-1-:
قصة يوسف و نظرية التأويل

محمود دويكات Ýí 2008-03-16


(لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ «7»)يوسف.
قصة يوسف (عليه السلام) من أجمل و أحسن القصص التي وردت في القرءان . و إن أهم ما يشد انتباهنا عند ذكر قصة يوسف أن الله أفرد لتلك القصة سورة كاملة في قرءانه الكريم ، و هو مالم يحدث مع غيرها من القصص. و لعل هذا له أهمية من حيث فهم متلازمات و تفاصيل القصة.

المزيد مثل هذا المقال :

القصة معروفة للجميع و ليس هدف هذه المقال إعادة سرد لأحداثها، و إنما التركيز على بعض النواحي التي ظهرت في القصة وشكلت نقاط ارتكاز فيها. و بالتحديد مقدرة يوسف على تأويل الاحلام (أو الاحاديث كما يقول الله) و علاقة ذلك بالقرءان ككل ، و كيف من الممكن أن نستفيد من تلك القصة في بناء فهم آخر لآيات الله في كتابه العزيز. فالله قد ختم قصة يوسف بآية جميلة قد تكون من الممكن أنها تبين لنا الهدف من تلك القصة و لماذا جاءت هكذا ، فقوله (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «111» )يوسف – يبين أن هذا الحديث (القصص) هو تصديق الذي بين يدي القرءان أو محمد عليه ال (وهي التوراة و الانجيل على أقل تقدير) – أي أنه يصادق على كثير من التفاصيل التي وردت هناك – بالإضافة الى تفصيل كل شيء! و هدىً!! و رحمة لقوم يؤمنون (إما بالقصة أو بالقرءان!) .. إذن أشار الله ان تلك القصة احتوت على (أو تؤدي الى ) "تفصيل كل شيء! و هدى! .." .

إن الظاهر لنا يبين أن يوسف كا ن يمتلك قدرة تأويل "الاحلام" ، إلا أن الله عز وجل أكد أنه علّم يوسف تأويل "الأحاديث" . فنلاحظ قول يعقوب نفسه (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)5/يوسف كما نقرأ قول الله تعالى (وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ «21» وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ «22»)يوسف . و قول يوسف نفسه (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)101/يوسف. في حين نحن نعلم أن يوسف كان يؤول أحلاما و ليس أحاديثا ـ و ذلك من قول حاشية الملك (قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ )44/يوسف. فمع ذلك إلا أن الله يورد في القرءان على لسان حال آخرين(كيعقوب و يوسف) و أيضا الله نفسه يورد أن يوسف كان يؤول أحاديثا و ليس أحلاما كما تقدم من آيات.

فقضية تأويل "الاحاديث" في القصة بدت و كأنها محورية و مهمة جدا لدرجة أن القصة كلها ابتدأت بسرد "حلم" ( إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ... )4/يوسف. و اختتمت بتأويل ذلك الحلم (أو الحديث!!) –(وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)100/يوسف. هذا بالاضافة لكون تأويل بعض الاحلام (أو الاحاديث!! كما ينص القرءان) كان لها دور مفصلي في حياة يوسف و خاصة ما جرى مع الملك.
و لنعد الى القرءان الكريم ، فالله يقول (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ)23/زمر .. و يقول أيضا (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)6/جاثية و أيضا (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ)59/نجم و أيضا (فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)44/قلم. فهذه الايات تشير صراحة أن الله يعتبر الايات القرءانية "حديثا" ... فإذا ربطنا بين هذه الايات و آيات سورة يوسف ، فإننا نشعر أن استخدام كلمة "حديث" له دلالة جدا عميقة.

