قراءة في الخلاف بين مصر والسعودية
ذهبت الجماعات الإسلامية في مصر قديما إلى تكفير الدولة المصرية ، واختلفوا إما تكفير السلطة، أو الدولة ومؤسساتها معا..أو تكفير الشعب نفسه، ومنبع الخلاف في سؤال محوري هل كل من يؤيد الدولة الكافرة كافر؟..وهل الممتنع عن تأييد جماعة المؤمنين كافر؟
لم ينشغل المصريون بالإجابة عن هذه الأسئلة لأنها كانت حكرا على منظّري الجماعات دون غيرهم، وراجت في بلاط الفقهاء السعودي مثل هذه الأسئلة وخلصوا إلى أن الدولة لو طبقت شرع الله فهي مؤمنة، غير ذلك فهي كافرة، ومشهور رأي الشيخ السعودي.."ابن باز"..في تكفير القومية العربية ووصفها بالدولة الجاهلية نسبة إلى مصر، وهو رأي تبناه الشيخ سيد قطب حتى حكم على الشعب المصري كله بالكفر والعيش في زمن الجاهلية..
من هذا التاريخ بدأت حقبة الإرهاب بمصر يغذيها فتاوى شيوخ سلفيين ،وشعور جماهيري عام متأثر بصعود الصحوة الإسلامية التي أسسها الإخوان في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، وقد تأثرت هذه الحقبة أيضا بفتاوى السعوديين بتكفير جمال عبدالناصر ودولته التي وصفها الشيخ عبدالحميد كشك بأنها كانت تحارب كل من يقول لا إله إلا الله..
هذا المزاج المتحد بين السعودية والجماعات تم القضاء عليه وتشويهه في الثورة على الإخوان يونيو 2013
فما حدث في يونيو كان (زلزال) شرق أوسطي نقل الحشد الجماهيري المصري من جهة إلى أخرى تمام عكس ما كانت تريده السعودية التي روّجت لتحالف إسلامي يني يضم حلفائها الإخوان في الماضي، عدا أن فترة الملك عبدالله بن عبدالعزيز شهدت قلة تعاون أو فتور في العلاقة بين السعودية والجماعات خصوصا الإخوان، لكن في أواخر عمره وعن ضعف الملك وتأثر شديد بأحداث الربيع العربي اضطرت السعودية لدعم هذه الجماعات في سوريا والعراق..في إجراء أحيوا به العلاقة القديمة والتنسيق بين تلك الجماعات وإدارتي فيصل وسعود أبناء الملك المؤسس..
من هنا نستخلص بذرة الخلاف بين السعودية ومصر الآن
فالسعوديون نتيجة لتأثرهم بخطاب الإخوان والشعوبية الدينية والمذهبية والعرقية أعلنوا عن عدو واحد لهم وهو (إيران)، مارسوا ضده كل أشكال الازدراء والتكفير والكراهية..بل والتشنيع على حلفائه وأدواته أو حتى المتعاطفين معه..بينما مصر ترى المنطقة بشكل آخر..وهو أنه حتى لو كان لها خلاف مع إيران فهو لم يصل لدرجة العداء..بل مجرد (فتور) نتيجة أحداث قتل السادات وما سبقها من ثورة إسلامية نادت بضرورة التغيير وفق النهج الإخواني الشائع..
لكن في المحصلة نظرت مصر لعدو واحد لها بعد اتفاقية كامب ديفيد، فقبل الاتفاقية كان إسرائيل..أما الجماعات فهم أخوة بغوا علينا، لكن منذ مطلع الثمانينات نشطت الجماعات كلها ضد مصالح الدولة..كل في سياقه، فالإخوان دخلوا البرلمان وطالبوا بالشريعة، أما الجهاد والتكفير والهجرة قتلوا رجال الدولة والشرطة..بل قتلوا الشعب أيضا بعمليات فوضوية عبثية..فالإخوان حينها مثلوا دور المتسامح الذي يهدد بذراع عسكري من تحت الطاولة..بالضبط كما فعلوا بعد إسقاط مرسي، فتوسلوا بالإرهابيين في سيناء لتخويف الشعب والدولة من إفشال تجربتهم..
وبالتالي ليس أمام مصر إلا الصمود وإعلان هذا العدو بجرأة ووضوح، ونتيجة لهذا الإعلان حشدت الدولة كل مؤسساتها الفنية والسياسية والأمنية والإعلامية ضد الجماعات، وشنوا أكبر حملة موجهة لشيطنة واستعداء هذه التنظيمات الخارجة عن الدولة وعن الدين..بعدما تم استصدار فتاوى أزهرية لصالح السلطة..
وعلى هذه الروح العدائية بين الطرفين سادت مشاعر ازدراء بين المصريين وتلك الجماعات سرعان ما تم تدراكها بغزوة سلفية وهابية مركزة وعميقة جدا لاختراق الدولة..وقد نجحت هذه الغزوة بفضائيات وإعلام سلفي موازي تديره وتموله معظم دول الخليج..ليست فقط السعودية..وبعد نجاح الحملة أصبحت مصر مؤهلة لتطبيق النموذج الإسلامي الإخواني الذي ينقلها من الجاهلية القطبية إلى رحاب وسعة الإسلام..
وبعد ثورة يناير كانت هذه الجماعات قد تبلورت ووضحت فكرتها وظهرت الاتفاقات والتباينات بين بعضهم..ولم يعد أمامهم سوى تطبيق النموذج الإسلامي، ولكن لقلة بضاعة هؤلاء الفكرية غفلوا أنهم يروّجون لمشروع (مذهبي) وليس (إسلامي) كما يعتقدون، فهم عاشوا عقودا من أيام حسن البنا في حالة انغلاق تام، وتدين شعبي زائف وفقير..وما إن ظهر مشروعهم المذهبي حتى سارعت أمريكا ودول الخليج بدعمه، وتحفظت السعودية خشية أن يكون هذا النموذج هو إيراني..فالسعوديون كالإخوان لم يقرأوا الحديث كما ينبغي ونظروا إليه نظرة مذهبية ضيقة..
ونتيجة لذلك دعم الملك عبدالله بن عبدالعزيز ثورة يونيو ، لكن سرعان ما تم تدارك هذا الدعم بعد وفاة عبدالله، ليتولى الملك سلمان ويعيد كل أشكال التحالفات الماضية –روحيا وماديا- بينهم وبين الإخوان، وقد قرأ النظام المصري هذا التنسيق السعودي الإخواني لكنه كان مضطر للكذب على نفسه والتنكر كي لا يخسر حليفه السعودي الغني بالمال اللازم لبناء وحماية الدولة المصرية..
من هنا كانت بذرة الخلاف..وهو طبيعة الحشد ونوع وإسم الهدف، فالسعوديون والإخوان لهم عدو حقيقي واحد..بينما مصر لها عدو آخر مختلف تحاربه وتشيطنه منذ الثمانينات..وليست مستعدة لكسب عداوات أخرى قد تسارع بتأزيم وضعها الإقليمي والدولي..
أيام مرسي والإخوان -حتى في ظل المجلس العسكري- كان الحشد باتجاه واحد وهو (الشيعة وإيران) حتى في ظل نجاح التيار الانفتاحي في الإخوان بالتواصل مع إيران ظلت الحالة الشعبية المصرية في حالة عداء تام للشيعة وإيران لتأثر المزاج المصري بانتشار السلفيين في الشارع وتأسيسهم لأحزاب ، وقد ترجمت هذه الحالة بحوادث منها تحريض الإعلام المصري ضد الأسد، وشاعت وقتها مفاهيم.."كتائب الأسد"..أو.."حزب الله الشيعي"..و.."الخطر الإيراني في سوريا"..وحادثة أخرى بقتل زعيم الشيعة المصريين حسن شحاتة..
أما في العراق نفس الاتجاه حيث تم تصوير الجيش العراقي كجيش شيعي يقتل في السنة، ووصف جواد المالكي وقتها في الإعلام (برئيس الحكومة الشيعية) حتى مع ظهور خلايا داعش وسيطرتهم على الفلوجة وتكريت تأخر الإعلام المصري في تبصّر ما يجري وظل على ضلاله بحالة توهان غير عادية تشبه أحواله اليوم في اليمن
إلى هنا كان المزاج المصري (سياسيا وشعبيا) يوافق الهوى السعودي بإشعال المنطقة مذهبيا، ويتفق مع مصالح أمريكا بتقسيم الشرق الأوسط لكيانات عرقية ومذهبية..
لكن بثورة يونيو حدث التحول –أو الزلزال- بنقض وإهمال هذا الجانب المذهبي لجانب آخر وهو حشد المصريين تجاه (الإرهاب السني) ممثل في جماعة الإخوان المسلمين وروافدها كتنظيم القاعدة..وبعد استفحال مشكلة سوريا تم تعزيز هذا الحشد بظهور جبهة النصرة وداعش..فتيقن الشارع المصري أن عدوه الأول ليس شيعيا بل سنيا من بني جلدتهم..يتحدثون باسمهم ويلبسون لباسهم ويتصرفون كعادتهم.
هذا يثبت صحة تنبؤي وتوجهي بأن التغيير في الغالب يأتي من السلطة، والناس على أديان ملوكهم، فعندما كان لدينا مجلس عسكري ضعيف ثم حكومة إخوانية سارت البلاد نحو الحرب الطائفية بمنتهي السرعة، وعندما حدثت ثورة على هذا الوضع استعاد المصريون عافيتهم واستقلالهم..ثم تذكروا أمجاد عبدالناصر مرة أخرى بعد إهمالها والتشنيع عليها لسنوات خصوصا بعد ثورة يناير ونشاط الجماعات وكل خصوم الناصريين..
لكن على رأي المثل المصري.."الحلو ما يكملش..أخطأ السيسي خطأ عمره بالتورط في حرب اليمن ولو من الناحية المعنوية، هنا تم استعادة كل أجواء ومفردات الحرب المذهبية التي شاعت أيام المجلس العسكري والإخوان المسلمين، وكان يجب عليه التنبؤ بنتائج هذه الحرب خصوصا وأنه دخل في تحالف يضم جماعة الإخوان في اليمن المعروفة (بحزب الإصلاح) أي أن الجندي المصري في هذه الحرب حليف للإخوان والجماعات السنية التي ثار عليها في يونيو..
لكن تدارك الجيش المصري هذا الخطأ جزئيا برفض إرسال قوات برية إلى اليمن، وكما قيل أن مهمة مصر في هذه الحرب ليست قتالية، وأن القطع المصرية والطائرات غير متواجدة في الميدان العسكري ومكتفية إلى حد كبير بتواجدها في البحر، لكن يبقى الدعم السياسي والإعلامي المصري لهذه الحرب خطأ جسيم كونه يبرر جرائم السعودية وتحالفها في اليمن، ويظل على حالة الاحتقان المذهبية التي ما صدقنا أنها انتهيت بثورة يونيو..
وفي تقرير معهد واشنطن كتب هيثم حسنين نقلا عن صحيفة.."ذي هيل"..الأمريكية أن الخلاف بين السعودية ومصر أن كلاهما لا يعترف للآخر في شكل العدو، فالسعودية ترى عدوها الأول (شيعي إيراني) بينما مصر تراه (إخواني داعشي) وكل طرف لن يسلم للآخر بالشكل الذي يؤمن به، ومن نتائج ذلك أن وقفت مصر مع الأسد في سوريا والجيش في العراق، وما زالت متحفظة في اليمن خشية صعود تيار الإخوان وحزب الإصلاح حليف السعودية الأكبر في مدينة تعز..
قلت: إضافة لما ذكره هيثم أن ليبيا هي الأخرى تشكل موطن خلاف كبير بين مصر والسعودية، فالأولى تدعم حكومة بني غازي (حفتر) وليست لها تحفظات على دعمه بالسلاح، بينما الثانية تظهر محايدة..ولكن تنسق مع قطر لدعم حكومة طرابلس الإخوانية، والحجة السعودية –كما تظهر لي- أن مصلحتها الأولى في تكوين (حلف سني) لمواجهة الخطر الإيراني، وهذا لن يحدث إلا بتحالفها مع الإخوان والاستفادة من ثقلهم الكبير في الشارعين العربي والإسلامي، بدلالة انفتاح القيادة السعودية الحالية على حركة حماس وعملها على عقد مصالحة وطنية في مصر تؤدي للعفو عن قيادات الجماعة والاعتراف بهم تمهيدا لعودتهم ..
الخلاصة: أن النظام المصري الحالي مع أخطائه المتعددة سياسيا واقتصاديا..لكن تبقى طبيعته أسيرة لمنشأ وجوده ،وهو ثورة يونيو 2013 القائمة بالأساس على شيطنة (الجهاد السني والجماعات السنية) وستظل هذه الثورة تطارده حتى لو أراد السيسي كسر هذه الطبيعة وتحالف مع السعودية مذهبيا لن يستطيع..فالحالة المصرية والمزاج الشعبي قد انطبع مرحليا برفض الإخوان وكل ما يندرج تحتها من مسميات جهادية كالقاعدة وداعش، حتى الأزهر أصبح مهدد هو الآخر بعد افتضاح أمره مؤخرا بنقل فتاوى شيوخه ومناهجه التعليمية المؤيدة لخط الجماعات التكفيرية..
وفي تقديري أن التحدي الأول والأخير الآن للسيسي ليس القضاء على الإخوان، فهم باتوا معزولين وضعفاء شعبيا ومنهجيا، وحجتهم ضعيفة، حتى مع أخطاء النظام وارتفاع شعبية الإخوان تبقى هذه الشعبية محدودة بخطوط حمراء لا تتجاوزها كمحمد مرسي مثلا أو الخلافة والشريعة..هذه أمور صارت مستقبحة في المجتمع المصري، ودائما ذكرها يوافق أفعال وتصرفات داعش والقاعدة في المنطقة..
إنما التحدي الآن هو كيف تنجح في مقاومة الضغط السعودي بتبني صورة العدو في الرياض ونسخها بالكربون في القاهرة..ولو فشل السيسي في مقاومة هذا الضغط ستنهار الدولة إما بالتورط في حرب طائفية وصعود نجم الجماعات الدينية مرة أخرى..أو في إفلاس الدولة المعتمدة بشكل كبير على مساعدات الخليج..
والسيسي ليس أمامه سوى حل وحيد لينجح في مقاومة هذا الضغط، وهو التكفير عن كل أخطائه الماضية وإقراره بالانفتاح وحرية الرأي وتعديل وإلغاء كل القوانين المقيدة لحرية الحركة (قانون التظاهر) والمقيدة لحرية الفكر (ازدراء الأديان) والتواصل مع المعارضة الحزبية وتبني رؤية حقيقية للنهوض بدلا من الاعتماد على جنرالات الجيش في رسم هذه الرؤية، وهو تصرف أوقع مصر في أزمات طيلة 3 أعوام ماضية، والمستقبل ملئ بالمخاطر إذا لم تنتبه الدولة لواقع الأزمة..
المصادر
تقرير معهد واشنطن...http://bit.ly/2mnbqi5
اجمالي القراءات
7288