لعبة الدومينو الشهيرة من أكثر ألعاب المصريين شعبية، لها وقع خاص وحضور مميز على القهاوي، لها مستويات تحدد مهارة اللاعب في الرياضيات والذكاء، وإن كان في اللعبة جانب كبير من الحظ، إلا أن مهارة اللاعب كافية لتعويضه سوء حظه، لذا فهي لعبة مهارية أولاً وأخيراً وإن كانت تلك المهارة تظهر كلما طال زمن اللعبة.
في الطفولة كنت أعشقها وأجلس بجوار اللاعبين الكبار أتعلم منهم وأستمتع بروح المنافسة، فهي وإن كانت لعبة ذكاء إلا أنها أخف على العقل من الشطرنح مثلاً، بها كل عناصر المنافسة الشريفة..وإن كان بعض ممارسيها يحتالون على الخصوم من غير ذوي الخبرة، ولعل ذلك الاحتيال ما يُكسبها متعة عند ممارسيها فتكثر لديهم نوازع الانتقام..ولكنه انتقام من نوع آخر..انتقام لا يخلو من الفكر والحركة والتأمل، فينشط العقل حتى أنه وبعد كل مباراة يشعر اللاعبون بالتعب..فترى أحدهم يمسح على وجهه وآخر على رأسه وثالث في عينيه.
مع هذه المميزات إلا أن اللعبة لم نمارسها بأمان، فالأب كان شديد الحذر من انصرافنا عن المذاكرة والاهتمام بتلك الألعاب التي كانت تنفق ما في جيوبنا على المشاريب، أو أن ننغمس مع أصدقاء السوء الذين كان لهم الحضور المميز على القهوة..ولم يكن الأب يهتم بما تغرسه اللعبة في نفس اللاعب من مقوّمات وفضائل.. هكذا كانت- ولا تزال -مجتمعات العرب، تنظر إلى الأشياء من جوانبها السلبية ...!
فهي لعبة فكر تنمي حاسة الرياضيات وتزرع في نفوس محبيها قدرة خلق الأدوات واستعمالها وملكة التوزيع ، كل ذلك في لعبة واحدة ، فإذا كانت بتلك المواصفات فما الذي يمنع من اكتساب لاعبيها تلك الحواس العقلية؟
فكرت في ذلك أكثر من مرة، وقررت شراء قطع الدومينو من التاجر لأستعيد ذكريات الطفولة والمراهقة ، ثم لعبت مع بعض الأصدقاء، وأولادي يُشاهدون ..أكبرهم في الصف الثالث الابتدائي والأصغر في الصف الثاني، وبنتان يتطلعان إلى اللعبة كأنها من لعب الأطفال، لا يفهمون مصطلحات اللعبة.."الدورجي والجاهار والدش والدبش والدوسة والدوبارة والدو والشيش والبلاطة..إلخ...لكن يفهمون شيئاً واحدا وهو أننا نضع قطع الدومينو بلصق الأعداد المتشابهة، فيظنون أن تلك الغاية من وراء اللعب..
بعد انقضاء أول.."عشرة"..والثانية والثالثة ناداني أحدهم وهو الإبن الثاني.."صلاح الدين"..وقال لي: أنه يريد أن يلعب، لم أفكر كثيراً وكان الجواب بالموافقة، فانتظرني الطفل بعد مغادرة الضيف، وجلست وسط الأطفال أحكي لهم اللعبة بطريقة بدائية، لم أذكر لهم مصطلحات اللعبة، فالدش يعني ستة وستة، والدبش خمسة وخمسة، والدورجي أربعة وأربعة...وهكذا..حتى لا أحمل عقولهم بما لا تهتم أو تفهم ، وحتماً سيعرفونها بعد الممارسة.
تساءلت الزوجة عن ما حدث، وأن لعبة الدومينو- كما حكيت- لا يلعبها الصغار، وأننا كنا نُعاقب على لعبها في الطفولة والصبا.
قلت أن الطفل في تلك المرحلة العمرية بحاجة للمذاكرة والاطلاع من مداخل يعشقها ليس كما هو معتاد من مداخل أبوية أو تعليمية رتيبة ، فإذا أحب الطفل لعبة الدومينو وفهم ما بها من حساب ورياضيات فسيخلق ذلك لديه عقلاً وحواساً رائعة تهتم بالرياضيات، وبدلاً من دراسته للحساب لغرض النجاح سيدرسه لغرض المتعة ، وينشط عقله بخيال وتفكيك وتركيب رياضي مدهش.
أزعم أن لعبة الدومينو لا تحقق هذه الأمنيات جميعها، ولكن على الأقل هي تغرس في عقل اللاعب روح المنافسة وخيالاً رياضياً مقبولا ..فما المانع أن يتعلم أطفالنا مما يحبونه وليس مما يكرهونه.
أذكر وقد كنت صغيرا محباً للتاريخ، حتى أتذكر جيداً حادثة فريدة في الصف الخامس الابتدائي أنه لم ينجح في الترم الأول في مادة الدراسات الاجتماعية سوى العبد لله، لم يأتِ ذلك جُزافاً فمنذ الصف الثاني الابتدائي وأنا أقرأ في كتب أختي الكبيرة الدارسة في معهد الخدمة الاجتماعية، قرأت في التاريخ والجغرافيا، قرأت شذرات عن روسو وديكارت وشوبنهاور وابن خلدون، وعندما كنت أميناً لمكتبة المرحلة الثانوية الفنية اطلعت أكثر على فكر هؤلاء العظماء، وعرفت الشك وأنا في سن الرابعة عشر..وإن لم أتوسع..عرفت كذلك فلسفة القوة النيتشوية في هذا السن.
لم أخض في غمار الاطلاع إلا عن عشق لتلك المواد
هكذا فتربية الأطفال تبدأ من الترغيب وتنتهي به، أما الترهيب لا يكون إلا عن أخطار تهدد الطفل، حتى أزعم أنه وأثناء المذاكرة لا أفرض على الطفل شيئاً يكرهه ولا أحمل عليه أمراً لا يفهمه، وكثيراً ما أحاول ترغيبه في المادة سواء بأسلوب قصصي وأدبي أو بأسلوب واقعي وضرب الأمثال...حتى وإن كان الدومينو لعبة يستهجنها البعض أو يظنونها حكراً على عوام الشعب والبسطاء إلا أنها لعبة بشرية يمارسها بشر ويربح فيها المجتهدون وتغرس في نفوسهم روح التنافس واللعب النظيف...وأكثر وأكثر..الأمانة.
اجمالي القراءات
6473