و لنعد الى يوسف عليه السلام : فهو كان يؤول أحلاما (أو أحاديثا!!) و هذه الاحاديث (أو الاحلام) قد وردت منصوصة و مسطورة و مكتوبة في القرءان : أي أنها جزء من نسق القرءان.. فبهذه النظرة نرى أن التفسيرات التي كان يعطيها يوسف لتلك الاحاديث إنما كانت لجزء من القرءان نفسه ، و أيضا إن كلمات يوسف عليه السلام و هو "يؤول" تلك الاحاديث أيضا أضحت قرءانا يتلى الى يوم الدين. أي أننا نستطيع القول أن يوسف أوّل لنا أياتٍ من القرءان.
فإذا نظرنا الى تلك الاحلام (أو الاحاديث) التي أولها يوسف ، نرى أن لها معنىً تصويريا ، فقد كانت كلها تصور مشاهد معينة ابتداءا من سجود الكواكب و الشمس و القمر الى عصر الخمر و حمل الخبز فوق الرأس الى بقرات الملك و سنبلاته.. فكلها جاءت كمشاهد تصويرية و ليس فيها أي إخبار عن أي شيء. إلا أن تأويلات يوسف جاءت معاكسة لتلك المشاهد.. فتأويلاته كانت إخبارية في الطبع ، تخبر المعنيين بأحداث سوف تقع (أو لها دلالات الحدوث أي على وشك) أي أن تأويلات يوسف جاءت كأنها ضرب أو تكهن بالغيب. ولكننا كمسلمين لله عزوجل ننفي أن يمتلك أي شخص علما بالغيب خلا أن يكون هذا الشخص قد أطلعه الله عليه (و بكميات محددة) - إن قرءاة سورة يوسف كلها لا تظهر لنا أن الله اختص يوسف بأي علم غيبي ، فجميع الايات التي تشير الى ما منّ الله به على يوسف تنحصر في تعليمه تأويل الاحاديث. بل إن حادثة النسوة تبين أن يوسف نفسه لم يكن يعلم الغيب حين قال (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ «33»)يوسف – مما يدل أنه لو علم أن الله سيصرف عنه كيدهن لما ورد منه هكذا خطاب الى رب العالمين.
إذن العلم الذي اوتيه يوسف عليه السلام لم يكن علما غيبيا ... على عكس قصة العبد الصالح مع موسى عليه السلام ، إذا قال له (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا «82» ) كهف – لاحظ قوله (أراد ربك) فبين أن كل ما فعله كان مأمورا به من عند الله و داخل في الغيبيات التي لا يعلمها الا الله هذا بالاضافة الى أن ما قام به العبد الصالح كانت أفعالا و ليس تفسيرات لكلام أو أحاديث (إلا لاحقا ليبين يموسى المغزى). أما يوسف عليه السلام.. فالموضوع مختلف – إذ أنه طوال قصة يوسف لم يخبر الله أنه كان يوحي أو يأمر يوسف بقول ما كان يقول عند تأويل الاحاديث.. بل أشار أن الله أعطاه علما هو في جوهره قائم على تأويل الكلام و المشاهد المذكورة امامه. و الحقيقة أن الحديث في هذا الاتجاه قد يطول: إذ أننا من الممكن أن نعقد مقارنة بين ما يحدث في العلم الحديث و ما قام به يوسف. فبالعلم الحديث نستطيع أن "نتنبأ" ما يمكن أن يحدث لاحقا لبعض الانظمة ابتداءاً من معطيات و قوانين مثبته. و هذا هو مربط الفرس هنا – فإنه من الممكن جدا أن نشبه ما قام به يوسف بأنه استنباط لأحداث معينة (سوف تحدث لاحقا) بناءا على معطيات (وقوانين) معينة – و هذا يمكن اعتباره (من العلم الذي علمه الله ليوسف و أراد الله أن يطلعنا عليه (أو على بعضه) من خلال إفراد قصة كاملة متكاملة في سورة واحدة.
إذن و بناءا على ما قدمنا ، و بناءا على المشابهة بين تأويل الاحاديث في قصة يوسف و بين إشارة الله عزوجل لتأويل آيات القرءان - نستطيع القول أن المنهج (أو العلم) الذي اتبعه يوسف و ظهر لنا جليا في القرءان الكريم ، و الذي به تم تأويل أحاديث (هي جزء مكتوب من القرءان) - يمكن استخدامه كأساس نظري نبني عليه طرقا و علما قد يخدمنا في فهم القرءان فهما آخر، و سيكون هذا العلم مثار تفكير لنا و محفزا لفهم كلمات الله في كتابه العزيز. و الحقيقة أن قضية تأويل القرءان لها أبعاد تاريخية .. فالدكتور أحمد صبحي منصور قد ذكر في مقال له موضوع التأويل عند بعض الشيعة ، و لكن المطروح هنا فيه اختلاف جذري عن أولئك القوم الذين يستندون في معظم أقوالهم الى أحاديث البشر (مما أسند للنبي محمد أو علي أو غيرهم رحمهم الله) لتأويل كلام رب العالمين- مما يؤدي (بالضرورة) الى انحراف بين وواضح (بل في بعض الاحيان سفاهة) في ما يذهبون إليه.
و من جهة أخرى فإن بعض الايات تشير (أو قد توحي لنا) أن تأويل القرءان لا يلعمه إلا الله كقوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ )7/آل عمران. أو أن تأويل القرءان هو حدث نهائي فاصل قاصم بحيث أنه يقيم الحجة على كل من انكر و كفر بالله و برسله كقوله (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «52» هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ «53» )أعراف ، و الحقيقة أن هذه الايات قد لا تعطل ما نظرنا فيه من تأويل القرءان. فنحن نعلم أن كتاب أو كلمات الله فيها من المعاني ما لا حصر له لقوله (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) 109/كهف. فهذا قد يشير أن ما نطبقه نحن من مقدار علمنا بتأويل القرءان قد لا يوصلنا الى الاحاطة التامة بمعاني كلمات الله ، وهذا منطقي جدا ، إذ لا يمكن أن يحيط البشر بجميع تفاصيل ما أعطاهم الله. و لك أن تضرب بالعلم الحديث مثلا لذلك ، فمهما بلغنا أو أوتينا من علوم (وهي جدا كثيرة و جمة) فإنه سوف تبقى قليلة مصداقا لقوله تعالى. إلا ان البشرية ما تفتأ تحاول التقدم و الابحار نحو المزيد من فهم هذا الوجود.


اجمالي القراءات 12606

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (4)
1   تعليق بواسطة   احمد شعبان     في   الإثنين ١٧ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[18370]

الأستاذ الفاضل / محمود دويكات

لقد قرأت مقالكم بإهتمام بالغ ، وأتفق معكم في كل كلمة منها ، ولو أن لي تحفظ بسيط على موضوع الخضر ، وهذا ليس هاما للمقالة .


ومن هنا يا أخي لابد لنا من إتباع المناهج العلمية حتى نصل إلى ما نصبوا إليه من معرفة لمراد الله قدر استطاعتنا ، وهذا هو أقل الواجبات الملقاة على عاتق هذا الموقع المبارك .


والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .


2   تعليق بواسطة   محمود دويكات     في   الثلاثاء ١٨ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[18515]

الاستاذ الكريم أحمد شعبان

جزاك الله خيرا و فقنا الله و اياكم الى ما فيه خير و نحو محاول وضع منهجية علمية تطبيقة يكون القرءان الكريم بآياته هو مادته التجريبية لا بد من وجود مبدأ نظرى موحد يشمل ما يذهب اليه معظم الباحثون في هذا الموقع.. وهذا ما نحاول فعله .


3   تعليق بواسطة   زهير قوطرش     في   الأربعاء ١٩ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[18531]

الأخ محمود

حياك الله على هذه المقالة التي نقلتنا  فعلاً  خطوات اتجاه  التعامل مع منهجية علمية تطبيقة ،وكون القرآن  الكريم غني بهذه الكنوز ،فلا بد لنا من الاجتهاد ، واستخدام المناهج العلمية كما قال أخي أحمد شعبان جزاه الله خيرا .وأضيف أن المناهج العلمية والانسانية التي توصلت إليها البشرية بغض النظر عن الدين ،هي غنية بأدواتها المعرفية و التجربية التي يمكننا أيضا الاستفادة منها.، وفي المقالة ،ربطت مابين تأويل الاحاديث، وااتنبؤات العلمية الحديثة ،ألا تعتقدعي أن التنبؤات العلمية ،تعتمد كما ذكرت انت مبدأ المقدمات والمسلمات ومن ثم تعتمد الطرق التجريبية، لكن تأويل الحديث... اليس له علاقة بالحكمة ايضا ،التي يمنحها الله عز وجل لبعض عباده ،وكأن هذه الحكمة توازي الخير الكثير.....وشكراً


4   تعليق بواسطة   محمود دويكات     في   السبت ٢٢ - مارس - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[18716]

الاخ زهير قوطرش

أستاذي العزيز أعتقد أنك ترى أننا نحاول الوصول الى اوتوماتيكية البحث ي كتاب وآيات الله وفق منهج علمي تجريبي محدد وواضح المعالم بحيث نقلل قدر الامكان مساحات الاختلاف الناشئة عادة من تصادم وجهات النظر المختلفة .. و أقول تجريبي نعم ! مجاله ايات القرآن تماما كما يجرب العلماء نظرياتهم ا لتي مجالها المواد و الاشياء...


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2007-02-04
مقالات منشورة : 36
اجمالي القراءات : 958,805
تعليقات له : 775
تعليقات عليه : 588
بلد الميلاد : فلسطين
بلد الاقامة : United State