هو زمن الحسم يا سادة
لا نظن أن أي حوار يعقب الصراعات الفردية والجماعية يمكن أن يكون هدفاً في حد ذاته، إلا لدى من لا يعنون بالدعوة له غير التلكؤ والمماطلة وكسب الوقت تحقيقاً لأغراض يضمرونها، ونحن أكثر ما نسمع في مصر الآن في مواجهة الغضبة الشعبية العارمة على الإخوان المسلمين وإدارتهم للبلاد هو الدعوة للحوار، وهي التي تبدو داخلياً وخارجياً دعوة حسنة باعتبار الحوار هو الحل الحضاري لأي اختلافات بين البشر، وليس فقط بين أبناء البيت الواحد والوطن الواحد، لكن حتمية الحوار تستمد جوهريتها مما يفترض أن يحققه من نتائج وليس عملية الحوار في حد ذاتها، لذا قد لا يكون رفض الحوار ما لم تتوفر مقومات نجاحه مما يستحق الإدانة، كما قد يكون الإصرار عليه دون توفير تلك المقومات ضرباً من الخداع الذي يديم الصراع وليس العكس.
يكون الحوار بين مختلف أفرقاء الوطن مجدياً مهما بلغت درجة الاختلاف أو حتى التضاد بين رؤاهم، إذا كان للجميع أرضية مشتركة ينطلقون منها، أو بمعنى أكثر تحديداً هدف واحد يتوجهون إليه وهو "تحقيق المصلحة الوطنية"، وهذا غير متحقق بأي درجة في حالة الاستقطاب المصرية الحالية، حيث تنويعة "دعاة الدولة المدنية" رغم تضاد رؤاها في كيفية تحقيق الأهداف، إلا أنه يجمعها ذات الهدف الواحد وهو "تحقيق المصلحة الوطنية"، لكن هذا الهدف الأولي والجوهري بالتحديد لا وجود له في أيديولوجية الطرف الآخر وهو جماعات "الإسلام السياسي"، وإن تشدقوا به إعلامياً على سبيل التمويه والتقية، فهم لا يرون مصر وطناً يجمع بنيه مختلفي التوجهات والانتماءات، وإنما يرونها نواة لخلافة إسلامية تمتد من مشارق الأرض إلى مغاربها، يتحقق لهم عن طريقها "أستاذية العالم"، وإن لم يكلفوا خاطرهم تحديد مجال هذه "الأستاذية" ونوعيتها ومقوماتها، هم يركزون فقط على السيطرة على العالم كما حاول قبل ذلك المغول والتتار دون أن يمتلكوا أي مقومات تحقق لهم أي ضرب من "الأستاذية"، هكذا يرون مصر ساحة للحرب بين "المؤمنين" الذين انتقلوا من مرحلة "الاستضعاف" لمرحلة "التمكين"، وبين "الكفار والمشركين أعداء الله"، ليكون على "المؤمنين" إخضاع "الكفار والمشركين" بكل الطرق بما فيها قطع الرقاب إن اقتضى الأمر. . اختلاف الهدف إذن هو قلب المعضلة ومحورها، والتعامي عن هذه الحقيقة أو محاولة الالتفاف عليها عبر حوارات وهمية لا ينتظر منه أي مردود إيجابي. . الحوار سيكون مجدياً فقط بين المؤمنين بمصر الوطن ولا شيء يعلو على الوطن.
يكفي هنا تأمل الشعار الرئيسي لدعاة الدولة المدنية الذي يقول "عيش. حرية. عدالة إجتماعية. كرامة إنسانية"، والذي يوجز الهدف الذي يسعى إليه هؤلاء للارتقاء بمستوى حياة الإنسان المصري، مقابل تأمل الشعار الموجز هو الآخر للجانب المقابل والذي ينادي "إسلامية. إسلامية"، فهم يهدفون لدولة على نمط القرون الوسطى بصبغة دينية إسلامية، بغض النظر عما قد يأتي تالياً لذلك من تصورات ثانوية بأن هذه الدولة ستحقق النعيم في الآخرة وربما في الدنيا أيضاً، فشتان بين الهدف المحدد والعملي وهو الارتقاء بمعيشة المصريين، وبين التركيز على شكل الدولة وطابعها الديني الناجم عن الإيمان، وليس عن البحث العملي العلمي الذي قد يفضي إلى أن الشكل أو ذاك هو الأمثل لدولة الرخاء والعدالة، فقد شهدنا ما حدث في حالة تبني الأيديولوجي لشكل الدولة الاشتراكية، والذي أثبت بفشله التاريخي سقوط التبني الدوجماطيقي لشكل محدد من العلاقات، لأنها تكون في الواقع ليست طريقاً نحو تحقيق الأهداف المرجوة، وإنما تكون في الأغلب ومع التغيرات العالمية المتسارعة صخرة أو سداً في طريق تحقيق هذه الأهداف، وهذا ما سماه الفيلسوف الأمريكي فرانسيسكو فوكوياما "موت الأيديولوجيا".
الحوار المصري الحقيقي ليس ما قد يجري بين هؤلاء وأولئك في قاعات الحوار المكيفة الهواء، بل ما يجري بالفعل في الشارع المصري بين ملايين الشباب والنساء والرجال وحتى الأطفال المحمولين على أكتاف آبائهم وهم يحملون العلم المصري، الذين أثبتت لهم التجربة خواء وخداع مقولات وشعارات المرتزقة والمضللين باسم الدين، ولسنا نأمل في المرحلة الحالية أكثر من ألا ينجح كافة صنوف المتاجرين في إطفاء جذوة هذا الحوار القاعدي، ليأخذ مداه حتى يقتلع جذور التخلف والغيبوبة من التربة المصرية.
لا نقصد بمن يحاولون إطفاء جذوة الغضب والتفاعلات المجتمعية فقط أصحاب المصلحة ممن يبذلون كل ما وسعهم من جهد للهيمنة على البلاد وعلى أخص خصوصيات الإنسان المصري الحياتية، لكننا نقصد أساساً هؤلاء الذي قد يقترفون ذلك ربما عن غير قصد وبحسن نية، فقد يكون السادة قادة "جبهة الإنقاذ الوطني" أو هؤلاء الذين يسمون أنفسهم تعسفاً "جبهة الضمير" أكثر حكمة وتعقلاً من أن يوافقوا على فعاليات الشعب الرافض لحكم الإخوان، وقد لا يمتلكون الشجاعة أو الإخلاص لأن يتبنوا ويدافعوا عن هذه الفعاليات التي يصعب أن تخلو تماماً من بعض التجاوزات، وفي الحالتين فإن على السادة النجوم الانسحاب من الساحة والتبرؤ من الجماهير التي سبقت وتبرأت منهم، ولا بأس من استمتاعهم بالحوارات الرئاسية في القاعات الفخمة، فلا أحد هناك أو في الشارع بات يأخذهم مأخذ الجد، وكيف تأخذهم الجماهير الغاضبة مأخذ الجد بعد مهزلة الحوار حول سد النهضة الإثيوبي، والذي افتضح فيه خواء وتفاهة ونازية ما يسمى زوراً "نخبة مصرية"، فهؤلاء إن كانوا بالفعل نخبة الشعب المصري فهي الكارثة الكبرى أن يكون الشعب المصري الطيب المسالم قد تحول إلى هذه الشاكلة من التفاهة والميول العدوانية، وهو ما تبدو لنا بعض إشارات على صحته من بيان صدر عن مجموعة أكاديمية هندسية متخصصة حول سد النهضة الإثيوبي، وقد طغى على البيان ذات الأسلوب الحماسي النضالي الحنجوري المقيت، بعيداً عن أصول المقاربة العلمية الأكاديمية الجديرة بالأسماء الوقورة الرنانة الألقاب الموقعة على ذلك البيان، لكن إن لم يكن أمثال هؤلاء هم كل النخبة المصرية، فإن تصدرهم المشهد السياسي هو جريمة أخرى مما يرتكب من جرائم في هذا العهد الإخواني الرهيب!!
حيث تسود ثقافة التقديس ينعدم اعتبار حقوق الإنسان لدى الحاكم والمحكوم على حد سواء، فتحريضات شيوخ التكفير على قتل المعارضين، وما يفعله جنود الداخلية فيمن يقع بين أيديهم من المتظاهرين، كلها جرائم تصم ثقافتنا ورؤيتنا لأنفسنا وللحياة. . نحن جميعاً كشعب نفتضح الآن وليس فقط حكم الإخوان ووزير داخليتهم الجديد الهمام، وإن فشلنا في إدراك حجم الفضيحة التي تشملنا جميعاً سنظل على ما نحن عليه ننحدر من السيء إلى الأسوأ، فمسئولية قيادات الداخلية عن واقعة قيام جنود الشرطة أمام قصر الرئاسة بسحل مواطن مسألة ثانوية ويسهل اتخاذ إجراءات حيالها، الطامة الكبرى هي في مسئولية المجتمع الذي نشأ فيه هؤلاء الجنود، مجتمع يتمسك بالغ التمسك بمظاهر التقوى والورع الديني، لكنه كالشجرة التي أكل السوس جوفها، خال من كل احترام للنفس الإنسانية ومن أغلب القيم النبيلة في الحياة.
لقد بدأ الشعب المصري منذ أكثر من عامين "مشوار الألف ميل" نحو الحداثة التي رفضها طويلاً، وعجز أيضاً عن استيعابها والسير في ركابها، وبعد أن تحررنا من عصر مبارك وركوده وتعفنه، قد نستطيع الآن أن نتوجه بالشكر لجماعة الإخوان المسلمين وأذيالهم، إذا وضعونا وجهاً لو أما مفارقة "إما/ أو". . "إما" الوطنية والحداثة والعصر وقيمه وعلمه، "أو" وهم الخلافة الإسلامية والتخلف الذي يعدنا بالتقهقر إلى بدائية وهمجية العصور الغابرة!!
kghobrial@yahoo.com
المصدر ايلاف
اجمالي القراءات
7399