الصراع بين الأصولية و التنوير

مولود مدي Ýí 2017-05-21


لا يحدث التغيير في الأفكار والأمم حتى تمر بمراحلها الحرجة، لحظات الاصطدام بالواقع , حين يعجز الفكر السائد عن تقديم أي شيء نافع بل يصبح هو القائد إلى الأنفاق المظلمة و الفكر المقصود هنا هو الفكر الديني الاسلامي الذي قيّد العقل المسلم، وفي هذه اللحظات فقط يحين التغيير عن طريق أفراد يحملون من التضحية والشجاعة ما يكفي إلى أن يقدموا أرواحهم وطمأنينتهم من أجل أفكارهم,  هم أفراد ضاقوا ذرعا بما يحصل حاليا من الفكر الديني الذي حوّل الظلم الاجتماعي و الاستبداد و التخلف الى شريعة, فأخذوا على عاتقهم مهمة النقد و استخلاص السلبيات من هذا الفكر وطرحوا البدائل, لقد رفضوا جملة و تفصيلا الفكر الذي لا يتطابق مع الواقع, لقد حطّموا اكذوبة " الثوابت '', و التي أفرزت لنا الانحطاط و التخلف, ورفضو هذا الفكر لأنه لا يتطابق مع العقل أيضا فجعل العقل الانساني في أحط المراتب, و هؤلاء الأفراد تعرضوا لأزمات حادة مع واقعهم أوصلتهم لـ " نقطة حرجة "، نقطة حدية تفرض عليهم خيارين لا ثالث لهما ..  إما أن يفكروا وإما أن ينتحروا ..  في محيط الفكر الإسلامي ورغم اللحظات العسيرة التي يمر بها الإنسان العربي إلا أن اللحظة الحرجة لم تحدث بعد, ان الصراع بين العقل و النص و بين الحقيقة و الخرافة و بين الأصولية و الحداثة لا زال صراعا خفيّا لحد الأن, رغم أن الواقع يقول أن الأصولية هي التي تسيطر على المشهد و حتى موازين القوى تصبّ في صالحها, ففي كل مرة يظهر مفكّر يحاول أن يكشف علاقة الفكر الديني الاسلامي  بأوضاعنا المتخلفة, تتم محاربته و تهديد حريّته و حياته فيضطر اما الى ممارسة " التقية " أو الاستسلام, فلو وجد المفكّرون المسلمون الدعم من شعوبهم لما رأينا المجتمعات المسلمة تسكت عن سجن أو قتل مفكّر بشعار الدين, وبل تخرج للمطالبة برأسه و التشفي من قتله و اغتياله.

الفكر الإسلامي يعاني من "الجمود التاريخي" الذي يقف في وجه الأسئلة الحقيقية وعملية المراجعة الجذرية, فهذا الجمود هو بسبب التناقض بين تأويل النص والواقع زكل التطورات العلمية والسياسية والفلسفية التي جاءت بها الأزمنة الحديثة. الالتزام بالفكر الديني الاسلامي الحالي يؤدي بالمسلم إما إلى إنكار منجزات الحداثة من ديمقراطية و مدنية و تكنولوجيا بل الحقد عليها وإعلان الحرب عليها  كما يفعل مشايخ المسلمين حاليا و سابقا, وإما إلى التبرؤ من الفكر نفسه والشعور بعدئذ بالإحساس الرهيب بالخطيئة والذنب,  وهكذا يقع المسلم في تناقض قاتل لا مخرج منه. والحل لن يكون إلا بالتأويل العقلاني للنصوص القرأنية , و الاعتراف الذي لا رجعة فيه بعدم صلاحية الكثير من الأراء الفقهية الحالية التي تعادي مفاهيم الحريّة الشخصية و التي تكرّس الاستبداد السياسي, التي ما هي الا امتداد لفقه و فقهاء قرون الجهل و التعصّب.

لو عرف الفقهاء المسلمون أهمية الزمان و المكان في صياغتهم للفكر الديني الاسلامي لما حدث ما يحدث الأن, كان عليهم اجراء مقارنة بين الفكر الديني الذي صاغه المسلمون في القرن الأول هجري - و الذي يجتهدون في الدفاع عنه –  و الظروف التي ظهر فيها, وبين الظروف الحالية التي نعيشها و التي لا يمكن مقارنتها بالماضي و أن يعرفوا ما الذي تغيّر ولم يتغير ..  لم يعرفوا أن الزمن قد تطوّر و أن احتكارهم للدين لن يطول, لم يتوقعوا أن تحدث ثورة في عالم المعلومات و يصبح كل شيء متاح للمسلم, لم يتوقعوا أن يظهر من ينتقد هذا الفقه و هذا الفكر و هذا الموروث و يطالب بإخضاعه للتدقيق و التمحيص, لم يتوقعوا أن يظهر مفكّرين من يجادلونهم في صحة " البخاري " و " مسلم " و من يرفض أحاديثهما ويطالب بإنهاء سيطرة مصنّفات الأحاديث على الفقه الاسلامي, لم يتوقّعوا أن يظهر مسلم يتّهم " ابن حنبل " و " الأوزاعي " بـالاعلمية و الاختيارية في الفقه.

