بين رحمة التشريع وظلم الموروث التاريخي:
تعدّد الزوجات

محمد البارودى   في الجمعة ٢٣ - أبريل - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً


 

تعدّد الزوجات

بين رحمة التشريع وظلم الموروث التاريخي

 

من القضايا الهامَّةِ التي تُميِّزُ المجتمعاتِ الإسلاميّةَ ، والفكرَ الإسلاميَّ ، مسألةُ تعدّدِ الزوجات ، التي شرعَهَا اللهُ تعالى كحلٍ لبعضِ المشكلاتِ الاجتماعيّة ، وحدَّدَهَا في كتابهِ الكريم بشروطٍ تحفظُ للمرأةِ كرامتَها وحقوقَها ، وتصونُ للمجتمعِ سلامتَهُ وإنسانيّتَهُ ..

ولكنّ تطبيقَ هذا الحكمِ الإلهيِّ عَبرَ التاريخ ، خرجَ في معظمِ حالاتِه ، عن مُرادِ اللهِ تعالى في الغايةِ من تشريعِه ، ليتحوَّلَ إلى جاهليّةٍ قَبَلِيَّةٍ تَلبَسُ ثوبَ الدين ، فَتُظلَمُ المرأةُ بشكلٍ خاصٍّ ، والمجتمعُ بشكلٍ عامٍّ ، وذلك من زاويتين اثنتين :

[ 1 ]  - ظلمٌ ناتجٌ عن بعضِ الأعرافِ الاجتماعيّةِ الظالمة ، التي لا تلتزمُ بشرطِ العدلِ الذي بيّنَهُ اللهُ تعالى لتعدّدِ الزوجات ، وكأنّ التعدّدَ مُباحٌ دونَ أيِّ شرطٍ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ )( النساء : 3) ، فحين اختفاء شرطِ العدلِ يُصبحُ التعدّدُ مُحرَّماً ..

[ 2 ]  - ظلمٌ ناتجٌ عن عدمِ إدراكِ وتطبيقِ دلالاتِ الآيةِ الكريمةِ الوحيدةِ التي تُبيحُ التعدّدَ ، وذلك كونُ عبارةِ إباحةِ التعدّدِ الوحيدةِ في كتاب الله تعالى ، تأتي  - كما سنرى  - جملةَ جوابِ شرطٍ  ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) ( النساء: 3) ، فقد تمّت إباحةُ التعدّدِ  - عَبر التاريخ  - دونَ أيِّ اعتبارٍ لهذه المسألة ..

وسنبدأُ بالواقعِ الاجتماعيِّ النفسيِّ المتعلّقِ بهذه المسألة ، فنبحَثُهُ من خلالِ الاحتمالاتِ الاجتماعيّةِ الممكنةِ الحدوث ، في حالِ منعِ التعدّد ..

 معلومٌ أنّه في المجتمع الإنساني يكون عددُ الإناثِ أكبرَ من عددِ الذكور .. وفترةُ الإخصابِ وما يتعلّق بها من غريزةٍ فطريّةٍ عند الرجلِ تمتدُّ في حياته  - بشكلٍ عامٍّ  - إلى ما بعد السبعين عاماً ، في الوقتِ الذي تتوقّفُ فيه فترةُ الإخصابِ عند المرأةِ  - بشكلٍ عامٍّ  - عندَ سنِّ الخمسين تقريباً .. والرجالُ مُعرَّضون للوفاةِ والأحداثِ بنسبٍ أكبر منها عند النساء ، بسببِ الحروبِ وظروفِ العملِ الاجتماعيّة .. كلُّ ذلك يزيدُ من ارتفاعِ نسبةِ النساءِ الصالحاتِ للزواجِ في المجتمع ، مقارنةً مع الرجال ..

هذه الحقائقُ تُفرِزُ  - في المجتمعات التي تُحرّم التعدّدَ  - فائضاً من النساءِ غيرِ المتزوّجات ، وفائضاً من زمنِ الإخصابِ في حياةِ الرجلِ دون أن يُقابِلَهُ  - في الزمنِ نفسِه  - إخصابٌ مُقابلٌ له عندَ الزوجةِ ، وواقعاً من الاختلالِ في الوظيفةِ الفطريّة ، وواقعاً من الاختلالِ في القيمِ النبيلةِ ممّا يؤدّي إلى إشاعةِ الفاحشةِ في المجتمع ..

هذا الواقعُ الذي يُفرِزُهُ تحريمُ التعدّدِ في المجتمعِ يقعُ على الاحتمالاتِ التالية :

بالنسبة للنساء اللاتي لم يتزوجن:

( 1 )  - إمّا أنّهنّ يخسرن حياتَهنّ الفطريّة ، وبالتالي فالخاسرُ هو المرأة ..

( 2 )  - أو أنّهنّ يُقِمنَ علاقاتٍ غيرَ شرعيّةٍ .. ولمّا كانت هذه النساءُ فائضاتٍ ، أي لا يُقابِلُهُنَّ رجالٌ ، بسبب كونِ نسبةِ النساءِ أعلى من الرجال ، فإنّ علاقَتَهُنَّ غيرَ الشرعيّةِ مع الرجال ، ستكون إمّا مع رجالٍ مُتزوِّجين ، وبالتالي التسبّب بخيانةِ نساءٍ أُخر ، وإمّا مع رجالٍ غيرِ متزوِّجين ، وفي هذه الحالة لن تتغيّرَ نسبةُ الفائضِ من النساء .. وهكذا فالخاسرُ  - في هذا الاحتمالِ  - هو المرأةُ أيضاً ، لأنّ زوجَها يخونُها من خلالِ علاقةٍ غيرِ شرعيّةٍ مع تلك النساءِ الفائضات ..

بالنسبة للرجال فائضي الإخصاب ، دون أن يُقابِلَهُ إخصابٌ موازٍ عند زوجاتِهم:

( 3 )  - إمّا أنّهم يكبتونَ فطرتَهم ، وبالتالي فالخاسرُ هو الرجل ..

( 4 )  - أو أنّهم يُقيمونَ علاقاتٍ غيرَ شرعيّةٍ ، من خلالِ خيانةِ زوجاتِهم ، وبالتالي فالخاسرُ هو المرأة ، لأنَّ زوجَها يخونُها .. وهذا الاحتمالُ مستقلٌ عن الاحتمالِ رقم ( 2 ) ، وإن كانت النتيجةُ واحدةً ، هي خيانةُ الزوجات من قِبَلِ أزواجِهنّ ، فنحن ندرسُ المسألةَ من منظارِ الاحتمالاتِ المطروحة ..

في الاحتمالِ رقم ( 2 ) دفعت المرأةُ ثمنَ خيانةِ زوجِها لها ، لأنّ الخيانةَ حصلت بسببِ كونِ امرأةٍ من النساءِ الفائضات لم تكن عفيفةً فتكبتُ فطرتَها ، وبالتالي كونِ هذه المرأةِ الفائضةِ تجدُ في الرجلِ المتزوّجِ حلاً لها .. بينما في هذا الاحتمالِ  - رقم ( 4 )  - حصلت خيانةُ الزوجِ لزوجتِه بسببِ أنّ الزوجَ لم يكبت فطرتَه ..

( 5 )  - أو أنّهم يُطلّقون زوجاتِهم ، لاستبدالِهُنّ بأُخَر ، وبالتالي فالخاسرُ هو المرأة ..

 

 

 

 

الواقع في المجتمع الذي يمنع تعدّدَ الزوجات

 

رقم الاحتمال

 

الاحتمــــالات المطـــروحة

 

الطرف الخاسر


النساء الفائضات

( 1 )

( 2 )

كبت فطرتهن

إقامة علاقة غير شرعيّة مع رجالٍ متزوِّجين

المرأة

المرأة


الرجال فائضوا الإخصاب والوظيفة الفطريّة

( 3 )

( 4 )

( 5 )

كبت فطرتهم

خيانة زوجاتهم

طلاق زوجاتهم

الرجل

المرأة

المرأة

 

( أربع خسارات للمرأة مُقابل خسارة واحدة للرجل )

وهكذا .. فالخسارةُ التي تدفعُها المرأةُ من مستحقّاتِ منعِ تعدّدِ الزوجاتِ في المجتمعِ هي بنسبةِ : 4/5 = 0,8 ، في حين أنّ الخسارةَ التي يدفعُها الرجلُ هي بنسبة : 1/5 = 0,2 .. فما تدفَعُهُ المرأةُ من خسارةٍ نتيجةَ منعِ تعدّدِ الزوجات ، هو أربعةُ أضعافِ ما يدفَعُهُ الرجل ..

والعاقِلُ يعرفُ هذه الحقيقةَ دون بذلِ الكثيرِ من الجهدِ ، فكونُ نسبةِ الإناثِ أكبر من نسبةِ الذكور ، يقتضي أنّ منعَ التعدّدِ هو ضدُّ مصلحةِ النساءِ أوّلاً ، لأنّهُ إذا حُرِمَ بعضُ الرجالِ من الزواجِ بزوجةٍ أُخرى ، فإنّه تُحرَمُ بعضُ النساءِ من الزواج نهائيّاً ..

إذن حتى يحصلَ التوازنُ الاجتماعيُّ الإنسانيُّ الفطريُّ في المجتمعِ ، لا بُدَّ من إباحةِ حُكمِ تعدّدِ الزوجات ، ضمن شروطٍ تحفَظُ كرامةَ المرأةِ والرجل ، وبحيث يُغطّى الفائضُ من النساءِ غيرِ المتزوّجات ، وتُلغى مُستحقَّاتُ خسارةِ منعِ التعدّدِ .. ولمّا كانت هذه المستحقَّاتُ تتوزّعُ  - كما رأينا  - بين الرجلِ والمرأةِ بنسبةِ واحد إلى أربعة ، فإنّ الحدَّ الأعلى المُباحَ به لتعدّد الزوجات لا بُدّ أن يكونَ موافقاً لهذهِ النسبةِ ، ولا يتجاوزُها بأيِّ شكلٍ من الأشكال .. فحاجةُ المرأةِ لحُكمِ تعدّدِ الزوجات هو  -كما رأينا  - أربعةُ أضعافِ حاجةِ الرجل ..

وحتى تُصان كرامةُ المرأةِ وحتى تكونَ إباحةُ التعدّدِ لصالِحِها ، لا بُدّ أن تُشرَط إباحةُ التعدّدِ هذه بحصولِ العدلِ ، وبحمايةِ حُقوقِ الزوجةِ الأولى ، وبحريّةِ المرأةِ الكاملةِ في الزواج وفي الفِراق ، فإن هي لم ترغب بأن تكونَ زوجةً لرجلٍ متزوّجٍ بزوجةٍ أُخرى ، وإن اختارت عدمَ الزواجِ ، لا أحد يمنعُها من تحقيقِ رغبتِها ، وبحيثُ يكونُ خيارُها للزواجِ من رجلٍ متزوّجٍ ، هو بديلٌ لخيارِ عدمِ الزواج .. وإن اختارت المرأةُ المتزوّجةُ الفِراقَ تُحفَظُ حقوقُها وحقوقُ زوجِها ، ضمن إطارِ معيارِ منهجِ الله تعالى .. 

هذه هي المسألةُ من زاويةِ الواقعِ الاجتماعيِّ الإنسانيِّ .. ولنبحث المسألةَ من خلالِ دلالاتِ القرآنِ الكريمِ لها ، عَبر الإبحارِ في الدلالاتِ والمعاني التي تحمِلُها الصورتان القرآنيّتان التاليتان :

( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا )   ( النساء :3)

( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ )  ( النساء : من الآية 129)

إنّ الصورةَ القرآنيّةَ التي تحملُ حُكمَ إباحةِ التعدّدِ هي : (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) ، ومن الواضحِ أنّ حُكمَ التعدّدِ الذي تحمِلُهُ مشروطٌ بقولِه تعالى   ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ) .. فوقوعُ حكمِ إباحةِ التعدّدِ  - في كتاب الله تعالى  - جواباً لشرطٍ ، ليس مصادفةً ، وليس عبثاً ..

وساحةُ الشرطِ هي ذاتُها ساحةُ الجزاءِ .. فالشرطُ ضمانٌ لحقِّ النساءِ اللاتي سيتزوجنَ رجالاً متزوِّجين ( بدليلِ أنّه تمّ البدءُ في عبارة الجزاء بالمثنى ) ، والجزاءُ إباحةٌ في التعدّدِ للأزواجِ المتزوِّجين الذين سيتزوَّجون من تلك النساءِ اللاتي يضمنُ الشرطُ حقوقَهُنَّ ..

وما ذهب إليه معظمُ المفسِّرين من أنّ الجزاءَ الذي يحملُ حُكمَ إباحةِ التعدّدِ ، يدعو الرجالَ إلى تركِ النساءِ اللاتي تضمنُ عبارةُ الشرطِ حقوقَهُنّ ، وإلى الزواجِ من غيرِهنّ ، بمعنى إذا خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا غيرَهُنّ من النساءِ مثنى وثلاث ورباع .. هذا المذهبُ من التفسيرِ لا يحملُ له القرآنُ الكريمُ أيَّ دليلٍ ، فلو كان صحيحاً لوردت كلمةُ غيرِهنّ ( فانكحوا غيرَهنّ ما طاب لكم من النساء ) ، أو لأُضيفت عبارةُ الإعراضِ عن نكحِهنّ ( لا تنكحوهنّ وانكحوا غيرَهُنّ ما طاب لكم من النساء ) .. فعبارةُ الشرطِ ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ) تَخُصُّ ساحةً محدَّدةً تتعلّقُ بها النساءُ المرشّحاتُ للزواجِ من رجالٍ متزوِّجين ، وعبارَةُ الجزاءِ (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) تخصُّ ساحةَ الإباحةِ بحيثُ يُضمَنُ الحقُّ الذي تحمِلُهُ عبارةُ الشرطِ لتلك النساء ..

وحملُ الشرطِ  - في الآيةِ الكريمةِ  - على النساءِ اليتيماتِ المُرادُ نكحُهنّ ، بحيث يُؤوَّل الجزاءُ على النهيِ عن الزواجِ من تلك النساء ، ونكحِ غيرِهنّ ، ليس سليماً ، ولا بأيِّ وجهٍ من الأوجه .. وقد بيّنتُ في النظريّةِ الرابعة ( الحكمة المطلقة ) سبعةَ أوجهٍ من استحالةِ هذا التأويل ..

والسؤالُ الذي يطرحُ نفسَهُ .. ما هو الرابطُ بين عبارتي الشرطِ والجزاءِ في الآيةِ الكريمةِ الوحيدةِ التي تحملُ حُكمَ إباحةِ تعدّدِ الزوجات ، وما هي حدودُ الأحكامِ التي تحملُها هذه الآية ؟ .. للجوابِ على هذا السؤالِ لا بُدّ من الوقوفِ عند كلمةِ اليتامى وإظهارِ الدلالاتِ والمعاني التي تحملُها هذه الكلمةُ ، وذلك من منظارِ القرآنِ الكريم ..

الإطارُ العامُّ لمشتقّات الجذر ( ي ت م ) في القرآنِ الكريم ، هو داخلُ معنى الانفرادِ بالنسبةِ للمسألةِ التي يتعلّقُ بها اليتمُ ، وهو عَدَمُ وجودِ مأوىً ونظيرٍ بالنسبةِ لهذه المسألة .. فاليتيمةُ  - من هذا المنظار  - تأخُذُ معنى المرأةِ المفردةِ عن زوجِها ..

وداخلُ هذا الإطارِ العامِّ يُوجَدُ إطارٌ خاصٌّ بمسألةِ الأُبوّةِ ، ويعني الانفرادَ وعدمَ وجودِ مأوىً ونظيرٍ بالنسبةِ لهذه المسألة ، وهو اليتمُ المعروفُ بفقدانِ الأب ..

إذن هناك وجهان للمعاني التي تحملها كلمةُ اليتيمِ في كتاب الله تعالى :

[ 1 ]  - الوجهُ العامُّ ، ويكونُ فيه اليتيمُ بمعنى المنفردِ الذي ليس له مأوىً ولا نظيرٌ بالنسبة لمسألةٍ ما .. والصورةُ القرآنيّةُ التاليةُ تحملُ هذا الوجهَ بشكلٍ واضحٍ جليٍّ :

( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ )  ( البقرة : من الآية220) ..

من الواضح أنّ الإطارَ العامَّ لكلمةِ اليتامى في هذه الآيةِ الكريمة ، هو إطارُ يتامى الانفرادِ وعدمِ المخالطةِ ( من الطبيعي أن يشملَ هذا الإطارُ اليتمَ المعروفَ بفقدان الأب ) ، والعبارةُ القرآنيّةُ (وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ) تُشيرُ إلى ذلك .. فكلمة  ( تُخَالِطُوهُمْ ) ترتبطُ بأنفسِهم ، ولا يُمكن حصرُها بأموالِهم ومتاعِهم ، ودليلُ ذلك هو الضميرُ المتَّصلُ ( هم ) ، ولذلك فالمخالَطَةُ هنا هي مُخالطةٌ اجتماعيّةٌ معنويّةٌ تشملُ حتى الزواج .. وكلمةُ ( فَإِخْوَانُكُمْ ) تؤكِّدُ  - أيضاً  - هذا العمقَ المعنويَّ الاجتماعي ، وتنفي العمقَ المادّيَّ ، فالأُخوّةُ مسألةٌ إيمانيّةٌ وليست مادّيّةً ، والعدلُ بالعمقِ المادّيِّ وصيانةِ حقوقِ الآخرين مادّيّاً ، مسألةٌ واجبةٌ حتى معَ غيرِ المؤمنين وغيرِ اليتامى ( يتم فقدان الأب ) ، ولذلك فكلمةُ  ( فَإِخْوَانُكُمْ ) تُشيرُ إلى العمقِ المعنويِّ الاجتماعي ..

