الهيمنة الذاتية والموضوعية في الحديث النبوي
تختلف طرق الباحثين في التراث الإسلامي في التعامل مع الأحاديث لفريقين رئيسيين، الأول: يراها مجرد أقوال بشرية تصيب وتخطئ لا تصلح أن تكون مصدرا للشريعة بحيالها، والثاني: يراها أقوال معصومة صدرت من وحي إلهي على لسان النبي، توجد فرق أخرى فرعية تحاكي هذه الأحاديث فلسفيا وعلميا ونصيا وفقيها لكن كلها تندرج تحت مفهوم هذين الفريقين.
ما يهمنا في هذا المقال هو الفريق الثاني، حيث ولعصمة النص النبوي لديهم جعلوه شارحا للقرآن، باعتبار أن الله قد أوحى إلى النبي قرآنه ولم يفصل فيه من الأمور الحياتية الهامة للناس ما يغنيهم عن الشرح، ومن تلك الحاجة جاءت نصوص الأحاديث النبوية (تشرح القرآن) بالشكل الذي تصبح فيه شريعة الله واضحة..
إلى هنا هذا الفريق لم يعتد بقدسية الأحاديث للحد الذي تغلب فيه القرآن أو تنفي أمور عقلية واضحة، حيث أن لفظ (الشرح) موهم بشكل كبير للنفس، إذ انطباعه الأول يعني أن الأحاديث هي المدخل والوسيط الإنساني بين القرآن والناس، ومن هذا المدخل يستحيل أن يخرج فهم القرآن بعيدا عن الحديث، وهذا التفسير عندي أسميه (بالهيمنة الموضوعية) للنص النبوي ، حيث يتعلق تأثيره بذكاء النص وحركته المستمرة لمحاكاة بعض شئون الحياه، إضافة إلى تعزيز قدسية القرآن كنص إلهي (علوي) يجب بحثه بطرق شرح مختلفة.
ولكن ما يُثير الشُبَه عندي أن الهيمنة الموضوعية لن تظل هكذا في أنفس المسلمين، بمعنى أنها تتطور إلى (هيمنة ذاتية) باعتبار قدسية النص النبوي لذاته ، أي يصبح الحديث مهيمنا لمجرد ذكره ملحقا بكلمة "شريف" أو "نبوي" أو "قدسي" شئ أقرب للبلطجي الذي فرض هيمنته على القرية بقوته وذكاءه (هيمنة موضوعية) ثم وبعد طول زمن تلك السيطرة أصبح مجرد ذِكر اسمه داعيا للخوف عند الناس وداعيا للتبجيل والاحترام عند فئة تعاني من عقدة استكهولهم أو داعيا للنفاق عند أرباب المصالح..(هيمنة ذاتية)
أرى أن الحديث النبوي مر بنفس هذه المراحل التطورية، حين بدأ مجرد شرح وتفسير للقرآن لم يكن وقتها حصل على تلك القدسية في النفوس كما هو عليه الآن، فالشروح والتفاسير هي اجتهادات فقهية وعقلية في الأخير، وفي هذا الزمن لم يُسجّل إنكار سلطوي على المجتهدين برأيهم كما هو الحال في القرن الثاني الهجري، حين ظهر ثلاثة من أعظم علماء الفقه الإسلامي " أبو حنيفة ومالك والليث بن سعد" حينها كانت هيمنة الحديث موضوعية ستأخذ شكلها التطوري بعد ذلك في عصر الشافعي..
جاء الشافعي ونقل الحديث لرتبة أخرى - تأثرا من هيمنته الموضوعية كما قلنا - فأصدر فتواه الشهيرة بأن السُنّة هي المصدر الثاني للتشريع بعد كتاب الله، وبالتالي انتقلت كتب الحديث من كونها مجرد شروح واجتهادات إلى أصل ديني لسبق هيمنة الموضوع الحديثي على مسلمي هذا الزمان، وقلت مسلمين باعتبار عدم تسجيل أي اعتراضات من خصوم الشافعي على تلك الفتوى خصوصا من الأحناف والمعتزلة، صحيح صنّف بعضهم لرد الأحاديث وبعض العقائد لكن المبدأ نفسه لم يتكلموا فيه..بإشارة زمكانية تصلنا من الشرق الأوسط حينها أن الناس تعارفوا على الفتوى واجتمعوا عليها للحد الذي رأينا الأحناف والمعتزلة نفسهم يشتغلون بعلم الحديث كونه أصلا دينيا.
