ـ لازال عندنا نقاش أسفار البخاري الأسطورية و تلميذه مسلم و غيرهم من أحبار الأمة اعتداء يستوجب تطبيق حد الردة .. فالمس بشقشقتهم أجل خطرا على الدين من اعتدائهم ـ هم و لا أ حد غيرهم ـ على ذات الله العلية و أنبياءه العظام ..عليهم السلام.
و دائما عندنا كانت الدعوة إلى القرآن و حده كفرا.. و ما العلم و العقل سوى وساوس و مهزلة.
لقد كان كل هذا يجري و يحصل على أرض عانقت السماء مرارا ..و ليس ببعيد من البيت الكريم و البلد الآمن و الأرض المطمأنة, وأبوا إلا أن يستبدلوا أصنامهم القديمة من تماثيل و دمى بأصنام جديدة .. مزدرين الذكر الحكيم.
كان يكفيهم أن يلتزموا نهج القرآن و ألا يولوا ظهورهم لأسوة الرسول (ص) و قد إستمعوا إليه و هو يتلوا الوحي طاهرا نقيا و غضا طريا ..و لكنهم انطلقوا لبناء طرق مضلة حيث عانقوا ثقافة الأجداد و في ضوئها أبحروا في دوامة من الويلات لن تنتهي.
و في خضم هذا برز رواد العقل في تاريخ الإسلام حيث فحصوا الآ اء المتصارعة آنذاك في ضوء العقل فاختاروا ما قبلته العقول و اعتمدوا التأويل العقلي لبعض نصوص القرآن الكريم , و هنا لن أتعرض بالتفصيل لدقائقهم لإني أقوم بذلك في بحث خاص لم يكتمل بعد.. و هنا سأقوم فقط بلفت الانتباه لهذا التيار العقلاني , القديم النشأة في تاريخ الأسلام , الذي لامس بكل شجاعة ذروة العقلانية و إنتهى به الأمر إلى الضمور و الإغتيال.
عرف التاريخ الإسلامي حركة فكرية أسموها بالقدرية لإنكارها القدر الإلهي السالب للإرادة الإنسانية في إتيان أفعال العباد, و رأت فيه فكرا هدفه إرضاء البلاط الأموي الذي أسس لفكرة الجبر المطلق في الأفعال و لقي عونا من طرف ما يسمى القراء الشاميون فساهموا في فرض هذه النظرية بالقوة حتى يؤمن الناس بأن ما يفعله بنوا أمية مشيئة و قدر الهي لا مفر منه و إذا وجبت طاعة البلاط و تحمل طغيانه و اغتصابه لحقوق العباد..
و نظرا لفظاعة الأمر فقد برز الفكر العقلاني في مجموعة من الأوائل كمحمد بن الحنفية و الحسن البصري في مرحلة من مراحله , غير أن العنصر الأول في مذهب الأختيار هو معبد الجهني الذي كان تلميذا لأبي ذر الغفاري أحد أعداء الخليفة الثالث و الأمويين في نظريته في المال و التدبير السياسي..و كان لمعبد أثر قوي ضد خصومه الأمويين . و نادى معبد أن لا للظلم و دافع عن نظريته في العدل الإلهي و هي هي عند المعتزلة فيما بعد .
لقد وقف معبد ضد الطغيان الأموي و آمن بالاختيار و مسئولية العبد عن أفعاله و أرق البلاط الأموي في طرحه لمعضلة المال و الكنوز..و لم يقبل إيمانه و لا عقله مشكلة الجبر الإلهي لما ينتج عنها من معضلات منطقية و فلسفية ..فحرض الناس على الخروج على بني أمية مع محمد بن الأشعث في ثورته فانتهى به الأمر في سجن الحجاج الذي تفنن في تعذيبه.
فلنستمع معا لهذا الحوار الذي دار بين أحد كبار السفاحين العرب و أحد قادة التنوير كما أورده القاضي عبد الجبار في طبقات المعتزلة:قال الحجاج : يا معبد كيف ترى قسم الله لك ؟ قال: يا حجاج , خل بيني و بين قسم الله , فإن لم يكن لي قسم إلا هذا رضيت به. فقال له : يا معبد أليس قيدك بقضاء الله ؟ قال : يا حجاج : ما رأيت أحدا قيدني غيرك فأطلق قيدي ,فإن أدخله قضاء الله رضيت به. انتهى.
هكذا إذا عاش معبد تحت التعذيب لأنه ناهض إيديولوجية الأمويين.
