رشيد الدين الصوري.. ماذا تعرف عن أقدم عالِم نبات عربي ألّف أطلسا مصورا للنباتات؟

اضيف الخبر في يوم الثلاثاء ١٧ - نوفمبر - ٢٠٢٠ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: الجزيرة


رشيد الدين الصوري.. ماذا تعرف عن أقدم عالِم نبات عربي ألّف أطلسا مصورا للنباتات؟

ثم إنه سلك أيضا في تصوير النبات مسلكا مفيدا؛ وذلك أنه كان يُري النبات للمصور في إبان نباته وطراوته فيُصوّره، ثم يُريه إياه أيضا وقت كماله وظُهور بذره فيُصوّره تلو ذلك، ثُم يُريه إيّاه أيضا وقت ذواه ويبَسِه فيُصوّره".

مقالات متعلقة :

(المؤرخ جمال الدين القفطي المصري في وصفه لمنهج عالم النبات رشيد الدين الصوري)

أدّى انتشار الإسلام في ربوع العالم، وتوسُّع جغرافيته من حدود فرنسا إلى الصين، وعلى مدار ألف عام التقى المسلمون فيها بأنفسهم وبلدانهم دون عائق أو شرط إلا من بعض استثناءات طفيفة، أدّى ذلك إلى دخول ثروة هائلة من المعارف والعلوم الجديدة، لا سيما العلوم الحياتية والعلمية منها التي تتكئ على خبرات الحضارات السابقة ومعارفها، التي كان منها علم النبات.

والحق أن معرفة الإنسان بالنبات ترجع إلى عشرات الآلاف من السنين عندما اتخذها غذاء وكساء وعقارا، وتأتي حضارات الفراعنة والآشوريين والبابليين والهنود والصينيين لتُقدِّر النباتات حقّ قدرها في هذه المجالات، ورغم أن الشذرات التي خلّفتها تلك الحضارات لا تُمكِّن من تأريخ المعرفة النباتية بشكل دقيق، فإنها دخلت في طور أكثر علمية مع دخول العصر الإغريقي، لا سيما مع ثيوفراستس (372-288 ق.م) أحد تلامذة أرسطو فيلسوف اليونان الأشهر؛ ليكتُب أقدم كتب العالم في هذا التخصص وتبقى سليمة كاملة، وهي "تاريخ النباتات" و"علل النباتات"، وقد عالج ثيوفراستس النباتات بطريقة تختلف عن الطريقة الغائية الأرسطية، فقد كان باعثه معرفة استخدامات هذه النباتات لا سيما في المجال الدوائي[1].

ورغم أن المعرفة العربية بالنبات في أول أمرها كانت مُعجمية للحفاظ على ألفاظ النباتات مع الانفتاح الهائل على الأعراق والأجناس الأخرى، وخشية من ضياع هذا التراث، شرع اللغويون العرب في العودة إلى البادية وتدوين كل كلماتها وجذورها بما فيها الجانب النباتي منذ القرن الثاني للهجرة، واعتبروا الزرع والشجر والكرم والبقل والنخل والنبت وغيرها مثل باقي جذور اللغة واجبة التدوين والتصنيف، وكان على رأس هؤلاء الخليل بن أحمد الفراهيدي النحوي الفذ (ت 180هـ) في معجمه "العين"، ثم توالت المعاجم العربية من بعده تطرق هذا المجال.

على أن علم النبات لم يتوقف على جانبه اللغوي، إذ تطور أيضا في جانبه العلمي من حيث معرفة أنواعه وخصائصه العلاجية باعتباره عقارا ودواء، ومعرفة أهميته الصحية وغيرها مُنذ الانفتاح على مؤلفات الحضارات اليونانية والهندية والساسانية الفارسية وغيرها، وقد نقل المسلمون منذ عصر العباسيين المبكر كتاب ديوسقوريدس اليوناني "المادة الطبية" الذي وضعه سنة 70 من الميلاد[2].

ومن هنا تطورت المعرفة العربية والإسلامية في هذا الميدان على أيدي أبناء هذه الحضارة الذين أضافوا ثروة هائلة من التجارب والخبرات العملية، وبزغ في هذا الجانب علماء على قدر كبير من الشهرة والمكانة في عصورهم مثل حنين بن إسحاق النسطوري (ت 264هـ/860م) وثابت بن قرة (ت 288هـ/900م) والرازي (ت 320هـ/933م) وعشرات غيرهم، ويأتي رشيد الدين الصُّوري (ت 639هـ/1241م) كونه واحدا من أشهر علماء النبات وأمهرهم في عصره قبل ثمانية قرون. فمَن هو رشيد الدين الصوري؟ وكيف برع في علم النبات بل وعلم الطب؟ وما أبرز مصنفاته في هذا الميدان؟ وما الجديد الذي أدخله في هذا الميدان ليستحق به شهرته في عصره والعصور التي تلته؟ ذلك ما سنراه في سطورنا التالية.

في عام 573هـ/1177م، وفي زمن الناصر صلاح الدين الأيوبي، وُلِد رشيد الدين أبو المنصور بن أبي الفضل بن علي الصوري بمدينة صور الشامية (في لبنان اليوم) على ساحل البحر المتوسط، ونشأ بها وترعرع، فتعلَّم كما تعلَّم أقرانه في ذلك العصر، حيث نال حظا من العلوم العربية والشرعية، واشتهر بالورع والتدين والأخلاق الكريمة، لكن الجانب العلمي استهواه، الأمر الذي دفعه للتخصص في معرفة النباتات والتعمق فيها، لا سيما توظيفها للأغراض العلاجية، كما تعلَّم الكيمياء والطب، فنشأ عالِما على قدر كبير من المعرفة العلمية[3].

وكدرب أقرانه من طلبة العلم في الحضارة الإسلامية آنذاك، استهوته الرحلة العلمية، لا سيما إلى بلاد الشام وفي القلب منها دمشق التي كانت قد دخلت في نهضة علمية ومعرفية منذ عصر الزنكيين وقائدهم الشهير نور الدين محمود زنكي (ت 569هـ/1175م) الذي أنشأ المستشفيات في طول البلاد وعرضها، وشجع الأطباء على تعلُّم هذه المهنة، فأنشأ المدارس (الكليات) الطبية والعلمية لهذا الغرض في كلٍّ من حلب ودمشق وحماة وغيرها، فانتقل رشيد الدين من مدينته صور إلى دمشق، وهو في هذه الرحلة كان يقف على أنواع النباتات ويخبرها ويُدوّن ملاحظاته حولها، ثم انتقل إلى بغداد عاصمة العباسيين، وكان بها عدد من العلماء الكبار في الطب والنباتات والأدوية مثل الشيخ موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي صاحب الرحلة الشهيرة إلى الشام ومصر، وهو واحد من أشهر علماء الطب والنبات في العالم في عصره[4].

أصبح الصوري طبيبا ماهرا بعد سنوات من الخبرة والدُّربة والمعرفة والسفر، وقرَّر عند ذلك العودة ليستقر مؤقتا في بيت المقدس، ويُعيَّن واحدا من أطباء البيمارستان (المستشفى) الذي أنشأه الناصر صلاح الدين الأيوبي بهذه المدينة، واشتهر مع ممارسته الطب أنه أولى عنايته للتربة الزراعية التي كانت تنمو فيها النباتات، وكان يجمع الملاحظات ويُدوِّنها ضمن كتاباته آنذاك[5].

وفي القدس أيضا تعمَّق الصوري في معرفة صناعة الأدوية المفردة، وسُمِّيت أدوية مفردة لأنها كانت تُستخلص من نبات أو مادة بعينها دون خلطها بأخرى التي كانت تُسمى في هذه الحالة بـ "الأدوية المركبة"، وفي هذه المدينة تعلَّم الصوري علم "النباتات المفردة" على يد "الشيخ أبي العباس الجياّني (الأندلسي)، وكان شيخا فاضلا في الأدوية المفردة، متفننا في علوم أُخر، كثير الدّين، محبا للخير، فانتفع بصُحبته له، وتعلَّم منه أكثر ما يفهمه، واطلع رشيد الدين بن الصوري أيضا على كثير من خواص الأدوية المفردة حتّى تميّز على كثير من أربابها، وأربى على سائر مَن حاولها واشتغل بها، هذا مع ما هو عليه من المروءة التي لا مزيد عليها، والعصبية (الشهرة) التي لم يُسبق إليها، والمعارف المذكورة، والشجاعة المشهورة"[6]، كما يذكر جمال الدين القفطي المصري في موسوعته "عيون الأنباء في طبقات الأطباء".

ونفهم من كلام القفطي المعاصر لرشيد الدين الصوري أن هذا الأخير قد نال شهرة واسعة للغاية؛ لأنه أتقن عدة علوم منها الطب والصيدلة وعلوم النبات، وأثبت فيها براعة فائقة، مع "المروءة" والأخلاق الحسنة التي قرَّبت إليه المرضى وطلبة العلم، وبسبب هذه الصفات العلمية والأخلاقية العالية اشتهر الصوري بين الناس ليس في القدس فقط، بل في حواضر الدولة الأيوبية وربما العالم الإسلامي، حتى بلغت سيرته السلطان الأيوبي العادل أبا بكر بن أيوب (ت 615هـ/1218م) والأخ الأقرب لصلاح الدين الأيوبي، وقد تعرف السلطان العادل على رشيد الدين الصوري في مدينة القدس أثناء زيارته لها سنة 612هـ/1215م، ورأى مواهبه العظيمة في هذا الميدان، وقرَّر على الفور أن يصطحبه معه إلى القاهرة ليكون من أقرب حاشيته، كبيرا للأطباء، وعالِما فذّا في النبات، مدعوما من السلطان بكل قوة.

وقد كانت العلاقات الأيوبية الصليبية لا تزال على حالها بين الشد والجذب آنذاك، وكثيرا ما عالج الصوري جنود المسلمين المصابين في تلك المعارك، وبعد وفاة السلطان العادل ظلّ الصوري من جملة العلماء الكبار المقربين من السلطان الجديد الكامل محمد بن العادل الأيوبي (ت 635هـ/1237م)، وكان السلطان الكامل شديد التعلُّق بالعلم والعلماء، حتى اشتهر بأنه كان يستدعيهم ليبيتوا معه، يقول ابن واصل الحموي إنه كان "يبيت عنده جماعة من الفضلاء يأنسُ بهم… وكانت تُنصبُ لهم تُخوت (أَسِرّة) إلى جانب تختِه ينامون عليها، ويُسامرونه، ويجاورونه في العلوم والآداب"[7].

وقد فوّض الكامل وظيفة رياسة الطب (وزارة الصحة) إلى رشيد الدين الصوري، ثم انتقل إلى دمشق التي عُيِّن فيها في الوظيفة ذاتها، حيث قرٍبه الملك المعظم عيسى بن العادل الأيوبي ملك الشام، وفيها توافد عليه طلبة العلم من كل حدب وصوب، ثم قرّر أن يشغل نفسه عبر ثلاثة محاور، هي ممارسة حرفته كونه عشّابا مُتخصصا في النباتات الطبية في دكانه (معمله) في دمشق، وتدريس النبات وفوائد الأعشاب الطبية لطلبة علوم النبات، وانصرافه إلى تأليف عدد من الكتب والرسائل التي تضمّنت معلومات وشروح وتعليقات في أكثر من مجال علمي[8]، وعلى رأسها علم النبات.

ولقد قرّر الصوري أن يضع أول كتاب/أطلس للأدوية المفردة والنباتات العلاجية مُصورا، ولاقى رشيد الدين دعما غير محدود من الملك الأيوبي المعظم عيسى الذي وضع هذا الكتاب باسمه، وقرّر أن "يستصحب معه مُصوّرا (رسّاما)، ومعه الأصباغ على اختلافها وتنوعها، فكان يتوجّه رشيد الدين بن الصوري إلى المواضع التي بها النّبات مثل جبل لبنان وغيره من المواضع التي اختصّ كلٌّ منها بشيء من النبات، فيُشاهد النبات ويُحققه، ويُريه للمصور (الرسام)، فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله ويُصوّر بحسبها ويجتهد في مُحاكاتها"[9].

بل إن الصوري عزمَ على أن ينتهج أسلوبا علميا دقيقا في رسم هذه النباتات في أطوارها المختلفة، يقول المؤرخ والأديب جمال الدين القفطي المصري (ت 669هـ/1270م) أحد أصحاب الصوري الذي أهدى للقفطي بعض مصنفاته: "ثم إنه سلَك أيضا في تصوير النبات مسلكا مفيدا؛ وذلك أنه كان يُري النبات للمصور في إبان نباته وطراوته فيُصوّره، ثم يُريه إياه أيضا وقت كماله وظُهور بذره فيُصوّره تلو ذلك، ثُم يُريه إيّاه أيضا وقت ذواه ويبَسِه فيُصوّره، فيكون الدواء الواحد (المستخرج من ذلك النبات) يُشاهده الناظر إليه في الكتاب وهو على أنحاء ما يُمكن أن يراه في الأرض، فيكون تحقيقه له أتمّ، ومعرفته له أبين"[10].

ويرى جورجي زيدان في كتابه "تاريخ آداب اللغة العربية" أن "رشيد الدين الصوري كان في أبحاثه عن النباتات وخواصّها رائدا كبيرا من رُوّاد علم النبات في زمانه البعيد، اتّبع أسلوبا علميا لم يسْلُكه الغرب إلا في العصر الأخير، والجدير ذكره أنه أسهم إسهاما ملموسا في علاج المرضى… وقد اشتغل في النبات ورسم في كتابه النبات في مختلف أطواره، غضّا وجافّا مبرعما ومزهرا ومثمرا، وهذا العمل يُعرَف اليوم بالدراسة الميدانية أو الموضوعية التي يعتمد عليها علم النبات الحديث"[11].

وهذا المنهج العلمي الميداني الذي دفع رشيد الدين الصوري إلى الذهاب إلى بيئة النباتات ليصفها بدقة وأناة في أطواره المختلفة لا شك أنه أخذ منه جهدا بدنيا وعقليا كبيرا، ووقتا زمنيا طويلا لينتقل بين النباتات من بلد إلى آخر في النصف الأول من القرن السابع الهجري/الرابع عشر الميلادي قبل سبعة قرون، وفي وقت كان الاعتماد كله على الدواب أو الأقدام، ورغم كل هذه المعوقات الجمة؛ ظلّ الصوري عاشقا لعلم النبات تدريسا وتصنيعا، حتى وافته المنية في مدينة دمشق في الأول من رجب سنة 639هـ/ 5 يناير/كانون الثاني 1242م عن عمر ناهز السادسة والستين.

وهكذا أفنى عالم النبات والطبيب والصيدلي رشيد الدين الصوري حياته في تقديم شيء جديد ونافع، اعتمد فيه على المنهج العلمي والميداني في علوم النباتات والصيدلة (الأدوية) في عصره قبل أن يعرف الغرب هذا المنهج العلمي التجريبي بعد عدة قرون، فاستحق أن يُوصَف بحق بأنه واحد من أهم وأشهر علماء النبات في التاريخ العربي والعالمي في زمنه.

اجمالي القراءات 978
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق