عمليات حماس "الفدائية" في مصر
لأسباب محض مهنية، عصرت على نفسي كل ما تيسر من حبات الليمون، حتى أتمكن من متابعة تغطية التلفزيون الحكومي المصري لوقائع "غزوة حماس" للأراضي المصرية، والتي أسفرت عن مقتل وإصابة عشرات الضباط والجنود والمواطنين المصريين، ناهيك عن تصرفات صغيرة أخرى لا تخلو من مغزى كرفع علم حماس على إحدى المنشآت الرسمية المصرية، فضلاً عن إغراق البلاد بملايين الدولارات الزائفة، وما أعلنته أجهزة الأمن المصرية من القبض على بعض الفلسطينيين وبحوزتهم أسلحة ومتفجرات، قائلة إنهم كانوا يخططون لارتكاب عمليات إرهابية في منتجعات سياحية في سيناء.
أما المؤسف حقاً في هذا السياق، فهو أن نشرات كافة محطات التلفزيون الحكومي المصري واصلت إصرارها على وصف عملية "ديمونة" الأخيرة بالفدائية، وخلعت على منفذيها صفة الفدائيين، بينما هؤلاء أنفسهم هم الذين انتهكوا حدود مصر، وأطلقوا الرصاص على جنودها، واستأسدوا على أبنائها المسالمين، فيما لا يجرؤ أي منهم على مجرد الاقتراب من الحدود الأردنية، ولن أقول المستوطنات الإسرائيلية.
ويترتب على وصف الإعلام الرسمي المصري هؤلاء الانتحاريين بالفدائيين نتيجة منطقية، فحتى نتسق مع أنفسنا ولا نبدو كمن يكيل بمكيالين، فإنه ينبغي علينا التسليم بأن مهاجمة ميليشيات حماس لحدود مصر وجنودها هي "عمليات فدائية" أيضاً، بل وعلى المصريين أن يباركوها ويتبرعوا لها، لأن من يفجر قنبلة بين مدنيين في حافلة أو مطعم، ولو كان في إسرائيل، هو نفسه من قد يفجرها في شرم الشيخ أو نويبع، وعادة يجد القتلة ما يكفيهم من المبررات لتسويغ ممارساتهم، فهي تارة قومية لتحرير الوطن وأخرى إسلامية لإعلاء كلمة الله في الأرض، ودائماً يجدون من يصفق لهم، أو حتى يلزم الصمت إيثاراً للسلامة.
وإذا سلمنا جدلاً بقيمة الخطاب الإنشائي، سواء أطلقه متعصبون إسلاميون أو قوميون فاشيون يتحدثون جميعاً بدرجات متفاوتة عن قدر مصر ومسؤوليتها التاريخية تجاه الإخوة الفلسطينيين، وما يترتب على هذا من وجوب الاستهانة بأي عدوان حقيقي أو حتى رمزي على مصر، بدءاً من ضرب وزير خارجيتها السابق بالأحذية داخل حرم الأقصى، وصولاً إلى البنادق التي ضلت طريقها لصدور الجنود المصريين الذين خاضوا الحروب ضد إسرائيل دفاعاً عن القضية الفلسطينية، فهل يشفع هذا للمصريين لدى المجاهدين الأشاوس في غزة فلا يعاودون مهاجمة حدودنا وجنودنا ولا يتهمون مصر بالتخاذل والتآمر لبيع القضية؟
.....
ولا يجرؤ عاقل على الوعد بأن هذه هي المرة الأخيرة التي ينطلق فيها الرصاص الفلسطيني صوب الجنود المصريين، خاصة في ظل رضوخ صنّاع القرار في مصر لابتزاز الغوغاء، التي يحركها تحالف الفاشيتين القومية والدينية، فمراراً خضعت مصر الرسمية للإرهاب الفكري من قبل وكلاء هذا الخطاب الديماجوجي، فتكتفي بإصدار تصريحات إبراء الذمة وبيانات الشجب الإنشائية، كأن من قتلوا وأصيبوا مجرد سحالي في صحراء سيناء وليسوا مواطنين وأرباب أسر ثكلتهم، وأطفال أصبحوا يتامى، بينما لا يكف من خلعوا برقع الحياء من القومجية والإسلامجية عن ترديد مزامير الشيطان والجعجعة عبر الفضائيات عن "الأضية" والخطاب المتبجح عن العلاقات التاريخية، وكيف أنها لن تتأثر حتى لو قتل مليون مصري، أو ضرب وزير خارجيتها بالنعال، أو هاجمت ميليشيات القسام الحدود المصرية، وأمطرت جنودها بالرصاص، فهذه مجرد تفاصيل لن يتوقف أمامها المفكرون القوميون، ولا المجاهدون الأشاوس أصحاب الرسالات المزعومة.