والصورةُ القرآنيّةُ التاليةُ : ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى )  ( الضحى :6) تحملُ هذا الوجهَ ( العامَّ ) من اليُتمِ ، فلا يُمكن حصرُ اليُتمِ في هذه الصورةِ القرآنيّةِ بمجرّدِ فقدانِ الأب ، ويأتي فقدانُ الأبِ وجهاً خاصّاً داخلَ إطارِ الوجهِ العامِّ لليُتمِ الذي تحمِلُهُ هذه الصورةُ القرآنيّة ..

وبقراءةِ الصوَرِ القرآنيّةِ التاليةِ لهذه الصورةِ تتوضّحُ هذه الحقيقةُ بشكلٍ أكبر : ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6)وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى (7)وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى )  ( الضحى :6-8) .. فكما أنّ كلمةَ (ضَالاً ) تُقابلُ كلمةَ (فَهَدَى ) ، وبالتالي فإنّ الهُدى أنهى حالةَ كونِه ضالاً .. وكما أنّ كلمةَ (عَائِلاً ) تُقابلُ كلمةَ (فَأَغْنَى ) ، وبالتالي فإنّ الغنى أنهى حالةَ كونِه عائلاً .. كذلك فإنّ كلمةَ ( يَتِيماً )تُقابلُ كلمةَ (فَآوَى ) ، وبالتالي فإنّ المأوى أنهى حالةَ كونِه يتيماً .. ولو تمّ سجنُ الدلالاتِ والمعانيَ التي تحمِلُها كلمةُ ( يَتِيماً )داخلَ إطارِ يتمِ فقدانِ الأب ، دون أن تخرُجَ من هذا الإطارِ ، لتنافى ذلك مع مُطلقِ المعاني التي تحمِلُها هذه الصورةُ القرآنيّة ..

وهكذا .. فالصورةُ القرآنيّةُ ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى ) تقولُ : لقد منّ اللهُ تعالى عليكَ فآواك بعدَ أن كُنت وحيداً ( كفطرةٍ نقيّة ) بينَ قومِك ، مُنفرداً عنهم عديمَ النظير .. وبالتالي فاليُتمُ في هذه الصورة القرآنيّة يحمل إطاراً عامّاً ، أوسعَ من مجرّدِ يُتمِ فقدانِ الأب ..

[ 2 ]  - الوجهُ الخاصُّ ، ويكونُ فيه اليتيمُ بمعنى فاقدِ الأب ، والذي لم يبلغ النكاحَ ، والصورةُ القرآنيّةُ ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ )  (النساء : من الآية6) تُشيرُ إلى هذا الوجهِ من اليُتم ..

ولنعد إلى الآيةِ الكريمةِ التي تحوي حُكمَ إباحةِ تعدّدِ الزوجات ، ولننظر إلى كلمةِ اليتامى فيها ، من منظارِ الوجهين العامِّ والخاصِّ لمسألةِ اليُتم :

( 1 )  - لو نظرنا من منظارِ الوجهِ العامِّ لمسألة اليُتمِ ، وهو  - كما رأينا  - بمعنى الانفرادِ ، وعدمِ توفّرِ النظير ، وعدمِ المخالطةِ ، فإنّ عبارةَ الشرطِ  ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ) تعني : وإن خفتم أن تجوروا على النساءِ المنفرداتِ الفائضات اللاتي لم يجدنَ أزواجاً ( اليتيمات ) .. وهذه العبارةُ ترتبطُ مع عبارةِ الجزاءِ (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) برباطِ الاقتضاء ، والتعلّقِ بتحقيقِ مُرادِ الشرط .. فإنّ من مقتضياتِ عدمِ الجورِ في حقوقِ تلك النساءِ المنفرداتِ انفرادَ زوجيّة ( اليتيمات ) ، هو الزواجُ منهنّ ، ولو كانت إحداهُنّ زوجةً ثانيةً أو ثالثةً أو رابعة ..

فالصورةُ القرآنيّةُ ، شرطُها وجزاؤها  - من منظار الوجهِ العامِّ لمسألةِ اليُتمِ  - تقولُ : إن أنتم لم تتزوّجوا الفائضاتِ المنفرداتِ ( انفراد زوجيّة ) اللاتي لم يجدنَ أزواجاً ، حتى وإن كانت إحداهُنّ الزوجةَ الثانيةَ أو الثالثةَ أو الرابعةَ ، فسيكونُ ذلك جوراً في حقِّهنّ ، وعدمَ عدلٍ فيهنّ ، ولولا ذلك لما شُرِعَ تعدُّدُ الزوجات .. فتشريعُ إباحةِ تعدّدِ الزوجاتِ هو لتغطيةِ هذا الفائضِ من النساءِ ، وحتى لا تبقى هناك نساءٌ منفرداتٌ فائضاتٌ ( يتيمات ) لا يجدنَ أزواجاً ..

( 2 )  - لو نظرنا إلى الآيةِ الكريمةِ من منظارِ الوجهِ الخاصِّ لمسألةِ اليُتمِ ، والذي يعني فقدانَ الأبِ ، وعدمَ بلوغِ مرحلةِ النكاح ، فإنّ كلمةَ اليتامى في عبارةِ الشرطِ ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ) تعني الأطفالَ الواقعين تحتَ الولاية ، والخطابُ موجّهٌ لوليِّ أمرِ هؤلاءِ الأيتام .. وما يُقوّي ذلك هو السياقُ القرآنيُّ السابقُ واللاحقُ لهذهِ الصورة ، وخصوصاً الآية الكريمة التي تسبقُ هذه الصورةَ مباشرةً ، والتي تُخاطبُ أولياءَ أمورِ اليتامى :

( وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) ( النساء :2-3 ) .. فالذي يُمكنُه أن يأكُلَ أموالَ اليتامى إلى مالِه ، هو وليُّ أمرِ اليتيم ، وليس أيّ إنسانٍ آخر .. وبما أنّ الآيةَ ( 2 ) من سورةِ النساءِ تُخاطبُ أولياءَ أمورِ اليتامى ، فإنّ عبارةَ الشرطِ التي تليها مباشرةً ، تُخاطبُ  - من منظارِ وجهِ اليُتمِ الذي يعني فقدانَ الأبِ وعدمَ بلوغِ النكاح  - أيضاً أولياءَ أمورِ اليتامى ..

وهذه الحالةُ تكون حينما يُتَوَفَّى رجلٌ ويتركُ وراءه يتامى وزوجةً تحت ولايةِ رجلٍ غيرِ مُحرَّمٍ  - بعد موت الزوج  - على هذه الزوجة .. وفي هذه الحالةِ إن تزوّجت الأمُّ من رجلٍ آخر ، كان ذلك على حسابِ اليتامى ، الذين سيفقدون رعايةَ أُمّهم وحنانَها ، وإن بقيت دون زواجٍ كان ذلك على حسابِ حياتِها ، وإن ترك وليُّ الأمرِ اليتامى وأمَّهم كان ذلك ليس في صالِحِهم .. لذلك فالحلُّ الأفضلُ هو أن يتزوّجَ وليُّ أمرِ اليتامى أمَّ اليتامى  - إن أرادت ذلك  - ليَضُمَّهم إليه ، وتكونَ أمُّهم زوجتَهُ ، وبالتالي يقتربُ منهم ومن تعويضِهم ما فقدوه من حنانِ الأبِ ورعايتِه ..

والخطابُ القرآنيُّ في عبارةِ الشرط  ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى )إضافةً إلى أنّه  - من هذا المنظار لكلمةِ اليتامى  - موجّهٌ لأولياءِ أمورِ اليتامى ، فهو أيضاً خطابٌ موجّهٌ لجميع المتزوِّجين الذين يُريدون مُساعدةَ اليتامى وتربِيَتَهُم ورعايتَهُم ، فاكتمالُ الرعايةِ يكونُ حينما تكونُ أمُّ اليتامى معهم ، وفي الوقت الذي يكون فيه أولادُها اليتامى بمكانةِ أبناءٍ لزوجِها الجديدِ الذي يُريدُ مساعدةَ هؤلاء الأيتام ..

وفق هذين العُمقين فقط يُمكن الربطُ بين عبارتي الشرطِ والجزاءِ في آيةِ إباحةِ تعدّدِ الزوجاتِ ، ربطاً منطقيّاً يحمِلُهُ القرآنُ الكريم ، ويُناسِبُ قواعدَ اللغةِ العربيّة ، ولا يتعارَضُ مع بديهيّاتِها ..

فالهدفُ من إباحةِ تعدّدِ الزوجاتِ في المجتمعِ هو إيجادُ حلٍّ لمشاكلِ هذا المجتمعِ ، سواءٌ في مشكلةِ الفائضِ من النساء ، أم في مشكلةِ الأيتام .. وإباحةُ التعدّدِ في كتابِ الله تعالى نراها تُغطّي تماماً مُستحقَّات خسارةِ منعِ التعدّدِ ، ما بين الرجلِ والمرأة ، والتي هي  - كما رأينا  - بنسبةِ واحد لأربعة .. فالعبارةُ القرآنيّةُ (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ )التي تُصوِّرُ الحدَّ الأعلى لإباحةِ تعدّدِ الزوجات ، نراها تحملُ المعادلةَ التي ترسمُ الإطارَ الأكبرَ لحلِّ هذه المسألةِ ، بشكلٍ يتمُّ فيه تسديدُ مستحقَّاتِ خسارةِ منعِ إباحةِ تعدّدِ الزوجاتِ ، تسديداً عادلاً متوازناً ، وبالتالي إنهاءُ المضاعفات الاجتماعيّة والنفسيّة الناتجة عن منعِ هذه الإباحةِ ، فليس عبثاً أن يكونَ الحدُّ الأعلى للتعدّدِ هو أربعُ نساء ..

وبعدَ هذا الشرطِ في إباحةِ تعدّدِ الزوجات ، يُبيّنُ اللهُ تعالى شرطاً آخرَ يُلغي عدمُ تحقيقِهِ هذه الإباحةَ من أساسِها ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً ).. هذا الشرطُ هو حصولُ العدلِ ، وفي حالِ عدمِ تحقّقِ العدلِ فإنّ التعدّدَ خروجٌ على حدودِ الله تعالى ..

وفي ورود كلمة (أَوْ ) في العبارة القرآنيّة (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ) بدلاً من حرف العطف ( و ) في الصورةِ القرآنيّةِ ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ )، تأكيدٌ على أهميّةِ شرطِ العدلِ ، فمعنى هذه العبارة القرآنيّة هو : فواحدة أو واحدة ممّا ملكت أيمانُكم .. فلو كانت المرأةُ المرتبطةُ بعقدِ(*)مُلكِ  يمينٍ خارجَ إطارِ العدلِ ، لأتت العبارةُ القرآنيّةُ على الشكلِ ( فواحدة وما ملكت أيمانكم ) ..

ومع أنّ الصورةَ القرآنيّةَ   ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً )تُشيرُ إلى الجانبِ المادّيِّ للعدلِ الذي يستطيعُ الإنسانُ عليه ، ومع أنّ الصورةَ القرآنيّةَ ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ) (النساء : من الآية129) تُشيرُ إلى الجانبِ العاطفيِّ المعنويِّ الخارجِ عن إطارِ استطاعةِ الإنسان .. فإنّنا نجدُ عُمقاً جديداً من الدلالاتِ والمعاني ، عَبر تقاطُعِ هاتين الصورتين القرآنيّتين ..

الصورةُ القرآنيّةُ  ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ )تقولُ : إنّ العدلَ بين النساءِ هو خارجُ استطاعةِ الرجلِ مهما كان حريصاً ، وبالتالي يكونُ تقديرُ الصورةِ القرآنيّةِ ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً )من منظارِ تقاطعِ هاتين الصورتين القرآنيّتين هو : من خاف منكم عدمَ حصولِ العدلِ فعليه بالواحدةِ فقط ، لأنَّ العدلَ لن تستطيعوا عليه مهما حرصتم ، فعليك أن تعلمَ يا من جمعتَ بين أكثر من زوجةٍ ، أنّكَ خرجتَ من دائرةِ العدلِ بين الزوجات .. وهكذا فالصورةُ القرآنيّةُ ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ )ليست شرطاً ، وإنّما خبرٌ من الله تعالى على عدمِ حصولِ العدلِ التامِّ بين الزوجاتِ مهما كان الرجلُ حريصاً ..

ومن يتوهّمُ أنّ الصورةَ القرآنيّةَ ( وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ )تنسَخُ إباحةَ التعدّدِ ، المشروطةَ في قوله تعالى ( فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً )، إنّما يفرضُ سلفاً أنّ اللهَ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً لم يكن يعلم حقيقةَ الأحكامِ التي ينزِلُها ومدى صلاحيّتِها للبشر ، ثمّ اكتشف بعد ذلك عدمَ صلاحيّتِها فَنَسَخَهَا ، وقد بيّنا بما فيه الكفاية أنّه من المستحيلِ أن يكونَ في القرآنِ الكريمِ ناسخٌ ومنسوخ ..

والعبارةُ القرآنيّةُ ( ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا )في نهايةِ الآيةِ الكريمةِ التي تحملُ حُكمَ إباحةِ التعدّدِ ، تُبيّن لنا أنّ الاستعمالَ السليمَ لحُكمِ إباحةِ التعدّد ، عَبرَ الالتزامِ بشروطِهِ ، هو اقترابٌ من عدمِ الجورِ والظلمِ بشتّى جوانِبِه .. فكلمة ( تَعُولُوا ) تعني : تجوروا وتميلوا ، ولا تعني : تكثرُ عيالُكم ، فلو كان كذلك لكان من الأولى مجيءُ العبارةِ القرآنيّةِ بالصيغةِ ( ذلك أدنى ألاّ تعيلوا ) ..

وحُكمُ إباحةِ التعدّدِ ( كما بيّنه الله تعالى ) لا يُمكنُ أن يكونَ ظالماً للمرأةِ كما يتخيّلُ الكثيرون ، لأنّهُ لا تُكرَهُ المرأةُ ( في الإسلام ) على الزواجِ من رجلٍ متزوِّجٍ ، أو غيرِ متزوِّجٍ ، كما لا تُكرهُ على عدم الفِراقِ من زوجِها ، فالمسألةُ حُكمٌ مُباحٌ ضِمنَ شروطٍ تَضمَنُ حقوقَ طرفيِّ المعادلة ، هدفُه وضعُ إطارٍ سليمٍ لحلِّ المشكلاتِ الناتجةِ عن طوارئَ اجتماعيّةٍ تؤدّي في النهايةِ إلى مضاعفاتٍ من شأنِها خلخلةُ توازن المجتمعِ بأسرِه ..

وما نراهُ من مضاعفاتٍ خطيرةٍ تنشأ عن معظمِ حالاتِ تعدّدِ الزوجات في المجتمعاتِ الإسلاميّة ، ناتجٌ عن عدمِ الالتزامِ بشروطِ التعدّدِ التي بيّنها اللهُ تعالى في كتابِه الكريم ، وناتجٌ عن سوءِ الأخلاقِ وانعدامِ الضمير ، وعن إلباسِ الجاهليّةِ القَبَلِيَّةِ ثوبَ الإسلام ، وارتداءِ هذا الثوب على أجسادٍ جُربٍ ، بداخلها أنفسٌ سلبيّةُ الإرادة ..

إنّ هؤلاء الذين يأخذونَ ببعضِ الكتابِ ويُعرضونَ عن بعضٍ ، يُجسِّدون أمثلةً سيّئةً تُشيعُ التمرّدَ على حُكمِ اللهِ تعالى ، وتُعطي ضعيفي الإيمان حيثيّاتِ هذا التمرّدِ ، لإيهامِ ضعيفي الإدراك بعدمِ صلاحيّةِ أحكامِ كتابِ اللهِ تعالى ..

فالظلمُ الذي نراهُ نتيجةَ معظمِ حالاتِ تعدّدِ الزوجات ، ليس ناتجاً عن حُكمِ التعدّدِ ، وإنّما عن الموروثاتِ الجاهليّةِ والعصبيّاتِ المتخلّفةِ التي لا ترى في المرأةِ أكثرَ من سلعةٍ هدفُها متعةُ الرجل ، ولا تحمل إلاّ العار ، ولذلك فالظلمُ واقعٌ ، سواءٌ في ساحةِ تعدّدِ الزوجات أم خارجَ هذه الساحةِ ..

 ولكن حينما تأخذُ المرأةُ مكانَها الحقيقيَّ في المجتمع ، كما أرادهُ اللهُ تعالى لها ، بعيداً عن جاهليّةِ الوأدِ الاجتماعيِّ والإنسانيِّ ، وبعيداً عن الجاهليّةِ الخلاعيّةِ التي تضرُّ بالمرأةِ وبكرامتِها أكثرَ من جاهليّةِ الوأدِ ، وحينما يتمُّ تمثُّلُ أحكامِ كتابِ اللهِ تعالى كما يُريدُ اللهُ تعالى ، من منظارِ الصياغةِ اللغويّةِ لآياتِ كتابِهِ الكريم  .. حين ذلك نرى بصورةٍ سليمةٍ واضحةٍ كيف أنّ حُكمَ تعدّدِ الزوجات هو فرصةٌ أمامَ المرأةِ ، تأخُذُ بها حينما تُريد ، وليس قيداً لسجنِها داخلَ أنفاقِ شهوةِ الرجلِ وعصبيّاتِ المجتمعاتِ المتخلّفة  ..

 لقد تمَّ اجتزاءُ دلالات العبارة القرآنيّة  ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ )من سياقِها القرآنيِّ المحيطِ بها ، من أجلِ تسويقِ عصبيّةٍ قَبَلِيَّةٍ لا علاقةَ لها بدلالاتِ هذه العبارة ، ولا بمنهجِ اللهِ تعالى .. فالقوّامّةُ هي قوّامةُ رعايةٍ وإنفاقٍ ، لا قانوناً إلهيّاً لسحقِ المرأةِ وإلغاءِ حقوقِها التي شَرَعَهَا اللهُ تعالى لها .. فالمرأةُ لها مِثلُ ما عليها ، والدرجةُ التي يتميّزُ بها الرجالُ هي بالإنفاقِ والرعايةِ .. هذا ما نراهُ في إطلاقِ دلالاتِ العبارةِ القرآنيّةِ التاليةِ  ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ )( البقرة: من الآية228) ..

وقد بيّنَ القرآنُ الكريمُ أنّ المرأةَ تتميّزُ عن الرجلِ بجوانِبَ أُخرى ، تَتَمَحوَرُ في حملِها وتربيتِها لأطفالِها ، فحينما يُوصي اللهُ تعالى الإنسانَ بوالديهِ ، يخُصُّ الأمَّ بذكرِ هذه الخصوصيّةِ التي تتميَّزُ بها المرأةُ على الرجلِ ..

( وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ )  ( لقمان :14)

( وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً )  ( الأحقاف : من الآية15)

.. وهكذا فالتمثُّلُ السليمُ لحُكمِ تعدّدِ الزوجات ( كما يريدُهُ اللهُ تعالى ) يكون حينما تختارُهُ المرأةُ كأفضلِ خيارٍ أمامَها دونَ أيِّ إكراهٍ ، وحينما تَجِدُ فيه الخيارَ الوحيدَ لتَحيى حياتَها الفطريّةَ بشكلٍ سليمٍ ، بعيداً كبتِ فطرتِها ، وبعيداً عن غَرَقِها في مستنقعِ الفاحشةِ فتخسرُ الدنيا والآخرةَ على حدٍّ سواء ، وحينما لا تُظلمُ فيه الزوجةُ الأولى ، ولا تُكرهُ على استمرارِ الاقترانِ بزوجِها .. وبالتالي حينما يكونُ حلاً لمشكلاتِ المجتمع ، لا خلقاً لمشكلاتٍ يدفعُ ثمنَها المجتمعُ بأسره ..

إنّ أحكامَ كتابِ اللهِ تعالى متكاملةٌ ، يُنظَرُ إليها من مِنظارِ كُليّةِ القرآنِ الكريم ، لا من منظارِ الأهواءِ والشهوات ، ولا من منظارِ الأعرافِ الاجتماعيّة .. فعبارةُ تعدّدِ الزوجات   (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ ) ، إضافةً إلى أنّها جملةُ جوابِ شرطٍ ، وإلى أنّها مشروطةٌ بالعدلِ ، فإنّها تتكاملُ مع جميعِ النصوصِ القرآنيّةِ التي تأمرُ بتقوى اللهِ تعالى ، في تنفيذِ أحكامِهِ بصدقٍ وأمانةٍ وخشيةٍ منه جلّ وعلا ، والتي منها  - على سبيل المثال  - الآية التالية :

   ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )   ( الحشر :18)

فمن يُريدُ العملَ بأحكامِ كتاب الله تعالى ( كحكمِ تعدّدِ الزوجات ) ، عليه أن يَنظُرَ إليها من منظارِ كليّةِ كتابِ الله تعالى ، لا من مِنظارِ توليفِ ظاهرِ بعضِ الأحكامِ ، وتجزئتِها ، وصبغِها بلون هوى نفسِهِ ، وعليه أن يعملَ بها دون أن يُناقضَ باطنُ إرادتِهِ ظاهرَ عملِهِ .. حين ذلك يبتعدُ بعملِهِ عن عملِ الذين يلوونَ دلالاتِ أحكامِ كتابِ اللهِ تعالى لِتَمُرَّ من أنفاقِ شَهواتِهم وعصبيّاتِهم ..

 

 

 

المــهندس عـدنان الرفــاعي

كاتـب ومـفـكِّــر إســـلامي

سورية – درعــا – تلشهاب

هاتف منزل   :  252300  15  00963

هاتف جوّال   :   252300  955  00963

 

 www.thekr.net

Email : adnan@ thekr.net
 

 

 



(
* ) رأينا في النظريّةِ الرابعةِ ( الحكمة المطلقة ) ، كيف أنَّ مسألةَ مُلكِ اليمين  في كتابِ اللهِ تعالى لا تعني ما تمَّ تأطيرُهُ وحسابُهُ على الإسلام ، إنّما تعني حالاتٍ طارئةً  قد تحدثُ في أيِّ مجتمعٍ ، وأنّ عقدَ النكاحِ في الإسلام عبارةٌ عن نوعين : عقد زوجيّة حينما يُوجَدُ التناظرُ إيمانيّاً بين الرجلِ والمرأةِ ، وعقد مُلكِ يمين حين عدم وجودِ هذا التناظر ..   

اجمالي القراءات 30341
التعليقات (4)
1   تعليق بواسطة   لطفية سعيد     في   الخميس ٢٩ - أبريل - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً
[47475]

المرأة الفائضة

بهذه الطريقة تكون المرأة الفائضة عبء على الغير فائضة ولابد من تحملها رضيت أم أبت بهذه الطريقة لابد من ان تدعو المرأة المتزوجة "الغير فائضة " اللهم ابعد الفائضات عنا يا كريم واحرمهن من كل زوج أو رب أسرة له بنات وبنين، وأرسلهن لمحاربة الشيشان أو الأخوان المسلمين !!




2   تعليق بواسطة   ميرفت عبدالله     في   الثلاثاء ١١ - مايو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً
[47747]

ولكن في معظم الزيجات لا تعد حل لبعض المشكلات الاجتماعية

الدكتور عدنان الرفاعي أكد أن مسألةُ تعدّدِ الزوجات  شرعَهَا اللهُ تعالى كحلٍ لبعضِ المشكلاتِ الاجتماعيّة ، وحدَّدَهَا في كتابهِ الكريم بشروطٍ تحفظُ للمرأةِ كرامتَها وحقوقَها ، وتصونُ للمجتمعِ سلامتَهُ وإنسانيّتَهُ ..


ولكن هناك خبر وهو نقلا عن جريدة اليوم السابع قال الدكتور عبد الرحيم بخيت في هذا الخبر وهو أستاذ بجامعة المنيا، إن جهاز التعبئة العامة والإحصاء رصد فى دراسته الأخيرة حتى الربع الأول من هذا العام من 2009 ارتفاع نسبة الزواج العرفى بين شباب الجامعات.


وقال أن التقرير أشار إلى أن عدد  3200 رجل متزوج من 4 سيدات و8800 متزوج من 3 سيدات و5200 متزوج من سيدتين و10 ملايين متزوج من امرأة واحدة


وأشار بخيت إلى أن دول الخليج أصبحت من الدول التى تحتل المرتبة الأولى فى تجارة السيدات، حيث بلغت التكلفة 2 مليار دولار سنويا.فهل بهذه الطريقة نحفظ للمرأة كرامتها وحقوقها ونصون للمجتمع سلاميته وإنسانيته مع كل هذه الأرقام المهولة .


أعتقد أن الإجابة سوف تكون بالنفي .


3   تعليق بواسطة   يوسف حسان     في   الأربعاء ٠٧ - يوليو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً
[49029]

لا لتعدد الزوجات الابكار فقط امهات الايتام

سلام عليكم اخوتي في الدين .


بسم الله الرحمن الرحيم


( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ) ( النساء :3)


لدينا الشرط هو ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى  )   وجواب الشرط هو  ( فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ  )  وفي حال الخوف من عدم العدل بين الزوجة الاولى وام الايتام  فعد اتخاذ هذا القرار


ان الايتام ليسوا فقط البنات فالاولاد الصغار ايضا وفي ديننا الاسلام الايتام لديهم كفيل لكن هذا الكفيل لا يمكنه أن يؤدي دور الاب بشكل طبيعي بسبب ام الايتام الارملة التي تعيق لقاء الكفيل الدائم بالايتام    ولو نلاحظ  (  فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ   ) فهنا لدينا شرطا ضمن جواب شرط وهو ان ام الايتام ان لم تطب لكم فلا يجوز ان تخطوا هذه الخطوة لكونها ستظلم مع الزوجة الاولى والتي هي الاصل وهي الباكر الاولى  فهذا دافع لعدم العدل بين الزوجتين وكفالة اليتيم مذكورة في القرأن الكريم 


بسم الله الرحمن الرحيم 


 ذلك من انباء الغيب نوحيه اليك وما كنت لديهم اذ يلقون اقلامهم ايهم يكفل مريم وما كنت لديهم اذ يختصمون

سورة ال عمران اية 44


فالقسط اخوتي في اليتامى والعدل بين الزوجات


وما الذي يحصل لو كانت يتيمة هل الانسانة الغير يتيمة احق منها بالزواج كلا فأنا عندما اتقدم للزواج لفتاة مؤمنة لا يهمني ان كانت يتيمة او غير يتيمة فهية اصبحت مسؤوليتي لكونها زوجتي وفي حال اردت ان اقط في ايتم تفلتهم وحرصا عليهم وابتغاء مرضات الله ليس لإسبابي الشخصية فأدرس الموضوع فإن كانت امهم طائبة لي فأتوكل على الله واتزوجها لكي اقسط في اولادها اليتامي سأكون بمثابة الاب لكوني كفيلهم وكوني زوج امهم .


وهنا تقل نسبة الارامل واللاتي يمثلن الجزء المتروك من النسوة فحين لا يحق للشاب ان يتزوج باكرا اخرى سيضطر الى كفالة ايتام والزواج من امهم وستسود هذه الحالة وتختلف الاحصائيات صدقوني


سلام عليكم


 


 


4   تعليق بواسطة   لطفية سعيد     في   الثلاثاء ٢٢ - أبريل - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً
[74170]

وفي حالة الخوف على الإقامة


السلام عليكم  موضوع  تتعدد فيه الآراء ما بين منع وإباحة .. لكن الإقامة في أمريكا والدول الأوربية أظن انها تمنع تعدد الزوجات  حسب القانون  .. حتى قانون تلك الدول في صالح المرأة   المتزوجة ، فمازال الدعاء الذي كتبته في التعليق السابق ساريا  .. لصالح الزوجات  ضد الفائضات 



أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق