مظاهرات جمعة الأرض جرس إنذار
بالأمس خرج عشرات الألوف من المصريين في ميادين القاهرة والمحافظات احتجاجا على تنازل الحكومة المصرية عن جزيرتي تيران وصنافير للمملكة السعودية، وقد تركزت التظاهرات في القاهرة والاسكندرية ..على أن قوات الأمن نجحت في فض المظاهرات بالغاز والخرطوش بعد صلاة الجمعة، لكن عاود المتظاهرون مرة أخرى الاحتجاج في نقابة الصحفيين التي خرجت منها أكبر تظاهرة شملت ميدان عبدالمنعم رياض والشوارع المحيطة بالنقابة.
حاول المتظاهرون دخول ميدان التحرير ولكن اتخذت قوات الأمن قرارها بفض المظاهرة قبل توسعها وانتقالها للميدان الأشهر على مستوى الجمهورية...حينها قرر المتظاهرون الانسحاب خشية الخسائر التي قد تنجم عن الصدام مع قوات الأمن، وحددوا يوما آخر وهو الإثنين 25 إبريل المقبل للتجمع مرة أخرى ولكن بأعداد أكبر.
مبدئيا: الشعور العام المصري يرفض التنازل عن أي قطعة أرض من أملاكه، فضلا عن القيمة المعنوية والتاريخية للجزر التي شهدت حروبا متعددة مع إسرائيل، أي أن تيران وصنافير في الوجدان المصري ساحة جهاد ضد المعتدي، وقد سقط عليها الشهداء، علاوة على تسجيل شهير للرئيس عبدالناصر وهو يقول.."بمصرية الجزيرتين"..ويهدد كل من يقترب منهما بالحرب، وفي خطاب عبدالناصر نبرة تحدي للدفاع عن الأرض يعشقها المصريون، لذلك كان هذا التسجيل –في تقديري-حافز لكثير من المصريين في التظاهر هذا اليوم.
أنصار الحكومة شنوا حملات مضادة لإفشال هذه المظاهرات، وقد تركزت جهودهم على موقع تويتر بتأسيس هاشتاك مؤيد للسيسي، ولكن بعد ساعة واحدة سقط هذا الهاشتاك لصالح هاشتاك آخر وهو.."جمعة الأرض"..الخاص بالمتظاهرين، وهذا انتصار معنوي وشعبي لمعارضي السيسي دفعهم للاستمرار وتكوين جبهات ألكترونية أخرى على الفيس بغرض الحشد..
لاحظ المصطلحات.."فيس وتويتر"..وهذه نفس المصطلحات التي شكلت أدوات لحشد ثورة يناير، أي أن الإعلام الرسمي والخاص في مصر فشل في الحد من هذه المظاهرات أو وأدها في المهد، وسطوة الإعلام الحكومي هذه سادت تقريبا في حقبة الإخوان، لم تكن مواقع التواصل وحدها هي الأداه الوحيدة في الحشد..بل كان التلفزيون أيضا، هذه المرة مواقع التواصل بمفردها، وهو ما يعني بأن الحشد يكتسب صفة حشود يناير شكليا، ويفتقد لحشود ثورة يونيو معنويا.
وفي تقديري أن عوامل مساعدة لعدم تطابق مظاهرات جمعة الأرض مع ثورة يونيو منها ضيق المصريين من التظاهر، مع أنهم يرفضون بيع الجزر بالأغلبية التي ثبتت عندي بمجموعة استطلاعات رأي في الشارع كلها تقريبا ترفض التنازل عن الجزر، علاوة على خوف البعض من الخسائر التي قد تنجم من عنف قوات الأمن، وعوامل أخرى اقتصادية واجتماعية كخوف المصريين من الفوضى التي رأوها بأعينهم بعد ثورة يناير، إضافة لذكاء السيسي وخداعه لمؤيديه بالأمنيات التي أغلبها لم يتحقق، ومثلما كان هذا الذكاء لصالحه في منع قوة وضخامة الحشد للحد الذي يصل فيه أن يكون مهددا..ولكنها نقطة قد تخصم من رصيده عند مؤيديه الذي يتناقصون الآن بشكل مفزع فيما لو لم تصدق وعوده وأمنياته كالعادة.
ومع ذلك فالحشود المتظاهرة تتطابق وصفيا مع حشود يناير في بدايتها، وهذا يعني أن احتمال توسع المظاهرات كبير، وهو ما حدث بالفعل في تأسيس المتظاهرون صفحة لحشد المصريين يوم 25 إبريل، والأرقام تؤكد أن العدد هذه المرة سيكون أضخم..فبعد نصف ساعة فقط من تأسيس الصفحة أعلن 2000 مشترك نيتهم الحضور، وضعفهم مهتم، وهذا يعني أن في الساعة 4 آلاف متظاهر، ولو سارت الأرقام بهذا المعدل فربما يصل العدد إلى 100 ألف صبيحة يوم التظاهر، وهذا الرقم أكبر 4 مرات من الذي أعلنوا حضورهم في جمعة الأرض..
الأرقام لمن يعلم طبيعة الفيس بوك وما يسمى.."الإيفنت"..أو المناسبة، وهي وسيلة للحشد وفرها موقع فيس بوك منذ سنوات، وهذا يعني أن من لا يفقه هذه الوسيلة من الحشد الألكتروني لن يعي حجم التظاهر وسيصر على إنكاره مثلما حدث من البعض في الإعلام المصري الرسمي، فقبل جمعة الأرض لم يعوا أن هناك تظاهرة في هذه الجمعة إلا بعد تأسيس الصفحة ب4 أيام، وهذا خطأ في الرصد والتنبؤ جعلهم ينكرون أن احتجاجا شعبيا وصل لعشرات الألوف كان يتظاهر ضد السيسي بالقرب من ميدان التحرير، وهذه لها قيمة معنوية كبيرة وشعور يجب أن يسود بخطورة الموقف.
إن مجرد نجاح المتظاهرين في دخول ميدان التحرير والاعتصام فيه سيجعل مستقبل السيسي ونظامه في خطر، فاللميدان دلالة رمزية ومعنوية في قلب العاصمة وفي مركز الحكم، ومنذ أيام الملك فاروق كان هذا الميدان هو علامة فارقة في تغيير الحكومات، وقتها كان إسمه.."ميدان الإسماعيلية"..وبعد تغيير إسمه لميدان التحرير تسبب في إسقاط نظامين الأول لرجال الأعمال والثاني للشيوخ، أما هذه المرة فالنظام (خائن) عند المصريين باع الأرض وفرط في العِرض كما في الثقافة المصرية، والتي بسببها تم وصف السيسي بالشخصية الكريهة عند المصريين وهي.."عواد"..بفتح الحين وتشديد الواد، وهو الفلاح الذي باع أرضه ليرضي شهواته، وبعد خسارته الأموال عايروه أهل القرية وفضحوه بهتافهم الشهير.."عواد باع أرضه"..
حتى أن السيسي تضايق من هذا الوصف في خطابه يوم الأربعاء الماضي ، وقال.."أنا مش عواد"..وفي علم النفس أن نفيه دلالة على الأزمة التي أحاطت بنظام الحكم بعد اتفاق ترسيم الحدود والتخلي عن الجزر، فالنفي نفسه إثبات، ولو تجاهل الرجل هذه التسمية لكان أفضل، وبالعمل فقط يمكنه نفي ذلك بأن يطرح القضية للاستفتاء الشعبي، أو يحيل ترسيم الحدود للتحكيم الدولي، لكن الرجل لم يفعل ذلك خشية أن يؤدي استطلاع رأي الجماهير لرفضه، وقتها ربما تحدث أزمة بينه وبين آل سعود الذين وفي تقديري يستعملون السيسي أسوأ استعمال للإضرار بشعوب المنطقة حتى الشعب المصري.
في مقال الشهر الماضي قلت أن السيسي هو رجل آل سعود في المنطقة، والغرض أن يُمكنهم من العرب، وأن السلفية العالمية تستعمله لتمرير أفكارها ومشاريعها العدوانية، وأن حرب اليمن وقهر المثقفين والتحالف الإسلامي والموقف من حزب الله يأتي في هذا الإطار، وأن الرجل أضعف من أن يتحداهم أو يستقل عنهم، حتى علاقته بأمريكا وروسيا يشوبها الغموض، وفي حين ينفتح بشكل كامل على الخليج منغلق بشكل تام عن سوريا والعراق ولبنان، وهو المحور المقابل للمحور الخليجي، وهذا يعني أن الرجل مصطف طائفيا في أسوأ نظام سياسي يحكم مصر ويكون بمثل هذه الرؤية المذهبية الضيقة.
وهذا الموقف المذهبي سرعان ما أثار نوزاع المثقفين فبدأوا في التخلي عنه ، فقيادات الأهرام كأحمد النجار وعبدالناصر سلامة ورموز أخرى كعمرو الشوبكي وابراهيم عيسى وعمار علي حسن..ورموز أخرى شبابية وثقافية تخلت عنه تماما، بل ومنهم من انضم لحفلة الهجوم عليه وعلى نظامه ووسم دولته بالدولة البوليسية، وهذا وصف قد يتسبب في قوة الحشد عليه ومساواته بنظام مبارك، فمظاهرات الأمس لم يكن دافعها الوحيد فقط تيران وصنافير..بل أيضا الاعتراض والاحتجاج على بوليسية الدولة وتأسيس جمهورية الشخص الواحد..
بكل الأحوال: مظاهرات جمعة الارض هي جرس إنذار للنظام وعليه أن يدرس الأمر بمنتهى الموضوعية دون النظر لمنطق مؤيديه، ففي مقالات سابقة قلت أن ما يقرب من 20% من الشعب يكون مؤيد للنظام بوصفه حاكم الدولة، يعني مؤيدين لقوته ولحُكمه، ونفس النسبة كانت مع مبارك ومع مرسي، ومع ذلك ثار الشعب عليهم وانتقلت هذه النسبة ال 20% إلى نظام الحكم الجديد، وفي الاجتماع هذه النسبة تخدع الحاكم ويظن أن له شعبية، وفي الحقيقة هذه شعبية وهمية لا يجب الارتكان إليها لأن وقت الثورة ونزول الجماهير والتحرك بإيجابية إما سيتخذون موقفا سلبيا وإما يعلنون الانضمام للاحتجاجات وهو ما حدث في زمن مرسي، حيث أن العديد من هذه الفئة انضمت لثورة يونيو بعد اطلاعهم على موقف الجيش وهو ما تسبب في ضخامة حشد يونيو كأكبر حشد في التاريخ المصري..
إن السيسي لم يعد لديه خيار، إما أن يستمر في تحالفه مع آل سعود ويصر على بيع الجزر، وإما أن يواجه غضبة شعبية قد تطيح به وبنظامه، ومن يدافعون عنه الآن ربما لا يدركون حجم السخط الشعبي على التنازل، وأسباب أخرى تخص ارتفاع الأسعار ومشكلات تخص الفساد وسوء الإدارة، وأزمات كتوفيق عكاشة والزند وهشام جنينة والدرب الأحمر وإضراب الأطباء ومظاهرات الضرائب..كلها مشكلات سياسية لم يحسن النظام التعامل معها..مما تسببب في نشوء رغبة شعبية بالتمرد قد تتسع بمرور الوقت لحد يصعب السيطرة عليها.
اجمالي القراءات
7991