ومع ذلك فلا بأس، تعالوا نقلب السؤال: ماذا لو كان هؤلاء الضحايا على معبر رفح هم من الفلسطينيين، الذين قتلوا أو أصيبوا برصاص جنود مصريين؟
وهنا.. دعونا نواصل المكاشفة حتى النهاية، لأن إهالة التراب على الجراح لا يشفيها، بل هو مجرد مخدر ربما يعفي المريض من الإحساس بالألم، غير أنه لا يعالج المرض من جذوره بالتعامل مع مسبباته الحقيقية، لهذا دعونا نعيد ترتيب بعض الحقائق، لنرى إلى أي نتيجة ستقودنا.
.....
مرة أخرى، فإن الحقيقة الثابتة تاريخياً أن الشعب المصري منذ أكثر من عشرين قرناً لم يعرف الحروب إلا عبر بوابته الشرقية، فعلى الرغم من بعض الخلافات والأزمات التي قد تبرز وتخبو بين الحين والآخر في الحدود الغربية والجنوبية، لكن الأمر لم يصل أبداً طيلة تاريخ مصر الحديث إلى حد خوض الحروب النظامية على هاتين الجبهتين.
ثمة حقيقة أخرى مفادها أنه لا ينبغي الاطمئنان للصلة المريبة ببين أحداث غزة وما قد يحدث في مصر، فليس مستبعداً أن يكون "بروفة مبكرة"، لسيناريو فوضى وعنف عشوائي تقوده التيارات الدينية، تقفز خلاله على مقاليد السلطة، خاصة في ظل تنامي المد الديني المهووس في البلاد، الذي يشكل عنصراً مشجعاً ومحرضاً، ولو راجعنا كيف نظمت جماعة "الإخوان المسلمين" عشرات المظاهرات في طول البلاد وعرضها قبيل ساعات من غزوة ربيبتها "حماس" على رفح، لنكتشف بساطة أن هناك تنسيقاً وترتيبات واضحة، لامجال لنظرية المؤامرة في تصورها، خاصة وأن منطلقات حماس غيرها من الجماعات واحدة.
إذن.. فما العمل؟
هل ننصح مثلاً بأن تغسل مصر يديها من المسألة الفلسطينية برمتها، وتدع مسألة غزة لأهلها الأدرى بشعابها، وتضرب سياجاً من الألغام على حدودها، لتنكفئ على ذاتها وهمومها الداخلية وهي بالمناسبة ليست قليلة، كما يذهب إلى ذلك ملايين البسطاء من المصريين الذين استمع إليهم في محيطي الاجتماعي.
وبتقديري المتواضع فلا أرى ذلك صواباً، لأن مسألة الحدود تدخل في صلب الأمن القومي، إلا أن هذا لا يرتب على مصر التزامات أكثر من أصحاب الشأن أنفسهم، وكي يتضح الأمر دعونا أولاً نتوقف عن المزايدة على وكلاء الفاشيتين الإسلاموية والقومجية، فلا نخضع لابتزاز الدهماء، لأن كوارث كثيرة بانتظارنا نتيجة الانسياق وراء ذلك، لعل أبسطها ذلك الانتهاك الذي وصل إلى حد "الغزو الحمساوي" لحدود مصر وقد رحب به أؤلئك الذين هللوا لانقلاب غزة، وهم أنفسم الذين سيهللون يوم تسطو فيه أم الجماعات "الإخوان" على أقدار البلاد والعباد في لحظة عبثية، نبتهل إلى الله تعالى أن يخيب الظنون ولا تأتي أبداً.
والله المستعان
اجمالي القراءات
11682