الخاتمة
(أ) مشاكل هذا البحث
1 ـ ـ هناك فرق بين الروائى والباحث التاريخى ؛ الروائى يستطيع أن يؤلف رواية بأشخاصها وظروفها كما يحلو له، أما الباحث التاريخى فهو ملتزم ببحث الأحداث والأقوال التاريخية المكتوبة عن العصر الذى يبحثه. فالباحث فى التاريخ المملوكى ـ مثلا ـ يدخل حجرة التاريخ المملوكى بكل مافيها من أشخاص واحداث ومؤلفات تعكس الحياة التى كانت سائدة فى العصر المملوكى ، ولا يملك الباحث الملتزم بالأمانة العلمية أن يفترى وقائع أو يتجاهل ماتصرخ به حقائق العصر، خصوصا إذا كانت تلك الحقائق تظهر فى سطور التايخ المملوكى كلها، وفى عناونيه ، بحيث إذا تجاهل سطرا فضحته باقى السطور ، وإذا تعامى عن مصدر نطقت بالحقائق باقى المصادر.
2 ـ ومشكلة هذا البحث بالذات غاية فى التعقيد .
2 / 1 : فهو بحث إرتاد لأول مرة ـموضوعا مسكوتا عنه فى البحث التاريخى ، هو بحث الحياة الدينية للمسلمين ، وهم الذين يتصورون أن المسلمين فى حياتهم الدينية متمسكون بالاسلام الذى كان عليه خاتم النبيين ، وأن الشيطان قدّم إستقالته بمجرد أن العرب دخلوا فى دين الله جل وعلا ـ أفواجا ، وهم ممنوعون من التفكير العقلى فى تاريخ الصحابة بعد موت النبى وما إرتكبوه من فتوحات وحروب أهلية ، تأسّست عليها أديان المسلمين الأرضية .
2 / 2 : ومن الممنوع عُرفا وشرعا فى الأديان الأرضية للمسلمين توضيح الفجوة بين دين الإسلام وتلك الأديان الأرضية التى ترفع راية الاسلام وتتناقض معه فى نفس الوقت ، وقد تكوّنت لها قُدسية وتأسست عليها مؤسسات قوية النفوذ مؤثرة فى ثقافة الشعوب ومتحكمة فى حياتها الدينية والاجتماعية ، ومتحالفة مع السلطان القائم تبرر إستبداده ، وإذا واتتها الفرصة طمحت فى السيطرة عليه أو الثورة عليه . وأعتى تلك المؤسسات مؤسسة الأزهر.
2 / 3 : ومن الكبائر التى تستوجب إقامة حد الردّة تقديم هذا البحث فى مؤسسة الأزهر بالذات ، وهى التى تمثل قاع الجمود العقلى والتخلف العلمى ، والتى تتخصّص فى مطاردة المفكرين سواء كانوا من داخلها أو من خارجها . لو تقدم الباحث بهذا البحث لنيل درجة الدكتوارة فى جامعة القاهرة ــ مثلا ــ لناله العنت والمشقة ، فكيف بجامعة الأزهر ؟
2 / 4 : ثم كان إنتحارا تقديم هذه الرسالة للمناقشة عام 1977 ،والأزهر تحت قيادة د .عبد الحليم محمود الذى كان أكبر شيوخ الأزهر نفوذا ، وكان فى نفس الوقت ـ بكل نفوذه وتسلطه ــ أكبر مدافع عن التصوف فى مصر وخارجها ؟
لقد عرضت فى المقدمة بعض الاضطهاد الذى أسفر ــ أخيرا ــ عن حذف ثلثى الرسالة ، وكان من ضمن المحذوف ذلك الذى تم نشره هنا عن أثر التصوف فى العقائد والعبادات والأخلاق .
3 ــ ثم هو بحث يستلزم التعمق فى موضوعات متشابكة معا : الاسلام من خلال القرآن الكريم ، والتصوف ، ومصر والعصر المملوكى .
3 / 1 : التعمق هنا يدخل فيه قضية علمية قلما يلتفت اليها أحد ، وهى أساس فى أى بحث جاد فى الموضوعات الدينية والتاريخية والتراثية ؛ هى قضية المصطلحات .
ـ للقرآن الكريم مصطلحاته الخاصة التى لا يمكن بدونها فهم القرآن الكريم ومعرفة حقائق الاسلام . هذه المصطلحات القرآنية لا يمكن فهمها إلا بالتدبر القرآنى ، وفهم كل مصطلح من خلال السياق الخاص بالآية وعلاقتها بماقبلها وما بعدها ، ثم بتدبر نفس المصطلح فى سور القرآن الكريم كلها . مصطلحات القرآن تختلف ـ وأحيانا تتناقض مع مصطلحات التراث وأديان المسلمين الأرضية . ولكل دين أرضى ( سُنّة ، تشيع ، تصوف ) مصطلحاته الخاصة ، وأتباع كل دين منها يدخلون على القرآن بمصطلحات دينهم يحرفون الآية عن سياقها ويؤولون معناها ليجعلوا لدينهم مسوغا شرعيا يربطهم بالاسلام زورا وبهتانا .
ــ ثم هناك مصطلحات علمية لعلوم النحو والبلاغة والعلوم العقلية ..الخ ، بل إن تسمية هذه العلوم وموضوعاتها يدخل فى المصطلحات المستحدثة المصنوعة مثل ( النحو ، وما فيه من الاعراب ، الرفع ، النصب الجر ، الفاعل ، المفعول . ومثل البلاغة وما فيها : الاستعارة ، الكناية ، المجاز ..، والعروض . والحديث وما فيه من الجرح والتعديل والحديث المتواتر والصحيح والحسن الضعيف والموضوع..الخ ، ومثل علم الكلام ، والتوحيد ..الخ ) .
ــ ثم هناك مصطلحات خاصة بكل عصر تاريخى ، وهناك اسلوب للكتابة فى كل عصر يختلف عن العصور الأخرى . فمصطلحات العصر العباسى تختلف عن مصطلحات العصر المملوكى ، سياسيا ولغويا .
ــ ولا بد للباحث أن يتعرف على هذه المصطلحات القرآنية والتراثية والتاريخية ، بل لا بد أن يُعايشها ، ويعرف الفروق بينها . ومصطلحات التصوف بالذات هى الأكثر عددا الى درجة أن هناك مؤلفات صوفية كُتبت فى التعريف بتلك المصطلحات ، ثم هى مصطلحات تعتمد على الرمزية ، ويحاول أرباب التصوف بها نشر وتسويغ دينهم وعقائدة المتناقضة مع الاسلام .
3 / 2 : بالاضافة الى قضية المصطلحات لا بد للباحث من فهم دين التصوف . وتلك مشكلة عويصة فى البحث عن التصوف فى العصر المملوكى . ففيه ساد التصوف وسيطر. والعادة أن البحث فى التصوف يتوقف عادة عند بداية العصر المملوكى ، أو بانتهاء التصوف النظرى الفلسفى، ويتجاهل باحثو التصوف الفلسفى تحليل تاريخ التصوف بعدها،لأن التصوف بعدها أصبح تصوفا عمليا مؤثرا فى الحياة الاجتماعية السياسية الدينية الثقافية . وتحول إلى طرق صوفية ، وأصبح البحث فيه أدخل فى مجال التاريخ والحضارة منه إلى البحث الفلسفى والفكرى .
ليس بوسع باحث التصوف النظرى الفلسفى أن يُقحم نفسه فى مجال ليس متخصصا فيه ، وهو تأثير التصوف التاريخى فى العصر المملوكى فى كل جوانبه . أى ليس مجرد أن تُحلّل وتُهلّل لكتاب فى التصوف النظرى من كتب الغزالى والقشيرى وابن عربى واللمعى ، بل عليك أن تقرأ بالإضافة لكل تلك الكتب الصوفية النظرية كل الكتب التى كتبها صوفية العصر المملوكى ، من موضوعات مختلفة كالمناقب والمزارات والكرامات والوصايا والطبقات ..الخ . ثم عليك أن تتبع تأثير دين التصوف فى العصر المملوكى بكل تفصيلاته وحياته اليومية من خلال سطور المكتوب فى العصر المملوكى كله .
3 / 3 : والعصر المملوكى مشكلة أخرى . هو عصر تم فيه إعادة تدوين كل تراث ومؤلفات العصر العباسى بعد تدمير بغداد على يد المغول ، وارتبطت إعادة التدوين هذه بشرح بعض منتجات العصر العباسى مثل ( صحيح البخارى ) ، ودارت الحياة العلمية فى هذا العصر المملوكى على الشرح والتلخيص دون تجديد ، مع كثرة ( العلماء والفقهاء ) وكثرة المؤسسات العلمية التعليمية الصوفية .
ثم إن هذا العصر المملوكى شهد قيام الدولة المملوكية دولة محورية مؤثرة وثرية سياسيا بالأحداث المحلية والعالمية ، فهى الدولة التى أوقفت زحف المغول وأنهت الوجود الصليبى ، وأنشأت أكثر الموجود الآن من الآثار ( الاسلامية ) .
وهو العصر الذى إزدهرت فيها التأريخ أو علم التاريخ بكل مدارسه ونوعياته من حوليات وتاريخ محلى وموضوعى وطبقات و تأريخ للمدن والعمران وموسوعات تاريخية ، ونوعيات تاريخية متخصصة، وفيه ظهر أعظم المؤرخين كالصفدى والنويرى والمقريزى وابن حجر وأبى المحاسن والسخاوى وابن إياس . البحث فى أثر التصوف فى العصر المملوكى يستلزم ليس فقط قراءة كل المصادر التاريخية ؛ المنشورة والمخطوطة والوثائق ، بل أيضا قراءة كل ما أنتجه العصر من مؤلفات فقهية وأدبية وشعرية وعقلية وعقيدية وكتب فى الأمثال الشعبية والنوادر لمعرفة تأثير التصوف على ثقافة العصر ومنتجاته العلمية .
3 / 4 : ثم يستلزم التركيز على (مصر) لأنها فى عنوان البحث:( اثر التصوف فى مصر العصر المملوكى ) . والتاريخ المصرى مع إمتداده وتنوع حكامه وحياته الدينية عبر العصور خلال عشرات القرون قبل العصر المملوكى فله فى أغلبه طبيعة واحدة ، خصوصا فى السياسة والحياة الاجتماعية والدينية . الأمر الذى يستلزم التعرف على هذا ( النمط المصرى ) والى أى حد تأثر بالتصوف .
3 / 5 : ثم تبدو مشكلة أخرى هى أن التأريخ للحياة الاجتماعية فى عصر معين أمر لا يجتذب إنتباه مؤرخي العصور الوسطى الذين يدورون حول الحاكم والمتصلين به ، ولا يأبهون بالعوام ، وهم أغلبية الشعب والمادة الحية للحياة الاجتماعية ، ولا يهتمون بما يحدث فى الشارع ، إلا إذا حدث أمر خطير يُجبر المؤرخ لأن يلتفت اليه .
وهنا يستوجب على الباحث تتبع نبض الشارع ومعرفة أحوال العوام من خلال سطور متفرقة ضائعة وتائهة بين مئات الألوف من صفحات المصادر التاريخية المملوكية ، ثم عليه أن يهتم بكتب الرحالة وكتب الفقه الوعظى وثرثرة الأكاذيب الصوفية فى مؤلفاتهم ، وهى تعكس ــ بصدق ــ عقلية العصر وملامح من حياته الاجتماعية .
4 ــ تغلب الباحث على كل هذه المشاكل ، ولكنه واجه مشكلة أخرى لاشأن له بها، وهى أن آثار التصوف الدينية والسياسية والاجتماعية كلها تدخل فى مجال السلبيات وكبائر الذنوب والجرائم . وواجب الأمانة العلمية يقتضيه أن ينقل الصورة كما هى، ثم يقوم بتحليلها علميا ويتتبع جذورها العقيدية والتاريخية ، ولكن هذه الأمانة العلمية لا تُرضى أولئك الذين يقدسون الأجداد والأسلاف، وما وجدنا عليه آباءنا ، أو يقدسون التصوف وأولياءه. وبسببهم عاشت أجيال تحت ضغط طاحونة هائلة من غسيل المخ تركز على عبادة السلف ولا تذكر إلا الجانب المضىء، فإن لم تجده اخترعته اختراعا.
أئمة الجهل هؤلاء لا يرون للبحث التاريخى إلّا وظيفة وحيدة وهى التغنى بالأمجاد والمناقب، وعدم كشف العيوب والمساوىء ، حتى نظل نقع فى الخطا ولانستفيد من تجارب التاريخ ومواعظه.
أئمة الجهل هؤلاء لايعرفون أن نهضة أوربا الحديثة ارتبطت بمنهجها النقدى للتاريخ والأفكار، ولا يعرفون أن القرآن العظيم نفسه تحدث فى قصص الأنبياء عن أخطاء الأنبياء وأخطاء البشر من آدم إلى خاتم النبيين عليهم السلام. وجعل هذا القصص عبرة وعظة، كى نستفيد من الدروس ونتجنب أخطاء السابقين .ومن أسف أن يتبع الأوربيون المنهج القرآنى فى البحث التاريخى ، ونظل نحن نسبح بحمد الأسلاف ونرتكب نفس أخطائهم، ولهذا نظل رقيق القرن الحادى والعشرين. لذا نتفهّم موقفهم من بحث يُظهر مساوىء التصوف وأربابه بكل موضوعية ، ولا يستعمل إطلاقا أسلوب التبرير .
( ب ) المنهج العلمى
1 ـ إن هذا البحث قد أعيدت كتابته اكثر من مرة خلال خمسة عشر عاما، وحتى بعد نشره عام 2000 ، قمت بإعادة كتابته قبل نشره هنا . وهذه هى أمانة العلم ومسئولية الباحث أمام ربه جل وعلا وضميره . وهذا غريب فى عصرنا السىء الذى تتفتّحُ فيه الأبواب لأرباب الجهل طالما يكررون ما تقايأه أئمة الإفك والضلال فى العصرين العباسى والمملوكى .
2 ـ لم أحاول مطلقا تزيين الواقع التاريخى المُظلم للتصوف وأربابه ، بل قمت بتحليل هذا الواقع كما هو ، ثم الاحتكام فيه للقرآن الكريم ، لإنصاف الاسلام وإصلاح المسلمين .
3 ــ ومع هذا فقد إضطررت الى المواءمة بين الأمانة العلمية (التى تستلزم نقل الحقائق كما هى وتحليلها تحليلا علميا) وبين ذوق عصرنا الذى يستفظع ماكان سائدا فى عصر التصوف المملوكى ولا يستطيع تصديقه. وبسبب هذه المواءمة فقد اضطررت إلى حذف أغلبية النصوص ( البذيئة) وهى تشكل ظاهرة عادية فى المصادر المملوكية المنشورة والمخطوطة،( والمخطوطة منها أفظع وأضل سبيلا) واكتفيت ببعض النماذج التى تعطى فكرة عن العصر ، مع الكثير من الإعتذار .
4 ــ كما أن الباحث نقل مباشرة عن المصادر الصوفية، وأغلبها مصادر منشورة ومشهورة وفى متناول من يريد قراءتها، كما أنها كانت مكتوبة فى عصرها فى تمجيد التصوف والصوفية والافتخار بما يفعلون أو نقد ما كانوا يفعلون . أى أن الباحث اعتمد على مصادر حية لأصحاب الشأن أنفسهم، ونقل عنهم مايؤكد الحقائق التاريخية للعصرالمملوكى وتصوفه، فإذا كانت تلك الحقائق تدين التصوف وتشينه فليس ذلك ذنب الباحث، بل هو فضل للباحث طالما يريد ببحثه توضيح الحقائق للمسلمين من الصوفية وغيرهم. وتلك هى مهمة البحث التاريخى، أن ندرس حقائق التاريخ لنتعلم من الأخطاء.
كما حرص الباحث على الاحتكام إلى كتاب الله ليوضح حقائق الإسلام ، ويسلط بها الضوء علي روايات التصوف وتشريعاته، وقد ألصقها أصحابها بالإسلام زورا مع تناقضها مع القرآن ، والباحث يهدف بذلك إلى تصحيح عقائد المسلمين من الصوفية وغيرهم فى عصرنا الراهن.
أخيرا :
1 ــ واضح فى هذا البحث أن التصوف حين ساد العصر المملوكى فقد هبط به الى مستنقع الكُفر العقيدى القلبى ، ومستنقع الفساد الأخلاقى والانحلال الأخلاقى . وبقية فصول الرسالة التى نوقشت تناولت آثار التصوف السلبية سياسيا وعلميا وتعليميا وإقتصاديا و إجتماعيا . ونرجو أن نتمكن من نشر هذه الأبحاث لاحقا .
ولكن تبقى للتصوف ميزة لا بد من الاعتراف له بها . هى أنه دين المٌسالمة والحرية الدينية .
2 ــ إن للإسلام والايمان معنيان : فى التعامل القلبى مع الله جل وعلا هو التسليم له جل وعلا وحده والانقياد له وحده إلاها لاشريكله ولا تقديس لغيره . ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) الأنعام ).
والإيمان فى معناه القلبى هو الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله دون تفريق بين الرسل (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) البقرة ).
وهذا الاسلام القلبى والايمان القلبى مرجعه لله جل وعلا وحده يحكم فيه بين الناس يوم القيامة فيما هم فيه مختلفون : ( قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِوَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)) الزمر ).
أمّا فى التعامل مع الناس ، فالاسلام هو السلام ، والمسلم هو المُسالم مهما كان دينه وعقيدته . والمؤمن هو من يأمنه الناس من الأمن والأمان . والمنافقون فى عصر النبى كان ينزل القرآن بكفرهم وتآمرهم ، ومع ذلك فهم مسلمون ظاهريا لأنهم لا يرفعون السلاح ، وكان التزواج بينهم وبين المسلمين المؤمنين قائما لأن الفريقين إشتركا فى السلام ، أى الاسلام بمعناه السلوكى الظاهرى .
والايمان فى معناه الظاهرى هو التمسك بالأمن والأمان ، والمؤمنون حول النبى كانوا مؤمنين بالظاهر بمعنى الأمن والأمان ، ومعظمهم لم يحقق الايمان القلبى ـ كان كافرا بقلبه ـ لذا دعاهم رب العزة الى تحقيق الايمان القلبى بأن يؤمنوا بالله ورسله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) النساء ). أولئك المؤمنون حول النبى كان منهم من يأكل الربا فهددهم رب العزة قائلا : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275))، ثم يقول لهم رب العزة جل وعلا :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) البقرة ). يخاطبهم رب العزة بالذين آمنوا ، ليس بالايمان القلبى ولكن الايمان السلوكى بمعنى الأمن والأمان . وكان أولئك ( المؤمنون ) الصحابة يعبدون الأوثان فى المدينة متمتعين بالحرية الدينية المطلقة التى أرسها الاسلام فى دولة الاسلام فى المدينة فى عهد خاتم النبيين عليه وعليهم السلام . قال الله جل وعلا لهم : ( وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) الحج ) فلم يسمعوا ولم يطيعوا ، وظلوا على عبادة الرجس عاكفين ، ثم فى أواخر ما نزل قال لهم جل وعلا يخاطبهم بالذين آمنوا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ (91) المائدة ) قال لهم جل وعلا (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ) ثم تأتى الآية التالية تحملهم المسئولية وأن ما على الرسول سوى البلاغ المبين دون إكراه فى الدين : (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) المائدة ).
ولأن الاسلام دين السلام فإن الله جل وعلا إعتبر دخول العرب فى السلام دخولا فى دين الله جل وعلا فقال لخاتم النبيين : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) النصر). الذى رآه النبى هو الاسلام الظاهرى ، أى السلام وتوقف الحروب .
ليس بوسع النبى أن يعلم غيب القلوب ، ليس بوسعه معرفة الاسلام القلبى بمعنى التسليم لله جل وعلا ، والايمان القلبى بالله جل وعلا وحده الاها وبملائكته وكتبه ورسله دون تفريق بين رسله، فالله جل وعلا قال له عن بعض أصحابه الملازمين له إنهم مردوا على النفاق ، وهم أسوأ المنافقين وسيعذبهم الله جل وعلا مرتين فى الدنيا ـ بعد موت النبى ، ثم ينتظرهم عذاب عظيم فى الآخرة . هؤلاء الصحابة المجرمون الملازمون للنبى لم يكن يعرف ما فى قلوبهم : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) التوبة ) . هؤلاء الصحابة الذين مردوا على النفاق وتوعدهم رب العزة بالعذاب مرتين فى الدنيا وعذاب عظيم فى الآخرة كانوا مؤمنين مسالمين حسب الظاهر ، شأنهم شأن الذين دخلوا فى السلام ـ دين الله جل وعلا ـ أفواجا . ثم إرتكبوا فيما بعد خطيئة الفتوحات والفتنة الكبرى.
3 ـ الكفر و الشرك سواء, هما قرينان فى مصطلح القرآن لذلك يأتيان مترادفين فى النسق القرآنى. ( 9 / 1 ، 2 ، 17) ( 40/42 2)ـ الكفر فى الغة العربية يعنى التغطية, أى كفر بمعنى غطى , والكفر العقيدى يعنى التغطية على الفطرة النقية بتقديس آلهة وأولياء مع الله جل وعلا .و فى نفس الوقت فان ذلك هو أيضا شرك لأنه حول الألوهية الى شركة وجعل لله تعالى شركاء فى ملكه ودينه. وعليه فكما للاسلام معنيان (الايمان بالله وحده الاها والانقياد والاستسلام لله وحده) حسب العقيدة القلبية فى التعامل مع الله، و( الأمن والثقة والسلام ) فى التعامل مع كل الناس ، فان الشرك والكفر معا يعنيان النقيض ؛ الظلم والاعتداء. الظلم لله تعالى والاعتداء على ذاته بالاعتقاد فى آلهة أخرى معه ، وتقديس غيره ، فيما يخص العقيدة ، والظلم والاعتداء على البشر بالقتل للابرياء وسلب حقوقهم وقهرهم، في التعامل مع الناس، كما فعل الصحابة فى الفتوحات.
هنا يكون سهلا تحديدنا المسلم بأنه الذى سلم الناس من أذاه مهما كان دينه الفعلى أو الرسمى أو إعتقاده، وتحديد المشرك الكافر بأنه هو المجرم الارهابى والمستبد الظالم الذى يقهر شعبه . الأفظع فيهم هو الذى يقتل الناس ويستبد بهم ويُكرههم فى الدين باسم الاسلام ، ينسب شروره لله جل وعلا ورسوله ودينه . وهذا ما نعانيه الآن من الوهابية ، و ما أنتجته من تنظيمات وجماعات .
يمتاز التصوف على الدين الوهابى السّنى بالاسلام الظاهرى المسالم ، وبإيثاره للحرية الدينية . ونحن نشهد بهذا لأغلبية الصوفية ، ونفضلهم على الوهابيين الذين يجمعون الكفر والشرك بالمعنيين : الشرك القلبى بتقديس النبى والبخارى وسائر أئمتهم ، والشرك والكفر السلوكى بجهادهم الذي يقتلون به الأبرياء. .
وموعدنا جميعا يوم الحساب ليحكم بيننا رب العزة فيما نحن فيه مختلفون .
أحمد صبحى منصور
سبرنج فيلد / فرجينيا / الولايات المتحدة الأمريكية
الثلاثاء 14 ابريل عام 2015
مقدمة كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المم
موضوعات الجزء الأول من كتاب (التصوف والحياة الدينية فى
مدخل الباب الأول فى كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مص
التمهيد : التصوف عقيدة وتاريخاً
ج 1 ب1 ف1 : المرحلة الأولى للعقيدة الصوفية : من بداية التص
ج 1 ب 1 ف 2 ( المرحلة الثانية للعقيدة الصوفية من بعد الغزا
ج1 ب1 ف 3 (وحدة الوجود وصراع الفقهاء مع الصوفية من أتباع ا
ج 1 ب 1 ف 4 وحدة الوجود وصراع الفقهاءمع الصوفية في القرني
ج1 ب1 ف 5 الفصل الخامس :المرحلة الثالثة للعقيدة الصوفية
ج1 ب2 ف 1 : صفات ولي الله في الإسلام من خلال آيات القرآن ا
ج 1 ب2 ف 2 الفصل الثانى : التزكية بين الاسلام والتصوف خر
ج 1 ب2 ف 3 ملامح تأليه الولى الصوفى فى العصر المملوكى
ج1 ب2 ف 4 أنواع الأولياء الصوفية ومهامهم وكراماتهم
ج 2 : لمحة عن الجزء الثانى :( العبادات فى مصر المملوكية بي
ج2 ف 1 أثر التصوف فى شعيرة الصلاة فى مصر المملوكية
ج2 / ف2 / أثر التصوف فى شعيرة الحج في مصر المملوكية
ج 2 ف 3 أثر التصوف في الزكاة و والصيام
ج 2 ف 4 أثر التصوف في الذِكر فى مصر المملوكية
ج 2 ف 5 أثر التصوف في الجهاد فى العصر المملوكى
ج 3 : اثر التصوف فى الانحلال الخلقى فى مصر المملوكية
ج 3 ف 1 جذور الإنحلال الخلقى فى عقيدة التصوف
ج 3 ف 2 : مفرادات الانحلال الخلقى الجسدى عند الصوفية
ج 3 ف 3 انحلال المجتمع المصرى المملوكى بتأثير التصوف .
ج 3 ف 4 انعكاسات الانحلال الخلقى فى المجتمع المملوكى:الف
ج 3 ف 5 الصوفية وأكل أموال الناس بالباطل
ج 3 ف 6 التصوف ونشر المساوىءالاجتماعية.
الخاتمة
مصادر البحث
دعوة للتبرع
مفهوم الفقر والعلم : هل يجوز أن أعطي مال الزكا ة الواج بة لمن هو...
العفو والمقدرة : هل العاج ز حين يعفو وهو ليست لديه مقدرة مثل...
الولى فى الزواج: أفهم أن الولى ليس شرطا فى الزوا ج ، وهذا من...
مسألة ميراث : عند توزيع المير اث حسب ما نزل في القرآ ن ...
صيام نصف شعبان: ما حكم صيام نصف شعبان ؟ ...
more