كان يقول أمام الملأ : ملوك بني أمية يسفكون دما ء المسلمين و يأخذون أموالهم و يقولون إنما تجري أعمالنا على قدر الله .
فتصدى له الحجاج واعتقله وقتله بعد ان عذبه عذاباً شديدا.و كان ذلك عام 80هـ.
و كذلك كان عمرو المقصوص أحد أبرز القدريين في دمشق , حيث كان معلما لمعاوية الثاني فصب فيه مذهب القدرية حتى أصبح التلميذ قدريا محضا , مقتنعا بالأختيار و حرية الإرادة .
و كان ذالك واضحا لما ولي الخلافة بعد موت يزيد ..و ظل يتعظ بتعاليم عمرو المقصوص الذي قال له لما استشاره في أمور الحكم :إما أن تعدل و إما أن تعتزل. فخطب معاوية الثاني قائلا : إنا بلينا بكم و بليتم بنا ,و إن جدي معاوية نازع الأمر من كان أولى منه و أحق ... لا أحب أن ألقى الله بتبعاتكم , فشأنكم و أمركم ولوه من شأتم...ثم نزل و إعتزل الناس حتى مات بعد أربعين يوما من خلافته فوثب بنوا أمية على عمرو و قالوا : أنت أفسدته و علمته, ثم دفنوه حيا , حتى مات حسبما يروي إبن العبري في مختصر الدول ص 191.
و كذالك كان غيلان الدمشقي . عاش غيلان الدمشقي تحت نفس الحكم (الأموي) الطاغي حيث نظرية الجبر الإلهي و الاستبداد السياسي و طروحات الشيعة في نظرية الإمام المعصوم و ضغط الإجرام الخارجي ..فقاد غيلان تيارا مناهضا للبلاط الأموي و فقهائه الذين يقضون الوقت في شرعنة الجرائم بتزوير معاني القرآن ..
و كان المجتمع آنذاك يحتوي بنية إثنولوجية متعددة المشارب و الأديان و اللغات و كان الضعفاء يرون الحكام و أتباعهم يعيشون حياة البذخ و العيش الرغيد و يرتكبون الطغيان و الفواحش تحت حماية عنوان ضخم مخيف اسمه القدر الإلهي و إذا لا حساب و لا عقاب في الدنيا و الآخرة .
و كان من طبيعة الأشياء أن يثور العقل ضد اللامعقول الديني و المستحيل العقلي و المرفوض الأخلاقي لإبراز أن الإنسان قادر على إتيان أفعاله ـ و أن يجادل عن الإرادة الحرة عقلا و استدلالا بآي القرآن الكريم لأنه رأى انهيارا للتكاليف و كرامة الإنسان باسم القدر.
لقد كان غيلان ـ القلب النابض للأمة ـ من أهم أركان بناة التفكير العقلي في الإسلام و أحد رواده ـ قبل الرجال الأفذاذ : المعتزلة ـ الذين أنقضوا على ترهات بني أمية و فقهاء البلاط نقدا و معارضة , مقاوما فكر الخوارج , و دنس الفقهاء , و هو الرجل الذي إعتمد عليه الخليفة عمر بن عبد العزيز في مشواره الإصلاحي , و هو الرجل الصلد الذي ظل معانقا مبدأه, مدافعا عن حرية الأختيار , مناقشا موضوعات الساحة انذاك بكل شجاعة و إيمان , فهو الذي نادى عاليا امام الملأ : أن الخليفة يجوز أن يكون من غير قريش , و أن اجماع الشعب ـ بلغتنا ـ شرط لتحقق الخلافة فكان بهذا صادرا عن القرآن الكريم مشكلا فكرا أعرق في التقدمية و أحد دعاة الأختلاف و العدل و الحرية..و لنقاء الرجل و طهارته فقد ظل و فيا لقناعاته منتقدا منهج الحكم و الاقتصاد الأمويين حيث أثبت رغم أنفهم محاسبة الكل و جزاؤه طبقا لجنس المعتقد و العمل على اعتبار أن نظام العدل الإلهي يختلف عن مفهومنا نحن للعدل و القسط.
و كان يحرض الناس على الثورة و الخروج على أبقار بني أمية الذين امتصوا أرزاق العباد .. و مصادرنا التاريخية تذكر رسالة غيلان لعمر بن عبد العزيز , حيث يعظه بعدما لاحظ تخاذله يقول ابن المرتضى في المنية و الأمل :أبصرت يا عمر وما كدت ونظرت وما كدت, اعلم يا عمر أنك أدركت من الإسلام خلقا باليا ورسما عافيا, فيا ميتا بين الأموات ألا ترى أثرا فتتبع ولاتسمع صوتا فتنتفع. طفا أمر السنة وظهر البدعة, أخيف العالم فلا يتكلم, ولا يعطى الجاهل فيسأل .وربما نجت الأمة بالإمام, فانظر أي الإمامين أنت .فإنه تعالى لا يقول تعالوا إلى النار, إذا لا يتبعه أحد. ولكن الدعاة إلى النار هم الدعاة إلى معاصي الله . فهل وجدت يا عمر حكيما يعيب ما يصنع ,أو يصنع ما يعيب ,أو يعذب على ما قضى, أو يقضي ما يعذب عليه,أم هل وجدت رشيدا يدعوا إلى الهدى,ثم يضل عنه, أم هل وجدت رحيما يكلف العباد فوق طاقتهم, أو يعذبهم على الطاعة ,أم هل وجدت عدلا يحمل الناس على الظلم والتظالم, وهل وجدت صادقا يحمل الناس على الكذب أو التكاذب بينهم كفا ببيان هذا بين وبالعمى عنه عمى.
و لما لا حظ الخليفة عدالة الرجل عرض عليه منصبا في الدولة فأصبح غيلان مسئولا عن بيع الخزائن و رد المظالم .. و تماشيا مع مبادئه فقد أخرج يوما خزائن الأمويين و هو ينادي :تعالوا الى متاع الخونة، تعالوا الى متاح الظلمة، تعالوا الى من خلف رسول الله في أمته بغير سنته وسيرته. ومن يعذرني ممن يزعم ان هؤلاء أئمة هدى وهذا متاعهم والناس يموتون من الجوع !! فسمعه هشام بن عبد الملك الذي سيصبح خليفة و سينتقم منه بقطع رجليه و يديه بعد اعتماده على فتوى شرعية صاغها الأوزاعي ,هذا الأخير سيطرح أسئلة مغرضة لغيلان حول القدر , أسئلة لم يفهم منها هشام اي معنى ..و عنها ستقطع يدا غيلان و رجلاه , ولم يمنعه ذلك من الكلام و تحريض الناس قائلاً: قاتلهم الله كم من حق أماتوه. وكم من باطل قد أحلوه. وكم من ذليل في دين الله اعزوه ومن عزيز في دين الله أذلوه : يقصد الأمويين ..فقطعوا لسانه و مات .
قلنا بأن غيلان الدمشقي قاد تيارا فكريا و سياسيا ضد الحكم الأموي ,و أنه كان إمتدادا للفكر الحر ضدا على الطغيان انذاك , كما كان له أثر كبير في ذهنية مجتمعه بحضوره القوي في قلوب المسلمين, فأحدث بذلك نقلة نوعية على مستوى فهم الناس لعلاقة الحاكم و المحكوم ..مما أنتج رغبة في هدم أركان الظلم و الأعتداء الأمويين و مما جعل منه مدرسة الثورة و الانقلاب .
و بعد موت غيلان ظلت تعاليمه منتشرة بين الناس إلى درجة أن أثرها وصل إلى قلب أحد أمراء بني أمية : الخليفة يزيد بن الوليد الذي إقتنع بمذهب الإرادة الحرة فسلك أسلوب الثورة العسكرية التي إنتهت بسقوط حكم الخليفة الخليع و قتله بعد ذلك إنتقاما من فساده و ظلمه و كفره الذي ألحق الأذى بقلوب و حياة الضعفاء.
و التاريخ أفادنا بما يدل على أن يزيد كان غيلانيا أو على الأرجح كان أقل ظلما و استهتارا بالناس..
ودليل هذا ما جاء في البداية و النهاية: "خطب أمير المؤمنين يزيد بن الوليد الناس بدمشق فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال‏:أما بعد أما والله ما خرجت أشراً ولا بطراً، ولا حرصاً على الدنيا ولا رغبة في ..ولكني خرجت غضباً لله ورسوله ولدينه.. لما هدمت معالم الدين، وأطفئ نور أهل التقوى، وظهر الجبار العنيد المستحل لكل حرمة، والراكب كل بدعة، مع أنه والله ما كان مصدقاً بالكتاب، ولا مؤمناً بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في النسب..‏ إن لكم علي أن لا أضع حجراً على حجر.. ولا أنقل مالاً من بلد إلى بلد حتى أسد ثغر ذلك البلد وخصاصة أهله .. فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن أنا وفيت لكم بما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة، وإن أنا لم أوف لكم فلكم أن تخلعوني ..وإن علمتم أحداً من أهل الصلاح والدين .. فأردتم أن تبايعوه، فأنا أول من يبايعه، ويدخل في طاعته‏".‏
و هذا يدل على مذهبه القريب من الغيلانية.
إن تاريخ الإسلام مر و لا شك بمراحل عدة كان فيها للسلطة السياسية و النزاع على الثروة و الحكم أدوار كبرى أنتجت فكرا دينيا حاول أدلجة القرآن و تحريف معانيه لأسباب مادية و سياسية, و لصعوبة اختراق النسق القرآني الصارم و الجلي لمن يقرأ باللغة العربية فقد ضاقت المذاهب الإسلامية ذرعا به و بمنهجه فراحت تؤسس لدين جديد أهم مرتكزاته : الحديث و أقاويل الصحابة و فتاوى العلماء .. و هذا أمر يعرفه جيدا كافة علماء الإسلام و المثقفون و أشباههم. فامتد العبث و العدمية إلى إنتاج قراآت متعددة لنص واحد و تأويله بما لا يجيزه المنطق القرآني.
نعم فقد كان النزاع في أوجه و كثرت المعاني لآية واحدة على الرغم من أن القرآن الكريم هو هو عند جميع المذاهب و كذلك على الرغم من امتلاك أهل النزاع و الشقاق لنفس ملكة العقل و نفس القدرات ..و كما تعلم فالله سبحانه أوحى بالقرآن إلى النبي محمد (ص) في مجتمع إحتوى الحنفاء و عابدي الإصنام و اليهود و النصارى.. و كانوا كلهم ينتمون للطبيعة الإنسانية و يتقنون اللسان العربي فما كان منهم إلا أن استمعوا إليه و هو يتلى عليهم غضا طريا كما أنزل و لم يحصل أن استشكله أحد منهم ..بل فهموه و على ضوء فهمهم إياه حددوا موقفهم منه .
لقد فهموا منه نفس المعنى فنافق من نافق و آمن من آمن و كفر من كفر , و كان كل ذلك يجري بعد أن تمثلته عقولهم.
مرة أخرى : كان الإنسان المعاصر للوحي القرآني يتبع دين أجداده , و سواء أكان لهذا الدين أصل سماوي أم لا فقد كان العرب و إن إختلفوا في أديانهم و تصوراتهم الميتافيزيقية ذوي بلاغة و فصاحة..فلما نزل الذكر الحكيم و جه خطابه للعقل بالدرجة الأولى , و دعاه لتلاوة الحكمة الإلهية و كان اليهود و النصارى و المجوس و الصابئة و الأحناف و ذوي الدمى و التماثيل ...معنيين بالخطاب الإلهي بدون إستثناء ملزمين بالإحتكام إليه في كل شيء.مبينا لهم حدود الله جل و علا و العالم و الإنسان بدون مزج و معلنالهم شريعته الحقة ..و على ضوء هذا انتقد و بشدة أهل الكتاب .. و هاجم نظرياتهم في الله و النبوة و الوحي...كما فضح تحريفهم لكتبهم الأصلية و التي تماثل القرآن مع اختلاف بسيط في القانون لا دخل لنا به الآن , فانكب العرب على دراسة القرآن المبين ففهموا منه نفس المعنى و تنبهوا إلى كونه يخالف عقائدهم كما أيقنوا كذالك من سمو لسانه و عقائده ..فآمن من أراد و كفر من كفر و نافق من نافق و صارعه من استحكمت فيه عوائد الأجداد..و لو كان القرآن محتوى للغموض فمن المستحيل أن يظل المنافق منافقا كالخنثى أو أن يومن من آمن أو يكفر من كفر... لقد اتخذوا موقفهم من القرآن كما قلت , بعد أن إنقدحت مضامينه في أعماقهم في أسطع صورة و أبهاها , و بعد أن إلتقطت أفئدتهم نفس المعنى الذي فهمه النبي عليه السلام.
فالقرآن إذا له فهم واحد لا يتعدد يستوي فيه راع الغنم و مدير الأبحاث العلمية في الجامعة , لإن الميزان العقلي الذي نزن به المعتقدات واحد لا يتعدد و الإختلاف حاصل فقط في الكم المعرفي الذي يضم المعرفة و المنهج:الكيف.
و القرآن احتوى جميع ما سيكتشفه العلم البشري المتدرج في تطوره و حقائقه و ليس فيه باطن و ظاهر..فهي فكرة مصرية قديمة . و بالرغم من وضوح القرآن فقد أقام المسلمون بعد وفاة الرسول فهما جديدا له تماشيا مع رغبتهم في تبرير معقداتهم الفاسدة..فبرز التأويل و التفسير : الأول ينذر بالغليان و الأزمة و الثاني منشؤه رغبة من لم يتمكن من العربية من الموالي في فهم القرآن فكان التفسير موجه لهم بما فيه من آساطير تحكي تراث المفسر بوضوح و لم يكن ابدا من أجل العرب كما يظن البعض.
ولكثرة الحشو..برز تيار التأويل العقلي في تاريخ الإسلام :تقول المصادر التاريخية أن الجعد بن درهم كان أول شخص قال بالتأويل العقلي للقرآن و لم يكن تياره التنويري تيارا إستقى تعاليمه من ينبوع الحضارات الأخرى بل إمتثل لدعوة القرآن المناهضة للاعقل و الداعية إلى التسلح بالنظر العقلي و البحث البرهاني في أمور الدنيا و الدين.
فجاء التأويل العقلي كمنهج نقدي لتقويم فكر ديني لم يفقه رسالة القرآن و كرد فعل للركود الفكري ..آنذاك,فكان مدرسة كبرى نافحت عن الإسلام و منهجه رغم ما لقيته من قهر و اضطهاد ..
و المصادر تقول أن الجعد كان من الموالي و إن اختلفوا في منبته الأصلي فكان من قال بأنه من حران و من قال بكونه من خرسان و بطبيعة الحال فلكل مذهب أعداؤه فالجعد رمي بالزندقة و التأثر بالمذاهب الوثنية... و لكنه حظي بالتقدير من طرف مؤيديه.. و ما يهمنا نحن هنا ليس الشخص و إنما شخصيته و مذهبه في التاريخ.و كذلك تقول نفس المصادر أن الجعد هاجر من دمشق إلى الكوفة خوفا من النظام السياسي.. الذ ي تمكن من القبض عليه بواسطة خالد بن عبد الله القسري الذي
صلى بالناس يوم عيد الأضحى، فأوتي بالجعد بن درهم مقيدا موثقا مربطا، وجُعِل في أصل المنبر، وخطب خطبة العيد، ثم قال في آخر الخطبة: ضحوا تَقَبَّل الله ضحاياكم؛ فإني مضحٍ بالجعد بن درهم فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، ثم نزل وأخذ السكين وذبحه في المُصَلَّى أمام الناس.
و كان ذلك الحدث عظيما في قلوب بعض العلماء الذين رأوا في مقالات الجعد ما يوجب القتل على الرغم من كون من أفتى بقتله يعلم أن الله تعالى حرم القتل بدون حق و أن القاتل إن لم يتب فالله يغضب عليه و يلعنه و أعد له سعيرا سيخلد فيه .
كان المتفيهقون و لازالوا يقيمون مهرجانات و أعراس قلبية كلما ذبح ظلما من خالفهم في العقائد بل كانوا يعظمون القاتل و يثنون عليه و لا يخفى عليك أن الأضحية الشرعية هي ذبح شاة في أيام الأضحى تقرباً إلى الله تعالى وليأكل منها المضحي وأهله ويتصدق منها على المساكين، و ليس الأضحية بإراقة الدماء ظلما و عدوانا ..فما عساي أقول لمن ضل عن السبيل !
و بأي حق يقتل البشر ! أليس للقاتل قلب أو عقل !! ألا تعلم بأن الذي ينزل الشرع هو الخالق و بأنه تعالى حرم القتل ظلما و أن الخلاف الفكري ليس شرطا للقتل !
لقد ضحوا به لأسباب سياسية كما يفعلون دوما ..أما مقالاته فكانت على الشكل التالي :
أنكر الصفات القديمة القائمة بالذات مما جعله ينكر قدم الكلام الإلهي فاعتبر القرآن محدث غير قديم و السبب في كل هذا هو دفاعه عن تنزيه الله في مجتمع غزته الأفكار المجسمة للخالق فأنكر تكليم الله تعالى لموسى بكلام قديم كما أنكر الخلة القديمة و كان بهذا هادما للتجسيد اليهودي الذي يرى أن الله تعالى تجلى ماديا لموسى و كلمه و كأنه إنسان يعيش في السماء ـ تعالى عن ذلك.
كما كان مدافعا عن عقائد الإسلام أمام هجوم مذاهب فارس و غنوص الملل و النحل فانتهى أمره بالقتل مخلفا طريقة فكرية في التأويل سيعمل تلميذه جهم بن صفوان على تبنيها و تعميقها.
و الجهم بن صفوان كان متابعا لمنهج أستاذه في التأويل العقلي للقرآن الكريم و ظل مناهضا لعقلية الحشو بحيث كان ينظر لأهل الحديث بازدراء لهشاشة عقولهم و ضحالة معرفتهم بالدين و تسابقهم في جمع أقوال لم يقلها نبي الإسلام . و خلال زيارته لبلخ التقى جهم بأحد كبار المشبهة : مقاتل بن سليمان و تناقشا في أمور الدين و نظرا لإختلاف آرائهم فالأول منزه و الثاني مشبه فقد أدى النقاش بينهما إلى الخلاف و العداوة مما أدى بمقاتل إلى نفي جهم بترمذ.
لقد كان جهم بتحكيمه العقل في القرآن الرجل الذي دافع بحق عن عقيدة الإسلام أمام هجوم عقائد فارس و أهل الكتاب فرأى أن الله تعالى ذات و فقط و أنكر و صف الله تعالى بالشيء فالكائن الموصوف بالشيء هو المخلوق و بما أنه تعالى ليس بمخلوق بطل وصفه بما يوصف به المخلوق و صح و صفه تعالى ب : لا شيء . و هنا أقول أن المخلوق موجود و الموجود اسم على وزن مفعول و الله ليس مفعولا بل فاعلا أي خالقا و بالتالي فهو واجد الوجود .. و بما أن واجد الوجود ليس اسما إلاهيا فمن اللازم الاكتفاء بأسمائه الحسنى القرآنية.
و هناك أمر مهم أدى و يؤدي للتطاحن و القتال و هو أمر ليس بالسهل عندما يكون الجهل هو القبطان و هو معضلة المضمون النفسي للمعرفة و بسببها يقع الشقاق و الخلاف, فالمعنى النفسي المستفاد من مصطلحات و سياق القرآن غير المعنى المستفاد من كتب البشر و مفاهيمهم ..فالمعنى يتبدل عند نفس الشخص بنموه المعرفي و بتقلص معرفته أو تمددها, و معنى الكلمة الواحدة يتغير من دين لآخر , من شخص لآخر ,من حضارة لآخرى,من زمن لآخر .. فجهم أراد بلا شيئية الخالق نفي الوجود الحسي عنه فاقتضى ذلك منه تقرير عدم جواز و صفه تعالى بما يوصف به المخلوق نقضا للتشبيه و التجسيد الذي أسسه مقاتل بن سليمان و أهل الكتاب .. فكانت النتيجة أن : علم الله محدث, و العلم غير الذات و القول بأزلية الكلام شرك بالله ..فهو أحد و لا تعدد في ذاته كما يزعم النصارى.. و برهن على هذا بكلام لا داعي لإراده هنا حتى لا نثقل ذهن القارئ به , و بما أن العلم محدث فالكلام كذلك , و إذا فالله تعالى كلم موسى عليه السلام بكلام أحدثه و ليس بكلام أزلي يشاركه في الأزلية.
و قام بنفس الأمر فيما يخص : خلق القرآن , يقول جهم أن الشيء موجود , و بما أنه كذلك فهو حادث , أي غير قديم, و الشيء الموجود جسم, و بما أن الموجودات أجسام و القرآن واحد منها فإن الله تعالى ليس بجسم و القرآن مخلوق. و هو قول يخالف مذهب مقاتل و الكرامية و التي سيرتمي في أحضانها العالم الحنبلي : إبن تيمية.. هذا الأخير تبنى فكرة رواقية ذات أصل يوناني و لعل غلو هذا الرجل لاحظه الرحالة المغربي ابن بطوطة حيث يقول في كتابه الرحلة عنه :"وكان بدمشق من كبار الفقهاء الحنابلة تقي الدين بن تيمية.. إلا أن في عقله شيئاً. وكان أهل دمشق يعظمونه أشد التعظيم... وتكلم مرة بأمر أنكره الفقهاء، ورفعوه إلى الملك الناصر فأمر بإشخاصه إلى القاهرة ... فأمر الملك الناصر بسجنه فسجن أعواماً. .. ثم إن أمه تعرضت للملك الناصر، وشكت إليه، فأمر بإطلاقه... وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع ويذكرهم. فكان من جملة كلامه أن قال: إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كنزولي هذا ونزل درجة من درج المنبر. "
قلنا بأن جهم تابع الجعد بن درهم في إنكار الحديث و اعتماد منهج التأويل العقلي للقرآن فكان مؤدى هذا أن أنكر رؤية الله تعالى بالعين المجردة في الدنيا و الآخرة مخالفا بذالك أهل الحديث و السنة كما آمن بفناء الخلدين فلنستمع إليه كما جاء في مقالات الأشعري : ( وإن الجنة و النار تفنيان و يفنى أهلهما حتى يكون الله سبحانه آخرا لا شيء معه كما كان أولا لا شيء معه )
وهنا فقد تنكب جهم الحقيقة لأن خلود النار و الجنة و أهلهما واضح في القرآن , و قد يكون السبب في قوله هذا هو فهمه الخاطىء لعالم الدنيا و الآخرة و كذلك فهمه لطبيعة الحركة و الزمن و بنية الوجود بصفة عامة : فهو يرى أن الموجود جسم, و أن الجسم حركة, فنفى الجسمية عن الله فهذا جيد هدما لمن يظن أن الله تعالى ينزل كل ليلة للسماء الدنيا...و نقضا لفكرة تنقله من مكان إلى آخر.. فالله تعالى خارج الزمكان و يحكمهما بآلية نجهلها .. و بما أن الموجودات حركات و أن الحركات لابد و أن تنتهي فالنعيم و العذاب يلزم أن ينقطع في الآخرة لأن خلود الحركات محال .
و الحقيقة أن مفاهيم الحركة و الزمن و كل مفاهيم الدنيا تختلف قطعا عن مفاهيم و نظام الكون في عالم الآخرة ..فلا داعي لإخضاع عالم الآخرة الذي لم يخلق بعد ـ و ذلك واضح في القرآن ـ لمنطقنا لأنه غيب محض و مسألة توقيفية لن يوفق العقل فيها كما لن يوفق عندما يخوض في البحث في ذات الله .إن العقل البشري مخلوق بقدرات محدودة لفهم آيات الأنفس و الآفاق و ما دوره في مبحث الله الفلسفي سوى إتباع القرآن و هنا قمة العقلانية ..أما القرآن الكريم فلم يتحدث فيما يخص الله تعالى سوى ب : ذات و أسماء فقط. و قبل الانتقال إلى ر جل آخر لابد أن نذكر بأن جهم يقول أن بقاء الخلدين محكوم ببقاء السماوات و الأرض التي لم تخلق بعد و لكنه ووجه بآيات عديدة تثبت الخلود مما دفعه إلى القول بأن لله تعالى قدرة على خلق الخلدين من جديد بعد فنائهما و موقفه هذا خاطئ مرده لفهمه القاصر لنظام العالمين و سننهما, فلا شك انه تعالى سيخلق قوانين تناسب الخلود ..و هذا ليس بعسير عليه سبحانه ,و كما اذكر فإبن تيميه آمن بفناء النار و خروج أهلها منها و هذا عجب منه .كما آمن جهم بالجبر الإلهي ,فرغم إمتلاك العباد لقدرة و إرادة على إتيان الأفعال فالله هو الفاعل الحقيقي و بهذا خالف رواد نزعة حرية الإرادة, كما قدم العقل على النقل و أسس لمبدأ التحسين و التقبيح العقليين و أنكر الإستواء المادي لله تعالى ردا على مقاتل كما أنكر مادية الكرسي فقال ان معنى الكرسي هو القدرة و القوة الإلهيين , كما انكر خروج المعذبين من جهنم و أنكر عذاب القبر و سؤال الملكين و الشفاعة.فجهم و إن لم نعرض لكل مذهبه هنا فقد قدم موقفا عقلانيا و سيضيف أتباعه الكثير لمذهبه و إنتهى أمره بالأسر في حرب ضد بني أميةو حاول إقناع سلم بن أحوز المازني بإبقائه على قيد الحياة ..إلا أن رد الأمير كان قاسيا :لو ملأت هذ ا الكوكب، وأنزلت إليَّ عيسى بن مريم ما نجوتَ ، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى اقتلك،فقتل لأسباب سياسية هذا الرجل العقلاني الكبير.

اجمالي القراءات 6273

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (3)
1   تعليق بواسطة   عمرو اسماعيل     في   الأربعاء ٣٠ - أبريل - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[20628]

تحية وتقدير

مجهود عظيم أخي الكريم .. وفقك الله .. وفي انتظار المزيد بشغف ..


2   تعليق بواسطة   محمد عطية     في   الأربعاء ٣٠ - أبريل - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[20644]

شكر و امتنان

شكر و امتنان اليك صديقى العزيز على تلك المقالة الرائعة و نرجوا منك المزيد ونحن فى انتظار ما تبدعه قريحتكم فى المقالات القادمة دمتم لنا بألف خير...


و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته


 


3   تعليق بواسطة   دعاء أكرم     في   الخميس ٠١ - مايو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[20652]

إلى كل عربي يفتخر بعروبته، إرفع راسك أنت سليل هذه الحضارة

السادة الأفاضل ممن لا يزال عندهم انتماء للعروبة والإسلام بعيدا عن دهاليز السياسة والحكم أهديكم الوصلة التالية


 


www.1001inventions.com/index.cfm


 


مع تحياتي، إبنة الحضارة العربية الإسلامية الفخورة بها دائما


دعاء أكرم


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2007-05-26
مقالات منشورة : 0
اجمالي القراءات : 0
تعليقات له : 43
تعليقات عليه : 26
بلد الميلاد : Morocco
بلد الاقامة : Canada

احدث مقالات عبد العزيز أفندي
more