جمهورية مصر السعودية
في عام 1807 صدر كتاب الباب العالي إلى حضرة القائد الألباني .."محمد علي".. والي مصر، وفيه أن يخلص المسلمين من شرور الوهابية في الحجاز ونجد، كان وقتها محمد علي في صراع لتثبيت حكمه مع المماليك وبعض الزعماء الوطنيين، فتذرع محمد علي بعدة حجج، إلى أن مرت السنون وخطر الوهابية في تعاظم، حتى صدر كتاب آخر من الباب العالي في اسطنبول أن على المصريين تخليص الإسلام والمسلمين من دولة آل سعود، وضغط العثمانيين لهذا الغرض، فامتثل محمد علي وقرر حسم جبهته الداخلية قبل إرسال الجيش المصري إلى الحجاز.
قرر الوالي تأمين سلطانه بفرمانات عسكرية جاءت تباعا، تخلص فيها من المماليك والرموز الوطنية المعارِضة، ولا يسع المقام لتفصيل أي من هذه الأحداث، وبعدها تفرغ الرجل لبناء الأسطول المصري في البحر الأحمر بعدما اكتسب خبرة كبيرة في صناعة الأساطيل من بقايا أعمال نابليون بونابرت في حي بولاق على النيل، وبعد اكتمال كل إعداداته اتصل بأمراء الحجاز الفارين من الوهابية لمساعدته، وخرج بالجيش المصري وأسطوله العظيم لتخليص المسلمين من أول ظاهرة في العصر الحديث لمشكلة التكفير والتغيير بالعنف..
نجح الجيش المصري في سحق الوهابية وهدم دولة السعوديين الأولى في زمن قياسي، ولا زال التاريخ يذكر معالم هذه المعركة، فالسعوديين إلى الآن يذكرون الجيش المصري بالسوء ويرمزون لإبراهيم باشا-قائد الجيش-بالمجرم، ومحمد علي بالطاغية، بينما في مصر لا نذكر حملة القضاء على الوهابية كأحد إنجازات الجيش..بل سردها كمجرد حدث غير مفصلي ، حتى التاريخ المصري عندما يتعرض لهذه الحملة لا زال يذكرها باعتبارها طاعة للسلطان العثماني ولا تأثير لها في الحياه المصرية وثقافتها..اللهم إلا بعض الصوفية والشيعة الذين يذكرون حملة ابراهيم باشا كأنها معركة بدر الكبرى أو أحد غزوات الرسول لقتال المشركين..!
من هنا بدأ التاريخ الحقيقي لآل سعود في مصر
عندما أهمل المصريون قيمة حملتهم على الحجاز، ولم يبذلوا الجهد الكافي ولا توضيح الصورة الحقيقية التي كان عليها السعوديون في شبه الجزيرة العربية، حتى عندما بعث أحفادهم بعد ذلك بعقود وقرون لم ينتبه المصريون لهذه الآفة..حتى عاد الوهابيون مرة أخرى ليخترقوا المجتمع المصري انتقاما من محمد علي وابراهيم باشا ولكن هذه المرة في صورة جماعات سلفية وجهادية متعددة..توغلت في عمق مصر حتى صعدت لدفة القيادة في بعض مؤسسات الدولة..وقتها لو بعث ابراهيم باشا لقال .."واحسرتاه"..على ما فعله الأحفاد والرعايا في حق مصر..!
لم ينتبه المصريون إلى أن معالم الدين الوهابي السعودي-الذي حاربه محمد علي باشا- هي نفس معالم الجماعات التكفيرية التي اجتاحت المسلمين في العقود الأربعة الأخيرة حتى تجلت في صورتها الأسمى في .."تنظيم داعش"..هذه المعالم التي تتلخص في الدعوة للإسلام..والجهاد..وتطبيق الشريعة..على أسس فكرية وشعورية كالولاء والبراء والاعتقاد بالفرقة الناجية وقداسة السلف وقمع الاجتهاد وتكفير العقل...إلخ
ومع ذلك كان المصريون في القرن التاسع عشر أكثر وعيا بخطر الوهابية..ليس لأن الدولة حاربتهم..بل ردوا عليها فكريا..ومن أشهر الذين ردوا عليهم الشيخ.."رضوان العدل بيبرس"..في كتابه.."روضة المحتاجين لمعرفة قواعد الدين "..ومع أن لمحة الكتاب العامة صوفية إلا أنه تطرق إلى مسائل أخرى كالتشدد والإفراط في التكفير والغلو في تصور معنى التوحيد..وهي أمور عقائدية ظهرت بجلاء كمشكلة دينية أنتجت الإرهاب في القرن الواحد والعشرين..إضافة لجهود رموز أخرى فكرية ووطنية كرفاعة الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والنديم..وغيرهم
لذلك لا نستغرب أن هذه الفترة-نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين- كانت فترة تنويرية عاشها المصريون ليكسروا فيها معظم العادات والأفكار المنحطة والمغلقة التي عاشوها لقرون في زمن المماليك والعثمانيين..في هذه الفترة ظهر محمد عبده مفتيا للديار يدعو لتجديد الدين والثورة على القديم، وقاسم أمين لتحرير المرأة وصفية زغلول لحقوقها، وطه حسين وعلي عبدالرازق كأوائل مفكري مصر الديكارتيين..مع الفارق..كل هؤلاء كانوا ثمرة للحداثة وصدمة الوهابية التي ضربت العقل والوجدان الإسلامي في مقتل..
ومرت السنوات تكاسل فيها المصريون عن التنوير وتجديد أفكارهم ومجتمعهم حتى غزاهم الوهابيون مرة أخرى في الستينات مع جماعة شكري مصطفى..المعروفة إعلاميا بجماعة التكفير والهجرة، كانت مصر وقتها في خلاف مع السعودية لأسباب سياسية تتعلق بالثورة على الملك فاروق، ومع ذلك لم يستثمر المصريون الخلاف لتحويله إلى طاقة فكر يتخلصون فيها من رواسب الوهابية وإعادة تصور ما أنتجه ابراهيم باشا قبلهم ب150 عام..بل ظهرت محاولاتهم للتغيير-عن غير قصد- بتعزيز ثقافة الوهابية مجتمعيا ودينيا ومحاربتها سياسيا..وهذا التناقض هو الذي جعل ظواهر كالحجاب وتحريم الفنون تنتشر في حين تحارب الدولة المعارضين منهم، أما الموالين أو الحياديين فظلوا في أمان إلى أن اخترقت الوهابية الريف المصري بالكامل عن طريق هؤلاء الموالين ..ومع مع أول هجرة من الريف للمدن انتقلت قيم الريف-الوهابية المحافظة-إلى المدينة..فانتشر الحجاب والنقاب وساد التدين الشكلي، وتعزز الانغلاق وشاعت المؤامرة..وكلها ظواهر تتعلق بالفكر المتطرف عموما..
لذلك كان من الطبيعي أن يؤثر ذلك على الفن، حتى أنتجت مصر 3 مسلسلات عن الأب الروحي لتنظيم داعش وهو.."تقي الدين ابن تيمية"..وظهر فيه الرجل في المسلسلات المصرية كنبي وليس مجرد فقيه، والأغرب أن عن طريق هذه المسلسلات شاع تحريم التمثيل والفن بالعموم، وكأن الممثلين لفوا حول أعناقهم حبل المشنقة..!
حتى الآن ما زالت دولة محمد علي باقية وهي دول مدنية حديثة تؤمن بقيم العدل والمساواه، والمؤسسات فيها لخدمة الشعب وليست للسيادة والتسلط عليه..وهو ما أشعل نوازع التمرد على الوهابية أحيانا، والكثير منهم رفض السعودية كدولة ومجتمع وثقافة لهذا الغرض، لكن ضعف الدولة في أواخر عهد مبارك سمح بانتشار الوهابية بشكل لم يسبق له مثيل، فانتشر الشيوخ وظهرت عشرات القنوات الفضائية الوهابية-الممولة سعوديا- تنشر سمومها وأدرانها بين الناس، وعادت المملكة السعودية في وجدان المصريين كرمز، وشاعت المذهبية والطائفية بشكل مزعج..حتى أنها ظهرت بشكل واضح بعد ثورة يناير في حصار الكنائس وإحراقها وتهجير بعض مسيحيي الصعيد..بل ظهرت حتى في انتخابات الرئاسة واستفتاء الدستور الذي جاءت فيه التقارير لتعلن عن قهر ديني وطائفي للأقباط ومنعهم من التصويت..
أزمة مجتمعية خطيرة تعرضت لها مصر بعد يناير، وكأن زفرات النهاية تطلق أنفاسها على مصر بأيادي التطرف الذي تسبب في نشره مبارك وزبانيته في الحكم.
أما الآن فما أشبه الليلة بالبارحة
السيسي يتحالف مع السعودية والوهابية عسكريا، ويسمح للمملكة بالتحكم في اقتصاد مصر بالكامل، بحيث إذا أراد آل سعود شيئا فعليه الطاعة وإلا هدموا مصر كيفما يريدون..وكأن الرجل لم يتعلم من كوارث أسلافه ونكوصهم عن التجديد أو الاستقلال، ولم يتعلم من درس محمد علي باشا وكيف صنع دولته الحديثة في وقت كان يحارب فيه الوهابية عسكريا وفكريا..بل باع لهم أرض مصرية بكل وقاحة..ويجتهد هو زبانيته في خلق المبررات والحجج السخيفة لبيع هذه الأرض الذي رفض كل رؤساء مصر التنازل عنها، بل أكثر وثائق التاريخ والجغرافيا تشهد بمصريتها، لكن ولأن الرجل لم يقرأ التاريخ ويحكم بعاطفته ومتأثر جدا بالفترة التي خدم فيها في الرياض كملحق عسكري ..علاوة على وقوف السعودية بجانبه في خلع الإخوان..كل ذلك ساهم بأن يرى السعودية والوهابية أصحاب فضل عظيم على مصر..ولولاهم لمات المصريون جوعا أو هدمت دولتهم للأبد..للحد الذي يبيع لهم أرض مصر عن طيب خاطر..وهذه الرؤية الساذجة انتشرت بين بعض العوام..حتى أصبحت نكتة سمجة يرددها البعض لتبرير الخيانة والتحالف مع هذه الدولة التي لم تعرف في حياتها طريق النور..
قلنا قبل ذلك أن خلاف السعودية والإخوان سياسي على النفوذ..وليس منهجيا في الفكر، الدين واحد والمذهب واحد والأسلوب واحد، الإخوان تأثروا بالثورة الدينية في إيران، وقبل التغيير في أيران كانت أدبياتهم تقول بجاهلية المجتمع والدعوة لأسلمته عن طريق السياسة، بينما الوهابية تتبنى نفس المنطق لكن تضيف أن جاهلية المجتمع تزول فور تطبيقه للشريعة، وأن التطبيق فرض عين وليس مؤجل كما يعتقد الإخوان..ومن هذه الزاوية كان الخلاف بسيط منهجيا..لكن في السياسة هم خصوم، السعودية يحكمها نظام ملكي وراثي، بينما الإخوان تؤمن بنظام مبايعة أهل الحل والعقد، وهذا يعني أن الخليفة عند الإخوان ليس بالضرورة أن يكون سعوديا..وهنا عقدة المنشار التي تحول فيها الإخوان إلى خصوم للمملكة شكليا..لكن دينيا مبدأهم واحد..
السيسي لم ينتبه لذلك..وأصر على خداع الشعب..حتى وصل النفوذ السعودي في مصر إلى أوجه خلال عامي حكم الرجل من 2014 إلى الآن، والأخبار تقول عن موافقته لبناء 28 مركز ثقافي سعودي في مصر، والسؤال مباشرة: ما الذي يمتلكه السعوديون من ثقافة حتى يجري نشرها في مصر؟!..حتى المثقف عندهم مُهان ومقيد بأغلال السلطة، والشباب هناك يُلحد بشكل سريع رفضا لكل مقومات ومعالم الانغلاق في مجتمعه، والأقليات لديهم مضطهدة فالشيعي ليس من حقه التعيين في وظائف عامة ولا التجنيد في الجيش والشرطة، حتى التحريض عليهم ينطلق من قلب الحرم المكي وفي عز صلاة التراويح التي يشاهدها المليارات حول العالم..
السيسي لم ينتبه إلى أن سياساته في .."سعودة مصر"..سوف تضر الفصيل الثاني في الأمة المصرية وهم.."الأقباط"..وإنكار البعض لأي تأثير سعودي وهابي عليهم هو من قبيل إنكار وجود الفتنة الطائفية التي حدثت في العراق..ولا التصفية العرقية لميلشيات الجنجاويد في دارفور، ففي عز هذه الأزمات كانت هناك دعوات تنكر وجود هذه الأشياء بالضبط كمن ينكر مذابح الأرمن والسريان على أيدي الأتراك، ومذابح اليهود والغجر على أيدي النازيين، صحيح لم تصل أزمة الأقباط في مصر للحد الذي يجيز لنا تشبيهها بمذابح الأرمن واليهود..إلا أنه وبالنظر إلى العوامل التي أدت لهذه المذابح التاريخية هي نفس العوامل التي يعمل على إحياءها السيسي الآن ورعايتها بكل سذاجة..بدءا من تنمية الجانب الطائفي إلى التعصب القومي إلى الإفراط في الشوفينية إلى تعظيم السعودية اذلي بدوره يؤدي إلى تمكين وتعظيم الوهابية بالضرورة، فآل سعود في النهاية هم الوجه السياسي والليبرالي للوهابية، بالضبط كما أن ائتلاف سوريا هو الوجه الليبرالي لجبهة النصرة وجيش الإسلام، وتركيا وقطر هم رعاة وأوجه المدنية لكل جماعات الإرهاب في سوريا.
كل جماعة مسلحة تؤمن بالتغيير بالعنف في العصر الحديث أمامها أحد خيارين، إما أن تقدم نفسها للعالم على حقيقتها كما تفعل داعش، وقتها سيحاربها كل العالم ونهايتها مسألة وقت، بينما الجماعة التي تصدر لنفسها وجه ليبرالي أو حداثي تكسب شرعيتها دوليا، بحيث أن أمريكا باتت تسمي هذه الجماعات المسلحة.."بالمعارضة المعتدلة"..رغم أن الفرق بينهم وبين داعش والإخوان -وكل فرق الوهابية الأخرى- هو فرق في اللون والشكل..وليس في المضمون والمنهج.
وهذا ما يفعله آل سعود، يقدمون أنفسهم كوجه حداثي للوهابية حتى يكسبوا شرعيتها وينشروا مبادئهم القبلية والدينية، وأدواتهم في ذلك عبر خطابين، الأول سلفي متشدد ومنغلق للداخل، والثاني تنويري وحداثي للخارج، وهذا الخداع انطلى حتى على بعض قيادات الغرب..حتى أنهم يكررون هذا الأسلوب المنافق منذ عقود..وبات المفكرين الآن في حيرة من أمرهم، لو أن السعودية تدعم الانفتاح حقيقة فلماذا المجتمع هناك منغلق بل ويزيد في انغلاقه وتشدده الآن بعد أكثر من 80 عاما على بناء دولتهم الثالثة؟!..هذا يعني ثمة أزمة معرفية أو ضعف سياسي أو نفاق مارسته السلطة في شبه الجزيرة العربية..وجميع هذه الأسباب موجودة وباتت محل توافق شعبي ودولي كبير، والهجمة السياسية والحقوقية الآن على المملكة هي إفراز لهذا التحول للضمير العالمي..
نعود للأقباط..فمحاولات التحرش بهم واضطهادهم في العصر الحديث بدأت مع الإخوان وتصريحات مصطفى مشهور مرشد الإخوان، الذي طالب فيها بفرض الجزية على المسيحيين ومنعهم من الجندية ومن ولاية في القضاء، والقارئ في أدبيات الإخوان سيرى أن هذا التصريح هو جزء من تصورهم للشريعة..وهو نفس التصور الذي يحكم العقل الوهابي ويرى فيه أي مخالف منقوص السيادة..بل والحقوق..حتى أن الشيخ عبدالله الخطيب الإخواني يرى حرمة بناء الكنائس في مصر.وهو نفس المبدأ المعمول به في السعودية طبقا لما قلنا أن المنهج الذي يجمع الوهابية والإخوان واحد ..قومه.."الدين-المذهب-الخلافة-الشريعة"..وأدواتهم في ذلك عقائد وأفكار كثيرة كالولاء والبراء والفرقة الناجية وقداسة السلف..وياللعجب هي نفس أفكار وعقائد الوهابية التي حاربها محمد علي باشا، وكتب للرد عليهم الشيخ بيبرس ، وكأن التاريخ يعيد نفسه بالتطابق..
إن مشروع.."سعودة مصر"..الذي يقوم به السيسي يهدف للقضاء على أي هوية مصرية تحكم الشعب وتجبره للانصياع أو الاعتقاد بنزاهة دولة محمد علي باشا، وتنقله للاعتقاد بعظمة السعودية التي كان يراها المصريون في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين دولة متخلفة وقمعية، الآن تنقلب هذه الصورة إلى دولة عظيمة وتنويرية..حتى أن بعض مثقفي مصر المزيفين -كرئيس جامعة القاهرة جابر نصار-خرج لينافق الملك سلمان في زيارته لمصر وقال هو وآخرين أن السعودية تنشر التنوير..!..ولسان حالهم أن يقولوا كبلهاء جنوب اليمن.."ِشكرا سلمان"..التي قالوها ردا على تدمير دولتهم، بينما هؤلاء الأفاقون المصريون قالوها ردا على شراء أرضهم وضياع هويتهم..!!..ومع هذا السخف ضحكة رقيعة وشريرة لعادل أدهم في حافية على جسر الذهب، وكأن وضاعة هؤلاء فاقت وضاعة من قال بزواج مصر وانجلترا الكاثوليكي..!
أعلم أن المال يفعل كل ذلك، فهو كالبريق في خيال العميان يتوقوا لرؤيته يوما على الطبيعة، ولكن لم أتصور أن أرى مسيحيا يوما يعتقد أن بيع مصر للسعودية وتمكينها من الدولة ونشر كل قيم الوهابية فيها سيكون لصالح الأقباط..وكأن لويس عوض وميلاد حنا وسلامة موسى ينتفضون من قبورهم ضد الجميع ليصرخوا هل من رشيد؟!..خلل كبير يحكم العقل العربي بمسلميه ومسيحييه، حتى أن مظاهر التحمس للشريعة الإسلامية بين بعض الأقباط في زمن مبارك والإخوان باتت تفرض نفسها الآن ويتحمسوا للمشروع السعودي، وكأن مشروع الإخوان أنتج لهم ذهبا ويريدون أن يروا ذهبا آخر على نفس القيمة..!
مصر لن تنهض سوى باستقلال حقيقي، وهذا ما انتبه له محمد علي باشا، فرغم الأخطاء والجرائم التي حدثت في عهده إلا أنه استقل حقيقيا عن كل محاور العالم وقتها، حتى تبعيته للدولة العثمانية كانت شكلية، واستطاع النهوض بالتعليم والزراعة والصناعة والطباعة واستيراد الثقافة وإرسال المبتعثين في زمن كان الاحتكاك بالفرنجة فيه يساوي الكفر والخروج عن كل قيم الدين والهوية، بل أنشأ الجيش المصري على هوية وطنية وليست دينية، وساوى بين المسلمين والمسيحيين، كان تركيزه ينصب على بناء المجتمع وإنقاذه من الجهل والخرافة وتسلط أمراء الحرب والسياسة، وإغلاق كل منافذ التشدد التي كانت تحكم قطاعات الدولة وقتها، وحربه على الوهابية لم تكن لها لتنجح لولا وجود هذه الرؤية في الإصلاح، وإلا اعتبر أن ما يقوم به خيانة للدين وقتلوه في أول فرصة..
الآن مصر مطالبة بالابتعاد عن المحور السعودي وكل المحاور الأخرى الإيرانية والأمريكية والروسية، وبناء سياسة مستقلة تهتم بمصر أولا فوق كل شئ، سيهتم المصريون وقتها بأنفسهم وعلاج مشكلاتهم برؤيتهم وليست برؤى الغير، فأزمة جزيرتي تيران وصنافير مؤخرا كشفت عن خلل عظيم بالهوية..بحيث جرى اتهام بعض معارضي ترسيم الحدود بين مصر والمملكة أنهم إيرانيي الهوى، وهذه رؤية سعودية بالأساس مستوردة لمجابهة حالة ليست في صالح المصريين، ننحن لا ندعو للتحالف مع السعودية ولا مع إيران..اتركوهم يصفوا خلافاتهم مع أنفسهم بالطريقة المناسبة..فالتشدد لأحدهما يعني تشجيعه على التصعيد، أو خذوا موقفا وسطا يكشف موضع الداء بوضوح ويطرح علاجاته بشفافية، سوى ذلك فهي طواحين الهواء..
أخيرا: فمثلما حكم مبارك مستبدا طيلة 30 عاما بدعوى من قتلوا السادات يحكم السيسي الآن مستبدا بدعوى الإخوان، مجرد فزاعة لتبرير الدكتاتورية، ففي حين تجري مشروعات سعودة مصر ونقلها للمحور المذهبي السني تجرى مشروعات أخرى لبناء تحالفات سنية إسرائيلية وهو ما كشف عنه نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي صرح بضرورة وجود.."جيش سني"..يحارب في سوريا والعراق ولا تكون لديه مشكلة مع إسرائيل، وكل جهود السعودية الآن تنصب لبناء هذا الجيش..مرة تسميه تحالف عربي عاصفة الحزم، ومرة تسميه تحالف إسلامي، ومرة تسميه قوة عربية مشتركة، وهو في الحقيقة سيكون جيش يشعل حرب مذهبية بين العرب حصريا، يُقتل فيها الملايين على غرار ما حدث بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا..
والسيسي بنظامه الاستبدادي وقيادته الفردية يسير بمصر والعرب لهذا المصير..لتصبح بعدما كانت مصر ولاية ثم مملكة ثم جمهورية تصبح الآن سعودية..ولكن بنظام جمهوري ليستحق عليها وصف.."جمهورية مصر السعودية"..وصفا ذو دلالات عميقة تعبر عن مشاعر ملايين المصريين الآن الذين رأوا قيادة الدولة تنحو بها لأن تكون خانعة ذليلة ، وصاحبة ردود انفعالية كما حدث مع أزمات ريجيني ووكالة رويترز، وموقف تسلطي قهري مثلما حدث من قمع مظاهرات جمعة الأرض و25 إبريل..وتوابعها الآن من انتفاضة الصحفيين وغيرهم ضد هذه السياسات التي رأوا فيها ضياع الهوية حتى خرجوا للشوارع، والنظام الآن مطالب باستراداد مصر من التبعية السعودية قبل أن تنقلب هذه التبعية الحمقاء لمشاعر انفجار ضد كل ما هو سعودي
اجمالي القراءات
7225