التاريخ لم يسجل سوى محاولة واحدة اعتراضية وهي من الإمام "إبراهيم بن سيّار النظّام" المعتزلي في رسالته المهمة عن التواتر، فهو لكي يرد على فتوى الشافعي ولتَبصّرهِ خطر ما آل إليه فقه المسلمين رأى أن السُنّة جميعها لا تصلح لأن تكون مصدرا للتشريع حتى بعد القرآن، فهي مجرد اجتهاد بشري يؤخذ منه ويرد، ولكي يصبح لمقالته شأن علمي أسهب في نقد التواتر كما عرفه علماء الحديث في زمانه، باعتبار أن الحديث المتواتر هو بمنزلة القرآن يؤخذ به كوحي رغم أصله البشري..
قامت فكرة النظّام على أن أغلب الأخبار عن النبي هي آحاد لا توجِب العلم واليقين، وما بقي لا يُطمئن له كمّيا ..بمعنى أنه لا يكفي لتحقيق مبدأ الشرح والتفسير للقرآن، إذ الشرح والتفسير متحقق في الآحاد وليس في المتواتر، هذا من جهة، من جهة أخرى أن التواتر يعني ثبوت العلاقة بين الخَبَر والمُخبَر عنه، وهذا أمر يستحيل التحقق منه للفارق الزمني الكبير بينهم وبين عصر النبي ..حوالي 200 سنة، فكيف يثبتون قول النبي أو فعله يقينا وهم لم يشهدوا ذلك الزمن؟..ولأن كل من كان فيه ماتوا لم يعد منهم شاهد واحد على قيد الحياه فيُحتمل تسلل الكذب أيضا للخبر المتواتر.
ليس هذا فقط..طعن النظّام أيضا في "عدالة الصحابة" وقال كما نقل الرازي في المحصول " رأينا بعض الصحابة يقدح في البعض، وذلك يقتضي توجه القدح إما في القادح لو كان كاذبا، أو في المقدوح لو كان صادقا"..(المحصول 2/ 154) وهذه أقوى حجة وجهت ضد عدالة الصحابة بالمطلق، بيد أن كل الردود عليها بعد ذلك لم تفارق أثر المنقول ولم ترد صحيح المعقول.
خصوم النظّام حاولوا التقليل من كلامه برفع رتبة الآحاد للعلم واليقين شأنه كشأن المتواتر، لأن حجة الرجل كانت أقوى عليهم لأغلبية الواحد في كل صنوف الأخبار، وبالتالي لو صدق النظّام سينسف مذهبهم بالكلية..وتبقى فتوى الشافعي حبر على ورق، أما التواتر وعدالة الصحابة فقد شنعوا على رأيه لعلاقة الثانية بالسياسة والخلاف الشهير مع الشيعة.
إذن ليقضي النظّام على هيمنة الحديث الموضوعية لجأ لثلاثة وسائل:
الأولى: ضرب قاعدة العلم بخبر الواحد كسبيل له لضرب حجية التواتر ، وإعادة الأحاديث كما كانت مجرد شروح وتفاسير واجتهادات فقهية خاصة، والغريب أن رأي النظّام هذا أصبح رأي عموم المسلمين بعده في جميع فرق السنة والشيعة، اتفق جمهورهم على أن خبر الواحد يوجب الظن والاحتمال لخطورة إقرار العكس على مذهبهم أيضا، فلو جاء خصومهم بخبر آحاد لن تُترَك لهم الفرصة للدفاع والرد اجتهادا، بل يجب عليهم أن يُسلّموا لمن قال ولو علموا أنه كذاب..
الثانية: ضرب التواتر نفسه بعدم الشهادة الحسية الموجِبة لليقين، وإمكانية تسلل الكذب له عقليا، ولأنه جزء من مجموع كمّي بالأساس رأى الفقهاء أن المجموع واحد وعليه فالتواتر خرج من رحم الواحد فما الذي يمنع أنه واحد..
الثالثة: ضرب مبدأ عدالة الصحابة لقيام علم الحديث عليه جملة وتفصيلا، فالمحدثون ينظرون في كل طبقات السند حتى إذا وصلت إلى صحابي توقفوا عن النظر، وهذا فاسد عقليا لإمكان كذب الصحابة لسبق عراكهم وذمّهم وقدحهم في أنفسهم، أيضا كما في حديث انشقاق القمر لابن مسعود أنكره النَظّام لعدم الإيمان بالمعجزات الإلهية المروية على لسان أحد الصحابة، بمعنى أن النَظّام يرى في حال وصل رواية انشقاق القمر لابن مسعود فهو كذاب ، لأن الله لن يشق له القمر وحده، فإذا كان قد انشق سيراه العالم وتبقى آية مؤكدة شاهدة للإسلام من الهند حتى بلاد البربر.
محاولات النظّام هذه كانت أكبر ضربة وجهت لفتوى الشافعي وأقوى معارضة للتطور الأول لمنزلة الحديث، فكما قلنا أن المرحلة الأولى للأحاديث ما قبل الشافعي كانت مجرد شروح وتفاسير لا توجِب العلم، وما بعده أصبحت موجِبة..وهذا له شأن كبير في نقل هيمنة الحديث من موضوعية إلى ذاتية، للحد الذي قد يتطور فيه الحديث ليهيمن بذاته ويصبح مساويا للقرآن بعد ذلك أو يفوقه منزلة..
وبالفعل..ما تخوّف منه النظّام حصل، تم اعتبار السنة وحي بلسان المُخبَر عنه الذي لا ينطق عن الهوي، والذي أمر المسلمين باتباعه في نص القرآن، ثم حصل التطور الثالث والأخطر بهيمنة الحديث نفسه على القرآن بقواعد المحدثين الشهيرة (السنة قاضية على الكتاب) و (يُنسخ القرآن بالسنة) ثم جاءت بعد ذلك هجمات الناسخ والمنسوخ لتلغي أكثر الآيات الخلافية وعدها من المتشابهات ليحل محلها الحديث النبوي كأضخم عملية تزييف للوعي الإسلامي حصلت في تاريخه، كانت أصلها مجرد هيمنة موضوعية للأحاديث لم ينتبه البعض لخطورتها ولوازمها في المستقبل كما انتبه النظّام.
ولشرح مسألة الهيمنة الذاتية والموضوعية مرة أخرى، هذا يشبه وجود الأشياء، فوجود الكون ما بين ذاتي وموضوعي، الوجود الذاتي هو ما نرصده بأدمغتنا دون جهد وإرادة من الشئ كالأحجار في الصحراء والمياه في البحار والسماء في الأعلى، لا تأتي إلينا الأمواج والجبال فنراها، بل وعيناها في مكانها..أصبح وجودها مؤثر لذاته، وهذا يفسر إجماع البشر والكائنات الحية على هذا النوع من الوجود، بيد أنك ترى الأسود لا تسبح في الموج خشية الغرق لحدسها البديهي أن البحر مكان لا يلائمها، ولا تراها كذلك تقفز من أعلى الجبل لعلمها أنها ستموت..
أما الهيمنة الموضوعية فهي متعلقة بذكاء وإرادة الشئ نفسه، كالسحاب في السماء، هذا لو لم يتحرك لن نراه، وليس المقصود بالذكاء هو الوعي والتفكير، بل هو الشئ المتغير والمتحرك الخاضع للصيرورة الحسية، لأن هناك صيرورة أخرى لا نعيها بحواسنا هي الموجود لذاته كالجبال والمياه، فالجبل قد ينشق فيتحول إلى عدة تلال وهضاب، بينما حركات الزلازل يمكن أن تُحدِث انشقاقات وتكتلات في القشرة الأرضية تصنع بها جبال جديدة..
ومن أمثلة الهيمنة الموضوعية هو (الله) في الأديان، لو لم يكن الله مُريدا ما استدل الناس على ألوهيته، ولو لم يكن خافيا على الحس ما اختلف الناس في أمره، إذن هنا نوع من الذكاء خاص بوجود الله في أذهان البشر، إنما حقيقة وجوده عند المؤمنين هي ذاتية بل يوصف بأنه (واجب الوجود) أي لا يوجد شئ إلا به، وما عداه ممكن، من هنا يتمثل لدينا حقيقة إيمانية، أن وجود الله في أذهان المؤمنين هو وجود موضوعي استدلوا به لإثبات وجوده الذاتي، وهذا التطور لأنواع الوجود هو ما قصدته بتطور هيمنة الحديث في أذهان المؤمنين به، فهو يبدأ موضوعي ثم ينتقل ليصبح ذاتيا.
هذا لم يتوفر بالمناسبة للقرآن لأسباب تتعلق بوجوده الذاتي وصفيا مع أول لحظة بدأ فيها، لأن الرسول وصف المنزّل إليه بأنه وحي، إذن هو رسالة من واجب الوجود يجب أن تكون ذاتية الوجود أيضا مؤثرة بنفسها، على خلاف الحديث الذي بدأ مجرد اجتهادات، بينما القرآن لم يمر بتلك المرحلة التطورية..
هذا انعكس أيضا في عقل الإنسان بتصور فلسفاته وتقسيمها لذاتية وموضوعية، وخصوصا النوع المثالي، فالفلسفة المثالية انقسمت إلى مثالية ذاتية وأخرى موضوعية، الذاتية قالت: أن وجود الأشياء في الطبيعة متعلق بذاتها دون إدراك وذكاء منها، فالكون والمجرات مثلا هذا موجود، لكن إدراكنا له متعلق بالذات النفسية والتصورات الشخصية للفرد، وقد نفى هذا النوع إمكانية الوجود الموضوعي للأشياء خارج الذهن، بمعنى أنه لا يمكن معرفة أي وجود موضوعي بما فيه الله والأديان، وأشهر من آمن بهذه المثالية هو كانط..
أما المثالية الموضوعية قالت: بأن الوجود الحقيقي لا يراه الإنسان، في حين كل ما يراه هو مجرد صور ذهنية خضعت لمؤثرات جعلتها مجرد صور مزيفة لعالم أكثر ذكاء، وأشهر تلك المثاليات هي مثالية أفلاطون المعروفة بالمُثُل العليا، وقد أسست الأديان في عقول الناس على تلك المثالية، بمعنى أن كل متدين في العالم هو مثالي موضوعي، وأما ما تفرع منها كتيار مكافحة الواقعية وتيار جورج بيركلي فهي اتجاهات متطرفة أسقطت الذهن في وحل إنكار البدهيات الحسية، كقول بيركلي "وجود الشئ كونه مُدرَكا"
لن أستفيض في شرح تلك الفروق الفلسفية، أحببت العروج فقط إلى مفادها لأهميتها في السياق..
يبقى أمامنا البحث في كيفية تحول الحديث من هيمنته الموضوعية إلى هيمنته الذاتية، وقد شرحنا ذلك في مثال البلطجي الذي أسس لمركزه بجهد كبير حتى أصبح مجرد ذكر اسمه يوجِب الرعب أو الاحترام، وأقول في ذلك أن الوعي المقدس أسرع في نقل صنوف الذكاء من كونها إبداع شخصي إلى إعجاز ديني، بسبب قبول ذلك الإبداع ليوافق نفس الإنسان وروحه وسريرته، بمعنى أن تحول الحديث في مرحلته التطورية الأولى حدث بنجاح الحديث النبوي في الربط بين المقدس العلوي (الله والقرآن) وبين المقدس السفلي (الحياة الدنيا)
فحياة الإنسان مقدسة كما يقدس دينه، من هنا نشأت نصوص وأحكمت قواعد إلهية تتوافق مع هذا الاتجاه ، وتقرر أن دم الإنسان أغلى من الكعبة، وأن زوال الدنيا وما فيها أهون عند الله من دم امرئ مسلم.
الرواه الأوائل ومن صدقوهم رأوا مزيجا رائعا وتكاملا غريبا بين القرآن والعقل من جهة وبين الحديث النبوي من جهة أخرى، هذا عزز فرص التطور والارتقاء الطبيعي لنصوص الحديث ليأتي الشافعي بفتوى قدسية تلك النصوص الحديثة ، وبدء عصر جديد لم تعد فيه أقوال أبو هريرة وعائشة وأنس بن مالك مجرد اجتهادات بل هي نصوص مهمة جدا لفهم الدين، وبنفس الطريقة حصل التطور الثاني ليصبح الحديث وحده مفسرا وشارحا للدين حتى خلت ألسنة الفقهاء من ذكر القرآن واستبدلوها بالحديث والروايات، إلى أن جاء التطور الأخير بهيمنة الحديث على القرآن نفسه وإخراج نصوص الوحي الأولى من طبيعتها الذاتية التي أنزلت بها إلى نصوص ثانوية تعطي هوامش وإشارات لكلام الأئمة.
لكن هذا لا يعني أن المحدثين نجحوا في الربط بين مقدسهم العلوي والسفلي واقعيا، بيد أن هناك مذاهب مخالفة وأئمة وأديان وفلسفات أنكرت عليهم ذلك بالكلية، فقط ساعدهم السلطان السياسي بالربط العاطفي أكثر ومقاومة إغراءات المخالفين التي كانت قوية للغاية، فتأثير السياسة على الدين كبير بخلق تيار موالي هو الأنفذ في المجتمع، يصبح بعد ذلك هذا التيار مركز قوة يجمع بين مصالح الأمير وهوى الشعب في التدين، وهذا ما حصل في عصر التدوين بالتحالف الشهير بين الخليفة المتوكل وكلا من أحمد بن حنبل والبخاري..
أي أن التطور الذي حدث لهيمنة الحديث النبوي تأثر بالسياسة فزاد من معدل تطوره ليتحول في فترة وجيزة – أقل من 100 عام- من مجرد اجتهاد بشري إلى وحي مقدس حاكم على القرآن وكلام الله، وهذا ما نراه واقعا في الحياة العامة، إذ لو رأيت حاكما يدعم اتجاه ديني معين ينتشر هذا الدين فورا بفعل قوى النفوذ، ولأنه يجذب الموالين من فقهاء الدين أكثر فيساعدوه على التمكين وسرعة الانتشار، رغم أن هذا الاتجاه الديني في بدايته قد يكون مجرد لفظ أو قول أو حكمة أو هرطقة أو أي شئ بعيدا عن (الإحكام العلمي الدقيق) فورا بمساهمة السلطة في ترسيخه يتحول لدين جديد يخرج له مئات المناظرين والمنافحين.
اجمالي القراءات
4238