هل كان مسلمو القرون الوسطى أكثر تسامحًا من أوروبيي العصر الحديث؟

اضيف الخبر في يوم الأحد ١٣ - نوفمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: ساسه


هل كان مسلمو القرون الوسطى أكثر تسامحًا من أوروبيي العصر الحديث؟

منذ فترة وجيزة، وقبل أن يُقرر الإعلام العالمي الصمت فجأة، تسببت قضية اللاجئين والمُهاجرين إلى أوروبا في ضجّة مدوية؛ من ناحية بسبب فجاعة مشاهد النزوح التي تخللتها لقطات الموت المُفاجئ، ومن ناحية أُخرى بسبب الموقف الأوروبي الذي اتسم عمومًا بالقسوة، المُبالغ فيها أحيانًا كثيرة.

تجلت عن الموقف الأوروبي قضايا وتساؤلات حساسة وجدلية ومتشعبة، طرحنا بعضها في ساسة بوست. و هنا تناولنا طرفًا من تجلياتها أو ما قد تكشف عنه. في هذا التقرير نحاول عقد مُقارنة مُبسطة – مع الفارق – عن التعددية الدينية والتسامح على ضوء قضية اللاجئين بين المجتمع الأوروبي الحديث والمجتمع الإسلامي القديم.

  • 1- ما هي التعددية وما هو التسامح؟

في اللغة، التعددية هي اسم مؤنث منسوب إلى المصدر تَعدُّد من الفعل تعدَّد، والذي يُشير إلى التنوع والاختلاف، فيقال تعدَّدت العناصر أي أصبحت ذات عَدَد بعد أن كانت واحدًا فتنوّعت أشكالها واختلفت. ويُقال تعدَّدت الأسباب أي تنوعت واختلفت؛ والموت واحد. ومن هذا فإن التعددية الثقافية أو التعددية العرقية أو التعددية الدينية أو التعددية السياسية وجميعها مُصطلحات تستخدم في الاجتماع والفلسفة، فهي تعني بالتعريف اللغوي قبل الاجتماعي أو الفلسفي أو أيًا كان حقل استخدامها العلمي، التنوع والاختلاف الثقافي أو العرقي أو الديني أو السياسي، أي أصبحت ذات عدد بعد أن كانت واحدًا.

أما التسامُح فهو مصدر الفعل الخُماسي تَسَامَحَ أي تساهل وتهاون. وتعطي أيضًا معنى الموافقة فيقال سامحه بطلبه أي وافقه على طلبه. وتعطي أيضًا معنى المُصالحة، فيقال سامحه في الأمر أي صالحه فيه. وتشير أيضًا إلى الاحترام والتقبّل، ومن هنا فإن التسامح كمدلول مستخدم في سياقات اجتماعية أو ثقافية أو دينية يعني التقبل والتصالح مع الآخر، وهو ما يعني بالجملة التقبل والتصالح مع التعددية أو التنوع والاختلاف.

  • 2- ماذا تعرف عن التعددية الدينية في “المجتمع الأوروبي”؟

لدى شعوب دول أوروبا ما يجعلها وحدةً واحدة، أو مُجتمعًا واحدًا. على سبيل المثال لديها تاريخ مُشترك ولغات جذرها مُشترك، والأهم، وهو الأكثر تحديدًا، لديها عقيدة مُشتركة. فحتى الآن وعلى الرغم من مرور أوروبا بعشرات الثورات والتغيرات الجذرية، لاتزال المسيحية الكاثوليكية هي الأكثر انتشارًا في أوروبًا، وعلى إثر ذلك اندلعت حروب عدّة على مرّ التاريخ منذ انتشار المسيحية هُناك.

وتعتبر قارة أوروبا (التي تشترك أغلب دولها في الاتحاد الأوروبي) أكبر تجمّع مسيحي في العالم، فوفقًا لدراسة إحصائية أُجريت عام 2011، يُشكل المسيحيون ما نسبته 76.2% من جُملة سكان أوروبا، الكاثوليك بينهم يُمثلون ما نسبته أكثر من 46% كأكثرية. النسبة المتبقية (23.8%) مقسمة بين معتنقي الأديان الأخرى غير المسيحية وبين الملحدين واللادينيين والذين يحظون بالنصيب الأكبر من المتبقي بنسبة 18.2%.

وفيما يخص الديانات الأُخرى فيحظى الإسلام بينها بالنصيب الأكبر، بينما تنخفض بشكل كبير نسب الديانات الأخرى لأرقام عشرية أو أقل، وحتى فيما يخص الإسلام، فإن نسبته تتركز بالدرجة الأولى في دولتين ذواتا أغلبية سكانية مُسلمة ولا تمتلكان عضوية كاملة في الاتحاد الأوروبي، وهما ألبانيا وكوسوفو (في هذا الصدد هل تعلم أن المسلمين في البوسنة والهرسك يمثلون ما نسبته 40% فقط) فضلًا عن تُركيا التي تضم جزءًا صغيرًا من أراضيها في القارة الأوروبية.

 

 

 

 

 

وعلى الرغم من أنّ غالبية دول الاتحاد الأوروبي تتبنى نُظمًا علمانية لا تعطي للدين اعترافًا رسميًا من حيث المواطنة أو التصنيف على أساسه أو اعتباره مُعتقدًا أو أيديولوجيا رسمية للدولة كدستور ونظام ومؤسسات وطنية، إلا أنّ العرف وما هو شائع يختلف عن ذلك. إذ لا يُمكن إغفال التأثير العميق للمسيحية على الثقافة والهوية الأوروبية، فبحسب جاك ديلور – رئيس المفوضية الأوروبية الثامن لثلاث فترات مُتتالية وأحد الآباء المُؤسسين لمنطقة اليورو – تتشكل الهوية الأوروبية من 3 أبعاد تتصدرها الديانة المسيحية. فبأي حال من الأحوال لا يُمكن تجاوز التاريخ وما يلقيه من فائض في حركته على الحاضر.

هذا ما أشار إليه محمد عبدالستار البدري، أستاذ التاريخ الحديث بالجامعة الأمريكية في القاهرة ومدير معهد الدراسات الدبلوماسية التابع لوزارة الخارجية المصرية، ففي إحدى مقالاته الدورية بصحيفة الشرق الأوسط اللندنية، يتحدث عما أسماه مفهوم “الأممية المسيحية” التاريخي باعتباره مزجٌ بين الهوية والوحدة السياسية والحضارة القومية في أوروبا، وفقًا لتعبيره. ويوضح البدري أنّ هذه الأممية المسيحية “ظلّت قوة سياسية ودافعًا فكريًا وعقائديًا وسياسيًا أثر مُباشرة على مسيرة السياسة الأوروبية”.

الأديب الإنجليزي الحائز على نوبل في الأدب عام 1948، توماس ستيرنز إليوت، عبّر عن نفس المعنى حين قال إنّه “ليس لتفكيرنا عن أوروبا معنى أو دلالة خارج الإطار المسيحي. فقد لا يؤمن شخص ما أوروبي بأن المسيحية حق، لكنّ ما يقوله ويصنعه يأتي من تراثه في الثقافة الأوروبية”، ببساطة إذًا المسيحية ما جعلت من أوروبا ما هي عليه، وهي التي صنعت ما يُعرف إجمالًا بـ”الحضارة الغربية”.

إذا انتهت المسيحية فستنتهي كل الثقافات الأوروبية. –توماس إليوت

هذه الرؤية لهؤلاء الثلاثة تكشف عن الإطار النظري لطبيعة التأثير الديني في الاتحاد الأوروبي (الذي نحن بصدد الحديث عنه تحديدًا). على أرض الواقع ثمّة ما يعزز من هذا الإطار النظري. على سبيل المثال هناك ما يعرف بالديمقراطية المسيحية، وهي بمثابة أيديولوجيا تتبنى مبادئ مسيحية في مجالات الحكم السياسية والاقتصادية ولها أفكارها فيما يخص المجتمع وتنظيمه والحقوق والحريات وغير ذلك.

منذ بداية القرن العشرين ظهرت هذه الأيديولوجيا التي تجمع بين الدين والسياسة. لم يعد مبدأ “ما لله لله وما لقيصر لقيصر” كما كان سابقًا مع عصور التنوير الأولى، فالآن تُشكّل الديمقراطية المسيحية الأغلبية الحاكمة في الاتحاد الأوروبي، عبر حزب الشعب الأوروبي، وهو تكتل يجمع نحو 70 حزبًا أوروبيًا ديمقراطيًا مسيحيًا من نحو 40 دولة، على رأسها الحزب الحاكم في ألمانيا منذ 1999 والذي تنتمي إليه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.

 

 

 

 

 

  • 3- ماذا تعرف عن التعددية الدينية في المجتمع الإسلامي قديمًا؟

يُحاجج المسلمون بأنّ الدين الإسلامي لا يُقصي الآخر أو ينفيه إطلاقًا، مستدلين بجملة من النصوص القرآنية والنبوية التي تُؤكد على ذلك، بما فيها النصوص التي تتحدث عن الآخر باعتباره مُخطئًا، فإنها لا تُنكر وجوده الفعلي والإيماني.

لا يُوجد إحصاء دقيق لصعوبة الحصول عليه، لأعداد أصحاب الديانات الأُخرى في المجتمعات الإسلامية القديمة، ونقصد بذلك فترة القرون الوسطى، أو ما يُفضل بعض المؤرخين المسلمين تسميته بالعصر الذهبي، على أساس خصوصية مصطلح القرون/ العصور الوسطى لأوروبا. لكنّ المسلمين يدللون على حجّتهم ببعض أبرز مشاهد تعايش أصحاب الديانات الأخرى في ظل النفوذ الإسلامي، بدايةً من معاهدة الرسول محمد مع يهود المدينة أو ما تعرف بوثيقة المدينة، انتهاءً ببروز أسماءٍ مسيحية ويهودية في سماء الحضارة الإسلامية كمُساهم مهم في بنائها في المجالات العلمية المُختلفة.

وإن كان لا يوجد إحصاء يُمكن الاعتماد عليه في قياس نسبة المسلمين إلى غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى في المجتمعات الإسلامية آنذاك، لكن أيضًا لا يُمكن تغافل حقيقة أن المسلمين ولاعتبارات حداثة الدين آنذاك ثُم توسعات الدولة الإسلامية، كانوا في العديد من المجتمعات يُمثلون الأقلية القوية، وهو ما يُؤيده المستشرق البلجيكي هنري لامنس حين قال إنّ أغلب بلاد الشام، وحتى نهاية عصر الأمويين، كان المسيحيون فيها أكثرية.

ويحتم علينا الفارق الزمني إدراك طبيعة الحُكم والإدارة السياسية وأشكال الصراع آنذاك، والفرق بينها وبين الآن. ولذلك، فمع مقارنة مُفارقة يُمكن الاستدلال بنصوص تاريخية مثبتة على وجود تعددية في المجتمع الإسلامي تبدو أكثر تفاعلًا واندماجًا وفاعلية عنها في المجتمع الأوروبي الحديث.

على سبيل المثال، وفي تاريخ مُبكر من الدولة الإسلامية، إبان حُكم معاوية بن أبي سُفيان مُؤسس الدولة الأموية (أوّل مملكة إمبراطورية إسلامية) كان وزير المالية أو بيت المال مسيحيًا، بل وفيما يُعد تطورًا سياسيًا مسبوقًا، عيّن مُعاوية على حمص واليًا مسيحيًا وهو ابن آثال، وذلك وفقًا لكتاب تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين للمؤرخ اللبناني فليب حتّي. وفي رسائله يقول الجاحظ واصفًا المسيحيين خلال وقته (أي العصر العباسي):

إن النصارى متكلمون وأطباء ومنجمون وعندهم العقلاء والفلاسفة والحكماء، ومنهم كتاب السلاطين وفراشو الملوك وأطباء الأشراف والعطارون والصيارفة. واتخذوا الخدم والشاكرية والمستخدمين (وكلاهما يعني الأجراء) وامتنع كثير من كبرائهم من عطاء الجزية.

لم يتوقف الأمر عند مُعاوية، لكنه تجاوزه لما بعده، حتى في عصر الدولة العباسية وإلى نهايتها، ومن أعلى الهرم إلى القاعدة، إذ إن قبائل كانت مسيحية، ظلت كاملة، أو معظم المنتمين لها، على دينهم، من بين تلك القبائل قبيلة كِندة التي ظلت فروعٌ عظيمة منها على الدين المسيحي لفترات مُتأخرة، كما يظهر من قول الشاعر عبدالمسيح بن اسحق الكندي وفخره بدين قبيلته: “فليس لنا اليوم فخرٌ نفتخر به إلا دين النصرانية، الذي هو معرفة الله، ومنه نهتدي إلى العمل الصالح، وهو الباب المؤدي إلى الحياة وإلى النجاة من النار”.

كتابات ومرويات تاريخية لمسلمين ومسيحيين من العصور الوسيطة، تُشير إلى طبيعة التعايش الإسلامي-المسيحي في المجتمع عبر مُشاركة المسلمين المسيحيين أعيادهم ومُناسباتهم، بل إن مجالس الغناء واللهو جمعت أيضًا بين المسلمين والمسيحيين كما جمعت بينهم الأسواق والحمامات العامة التي كانت فضاءً للقيا والاجتماع.

 

 

 

 

 

على ما يبدو إذًا لم يكن المجتمع الإسلامي القديم سيئًا فيما يخص قبوله للتعددية والتسامح الديني. لقد كان المسلمون يتفاخرون بإسلامهم والمسيحيون بمسيحيّتهم. وكانت الأسرة الواحدة تحكم كما تُعيّن في المناصب السياسية من المسلمين عيّنت كذلك من المسيحيين، بل يبدو أن وزارات ودواوين ظلّت حكرًا على المسيحيين كوزارة المالية أو ديوان بيت المال. كما بقيت في المجتمعات مهنٌ حكرًا على المسيحيين كالصيرفة وتجارة الذهب والعسل، وهو الأمر الذي ظل ممتدًا حتى الآن في عديد من البلدان العربية كمصر.

ومع ذلك لا يُمكن تغافل فظائع وقعت في حق أصحاب الديانات الأخرى، بخاصة المسيحيين، تحديدًا مع عصر الدويلات في نهاية الدولة العباسية، وبالأخص مع الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، ثُمّ ما تلا ذلك من الحروب الصليبية، ثم الدولة العثمانية وطموحاتها التوسعية في عمق أوروبا، كُل ذلك كان نذيرًا بنهاية ربيعٍ حقيقي من التعددية والتسامح والتعايش في ظل المجتمع الإسلامي التقليدي.

  • 4- مقارنة مع الفارق: ما الذي يحدث في أوروبا الآن؟

على الرغم من التاريخ الأوروبي العريق في مُجابهة تدخل الدين في السياسة وما تنطوي عليه من حقوق مواطنة، ورغم مرورها على معارك أصيلة للوصول إلى صيغة الفصل بين الروحي والسياسي أو “ما للرب للرب وما لقيصر لقيصر” إلا أنه، كما أوضحنا، لا تزال الجذور المسيحية للقارة الأوروبية حاضرة في الخطاب الرسمي، رُبما قبل الشعبي.

في شهر سبتمبر الماضي، ومع تفجر قضية اللاجئين السوريين إلى أوروبا، خرج رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان بتصريح عُنصري، أوضح عبره بما فيه الكفاية نظرة بلاده نحو حالة إنسانية مثل هذه، حين قال إن “تدفق اللاجئين على أوروبا يُهدد الجذور المسيحية للقارة”. أوربان أيضًا كان مُتعجبًا من الذين ينتقدون موقف بلاده شديد التحفظ إزاء اللاجئين، مُتسائلًا “أليس هذا الموضوع مُثيرًا للقلق، بخاصة وأن الثقافة الأوروبية بالكاد قادرة أن تحافظ على القيم المسيحية؟”.

الإسلام لا ينتمي مُطلقًا إلى أوروبا، فالثقافة الإسلامية والدين الإسلامي لا يمكن إطلاقًا أن يندمجا مع الثقافة المسيحية والدين المسيحي. –رئيس وزراء المجر

وعلى ما يبدو، فلدى العديد من دول أوروبا تخوف رئيس وزراء المجر. لا يُمكن تجاهل حالة الارتباك والتردد هنا وهناك في القارة العجوز، حيث التصريحات المتضاربة بين العنصرية ونقد العنصرية. لكن أيضًا لا يُمكن تجاهل تصريح الرئيس التشيكي ميلوس زيمان، قبل أيام قليلة، والذي خوّف فيه الأوروبيين من خضوعهم على إثر موجة اللجوء، للشريعة الإسلامية التي “تدعو لرجم الزوجات وقطع الأيادي” حسب تعبيره. الرئيس التشيكي لم يكن مُتخوفًا فقط من الرجم وقطع الأيادي، لكنه أيضًا لا يُحب منظر النساء بالبرقع: “لا أتخيل رؤية نساء بالبرقع”.

أما في ألمانيا التي تُمثّل الدولة الأبرز من حيث قبول اللاجئين ورفض الممارسات العنصرية ضدهم في أوروبا، تشهد فصلًا آخر من الحكاية، يبدو أنّه أكثر عُمقًا من تصريحات الساسة وصناع القرار، وصولًا إلى المجتمع نفسه بدرجة ما، إذ تشهد ألمانيا الآن نسبًا صاعدة من تحول المسلمين اللاجئين إلى المسيحية، فيما يراه البعض طريقًا نحو قبول طلبات اللجوء من جانب، ومن جانب آخر، طريقة نحو القبول المجتمع للفرد الجديد عنه.

وفي الآونة الأخيرة أيضًا سلطت شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الجديد الضوء على حالات عنصرية مُجتمعية ضد المسلمين في أوروبا، كان آخرها المقطع المصور الذي نشرته الديلي ميل على موقعها الإلكتروني، ويُظهر شابًا إنجليزيًا يتعامل بعنف مع مُسنّ تُركي.

اجمالي القراءات 1649
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق