رسالة في الخبر المتواتر
من أكثر ما يسقط فيه فقهاء الشريعة سقوطاً علمياً وأخلاقياً... هو تلخيصهم لمُجمل اجتهادهم بين العامة، فيقولون بالفتوى أو بالحديث -وأحياناً بالسند-ولكن لا يذكرون أهم ما في الأخبار المروية عن رسول الله، وهو أن الحديث -وإن كان صحيح السند- إلا أنه إما خبر آحاد أو خبر متواتر..وهذه آفة كُبرى من آفات الفقهاء، أن جعلوا الخبر إما صحيح وإما ضعيف..فيصدق العامي ذلك أو يُكذبه استناداً إلى رؤية الفقيه وليس لرؤيته هو، فقد غرس الفقهاء في عقول العامة أن أمور الدين والبحث والنَظر جميعها حصرية لهم، ولا يحق لأحدٍ سواهم أن يبحث وينظر، ولكن الحق أن للناس مقاماتٍ عِرفانية وعقلية متفاوتة، فمنهم من يرى وينظر أفضل من الفقيه، ولا يُشترط بنظره أن يكون دارساً لعلوم هي بالأصل منقولة أو مروية وبعضها ليس شرطاً في العلم.
عُرِف بين جمهور الفقهاء أن الحديث هو مصدر السنة النبوية، وعليه فالحديث يكون مصدراً للتشريع..لأن السنة تشريع ، ولكن كي يضبطوا الحديث ويُبينوا ما صحّ منه وما ضَعُف قاموا بدراسة علم مخصوص له يبحث فيه من كافة أبعاده الرئيسة سنداً ومتنا، ومن السند خصصوا علوماً أخرى كمعرفة الصحيح والحَسَن والضعيف والمُرسَل والمقطوع والغريب والعزيز..وغيره...ومن المتن خصصوا علوماً أخرى كمعرفة المُحكَم والمتشابه والمُجمَل والمُشكل ..وغيره..إذن فنحن- من الناحية النظرية -أمام علم قوى ومُحكَم، يبقى فقط حُسن التطبيق وفهم العلوم وإسقاطها كي يستطيع .."المُحدّث"..إظهار ما صح عن رسول الله ويكون تشريعاً يُضاف إلى كلام الشارع الأول وهو الله.
ما يهمنا –الآن- من أمر الحديث هو أمر المتواتر والآحاد..ففي تقديري أن معرفة كليهما سيضعنا أمام تصور أقرب إلى الواقعية للدين ككل..فالحديث وإن كان صحيحاً أو ضعيفاً إلا أن البناء العقلي والوجداني للفقيه قد يدفعه للتأويل، ومن ثم قبول الخبر والاعتداد به ضمن الشريعة.وهذا يُنافي منطق الدين من جهة..أن التشريع لابد وأن يهتم بالنصوص ومقاربتها مع العقل ابتداء، فالعقل هو الباحث ..وهو آلة الفقيه وهو الذي يضع الفرضيات ..وعليه كان العقل هو المعيار الأول في الشريعة..ولكن بما أن الجانب الإيماني بالله أوجب الإيمان بالغيب فقد خرج العقل من هذا الإطار بالكُلّية..وانحصر دوره في ما دون الإيمان بالغيب سواء من تشريعات دنيوية أو أحكام عقلية ستهتم-حتماً- بأمر الأخبار كون الكذب فيها مُحتمل بل ويغلب فيها إذا توازى معه أي عمل كيدي أو خطأ بأي شكل...من جهة أخرى أن تأويل الفقيه غير مفهوم أو غير مقبول عند آخرين،لِذا كان افتراق المذاهب في أصله ناتجاً عن سلوك التأويل وليس لمسألة قبول النص أو رفضه، حيث يتوهم المُأوّل بأن تأويله نص وهو غير صحيح.
تعريف الخبر المتواتر هو..( ما رواه جمع كثير عن مثلهم من أول السند إلى نهايته...بحيث يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأن يكون منتهى خبرهم الحس كأن يقولوا سمعنا أو رأينا أو لمسنا ) ...ومن خلال التعريف نفهم مباشرةً أن الخبر المتواتر يُشترط فيه أن يكون الجمع الكثير متحقق في كل طبقات السند وفي كل العصور،فإذا روى الجمع عن الواحد فلا يكون متواترا..وبذلك يظهر أن للخبر المتواتر شروط قاسية من هذا التعريف، وهو ما حمل البعض للتخفيف من هذه الشروط بتحديد هذا الجمع بأقل عدد ممكن، فمنهم من قال أن الجمع عشرين ومنهم من قال عشرة بل ومنهم من قال خمسة..على خلاف ذلك هناك من قال أن الجمع ينبغي وأن يكون بعدد أهل بيعة العقبة الثانية أي اثنان وسبعون، ومنهم من قال أن الجمع يجب أن يكون بعدد أهل بدر أي ثلاثمائة وأربعة عشر...والتعريف الأخير للجمع قد يكون مستحيل أن يكون إذا ما اعتقدنا بأن الخبر المتواتر في أصله معدوم.
حكم الخبر المتواتر أنه يفيد العلم اليقيني القاطع والجازم ، وعليه فالإيمان به كمن رأى ومن سمع، وبالتالي كان تكذيب الخبر المتواتر –حسب إجماع الفقهاء-يعني تكذيب الله ورسوله، والتكذيب هنا كُفرُ لا محالة..بالتالي نحن أمام أمرين اثنين..(تعريف وحُكم)..فإذا جاء الحُكم دون بيان التعريف ففي الحُكم نَظَر، وأن من يُسارع بإثبات تواتر الخبر فيُنظَر في أمره، ذلك أن ما ينتج عن إثباته تشريعُ في الأصل لا يجوز إنكاره ولو باجتهاد..لذلك ففي تقديري أن شرط ثبوت التواتر هو الإجماع بالتواتر، وهو ما يرفضه البعض بأن ثبوت التواتر عند جماعة يكفي وهو منطق خاطئ، لأن لكل جماعة متواتر تُلزِم به الآخر، فإذا كان لكل دين أو مذهب جماعة أثبتت التواتر ...كان الإيمان بما جاءت به واجب.
أهمية الخبر المتواتر تكمن في أن البناء عليه يُساوي البناء على النص القرآني، أي أن كلاهما يوجب العلم والإيمان، وأن الذي يُنكر أحدهم فهو يُنكر ما جاء في شريعة محمد، فقد قال الله تعالى..( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وقال أيضاً ..( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) وقال أيضاً..( من يطع الرسول فقد أطاع الله )..والآيات هي مصدر من يقول بأن الحديث هو السنة ولو كانت آحاد، ولو كان كذلك فلِما كان إيمانهم بأن الصحيح آحاد ومتواتر؟!..فلو قيل بأن السنة غير واجبة قُلنا فلما قلتم بتحريم لحوم الحُمر الأهلية وكل ذي ناب رغم أن التحريم لم يثبت بالتواتر، وهل التحريم يكون تشريعاً أم لا؟...سنجد أننا أمام منطق يفرض أن يكون الخبر الصحيح هو مصدر تشريع بالعموم، وهو منطق لفظي سيتعارض حتماً إما مع مقاصد الشرع وإما مع العقل الذي يُصدّق ويُجزم بهذا الشرع.
من الأخطاء المشهورة عند البعض أن يُثبت التواتر بمجرد تعدد طُرق الحديث فيعدها واحدة واحدة..حتى إذا بلغت عدداً -أوقفه أحد العلماء لثبوت التواتر- اعتد بما لديه متواترا..وهذا منطق جنوني في الإثبات، إذا كان لذلك أن المتواتر يصدق روايةًَ قبل العلم الضروري!.. فقد يعلم الواحد ويروي فينقل عنه الكثير، فكان معاصري الواحد لا يعلمون وبالتالي لا يثبت التواتر، كون الخبر المتواتر يلزمه نقل جماعة عن جماعة في كافة طبقات السند..وهو ما فسّره الإمام أبي حامد الغزالي في المستصفى بقوله..( عدد المخبرين ينقسم إلى ما هو ناقص فلا يفيد العلم وإلى ما هو كامل وهو الذي يفيد العلم وإلى زائد وهو الذي يحصل العلم ببعضه وتقع الزيادة فضلا عن الكفاية والكامل وهو أقل عدد يورث العلم ليس معلوما لنا لكنا بحصول العلم الضروري نتبين كمال العدد لا أنا بكمال العدد نستدل على حصول العلم)..] ج1ص254[...والكامل عند الغزالي يعني به الخبر المتواتر، وأن مجرد العلم بالعدد ينفي شرط التواتر، وكأن الشرط هنا يراعي حالتي الشيوع الفكرية والوراثية على حدٍ سواء..فأصبحت الشروط تُراعي أهمية إثبات تواتر الخبر لِما سينبني عليه من أحكام قطعية.
إن مسألة عدم العلم بعدد الطُرق هي مسألة بالغة في الأهمية، وهي مدار مُعظم الخلاف حول ثبوت المتواتر، إذ كان البُنيان العقلي والوجداني للإنسان هو الحَكَم في تصديق الأخبار، كذلك كنزع الأهواء في الميل والانحياز، جميعها قرائن نفسية قد يختلف بها العدد في طبقات السند..وفسّر ذلك الغزالي بقوله..( أن العدد يجوز أن يختلف بالوقائع وبالأشخاص، فرب شخصٍ انغرس في نفسه أخلاق تميل به إلى سرعة التصديق ببعض الأشياء.. فيقوم ذلك مقام القرائن وتقوم تلك القرائن مقام خبر بعض المخبرين)..]المستصفىج1 ص[258...وهو ما يعني أنه ليس بمجرد نقل الجمع عن الجمع يكون العلم بالخبر،فيجب أن تكون قرائن دالة على ثبات العدد بالثَبَات النفسي والضبط العقلي للراوي..وحسب مذهب الغزالي في تصور المتواتر عامة تكون قضية تحقيقه وإثباته مسألة في غاية الصعوبة ولكنها ليست مستحيلة، وطرحها للتدليل على أن الخلفية العلمية للمحقق والمُحدّث ينبغي أن تراعي مثل هذه الأشياء في إثبات المتواتر.
كذلك –وكما التعريف-أن الخبر المتواتر يجب أن يكون مسموعاً ومحسوساً من الراوي، وأنه ليس مجرد تخمينات أو تأويلات تُفسر الحَدَث، فلا دور للراوي هنا سوى نقل ما سمعه أو شاهده رأي العين..فالتخمين والتأويل من الراوي يعني خروج الخبر من مرتبة التشريع إلى مرتبة الحكاية والتفسير، بينما لا مُشرّع في الدين سوى الله ورسوله.
كذلك وأن أصحاب الفِرق والمذاهب لا يروون عن .."المبتدعة"..والجواب أنه لا يُسلّم لهم ما ذهبوا، لأن الخبر يعني إخبار بما حدث في مكان، فإذا قُتِل فُلان عند المبتدعة ونقلوا خبر قتله فيجب التصديق، ومن يذهب مسلك الفرز العقائدي في الرواة يغلب على أخباره الانحياز والكذب..وفي تقديري أن مذاهب السنة والشيعة تُعاني من هذه الآفة إجمالاً..فالمذهبان لا يعتدّان -في الغالب- برواة الآخر منهم، وبالتالي كانت أخبارهم وآثارهم محل شك، كونها صدرت من نفسٍ مُنحازة ولا تعرف سوى لغة المذاهب والبِدع، بينما الأخبار لا تعرف سوى لغة الصدق والكذب...فإذا قيل أن المبتدع يكذب لنُصرة بدعته فثبوت الكذب في حقه يحرمه من التوثيق، فرؤيته من جانب ما يقول ويزعم وليس بما يدين ويسلك.. هذا شئ آخر لا يخص العملية الإخبارية، علاوة على كون المبتدع يرى الآخر مبتدعاً، فإذا سار على هذا المعيار كان وخصمه لا ينقلان إلا عن أخيه في المذهب- وإن كان كاذبا- فانتُفيَ معيار الصدق فيشيع الكذب.
يجب حين البحث في التواتر أن يكون الباحث متجرد من الانحياز، إذ وأثناء البحث يُحتمل ميله دون تحقيق فيقع في الغلط، كمثال من يخلط بين المتواتر والمشهور ، فيقول بأنه لولا أن كان متواتراً لم يكن مشهورا ..وهذا خطأ، أولاً لأن شرط التواتر أن يكون الجمع عن الجمع في كافة طبقات السند، والمشهور قد يرويه جمعاً عن واحد فينقلونه للناس فيشيع ويشتهر، وفي ذلك أمثلة عديدة كحديث افترقت الأمة وخير الناس قرني وفتنة الدجال وعذاب القبر والمهدي ونزول المسيح جميعها آحاد وظنها الناس متواترة، كذلك في خبر التروايح عن ابن شهاب عن عروة..فيقوم الناس بالترديد فتشتهر فيحصل شرط التواتر ولكن من السند المتأخر وهذا لا يُحقق شرط التواتر، فالإنسان قد يسمع الخبر ويُصدقه بمجرد أن له أساس سابق عنده، وبتصديقه يختلط الخبر الجديد مع القَناعة القديمة فتُصبح رأياً أو فكراً أو عقيدة، وهذا حدث تقريباً في كافة ما وصل إلينا من خبر الرسول الذي ظهر بعد ذلك مكذوبيته.
الخبر المتواتر لا يعرفه العامة، ولا يعرفه ولا يبحث فيه سوى العلماء وطلبة العلم، بينما ينشرون بين الناس أن الأحاديث إما صحيحة أو ضعيفة، فيقولون عن فلان عن فلان قال رسول الله فيصدق قولهم بأن الرسول قد قال...وهذا تجنٍ واعتداءٍ آثم على الرسول بنسبة قول له بمجرد الظن، فإذا حدثت هذه النسبة يجب أن يُوضح الفقيه ظنية هذا الخبر وشرح مفهوم الظنية وما ينتج عنه في الشرع، سوى ذلك فحرام أن ينسب خبراً إلى الرسول بلُغة الجزم إلا إذا كان متواترا ، فإذا لم يتواتر يُقال أنه صحيح ولكنه آحاد، والآحاد ظني الثبوت ولا يحتج به جمهور الفقهاء في العقائد، ذلك لأن العقائد واجبة التصديق، وعليه كان خبرها قاطعاً للثبوت كشرط أصيل للاعتقاد..
في تقديري أن أكثر مشاكلنا .."الدينية والمذهبية"..في المنطقة العربية لا تخلو من آثار الخلط الهمجي بين الخبر الصحيح ..(المتواتر والآحاد).. وأن انتشار خبر الواحد أصبح يعادل مرتبة القرآن في التصديق والجزم..فيُقال أنه صحيح وكفى فيُصدقه الناس ويرهب في رده العلماء، وينتوي الاجتهاد كل حاذق ومُجتهد فيرى عقلاً عامياً لدى الفقيه..يخشى هو الآخر ردود أفعال الناس فيصمت، أو يُجادل لإثباته انتصاراً إما لدينه أو مذهبه أو حِزبه..رغم أن هذه الأشياء ليست بحاجة إلى الكذب للثبوت، ولكن الإنسان يقنع بالحُجة، ولو أن خصوم الفقهاء والمقلدين ممن كانوا من الأشقياء لكان الرأي العام مع الدفاع عن الرسول ضد من ينتهكون عصمته وينسبون له أشياء تُحِطّ من قدره بل وتعتدي على الملائكة والأنبياء..بل ووصل الأمر بهم للتعدي على الذات الإلهية فقط بمجرد أنها وُردت في أحاديث يظنها البعض تشريعاً وهي في الحقيقة ليست كذلك ولن تكون.
اجمالي القراءات
14053