 ان الخروج من الفهم الحرفي للنصوص التشريعية و التي تعيد الدين الى الوراء عكس جعله يسير الى الأمام هو شرط لازم للنهوض والتطور والحداثة, و هذا الخروج لا يأتي الا بتحرير العقل, لأن الفهم الأصولي للدين باختصار يقف عقبة أمام الإنسان في القيام بدور الإبداع والنهوض بالحجة المضحكة " البدعة " .. هذا الفهم الأصولي لديه موقف متصلّب من الحرية بأنواعها وحرية الفكر بشكل خاص, فيراها شرّ كلها, وهذا طبيعي, لأن الأصولية التي نشأت في عصر الامبراطوريات الاسلامية و بالضبط في العصر العباسي الثاني عصر كبت الحريّات و تكفير العلم, .. هي نتاج انغلاق الفقهاء على أنفسهم,  فأصبح اعمال العقل و الانفتاح على فكر غير المسلمين الحاد, لقد عرفوا أن فلسفة الحرية عند المعتزلة متأثرة بالفلسفة اليونانية, و بما أن اليونانيين كفّار, كفّروا المعتزلة و كفّروا الفلسفة معها, و كفّروا العقل و الاجتهاد, لذا الأصولية لا تلتفت أبدا الى العلم و انما تحكم على الأخرين من خلال المعتقد بل و من خلال المذهب, فحتى غير المسلمين لم يسلموا من تكفير الأصولية لهم فأصبح من لا يكفّر المسيحي أو اليهودي أو الملحد كافرا أيضا ..  التاريخ  والواقع الإسلامي الحالي ما هو الا تكرار لتسلط الأصولية المسيحية في أوروبا ، ففولتير كان يصدر كتبه دون أن يضع اسمه عليها وكتابات هيجل في الدين لم تنشر إلا بعد موته وكانط جاءه خطاب تهديد من الملك بعد صدور كتابه "الدين في حدود مجرد العقل" قال فيه  : لقد لاحظ سموُّنا منذ زمن بمرارة وضجر ، الطريقة التي وفقَها أسرَفتم بفلسفتكم في تشويه و إحتقار الثوابت الأساسية والرسمية للكتب المقدسة و للمسيحية ، وبخاصة في كتابكم " الدين في حدود مجرد العقل " وعليه فإننا نلزمكم بضرورة تقديم تبرير فعلكم هذا ، وإن لم تفعلوا ، فينبغي أن تنتظروا منا ما لا يعجبكم ..

ان الفكر الاسلامي يعيش سباتا عميقا منذ عصر الخليفة " المتوكل " الى الأن فهذا يعني سبات لمدة ثمانية قرون, وفي عصره تم اغلاق باب الاجتهاد و تكفير كل من يأتي برأي جديد في الفقه وقال: "ما قرره الخلف لا يرفضه السلف " و هذا يعني أننا محكومين بالتقليد الى يوم الدين و هذا أمر غير معقول و منافي للفطرة الانسانية و منافي لنواميس الطبيعة, فدعمه فقهاء البلاط فقالوا ان الاجتهاد مناقض لخاتمية الشريعة وخلودها.

كثيراً مايتشدق المفكرون الإسلاميون ان للحضارة الإسلامية دور كبير في نهضة الحضارة الغربية وتقدمها الهائل اليوم سواء من ناحية الطب او الهندسة او الفيزياء او الكيمياء او الأدب العربي وعند بحثي لأول مرة عن اولئك العرب والمسلمون الذين اثروا في نهضة الحضارة الغربية تفاجئت ان جلهم قد اتهموا بالزندقة والإلحاد و المروق من الدين الإسلامي وذلك من خلال كتاباتهم وافكارهم.. فما هذا الضحك على عقول السذج من المسلمين من قبل هؤلاء المفكرون الإسلاميون ؟ ولماذا لا تذكر الحقائق كما هي لكي يدركها الناس ؟ ولصالح من تضلل عقول العامة وينكل بها هذا التنكيل البعيد عن الحقيقة !؟, فمن كفّر " ابن سينا " و " ابن رشد " ؟ انه الغزالي في كتابه “المنقذ من الضلال” ، و أكد نفس المعلومات ابن كثير في البداية و النهاية (12/43) . وقد أكد ابن عماد أن كتابه " الشفاء " ( اشتمل على فلسفة لا ينشرح لها قلب متدين /  شذرات الذهب (3/237) ) . و شيخ الاسلام ابن تيمية أكد أنه كان من الاسماعيلية الباطنية الذين ليسوا من المسلمين أو اليهود أو النصارى, و ماذا عن" ابن رشد " .. لقد نفي إلى بلاد المغرب ونكل به وأحرقت كتبه وتوفي في مراكش عن 75 عاما ونقلت جثته إلى قرطبة وبموته تفرق تلاميذه وأصدر المنصور يعقوب مرسوما بتحريم الاشتغال بالفلسفة, يحرّمون الفلسفة ثم يكذبون ويقولون لك أن الاسلام أمر بالعلم, المشكلة ليست في الاسلام و انما في كهنته, كلما ظهر عالم حقيقي ارتعبوا منه و اشتكوا به الى سيدهم السلطان.

أزعم أن اخضاع الفكر الدين و نصوصه الى المنهج العلمي,  سينتج تفكيكا للفهم الأصولي للدين وتحريرا للعقول منه وهذا نفس ما حدث في أروبا من قبل, تحرير الفكر الديني الاسلامي لا يأتي الا برد الاعتبار للانسان المسلم و ذلك بتحريره من سيطرة الفقهاء على عقله, ان تحرير عقل الانسان الأوروبي هو ما ساهم في ان يصبح على ما هو عليه اليوم, فلن تجده مثلا يتدخل في عقائد الناس أو يدعوا الى سجن من يخالفه في الفكر و العقيدة, لن تجد كهنة الدين الأرضي المسيحي يمنعون الأطباء من تشريح الجثث لاجراء التجارب عليها مثلما كانوا يفعلون في القرون الوسطى حيث كان علم التشريح كفرا عظيما.

اجمالي القراءات 7324

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2017-04-13
مقالات منشورة : 59
اجمالي القراءات : 554,109
تعليقات له : 23
تعليقات عليه : 39
بلد الميلاد : Algeria
بلد الاقامة : Algeria