حرقان نموذجا :
السلفية والإلحاد

نهاد حداد Ýí 2015-08-13


 

لماذا ألحد حرقان ياترى؟
ألحد لأنه كان سلفيا ! 
يدعي السلفيون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة وبأنهم أدرى المسلمين بالدين ، وأكثرهم أمانة في تطبيق شريعة القرآن  بحذافيرها. ومع ذلك، فعوض تحقيق العدالة الإلاهية ، أنتجت السلفية قطبين متناحرين. فمن جهة ، غذت إيديولوجيتها ومازالت صناعة الإرهاب ، ومن جهة أخرى ساهمت في انتشار الإلحاد بشكل مخيف.
 لقد أفرخت  السلفية أكثر الإرهابيين عنفا وأكبرهم إجراما .وما  داعش والقاعدة وجبهة النصرة وبوكو حرام إلى غيرهامن الجماعات المتطرفة أو التي هي في طريقها للتطرف  إلا نتاجا موضوعيا لفكر سلفي متطرف . لقد أنتجت السلفية مثيلها ونقيضها في آن واحد . التطرف في " الدين "  والإلحاد فيه. 
وفي الحقيقة ، إن قدرتها على إنتاج الشيء ونقيضه ، أي التطرف في الدين وفي اللادين ، يُحسب لها .فلم تعرف أي حركة في التاريخ - انتاج مثيلها ونقيضه في آن واحد - على الأقل حسب معرفتنا .
فماسر هذا النجاح المبهر في تحقيق نظرية جذلية مركبة  ( إنتاج الشيء ونقيضه في آن واحد) ؟ 
طبعا، لا نريد أن نصدر أحكاما قاطعة جازمة ، ولا أن نقوم باستنتاجات من قبيل ، " الشيء إذا زاد عن حده ، انقلب إلى ضده " ، ومع ذلك ، تجدر الإشارة إلى أن هذا ما حدث فعلا ويحدث على أرض الواقع .
فما الذي نفر السلفيين من الدين حتى جعلهم بعد حفظهم للقرآن يرفضونه جملة وتفصيلا ؟ مالذي جعلهم يقرفون من دينهم إلى هذه الدرجة حتى ثاروا على الله فأنكروا وجوده ؟ 
 
و نحن إذ نتطرق  هنا الى ظاهرة الالحاد  فهي لا تهمنا إلا بقدر ارتباطها بالسلفية . أي ، كون موجة الالحاد ، التي تطال العديد من الشباب  ؛ في ظاهرها ليست إنكارا للألوهية في حد ذاتها ، بل رفضا للدين الإسلامي عموما ، وللدين السلفي خصوصا ، أو بالأحرى الفهم السلفي للدين .  فأحمد حرقان مثلا كان تلميذا لياسر برهامي تسع سنين ، حيث بقي بجواره مدة أطول بكثير من التي قضاها أبو هريرة بقرب النبي عليه السلام . وانتهى به الأمر للإلحاد والتنكر للدين بصفة نهائية . لكن تعليقاته على مواقع التواصل الاجتماعية لا تبين عن رفضه للألوهية فقط كأي ملحد كلاسيكي لايؤمن بوجود الخالق ولكنه يصب جام غضبه وانتقاداته على الآيات القرآنية . وهنا مربط الفرس. حيث أن مشكلته مع الإسلام بالضبط ، الإسلام الذي عرفه ومارسه منذ نعومة آظافره . الإسلام السلفي الوهابي المتطرف .
 لن نتحدث هنا عن القصيمي ، المفكر السعودي والكاتب المشهور - وهو ظاهرة معقدة - الذي كان مغرقا في السلفية الوهابية  ( ولديه كتابات كثيرة جدا في الذود عن الدين السلفي ) قبل أن يدير ظهره للعقيدة نهائيا فيكتب كتابه الشهير : " يكذبون ليروا الإله جميلا ".
لا يمكن لأحد أن ينكرعليه معرفته بالقرآن ،ولا يمكن لأحد أن يتجاهل مساهماته وكتبه الدينية قبل إعلانه الإلحاد والخروج من الدين . فلقد قرأ القرآن ودرسه  اكثر بكثير ممن يدعون الإيمان عن بينة ولم يطلعوا حتى على ثلثه. 
فلماذا ترك كل هذا ؟
طبعا ، من الصعب جدا الإجابة على سؤال كهذا بخصوص هذا المفكر ، خصوصا وأنه يجب علينا الاطلاع على تاريخه الفكري وكتبه وحتى نفسيته - التي أسس عليها جورج طرابيشي نقده له -.
ولكن فيما يخص أحمد حرقان مثلا - وهو أيضا لا ندعي أننا نجزم بسبب إلحاده - فإننا سنحاول مقاربة رفضه لبعض الآيات وسنخص بالذكر آية نشرها على موقعه بالفيس بوك ، والتي أعلن أنه لم يتقبلها ولن يقبلها أبدا . وهو كيف أن الله يدفع الناس للضلالة كي يحق عليهم القول فيعذبهم بما فعلوا وهو في نهاية المطاف من دفعهم إلى الضلالة ؟ 
معنى هذا ، أن حرقان ، حين ينشر آراءه ، فإن الذي يظهر منها هو رفضه لما فهمه كسلفي للقرآن. وهذا مايهمنا .
 ولكن قبل أن نتطرق إلى الآية وفهمنا لها حسب ماجاء في القرآن العظيم ، يجب أن ننوه على أن السلفية التي تدعي فهمها للقرآن ، الذي أنزله الله رحمة بعباده وهداية لهم ، ناقضت مفهوم الرحمة والعدل  على طول الخط . بل إنها استقت من روايات التراث ، ليس فقط ما يناقض القرآن ، بل ما ينسف الدين نسفا . حيث جعلته دينا دمويا لا يستطيع فرض نفسه إلا بحد السيف . دينا لا يستطيع المجاذلة ومقارعة الحجة بالحجة ، مع أن الجذال والحوارصفة قرآنية بامتياز . صعودا ونزولا . حيث كلمة " ويسألونك " " قل " و" جاذلهم " قد سمع الله قول التي تجاذلك في زوجها" "والله يسمع تحاوركما " إلى غيرها من الصيغ التي تنوه بالحوار والنقاش . 
وفي نهاية المطاف ، الشباب الملحدون الذين ينشرون مواقفهم على مواقع التواصل الاجتماعية أناس مسالمون . يتحدوننا بحججهم . فلماذا نقطع رؤوسهم ؟ ألأنها تفكر؟ ألأنها ترفض الدين ؟ أم لأنها ترفض الدين الذي تسوقه داعش والسلفية والأزهر ؟ 
على أي ، نحن لا ندعي القدرة على إقناعهم ولا حتى الرغبة في ذلك . وإنما ردنا على بعض مايقولونه ، هو من ناحية توضيح ودفاع عن قرآننا وفهمنا له انطلاقا من العدالة الالهية المطلقة ، ومن ناحية أخرى ، محاولة لدفع شيطان الشك والريبة عن قلوب مؤمنة تحاول تدبر القرآن ، فلا تجد إجابات مقنعة،  فيتسلل الشك إلى نفوس لاتتجرأ على الجهر بتفكيرها خوفا من الاتهام بالردة أو الكفر. ذلك السيف الذي تشهره السلفية في وجه كل من يخالف اجتهاداتها الفاسدة وفكرها الهدام. 
أحمد حرقان ، شاب ذكي فعلا وقد وضع يده على آية مثيرة للجذل ، حيث لم يستطع لا المعتزلة ولا خصومهم من الحنابلة الجزم في تفسيرها دون الوقوع في تعارض مع العدالة الإلهية التي تعتبر ركيزة أساسية في فلسفة الاعتزال. 
وفي الحقيقة ، الرأي الذي سأسوقه هنا هو نفسه رأي المرحوم حامد أبو زيد في محاولته لمقاربة فهم هذه الآية ، كما سنورد رآي الزمخشري في الآية السابعة من سورة البقرة ونقيض فهمه ، الفهم السلفي للآية . لكننا لن نتوقف عند هذه الآراء ، بل سنستخرج من القرآن بعض الأيات التي  بنينا عليها قناعتنا. فآيات القرآن الكريم تفسر بعضها بعضا وتدعم بعضها بعضا. 
 
" يقول عز وجل في تنزيله الحكيم:" وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا".
بالنسبة لحرقان  ، فإن هذه الآية تمثل منتهى العبث بمصير الإنسان ، وتمثل ظلم الله له ، وهو يرفض أن يؤمن بإله هوائي عابث !
 هذا شأنه  ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ! لكن الإشكال يبقى مطروحا ليوسوس الشيطان به الى ضعاف الإيمان منا ! 
آه ، فعلا كيف يأمر الله الناس بالفساد والفسق ليعذبهم بارتكاب ما أمرهم هو بارتكابه ؟ 
عندما تكون سلفيا ، تجيب على أن الآية واضحة ويجب أن تُفهم على ظاهرها. تماما كما قال السلفي ابن المنير في انتقاده لتفسير الزمخشري للآية السابعة من سورة البقرة :{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
فبالنسبة له ، هذا نص لا يحتمل التأويل بل إنه اعتبر بأن الزمخشري نزل من منصة النص إلى حضيض تأويله ابتغاءالفتنة لأن  الختم في الآية مسند إلى الله تعالى نصا. 
ولنتأمل هذه الآية قليلا ، إذا فهمناها على ظاهرها قلنا بأن الله يختم على القلوب ويغشي الأسماع والأبصار ويعذب بعد ذلك أولئك الذين طبع هو على قلوبهم . فهل هذا عدل ؟ نقول لا ! إذن ماذا ؟ 
معناه أن النص لايمكن أن يُفهم على ظاهره ،  وإنما على سبيل المجاز ، لأن ظاهره يخالف الحرية  التي  تجعل من العقاب نتيجة للاختيار لا للجبر . كما أنه يناقض العدالة الإلاهية التي وصف بها المولى عز وجل  نفسه . لذلك فنحن ننحى في فهمنا للآية إلى فهم الزمخشري لها . وسنلخص رأيه هنا لكي لا نطيل على القارئ. 
يشرح الزمخشري الختم على أنه الضرب بالخاتم على شيءما بغية تغطيته وكتمانه مخافة الاطلاع عليه . كما أن تغشية الشيء هو تغطيته وحجبه . فهل يحجب الله الهداية عن قلوب وأسماع الناس ثم يعذبهم بذنب لم يقترفوه ؟ طبعا لا.
فيكون إذن تعبير الآية من باب الاستعارة والتمثيل ! فكثرة الاعراض عن الحق جعل قلوبهم قاسية مبتعدة عن الحق كالمختوم عليها كما أن الأسماع والأبصار لكثرة نفورها من سماع الحق أصبحت غير قادرة على إدراكه وكأنما وُضِع بينها وبين الحق حجاب . 
ثم يمضي الزمخشري في الاتيان ببعض الامثلة ليبين على أن تعبير " ختم الله على قلوبهم " هو من قبيل التعابير البلاغية التي يستعملها العرب دون أن يكون المقصود منها الفاعل في حد ذاته بل نتيجة الفعل ، كقولهم ، " طارت به العنقاء " أو سال به الوادي" ولا دخل للعنقاء بغياب أحدهم واليأس من عودته كما لا دخل للوادي في هلاكه . وإنما هي تعابير بلاغية  تستعمل على سبيل الاستعارة. حيث نقول طارت به العنقاء إذا غاب أحدهم وطال غيابه فيئسنا من عودته ونقول سال به الوادي إذا هلك أحدهم.
 ويمكن أن نزيد على مثالي الزمخشري تعبيرا آخر مثل ( ذهبت المرأة بلب الرجل )  ( إذا هام بغرامها هياما ). فلا توجد  علاقة ( مادية ) هنا  للمرأة بعقل هذا الرجل ولكننا نستعمل هذا التعبير مبالغة في تبيان درجة حب الرجل لإحداهن إلى حد  أنه لم يعد يشغله عن التفكير فيها أي شيء آخر. 
فيكون إذ ذاك فهمنا للآية كالتالي ، أن رفض هؤلاء للحق وإعراضهم عنه ، جعل أفئدتهم وأبصارهم لاتدركه بتاتا وكأن الله ختم عليها وغشاها ، لأن مايغشيه الله وما يختم عليه لا قدرة لمخلوق على كشفه . فاستعمل عز وجل هذه الآية للدلالة على أن هؤلاء ذهبوا بعيدا في الضلالة ورجوعهم إلى الحق ميؤوس منه. 
ونحن إذ نفهم الآية بهذه الطريقة فلأننا على يقين من عدالة المولى عز وجل وننزهه سبحانه عن الظلم كما نزه نفسه عنه . {وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} [ق: 29]، {وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين} [الزخرف: 76]، {إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء} [الأعراف: 28] ونظائر ذلك من الآيات التي نزلت بنفس المعنى في الذكر الحكيم . 
ولنعد الآن إلى سياق الآية لنتأكد فعلا أنها جاءت بعد آية أخرى تؤكد بأن إيمان هؤلاء الكفار ميؤوس منه سواء أُنذِروا أم لا. 
يقول عز وجل في كتابه المكين :" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7) . "( البقرة ). 
وزيادة في التذكير ، لننظر كيف يستهزء الكافرون ويستعملون نفس أسلوب القرآن ليبينوا على أنهم لن يؤمنوا ولن يهتدوا وأن لن يتركوا دين قومهم ، بل يؤكدون بأن لاداعي من المحاولة معهم .  " وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ. "
فهذه الآية لاتدع مجالا للشك بأن هؤلاء يتعمدون عدم الاستماع للنبي بل يتحدونه بشكل سافر بقولهم " فاعمل إننا عاملون ".
 فقولهم أن قلوبهم في أكنة وفي آذانهم وقر وبينهم وبين النبي حجاب دليل واضح على رفضهم الإقرار بالحق الذي جاء به النبي . ومن المستحيل أن يقولوا كلاما كهذا بأن يقروا أن هذا الحجاب والوقر من عند الله . ولو فعلوا - وهم لم يكونوا ليتوانوا عن ذلك- لقالوا : لقد وضع إلاهك في آذاننا وقرا وفي قلوبنا أكنة وبيننا وبينك حجاب فكيف نؤمن لك وهو يمنعنا من الإيمان ؟ لذلك لايمكن أن نأخذ تعابير هذه الآيات إلا على سبيل المجاز الذي يبين لنا الإمعان في الكفروالضلالة والإعراض عن الحق بشكل جلي. 
لذلك فإن الله جل وعلا ينصحه بعدم إضاعة وقته وجهده معهم . يقول رب العزة :" وَمَا أَنتَ بِهَادِي  الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ." 
 
ولنتحول بعد هذا  إلى الآية التي تؤرق أحمد حرقان :" وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً." 
إذا فهمنا هذه الآية على ظاهرها كما تريده وتفعله السلفية فإن مايمكن استنتاجه هو منتهى العبث  بمصير الانسان واختياراته . وكأن رب العزة حاشاه ، عندما تنتابه رغبة في تدمير قرية ، فهو يأمر كبراءها بالفسق ، وحين يفعلون يدمر الله القرية عن آخرها بأبريائها وظلمتها . فقرائها ومترفيها . ونحن إذ نحاول تدبر هذه الآية نرى أنها من الآيات التي تفيد التهديد ليس إلا . كما أنها تبين قدرة الخالق على إفناء الفسقة لو أراد . وهذا ما يُفهم من سياق الآية ، لأن الآيات التي تسبقها تعبر عن قمة التسامح .
سنورد هنا رأي الدكتور حامد أبو زيد قبل أن نضع الآية في سياقها وقبل أن نورد آيات في نفس السياق تدعم رؤيتنا ونرجو من الله عز وجل  أن يعيننا على استنباط ماخفي علينا من آياته .
يقول الدكتور حامد أبو زيد ردا على أسئلة أحد الصحفيين  :"  حين أقول إن هذه الآية فيها تهديد فهذا يشير إلى نمط الخطاب. هناك خلاف كبير حصل ما بين المعتزلة وخصومهم حول الآية، «وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميراً».
إذا أخذت هذه الآية لاهوتياً تفيد معنى الجبرية. كأن الله أراد أن يهلك القوم فرتّب كل شيء لإهلاكهم. كأن الله هنا لديه خطة لإهلاك القوم. هلاك القرية هنا هو الأساس، ثم إن الله يأمر مترفيها أن يفسدوا فيها. هذه القراءة اللاهوتية. الله أراد، والله أمر، والله حقق الهدف وهو تدمير القرية. القرية هنا مظلومة بكل المقاييس. لأن من فسد هم المترفون وليس جميع الناس.
ما هو نمط الخطاب هنا؟ إنه التهديد. تهديد قريش. كلمة قرية هنا للدلالة.التفسير اللاهوتي هنا يصنع إلهاً ظالماً وقرية مظلومة.
 المعتزلة، أصحاب العدل، وقعوا في حيص بيص. خرجوا بهذا التفسير. فعل أمر هنا ليس المقصود به الفعل الثلاثي، بل آمرنا بمد الألف، أي أكثرنا من عددهم، ومنها لفظة المؤتمر، وتآمر القوم إذا اجتمعوا بعضهم مع بعض. مع ذلك فإن المشكلة ما زالت قائمة، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أكثر من عددهم، أي لا يزال الجبر قائماً، وعندما كثر عددهم زادت قوة الفعل. هنا لا المعتزلة كانوا على حق ولا خصومهم أيضاً. القرآن هنا تحوّل إلى ساحة صراع لاهوتي.
الخطاب هنا خطاب تهديدي تماماً كالآية «يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان».
أيضاً أدخلنا التفسير العلمي لهذه الآية في حواديت حين تم اعتبار السلطان هو العلم،  وهذا تخريف طبعاً. هذا فرض لرؤية المفسِّر على النص. الهدف من هذه الآية هو إظهار قدرة الله.
هل الخطاب وصفي؟ هل هو تهديد؟ هل هو وعيد؟ هل هو وعد؟ هل هو بشارة؟ هل هو مساجلة؟ هل هو تشريع؟ وهذا الأخير فيه مستويات ودلالات. هل المقصود بالتشريع تحسين الفعل؟ هل المقصود بالتشريع تقبيح الفعل؟ هل المقصود به وجوب الفعل؟ والفقهاء القدماء كانوا أكثر وعياً إذ اعتبروا أنه ليس أمراً معناه الوجوب.
هناك معانٍ في القرآن، منها المعنى الروحي والمعنى الأخلاقي والمعنى الكوني والمعنى المجتمعي والمعنى التشريعي
* بعكس مفهوم السلفيين للقرآن حول المعنى الظاهري له؟ 
- المعنى الظاهري بحسب ابن حزم مختلف. ما تسميه قراءة سلفية هي ليست قراءة. هم يعتمدون على قراءات قديمة ويعتبرونها صحيحة. وهم يختارون من القراءات الكلاسيكية ما يتوافق مع هواهم. لهذا هم إلى حد كبير انتقائيون وأيضاً عاجزون عن فهم سياق هذه القراءات الكلاسيكية. ومعظم تفسيراتهم تجيء من تفسير ابن كثير أو القرطبي.
الفكر الديني حتى في شكله المعتدل معادٍ للتاريخ. التاريخ هو مجال التلوث. حتى علماء كالشافعي مثلاً كانوا خارج التاريخ."(انتهى) 
صراحة ، كلام هذا الرجل لم يترك لي مجالا للزيادة ، ومع ذلك فكلام الله عز وجل غني بالإشارات التي تجعلنا نهتدي إلى المقصودمنها  ولو بشكل نسبي . ففي نهاية المطاف ، هو وحده العالم بتأويله . 
لنقرأ هذه الآية بأناة : " أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ." التهديد هنا ظاهر جلي ، أن الله إذا أراد أو إذا شاء أن يعاقب قوما بذنوبهم سيفعل ويقدر على الفعل !
 وجدير بالذكر أن مايجب أن نضع تحته سطرا في هذه الآية هو بالضبط :  "لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ". معناه أن الله عز وجل لا يأخذ أحدا بغير ذنب . مع أنه بمقدرته أن يغشي أفئدتهم وأسماعهم وهذا يعيدنا إلى الآية السالفة الذكر من سورة البقرة . 
 و لنقرأ هذه أيضا : " وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ."
في هذه الآية ، ذُكِرَ المترفون أيضا ، فهم دائما من يصنعون القرار ويفرضونه على العامة . وهم أيضا من يختارون اتباع آثار أسلافهم بمحض اختيارهم . لذلك تأتي محاسبتهم بعد إنذارهم وإرسال الرسل لهم ، و تشبثهم بالاقتداء بآبائهم . فهذه الآية تُظهِر بشكل لا يدع مجالا للشك أن العقاب يعقب الانذار ويتبع حرية الاختيار والثبات عليها !
ففي قولهم " وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ " ثبات وتشبث بالرأي بل تشدد في التمسك به ، إذ لامناص  من الرجوع عنه . ونتيجة لذلك فقط ، ستحق عليهم الضلالة كما جاء في الآية التالية :" فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ."
كذلك يبين لنا رب العزة آياته :"لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَة وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة ." صدق الله العظيم. 
ولنقرأ هذه الآية التي هي نفسها تعتبر تلخيصا شاملا لما سلف من الآيات :" وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ". ولنعد الآن إلى سياق الآية نفسها .
 باسم الله الرحمان الرحيم : { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا ،اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ، مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً. وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ،وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا. }  
إن الآيات التي تسبقها تعبر بشكل جلي عن تحمل كل إنسان مسؤولية اختياراته وأن لا أحد يحمل وزر غيره . كما أن العلي القدير لا يعذب الناس ظلما وإنما يأخذهم بذنوبهم  بعد إرسال المنذرين . أما الآية  التي تليها ،فهي  تبين أن تهديد الله حق ، وأنه أهلك قرونا بعد نوح فهل من مذكر؟ لهذا قلنا بأن نمط خطاب الآية التي يرفضها حرقان هو التهديد ، وقد صدق الله وعده بإهلاك الكثير من الأمم البائدة وهو على ذلك لقادر. 
يقول الله سبحانه: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّة رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)([113]).
 
إن هاته الآيات ليست منفصلة عن غيرها مما جاء في التنزيل الحكيم ، فهناك العديد منها يذهب في نفس المنحى ويؤكد نفس الغرض . التذكير بقصص الأولين وبقدرته تعالى على كل شيء ، على الرحمة والعقاب. لكن شرط أن يكون قد أرسل الرسل لأن لا يظلم أحدا. 
 
يقول جل من قائل:" ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) (هود ). صدق الله العظيم . 
اجمالي القراءات 13330

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (3)
1   تعليق بواسطة   هشام سعيدي     في   الجمعة ١٤ - أغسطس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً
[78888]

راءة اخرى شاذة


شكرا لك على هذا التحليل الدقيق المبين لمعنى الآية و هوالاقرب الى الحقيقة. هناك قراءة اخرى شاذة للفظ آمرنا بتشديد الميم (آمّرنا). اى جعلناهم امراء على قومهم فقادوهم الى التهلكة. هذه ملاحظة فقط تعقيبا على ما جاء في هذا المقال البليغ.



2   تعليق بواسطة   سعيد علي     في   السبت ١٥ - أغسطس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً
[78899]

السلفية دين ارضي يدعوا للإلحاد !!


بالنسبة لأية ( وإذا أردنا ان نهلك قرية امرنا مترفيها ) فقد فَصَّل فيها الدكتور أحمد و أوضح ان الأسلوب هنا هو اُسلوب القصر وأم يتسنى لي وضع التعليق للدكتور احمد فأنا أتواجد في دولة من الصعوبة بمكان البحث في الموقع لإتيان تعليق الدكتور احمد بالذات - أتواجد بالصين حاليا - والحمد لله فموقع أهل القران يفتح وهو جليسي اليوم و استمتع بقراءة المقالات بعد انتهائي من عملي هنا قبل العودة لبلدي و أقول : الحق جل وعلا يأمر بالعدل و القسط ولا يأمر بالفسق - تعالى جل وعلا و سمى سموا و علوا كبيرا - بعد مقالك عن هذا الشاب - احمد فرقان - بحثت عنه فوجدت لقاء له مقتضب في احدى القنوات المصرية و سبحان الله كيف تحول هذا الشاب الى الإلحاد ! و نحمد الله جل وعلا على ان هدانا لموقع الدكتور احمد فبلا مبالغة نجد الاسلام الحقيقي المهجور و القران الحقيقي المهجور و نسأله جل وعلا الثبات على حبه و تدبر قرانه الحكيم .. يا سيدتي السلفية دين تدعوا الى العنف و كره الاخر بينما الاسلام دين السلام والمحبة فالله جل وعلا سلام و هو سبحانه غفور رحيم .. يا الله كم انت حليم .. كم انت ودود .. لو عرف الانسان ما لهذا الخالق العظيم من قدرة لا يتخيلها بشر من حب و مودة لوقفوا متجمدين من روعة هذا الاله العظيم سبحانه و تعالى عما يشركون .. هي الحياة استاذة نهاد فيها الإلحاد و الشرك .. فيها كتاب منير فيه تفصيل كل شئ .. انك لا تهدي من احببت و لكن الله يعدي من يشاء .. سناتيه جل وعلا فرادى .. ياه ما أعظم تلك اللحظة !! الإيمان بالله واليوم الاخر و عمل الصالحات هي النجاه .. ادعوا لهذا الشاب الهداية .. ليس من مهمتنا نقاشهم لان النقاش طويل و هم غير مستعدين للنقاش هم يكفرون بالله جل وعلا و سبحانه من بيده ملكوت كل شئ .. الحمد لله على نعمة القران .. الحمد لله على فكر الدكتور احمد حفظه الله جل وعلا .. الحمد لله على هذه المواضيع الرائعة التي تطرحينها أستاذه نهاد بارك الله فيك وفي كل أهل القران .



3   تعليق بواسطة   هشام سعيدي     في   السبت ١٥ - أغسطس - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً
[78904]

شكرا اختي الفاضلة نهاد


وددت شكرك على هذا التعقيب الوافي لمختلف قراءات (أمرنا) و أن الاشكال في المعنى لا المبنى. اوافقك تماما و متيقن تمام اليقين ان الله خلقنا ليهدينا و يرحمنا و يحسن عاقبتنا و يجزي الذين اسأوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى الذين يجتنبون كبير الاثم و الفواحش الا اللمم.  و كفى بالمؤمن الحق ان يعلم ان الله سبحانه و تعالى ليس بظلّام للعبيد. لكِ جزيل الشكر و التحية و فائق الاحترام و التقدير.



أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2014-05-04
مقالات منشورة : 132
اجمالي القراءات : 1,400,872
تعليقات له : 107
تعليقات عليه : 547
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt