من ثورة آي باد إلي ثورة آآآآآي بومبة!

اضيف الخبر في يوم السبت ٢٠ - فبراير - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: الفجر


من ثورة آي باد إلي ثورة آآآآآي بومبة!

 

من ثورة آي باد إلي ثورة آآآآآي بومبة!

ا/عادل حمودة

مقالات متعلقة :

ما إن دخلت استراحة مطار هيثرو في لندن حتي وجدت صورته تطاردني علي الصفحات الأولي من كل جرائد العالم، ما عدا الجرائد المصرية التي لم يكن لها وجود هناك أصلا.

رجل في منتصف العمر.. لم يصافح وجهي من قبل.. لا هو نجم سينمائي.. ولا زعيم سياسي.. خفيف الشعر.. يغلب عليه الشيب.. نحيف.. يرتدي بنطلون جينز.. وبلوفر مقلوب الياقة.. ملامحه جامدة.. ابتسامته باردة.. يحمل بين يديه شيئا لافتا للنظر.. لابد أنه سبب وضعه في الصدارة.

لم يمر يومان حتي وضعته مجلة"ايكونوميست"الوقورة علي غلافها، ولكن بعد أن صورته كالسيد المسيح الذي يحمل ذلك الشيء أيضا وكأنه لوح مقدس كألواح الوصايا العشر.. دون أن تنسي وضع هالة النور المقدسة حول رأسه.. فمن هو ذلك النبي الجديد الذي يبشروننا به؟ وما ديانته الانقلابية التي يدعونا إليها؟

إن المهدي المبشر هو ستيف جونز.. المدير التنفيذي لشركة آبل.. واللوح المحفوظ في يده.. آخر مبتكرات شركته.. كمبيوتر "آي باد" الشخصي الذي سينقل اللاب توب الذي نحمله علي أكتافنا من عصر الكارو إلي عصر الكونكورد.. وسيكون سببا في ثورة تكنولوجية جديدة.. لا حدود لها.. تسد الفجوة بين الموبايل والكمبيوتر.. ويجمع بينهما في جهاز واحد يغير طبيعة العلاقات الشخصية والمهنية والسياسية.

لقد دخلت سان فرانسيسكو التاريخ بصفتها المدينة التي أعلن منها قائد الثورة غير المتوقعة بيانه العلمي الأول وخرج إلي العالم بكتابه الذي رفعه بيمينه.. وعندما نزلت تلك المدينة الساحرة في طريق عودتي إلي القاهرة كانت صورته معلقة في الشوارع والميادين وكأنه زعيم الدنيا كلها. وكمبيوتر"آي باد"هو تطوير لموبايل"آي فون"ويعمل من خلاله.. ويكفي لمسة خفيفة من اصبعك حتي تجد أمامك الصحيفة اليومية قبل صدورها.. والكتاب الذي لم يصل إلي المكتبات بعد.. وشريط الفيديو الذي تفكر في مشاهدته.. والفيديو جيم الذي ستنشغل بلعبه.. ولو وضعت عليه عشرة آلاف صورة شخصية فإنه يستطيع ترتيبها لك كما تشاء.. بخلاف قدرته علي تخزين نصف الموسيقي التي سمعتها البشرية.. وبلغة المحترفين ستجد فيه كل أفراد عائلة"آي".. آي فون.. آي تيونز.. آي بوكس.. آي تيوب.. وآي بود.

ورغم أنني لست بارعا في التعامل مع مثل هذه المعجزات التكنولوجية فإنني حرصت علي أن أفحص الجهاز الجديد المتاح للفرجة في معارض شركة "آبل" قبل بيعه الشهر القادم.. إن وزنه خفيف.. حوالي 680 جراما.. وشاشته الملونة لا تزيد علي عشر بوصات.. ودرجة ذكائه تفوق سمارت فون.. وإن كان ينقصه كاميرا.. ستضاف إليه بالقطع في الجيل الثاني منه.

وقد سألت نفسي فجأة: كيف أتحمس لجهاز يهدد مهنتي ويضعني أنا وزملائي علي قائمة البطالة؟ فنحن أمام قطعة من البلاستيك ستوفر فرصة أسرع وأسهل لصحافة الإنترنت.. وستغري وكالات الإعلانات بالتحول إليها وستدفع بناشري الكتب لتوفير المزيد منها من خلالها.. لكنني وجدت أنها ليست مشكلتي وحدي.. بل سبقني إليها منتجو الأفلام ومؤلفو الموسيقي ومخترعو ألعاب الفيديو.. وهي ضريبة التطور التي لا مفر من دفعها.. والتكيف مع ما تفرضه علينا.

إن المسافة بين الموبايل واللاب توب ظلت لغزا غامضا وصعبا مثل"مثلث برمودا".. وطوال السنوات العشر الماضية فشلت كل محاولات تخصيبهما حتي ولد جنس"آي باد" الذي حقق لأول مرة أيضا وجود كمبيوتر يعمل باللمس، إذ أعلن بيل جيتس أنه جيل من اللاب توب سيلعب دور البطولة في المستقبل وإن تأخر مستخدمه في الإقبال عليه بسبب ارتفاع تكلفته.. علي أن جهاز" آي باد" لن يزيد سعره علي 499 دولارا (حوالي 2500 جنيه) ويصل إلي 829 دولارا (حوالي 4 آلاف جنيه) للجهاز قوي الذاكرة.. سريع الاتصال اللاسلكي بالإنترنت.. وتستمر بطاريته 10 ساعات.. ويسهل علي أقل البشر ذكاء التعامل معه.

إننا أمام زلزال جديد.. ستنسف معه كمبيوترك القديم مهما كان متقدما.. خاصة لو أردت الحفاظ علي جنسيتك في دولة الإنترنت.. دولة"النت بوك"التي حققت مبيعات في العام الماضي وحده وصلت إلي أكثر من 11 مليار دولار.. وقد سمعت من برادلي ايتمان رئيس شركة «فوك» المتخصصة في الجمع بين النصوص المكتوبة والصور المتحركة أن جهاز «آي باد» سيزيد من قدرة الإنترنت علي الإبداع.. وأضاف: إن تأثير «آي باد» في عالم التكنولوجيا الرقمية سيكون مثل تأثير دخول الصوت علي صناعة السينما.

لكنني ما إن عدت إلي القاهرة حاملا كل ما جمعت عن «آي باد» حتي شعرت بالخجل من نفسي.. ما الذي أبشر به في مجتمع يموت الناس فيه مرة وهم يقفون في طابور العيش ومرة وهم يتزاحمون من أجل الحصول علي أسطوانة بوتاجاز.. صدمة حضارية مروعة بين "آي باد" و"آي بوتاجاز".

لقد أفزعتني الصور التي التقطها زميلي أحمد حماد للمصريين اليتامي الذين ماتت حكومتهم وهم يتوسلون ويبكون ويدهسون ويجرحون في يوم الحشر البوتاجازي ليأخذوا "بومبة".. التعبير الشعبي لأسطوانة الغاز.. علي أنني أعطيت العذر لرئيس الحكومة المشغول بالقطع "بعروسته" الشابة.. ولابد أنه أضاع جهده في توفير ما يحتاج من مياه ساخنة في شهر العسل.. دون أن يتذكر أن احتياطي أنابيب البوتاجاز في مصر لا يكفي لأكثر من سبعة أيام.. في حين أن احتياطي الطاقة المنزلية في دول أشد فقرا منا لا يقل عن سبعين يوما.

إن الحقوق الأساسية للمواطن العادي غير معترف بها.. فلا مسكن صحي.. ولا طاقة نظيفة.. ولا طعام خال من مياه المجاري.. ولا إعلام يكشف الحقيقة.. نحن أمام "مستهلك".. بضم الواو وفتح اللام.. لا"مستهلك"بضم الميم وكسر اللام.. فكيف نتحدث عن جهاز رسمي لحمايته يتحدث عن عيوب السلع والخدمات التي يشتريها في وقت لا تتوافر له الحدود الدنيا منها ولو كانت من الدرجة العاشرة؟

لقد شعرت اليابان بالخزي وفكرت في الانتحار بسبب فضيحة فرامل إنتاجها الأخير من سيارات تويوتا.. ونافس الخبر الإعلان عن «آي باد» في الاهتمام والانتباه.. واعتذرت الشركة في بيانات إعلانية نشرتها في أهم صحف الدنيا.. وأبدت استعدادها لتقبيل قدم كل مستهلك وضعت علي فراملها.. فالمستهلك هو "البلاي بوي" المدلل من الحكومات والشركات.. ودونه ينكمش الاقتصاد ويصاب بسرطان الكساد.

أما في مصر فلا نزال ندلل المنتج ونموله ونغفر له كل ما تقدم وما تأخر.. نسانده في صادراته.. وندعمه بمليارات الجنيهات سنويا كي يبيع لنا ما يستحق العقاب.. وفي الوقت نفسه نجد جهاز حماية المستهلك ضعيفا.. فقيرا.. مهزوما.. لا حول له ولا قوة.. وأنا لا ألومه.. بل العكس.. أتعاطف معه.. وأشجعه.. وأتحمس لمساندته.. فلو كانت عيناه بصيرة فإن يده قصيرة.. ولو كانت ديناصورات السوق فاجرة فإن حصوة الملح التي في يده لن تكفي لإصابتهم بالعمي.. فهو في حاجة لدانة مدفع أو قنبلة نووية لوضعه عند حدهم.

لقد طردت الحكومة الجهاز من مكانه في القرية الذكية.. وحرمته من ميزانية مناسبة (أقل من عشرة ملايين جنيه) توفر له فريقا من الخبراء يفتشون عن السلع غير مكتملة المواصفات.. ويكشفون عن عيوبها.. أو يحللون مكوناتها.. أو يقيمون مستواها.. واعتمد الجهاز علي شكاوي عابرة من المواطنين الذين فاض بهم الكيل وأصروا علي أن يحصلوا علي حقوقهم.. وهم بالقطع قلة في مجتمع يائس.. لا يثق في حكومته.. ولا يتصور أنها يمكن أن تقف إلي جواره ضد شركائها في السلطة من السماسرة والمستوردين والرأسماليين.. كما أنها لا تقبل انتصارا للوزير المسئول عن الجهاز (رشيد محمد رشيد) الآن.. وتعتبر الاستجابة لمطالبه بدعم جهاز ينصف المستهلك نوعا من الدعاية الشخصية له.. لا مبرر أن يستفيد منها.. وليذهب نصف الشعب المصري إلي الجحيم بالسلع المعيوبة التي يشتريها.

ولا يستطيع ذلك الجهاز أن يمد يده ويتلقي دعما أو إعانة من منتجي السلع والخدمات التي يراقب جودتها وإلا كان مثل القاضي الذي يتلقي مالا من المتخاصمين كي يحكم بينهم.. وأتصور أن استقلال الجهاز في ظل رأسمالية متوحشة وحكومة متعسفة لا يقل أهمية عن استقلال القضاء.. فتوفير العدالة في الأسواق لا يقل أهمية عن توفير العدالة في المحاكم.

ويعتمد الجهاز علي جمعيات أهلية نشطة.. لكنها ليست منتشرة.. وضعيفة الموارد أيضا.. فالتحالف هنا هو تحالف الضعفاء في مواجهة المفترين.. القابضين.. الضالين الذين تسجد لهم السلطة السياسية وهي تقول آمين.

 

 

اجمالي القراءات 1511
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق