رقم
(
15 )
:
الباب الثانى الفصل 6
ـ كانت الإصلاحات المعمارية وإقامة الجسور والكباري لا تنقطع فى شهر رمضان فى العصر المملوكي .. ونأخذ على ذلك بعض الأمثلة ..
فى 27رمضان 722 يذكر المؤرخ ابن كثير أنه اكتملت عمارة الحمام الذي بناه بهاء الدين ابن عليم بزقاق الماحية من جبل قاسيون بدمشق بالقرب من مسكنه ، وقد أنتفع به أهل الناحية ومن جاورهم .
وفى يوم الاثنين 11 رمضان 811 شرع الأمير شيخ فى تعمير عدة مواضع داخل مدينة دمشق وكانت قد خربتها حروب تيمورلنك ، وألزم الأمير شيخ بعض السكان بتعمير بيوتهم المهدمة وشجعهم على بدء حركة تعمير في دمشق.
وقام بعضهم فى رمضان 835 ببعض إصلاحات فى مكة المكرمة ،" إذ أجرى العين حتى دخلت مكة بعد ما ملأت البرك داخل باب المعلاة ومرت على سوق الليل إلى الصفا وأنتهت إلى باب إبراهيم ، وساحت من هناك فعم النفع بها وكثر الخير لشدة احتياج الناس بمكة وقتها إلى الماء وقلته أحيانا وغلاء سعره ، والسبب هو عدم صيانة البئر والعناية بها ، وأنتهى ذلك بتلك الإصلاحات التي أقامها بمكة تاجر محب للخير والإنفاق فى سبيل الله تعالى وهو سراج الدين عمر بن شمس الدين محمد بن المزلق الدمشقي".. وبذلك خلد اسمه فى التاريخ ..
2 ـ ونحن لا نتصور أن مثل هذا التاجر المحسن قد أرغم الناس على العمل لديه سخرة فى ذلك العمل الخيري ، ولكن تسخير الناس فى الأعمال الخيرية وعمليات الإصلاح كان سياسة مملوكية ، إذا كان المماليك لا يستريحون لفكرة دفع أجور للعمال والعوام أو" الحرافيش " فى لغة العصر ،والأسهل لديهم أن يأكلوا أموال الرعية وحقوق العمال ، حتى لو كان ذلك فى شهر الخير والثواب .. شهر رمضان .
ففي رمضان 738: أنشأ الناصر محمد بن قلاوون جسرا على النيل فيما بين بولاق والزمالك حاليا وربما يكون موضعه الآن هو موضع كوبري أبو العلا ،وكان ذلك المكان الذي أقيم فيه جسر الناصر محمد يسمى حكر ابن الأثير ، وقد سماه المؤرخ أبو المحاسن فيما بعد جسر ابن الأثير ..
والسبب فى بناء هذا الجسر أن فيضان النيل وأمواجه كانت تفيض على شاطىء بولاق وتحدث أضرارا فى بيوت بولاق المطلة على النيل ، إلى درجة أنها هدمت جامع الخطيري فاحتيج إلى تجديده ، بل وأمر السلطان الناصر سكان بولاق الذين يطلون على النيل بعمل الزرابي ، والزرابي هي حوائط ومصدات للماء يقيمها أصحاب البيوت القريبة من النيل، ومنها سلالم تصل ساكني تلك البيوت بالنيل ، وأقام السكان تلك الزرابي تجاه بيوتهم ولكن ذلك لم يفد شيئا . وفي النهاية أمر السلطان بإحضار المهندسين من الصعيد والوجه البحري وركب السلطان معهم النيل فى تلك المنطقة ، وتشاوروا فى الحل ، ثم أتفقوا على حفر خليج فى الجزيرة المقابلة لبولاق – حيث توجد الزمالك الآن – ويمتلىء ذلك الخليج بماء النيل ثم يقام جسر فى وسط النيل يكون سدا يتصل بالجزيرة ، فإذا زاد النيل جرى ماؤه فى الخليج وصده السد وجعله يتراجع إلى الشط الآخر ناحية إمبابة المقابلة لبولاق .
وأقتنع السلطان بالفكرة ولم يبق إلا التنفيذ . فأرسل السلطان من الغد إلى (المشد) فى كل منطقة يجمع الرجال المسخرين بلا أجرة للعمل ، وجمعهم المشدون فقطعوا الحجارة من الجبل ، وقام آخرون بالسخرة أيضا فيحملون تلك الحجارة ويملأون المراكب ، وتأتي المراكب المحملة بالحجارة فيغرقونها بحمولتها فى المنطقة المراد ردمها حيث الجسر. وعمل الجميع فى ذلك الجسر سخرة تحت يد الأميرين أقبغا عبد الواحد وبرسبغا الحاجب. وأمر السلطان والى القاهرة بتسخير عوام القاهرة أيضا فى العمل فكان المماليك يقبضون على الناس من الشوارع والأسواق والمساجد والجوامع ويأخذونهم للعمل تحت لهيب الأسواط وفى نهار رمضان ، وهرب من أستطاع وأختفى من أستطاع ..
يقول المقريزي يصف تلك السخرة " ووقع الإجتهاد فى العمل ،وأشتد الاستحثاث فيه حتى أن الرجل كان يخر إلى الأرض وهو يعمل لعجزه عن الحركة فتردم عليه رفقته الرمال فيموت من ساعته ، وأتفق حدوث هذا لخلائق كثيرة جدا ، وأقبغا راكب فى الحراقة- وهى سفينة حربية – يستعجل المراكب المشحونة بالحجارة ، والسلطان ينزل إليهم ويباشرهم ويغلظ على أقبغا ويحمله على السرعة واستنهاض العمل حتى أكمل فى مدة شهرين ".
وأورد المقريزي عدد المراكب التي أغرقت بحمولتها فى النيل لبناء ذلك الجسر ، وأورد حمولتها من الحجارة ، ولكن لم يكن لديه حصر بأعداد الرجال الذين ماتوا فى تلك السخرة ، ولم يكن لديه عدد لأولئك الذين خرجوا أحياء بعد هذه السخرة ..!!
ورمضان كريم ..!!
3 ـ وبالمناسبة كانت للماليك حيل عجيبة فى القبض على الناس واستخدامهم فى التسخير والعمل بلا أجرة ..
ففي شهر ربيع الأول سنة 877 وفي سلطنة قايتباي كان المماليك يقومون ببناء جسر على النيل عند الجيزة وكانوا كالعادة يريدون الانتهاء منه بسرعة ، وأعوزتهم اليد العاملة فلجأوا إلى حيلة خبيثة لتوفير اليد العاملة بأسهل طريق ؛كانت القاهرة المملوكية وقتها تعج بآلاف الفلاحين الهاربين من السخرة وظلم الولاة والكشّاف فى بلادهم، فأضيفت أعدادهم الى آلاف العاطلين من القاهريين . ولكي يحشدهم المماليك جميعا ليسخروهم في الحفر فإنهم جاءوا بشخص بريء وصلبوه على خشبه ودقوا المسامير فى أطرافه الأربعة وطافوا به فى شوارع القاهرة ينادون عليه : هذا جزاء من يقتل النفس التي حرمها الله ، فأجتمع الناس للتفرج عليه وساروا خلفه بالآلاف إلى أن انتهت المظاهرة عند موضع الحفر حيث تكامل العدد المطلوب للحفر، فقبض المماليك على الجمهور وسخروهم في العمل ..
4 ـ وقبل النهاية نذكر بكل أسى إن عصر المماليك الذى شهد أقسى أنواع الظلم هو نفس العهد الذى عاش تطبيق الشريعة ، ليس الشريعة الاسلامية ولكن شريعة الدين السنى.
ونذكر أيضا ـ وبأسى أعظم ـ أن السخرة ظلت تسود مصر فى تنفيذ المشروعات الكبرى، وأحيانا بناء المساجد والقصور للأمراء المماليك فى الدولة المملوكية والعصر العثمانى وعصر محمد على . ثم أراد الخديوى سعيد باشا ان يطبقها فى حفر قناة السويس ولكن المهندس الفرنسى ديليسبس المشرف على المشروع اشترط فى العقد دفع أجور للعمال المصريين ، ولم نعرف هل تم تنفيذ ذلك أم ظل حروفا على الورق.
ونذكر بكل ما فى العالم من أسى أن السخرة عادت بطرق ملتوية تعتصر حيوية العمال المصريين ، فى الداخل ؛ مثل تسخير جنود المراسلة والمن المركزى فى خدمة الضباط ، والاجحاف بحقوق العمال فى المصانع المصرية ، وتدنى أجور العاملين فى القطاع العام والحكومة ، وخصوصا فى أشرف مهنة ، وهى التعليم والتدريس.. وبالتالى لا يحق لنا أن نتعجب كثيرا من استعباد المصريين فى دول الخليج تحت مسمى ( الكفيل ) .
5 ـ وفى النهاية نتذكر قوله جل وعلا (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ) ( ابراهيم 42 ـ )
وكل عام وانتم بخير ..