الغريب أنك في خلال زيارتك لبلدك الأم تشعر بألفة شديدة لآخر يقيم في نفس البلد المضيف، وتتبادلان حنيناً له لا يقل عن حنينك لبلدك الأم قبل زيارتك.
تسأله عن مكان اقامته، فيجيبك بأنه يقيم في جنوب النمسا، فتشعر بألفة لأنك تسكن شمال إيطاليا على مبعدة نصف ساعة منه.
تسأله عن مكان اقامته، فيجيبك أنه يسكن في الشارقة منذ سنوات طويلة، وتكتشف أن محل اقامتك في دبي ليس بعيدا وتتبادلان العناوين والأحاديث وأوصاف الشوارع والمحلات كأنكما تصنعان في هذا اللقاء وطنا ثالثاً يجمع الوطن الأم والمضيف وما بينهما، أعني وطن اللقاءات الخاطفة.
في زيارتك لا تعرف أن العين التي ترصدك تتلقى رسالة واضحة من الأعماق أنك تعيش في الخارج، تصرفاتك، مشيتك، لغتك، مفرداتك، نظراتك غير الشاردة، ثقتك الكبيرة أن تجديد حياتك ضاعفـَـها ولم يُضعفها، أثراها ولم يُثرها، أغناها ولم يستغن عنها، جــَمَّـلها ولم يجاملها!
أتذكر منذ سنوات طويلة أنني كنت في زيارة للقاهرة، وقبل العودة إلى الاسكندرية استوقفتني سيارة ونظرت داخلها فوجدت شابا ينادي عليَّ باسمي. تأملته مَليـّـــاً، وأنا أحاول تجميع الصورة.
اقتربت أكثر فقال لي: أنا فلان وقد عملنا معا في جنيف. تذكرت بعضا من صورته وبقي الباقي باهتاً. ركبت معه، وسألته عن كيفية التقاطي وسط هذا الحشد القاهري وأنت تقود سيارتك وتنظر أمامك، وليس كالأفلام المصرية تنظر في كل مكان إلا أمام السيارة.
ضحك وقال لي: اشتبه الأمر عليَّ، وفي لحظات رأيت صورتك كمغترب يحمل حقيبة يــَـدٍ على كتفه الأيسر، ولا يزيغ بصره شمالا ويمينا، وهيئتك وملابسك ووقفتك كلها تشيء بأنك مقيم في الخارج.
هكذا ترصد العينُ الغريبَ فيعرفك سائق التاكسي والفكهاني والبقال والحرامي وإمام المسجد وقس الكنيسة حتى في صلاتك.
من هنا تبدأ المسافة في الاتساع، فأنت تتصور أن العيون ستراك كواحد منهم، لكن الحقيقة أنك ارتديت ثوب الغربة رغم أنفك.
كما أن حديثك في بلدك المضيف عن الوطن الأم، فكلامك في مسقط رأسك عن وطنك المضيف.
وكما أن الفكرة السائدة عن بلدك الأم في الغربة مشوّهة وغير دقيقة، فإن الفكرة الأكثر اعتياداً وقبولا عن بلدك المضيف في مسقط رأسك غير صحيحة بالمرة.
ينبغــي أن تعترف أن لديك نصف حياة هنا، ونصف حياة هناك، وهذا ليس قياساً بعدد السنوات، ولكن بالمحاصصة الفكرية والعاطفية، والمقاسمة بين ماضٍ يطاردك، وحاضر يبحث عنك فيه.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 22 يناير 2014
اجمالي القراءات
9762