ج3 / ف 5 : التصوف والكيمياء ( ادعاء قلب الأشياء ذهبا):

آحمد صبحي منصور Ýí 2015-05-16


   كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

الجزء الثالث : أثر التصوف فى الانحلال الأخلاقى فى مصر المملوكية 

الفصل الخامس: الصوفية وأكل أموال الناس بالباطل

    التصوف يحول الكيمياء إلى خرافة:

    1 ــ يتردد فى الكرامات الصوفية ادعاء قلب الأعيان ذهبا، وقبل التصوف كان هذا الحلم يراود الجميع بإمكانية تحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب، وعن هذا الطريق سارت الكيمياء حتى اكتسبت ذلك المفهوم ، ولما تعذر الوصول إلى هذه النتيجة بالتجارب العملية أمل الباحثون إلى الوصول إلى إمكانية التحقيق عن طريق القوة النفسية أو مايعرف بالكرامة فى عصور التصوف.

2 ــ يقول ابن خلدون عن الكيمياء " علم ينظر فى المادة التى يتم بها كون الذهب والفضة بالصناعة". ويشرح العمل الذى يوصل إلى ذلك " فيتصفحون المكونات كلها بعد معرفة أمزجتها وقواها لعلهم يعثرون على المادة المستعدة لذلك حتى من الفضلات الحيوانية .. فضلاعن المعادن ". ثم يشرح الأعمال التى تخرج بها تلك المادة من القوة إلى الفعل مثل حل ( تحليل ) الأجسام إلى أجزائها الطبيعية بالتصعيد والتقطير. وفى زعمهم أنه يخرج بهذه الصناعات كلها جسم طبيعى يسمونه الأكسير، وأن هذا الاكسير يُلقى على الجسم المعدنى المستعد لقبول صورة الذهب أو الفضة .. بعد أن يحمى بالنار فيصبح ذهبا إبريزا، وكلامهم فى الكيمياء الغاز ورموز" أى قائم على غير أساس.

 وفى فصل بعنوان " فى إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها وماينشأ من المفاسد عن انتحالها" يقول ابن خلدون" واعلم أن كثيرا من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على انتحال هذه الصنائع ، ويرون أنه أحد مذاهب المعاش ووجوهه وأن اقتناء المال منها أيسر وأسهل على مبتغيه" "وتحقيق الأمر فى ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها فليست من باب الصنائع الطبيعية ولا تتم بأمر صناعى ، وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات، إنما هو منحى كلامهم فى الأمور السحرية وسائر الخوارق وماكان ذلك للحلاج وغيره .). ويقول : " ومن طلب  الكيمياء .. ضيع ماله وعمله لأنه تدبير عقيم ، واقع مما وراء الطبائع والصنائع كالمشى على الماء وامتطاء الهواء ونحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة والكيمياء ربما يؤتاها الصالح وغيره فيكون عملها سحريا"[1]. فابن خلدون نفى عن الكيمياء فى عصره صفة العلم وألصقها إما بكرامات الأولياء التى يؤمن بها أوبالسحر.

3 ــ، وتلميذه الدلجى يتابعه فى رأيه فيقول " أما الكيمياء فلا بحث فى إمكانها على يد ولى من قبيل الكرامات وخرق العادات، ولا فى الوصول إلى تصحيح صيغها ظاهرا على وجه التلبيس والغش كما يفعله الفساق، وإنما البحث فى تصيير النحاس ذهبا حقيقة على طريقة صناعية مطردة ، فهذا مما لا أعتقد صحته، وقد صنف الشيخ تقى الدين ابن تيمية رسالة فى إنكارها ، وكذلك ابن القيم الجوزية كما حكاه هو عن نفسه فى كتابه المسمى مفتاح دار السعادة"[2].

 4 ــ  ومن الطبيعى أن يقف السنيون هذا الموقف من الكيمياء طالما ارتبطت بالتصوف والخرافة، وفى الرسالة التى أشار إليها الدلجى يقول ابن تيمية " فصار كثير من الناس لايعلمون ما للسحرة والكهان ومايفعله الشياطين من العجائب، وظنوا أنها لاتكون إلا لرجل صالح ، فصار من ظهرت له هذه نظن أنها كرامة ، فيقوى قلبه بأن طريقه هى طريقة الأولياء"[3].

وابن تيمية يظن أن الكيمياء يمكن أن تؤتى ثمرة ويجعلها إحدى الخوارق التى يؤمن العصر بإمكانية وقوعها على يد الولى الصوفى أو السحرة والكهان.

5 ــ  واليافعى يتحسب لذلك الخلط بين السحر والكرامة ، فيقول : "فإن قال قائل: تشبه الكرامات بالسحر، فالجواب ماأجاب به المشايخ العارفون العلماء المحققون فى الفرق بينهما إن السحر يظهر على أيدى الفساق والزنادقة والكفار .. أما الأولياء فهم الذين بلغوا .. الدرجة العليا، فافترقا:  ثم إن كثيرا من المنكرين لو رأوا الأولياء والصالحين يطيرون على الهواء لقالوا هذا سحر أو قالوا هؤلاء شياطين. فواعجبا كيف ينسب السحر وفعل الشياطين إلى الأولياء؟!!؟[4].

   6 ــ  والشعرانى حاول أن ينزه طريقة الصوفى من الكيمياء وماشاع حولها حين تكاثر منتحلوها فى القرن العاشر، فروى أن أخاه افضل الدين الشعرانى أمره بعدم الإصغاء " إلى كلام من يزعم من فسقة المتصوفة أنه يعرف علم الكيمياء فإنه كافر" . وأمره بأن يزجر أصحابه الذين يشتغلون بالكيمياء وقال له" كيمياء الفقراء هو أن يعطيهم الله تعالى حرف كن"[5]. يعنى يقول للنحاس مثلا كن ذهبا فيكون ذهبا بدون تعب.

7 ــ ولا أدل على ارتباط الكيمياء بالتصوف من أن أشهر علماء الكيمياء العرب وهو جابر بن حيان وصف بالصوفى، وكان من أوائل من تسمى بذلك ، كما أن عثمان بن سويد الأخميمى الصوفى كان من تلامذة جابر بن حيان، وكان فى نفس الوقت وثيق الصلة بذى النون المصرى الصوفى الرائد، وكان ذا النون المصرى من ناحية أخرى فى طبقة جابر بن حيان فى صناعة الكيمياء[6].

الصوفية وادعاء الكيمياء:

1 ـ   والشاذلى حكى عن نفسه " لما كانت فى ابتداء أمرى أطلب الكيمياء واسأل الله فيها، فقيل لى: " الكيمياء فى بولك اجعل فيه ماشئت يعود كما شئت" .فحميت فأسا ثم طفيته فى بولى فعاد ذهبا"[7].

وهى طريقة عجيبة فى الإدعاء أن يكون لبول الأخ الشاذلى المقدرة على تحويل الأشياء الى ذهب .  ولكنها تتكرر فى المصادر الصوفية عن الشاذلى فيقول فى موضع آخر " كنت أطلب الكيمياء فقيل لى الكيمياء فى بولك"[8].

2 ــ وتلميذه أبو العباس المرسى لم يجد بعد كلمة الشاذلى وبوله إلا أن يقول " ماذا أصنع بالكيمياء ؟ والله لقد صحبت أقواما يعبر أحدهم على الشجرة اليابسة فيشير إليها فتثمر رمانا للوقت، فمن صحب هؤلاء الرجال ماذا يصنع بالكيمياء"[9].

3 ــ   وبعضهم لم يكتف بالتسابق فى ادعاء الكرامات الكيميائية وإنما طرق مجالا جديدا فاشاع مقدرته على تحويل الأشياء الى ذهب بكراماته ، ثم يزهد فى هذا الذهب ، فيعيده الى ما كان . قال الشيخ  أحمد الزاهد  عن نفسه أنه تعلم الكيمياء فصنع منها خمسة قناطير ذهبا ثم نظر إليها وقال : أف للدنيا ثم رماها فى سراب جامعة[10]،  وصدق الناس هذا الكذب لأنه (ولى) فلقبوه بالزاهد.

4 ــ    لذلك كان الولى الصوفى إذا اشتهر بالولاية أو بعلم الكيمياء يتوافد عليه المريدون أملا فى  تعلم الكيمياء ومايعنيه ذلك من احلام ذهبية ،  فالشاذلى يقول " صحبنى إنسان : فقلت له ياولدى ماحاجتك ولم صحبتنى ؟ قال ياسيدى قيل لى إنك تعلم الكيمياء فصحبتك لأتعلم منك"[11].

  وجاء رجل إلى شمس الدين الحنفى ليعلمه الكيمياء لأنه" فقير ذو عيال"[12]، واتهم بدر الدين النورى بعمل الكيمياء" فخدمه لذلك جمع من الأمراء  منهم تغرى بردى رجاء أن يتعلموا منه"[13].

  وحكى الشعرانى أنه ادعى لأحد الأولياء أنه يعرف علم الكيمياء فصار هذا الولى  يخدمه وتبعه على أن يعلمه إياها وبعد مدة قال له الشعرانى: هيهات كيف أعلمك شيئا يشغلك عن الله تعالى" فما زال يقسم عليه فلا يجيبه، ثم قال له الشعرانى: ياشيخ محمد إن شهرتك فى الزهد وأنت تحب الدنيا"[14].

يعنى خدعه الشعرانى واستخدمه ثم ( أعطاه زُمبة ) على حد قول المصريين .

ويتناقض الشعرانى مع نفسه ، فقد افتخر بانه لاينصب على الناس ويوهمهم بانه يعرف علم الكيمياء ليجتذبهم إلى طريقته ويرشدهم إلى طريق القوم " كما عليه جماعة ممن برزوا فى هذا الزمان من فقراء العجم ، وقد أتلف هذا الباب خلائق لايحصون  وصار أصحابه يجلبون أولاد المباشرين والتجار والعلماء إلى أشياخهم ويقولون شيخنا يقلب العيان ويجعل الرصاص ذهبا، فيتركون الإشتغال بالعلم أو التجارة التى بها قوام معاشهم ويصير أحدهم يجعل له عذبه وجبة بيضاء"[15]

 5 ــ  وتصوف كثيرون واشتهر بالكيمياء مثل ابن عبدالرحمن المطرى ت822[16] ، وكان ابن الجابى خطيبا واعظا مشهورا يقصده الناس لسماع خطبته من حسن صوته " وكان مهووسا بعلم الكيمياء، بل كان الفقيه السُذنى المشهور ابن دقيق العيد أيضا" مهووسا بعلم الكيمياء معتقدا صحتها"[17] .

إضاعة الأموال على الكيمياء:

1 ــ  وبعض أولئك المهووسين بالكيمياء أضاعواعليها أموالهم وأعمارهم كما يقول ابن خلدون: (ومن طلب  الكيمياء .. ضيع ماله وعمله لأنه تدبير عقيم  ).

وممن ضيع ماله على الكيمياء : منصور الجفانى الذى" كان أكثر ما يحصله يصرفه فى عمل الكيمياء"[18]. وكان الشيخ الطيبرسى ت 800 إماما يجامع الطيبرسى" وفتن بصناعة الكيمياء" فأفنى  عمره وماله ولم يحصل على طائل"[19]. وانشغل ابن الأبله ت886 فى الكيمياء" فكان ينفد مايحصله من كد يمينه.. بحيث يصيرمملقا وربما ليم على ذلك وهو لاينكف"[20]. وقال الشعرانى " بلغنى إن جماعة من الفقراء وطلبة العلم باعوا كتبهم وامتعتهم فى طلب علم الكيمياء وفتح المطالب وكان عاقبتهم الحرمان "[21]. وكان على الاسكندرانى ت802 اشهرهم جميعا قالت عنه المصادر التاريخية " أفنى عمره فى الكيمياء تصعيدا وتقطيرا ولم يصعد معه شىء"[22].

 2 ــ  وذلك يعنى أنهم مارسوا الكيمياء والعملية بالتصعيد والتقطير للحصول على الذهب دون جدوى ، أى لم يكتف بادعاء الكرامات وغيرها. وفى طرق الكيمياء كتب شرف الدين المقدسى ت712 كاتب الإنشاء تخميسا لشذور الذهب فى صنعةالكيمياء[23].

ولكن بعض الصوفية أفتوا ببعض الوصفات ضمن ادعاءات الكرامات الكيمياوية الذهبية ، ففى كرامة للشيخ الفرغل كان يعلم فيها بعضهم الأكسير الذى " إذا وضع درهم منه على مادته درهم من النحاس الأحمر يصير ذهبا والرصاص يصير فضة"[24] .

وكان الشيخ المحلى إذا أتاه فقير يستعين به فى شىء من الدنيا يقول له : هات ماتقدر عليه من الرصاص فإذا جاء به يقول له ذوبه بالنار فإذا أذابه يأخذ الشيخ باصبعه شيئا يسيرا من التراب ثم يقول عليه بسم الله ويحركه فإذا هو ذهب[25]. وماأسهلها طريقة وما أنظفها بالمقارنة بطريقة الشاذلى المشهورة .. وكلها بالطبع خرافات .

الاعتقاد فى الكيمياء:

  1 ــ  لارتباط التصوف بها كان اعتقاد الناس فى جدوى الكيمياء راسخا مهما قال ابن خلدون والدلجي ومهما رأوا أنه لا فائدة منها، إذ كان الناس على استعداد للتصديق بأى كرامة أو بأى خبر عن نجاح عملية كيمياء.والمؤرخ ابن أيبك الصفدى يقول عن ابن البرهان الطبيب ت 743 والذى كان معاصرا له ، إنه (  كان يثبت علم الكيمياء معتقدا فى الروحانيات والمخاطبات النجومية )( الوافى2 / 24 ). أى وصل الاعتقاد فى خرافة الكيمياء الروحانية والتنجيم الى الأطباء .!

بل أنهم كانوا ينسبون هبوط ثروة على شخص ما بأنه يعرف الكيمياء،إذ أن الخواجا ابن القبيش البرلسي حين شرع في بناء زاويته قال أعداؤه أن هذا المصروف العظيم إنما هو من الكيمياء "[26]

   ومات التاجر الثري ناصر الدين الكارمى ت776 وخلف مالاً كثيراً فقال عنه  أبو المحاسن " خاف أموالاً كثيرة من المتجر والكيمياء، بحيث أنه لم يكن أحد من أهل عصره أكثر مالاً منه "[27]

      وعاش الصوفي ابن سلطان طويلاً في أرغد عيش فاتهمه بعض الناس بمعرفة الكيمياء أو طرف منها خصوصاً وأنه لم يكن يقبل من أحد شيئاً إلا نادراً حسبما يحكي أبو المحاسن[28] .

وبعض الصوفية ادعى أنه كان ينفق من الغيب من كوة في بيته أو من تحت البساط يمد يده فيخرج المال ــ كما جاء في مناقب المنوفي ــ فاتهموه بعمل الكيمياء، فشق ذلك على بعضهم وقالوا له : يقولون عنك أنك تعمل بالكيمياء فلم يتأثر بذلك بل قال : نعم نحن نعمل بالكيمياء وهى تقوى الله..[29] وقيل في ترجمة محمد التوزي ت930، كانوا يقولون أنه يعرف الكيمياء وكان يعلم انهم لا يعظمونه إلا لذلك[30]



[1]
. ـ المقدمة 504، 524، 530

[2]ـ الفلاكة والمفلوكون 29 .

[3]ـ مجموعة الرسائل والمسائل ج1/70.

[4]ـ روض الرياحين 18، 19. ـ.

[5]ـلطائف المنن 76، 73

[6]ـ. ابن ا لنديم الفهرست 498، 500، 505

[7]. ابن عياد الشاذلى : المفاخرالعلية 11

[8]تعطير الأنفاس 31

[9]. ـ تعطير الأنفاس 226،ابن عطاء .لطائف المنن 59

[10]ـ. الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/ 7.

[11]ـ ابن عطاء التنوير 82 .

[12].. الطبقات الكبرى للشعرانى جـ2/89  

[13]ـ الطبقات الكبرى للمناوى 385   

[14]ـ لطائف المنن 75 ، 85 .

[15]ــ لطائف المنن  75، 85.

[16]. ـ إنباء الغمر جـ3/204

[17]ـ. العينى . عقد الجمان ورقة 269، وفيات 701

[18]ـ  الجزرى : الذيل جـ 2 / 365 .

[19]ـإنباء الغمر جـ2/30

[20]. ـ الضوء اللامع جـ1/183.

[21]ـ  ـلطائف المنن 75

[22]ـذيل الدرر الكامنة مخطوط 26 . تاريخ قاضى شهبة جـ 2 / 167 . إنباء الغمر جـ 2 / 123.

  [23]ـ الصفدى . أعيان العصر جـ 7 / 1 / 32 .

[24]ـ مناقب الفرغل 28 : 29 .

[25]- الطبقات الكبرى للشعرانى جـ 2 / 99 .

[26]- نفس المرجع جـ 2 / 80 .

[27]- النجوم الزاهرة جـ 11 / 132 . .

[28]-نفس المرجع جـ 15 / 542 : 543.

[29]- مناقب المنوفى 27، 32.

[30]- الغزى.الكواكب السائرة جـ1 / 94 . 

اجمالي القراءات 8882

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 4980
اجمالي القراءات : 53,328,198
تعليقات له : 5,323
تعليقات عليه : 14,621
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي