إسلام اون لاين 7-1-2006:
مصر ما بعد الرئيس مبارك

د. معتز بالله عبد الفتاح   في الثلاثاء ٠٩ - يناير - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً


حتى قبل أن يعلن الرئيس مبارك عن أنه سيظل في منصبه "ما دام في الصدر قلب ينبض" كانت هناك مؤشرات واضحة على أنه ينوي أن يظل في الحكم إلى آخر يوم في حياته.
أولا: أعلن بوضوح أنه لم يجد الشخص المناسب الذي يصلح لمنصب نائب رئيس الجمهورية، ومن باب أولى فهو لن يجد من يصلح لمنصب الرئيس ما دام هو قادرا على الاستمرار في منصبه. ثانيا: رفض تعديل المادة 77 بما يضع حدا لعدد مرات تولي رئيس الجمهورية، رغما عن أنه بانتهاء هذه المدة يكون ظل في الحكم خمس دورات متتالية، وبالتالي قد يكون آملا في فترات رئاسية لاحقة لاستكمال المسيرة التي بدأها عام 1981. وهذا لم يكن شيئا بعيدا عن أفكار دارت داخل البيروقراطية المصرية؛ فنحن نتذكر خطة "مصر 2017" التي روجت لها الحكومة في عهد الدكتور كمال الجنزوري. وكان السؤال المحير لماذا عام 2017 وليس 2020 مثلا؟ فكانت الإجابة أن عام 2017 هو عام انتهاء الفترة السادسة لحكم الرئيس مبارك.
وفي زيارة لمستقبل البلد في مرحلة ما بعد الرئيس مبارك، سيحاول هذا المقال التنبؤ ببعض السيناريوهات المحتملة. ومن المفيد الاستعانة بنظرية متعارف عليها في علوم الاقتصاد والسياسة والمفاوضات الدولية وهي "نظرية المباريات"، والتي تفترض أن كل فاعل سياسي يتصرف على أساس الرشاد، أي إن أحدا لا يقدم تنازلات مجانية أو تبرعات بلا مقابل لأي فاعل آخر، وإنما يسعى الكل إلى تحقيق مصالحه وفقا لتعريفه لها.
ولتبسيط البيئة السياسية فإننا سنفترض أن هناك مباراة سياسية بين ثلاثة فاعلين: الحزب الوطني، وتحالف ضيق للمعارضة المدنية (الأحزاب الثلاثة الكبار ومعهم الأحزاب تحت التأسيس)، وثالثا الإخوان.
ولنفترض أن أمام كل لاعب من هؤلاء اللاعبين إحدى إستراتيجيتين: إما البرجماتية (بمعنى تطوير استجابات تتسق مع فكرة التنسيق وربما التحالف مع القوى الأخرى من أجل تحقيق مكاسب متبادلة بمنطق المكسب المعقول لكل طرف) أو التعنت (أي رفض التنسيق والتحالف وعدم الاكتراث بمطالب الأطراف الأخرى بمنطق المكسب الأقصى). وعلى هذا الأساس، فإننا أمام معادلات أربع تفضي إلى سيناريوهات أربعة. وقبل توضيح ماهية هذه السيناريوهات يكون من المهم الإشارة إلى أن نظرية المباريات تساعد في ترشيد عملية صنع القرار من خلال تحديد ماهية الإستراتيجية المثلى (dominant strategy) والتي تعني أفضل قرار يمكن أن يتخذه كل فاعل بغض النظر عن قرارات الفاعلين الآخرين.
كما يكون من المهم التذكير بما يملكه كل طرف من عناصر قوة ومساومة تحدد ثقله في الحياة السياسية.
فالوطني هو حزب الحكومة ببيروقراطيتها المدنية والأمنية التي تتدخل بأساليبها الناعمة والصلبة لحماية أمن الدولة والنظام وقدرتهما على الاستمرار. والإخوان هم الأكثر تنظيما وقدرة على الحشد والتعبئة ويكفي أن نشير إلى أنهم من 150 عضوا تقدموا بهم كمرشحين في انتخابات مجلس الشعب 2005 نجح منهم 88 بنسبة 59%، هذا مع استبعاد ما قاله السيد رئيس الوزراء من أنه لولا تدخل الأمن في المرحلة الثالثة لكانوا حصلوا على 40 مقعدا أخرى. أي إن الإخوان لو قرروا التعبئة الشاملة في انتخابات 2010 ونزلوا بـ 444 مرشحا فإنهم سيحصلون على الأغلبية، مع ثبات عاملي الأمن والتزوير.
أما المعارضة المدنية، رغما عن تواضع تمثيلها في مجلس الشعب الحالي (12 عضوا فقط) فهي أشبه بالطرف الذي يجرى حوله صراع القوتين السابقتين، فلو نجح الإخوان في التحالف معها، أو مع الفصيل الأكبر منها، فإنهم بهذا يخلقون استقطابا من نوع جديد كبديل عن الاستقطاب الديني/العلماني الذي ساد في مرحلة ما بعد الثورة على أساس جبهة ديمقراطية معارضة في مواجهة حزب حاكم مسيطر. ولو نجح الوطني في تجسير الفجوة مع المعارضة المدنية، مع استبعاد الإخوان وربما كفاية أيضا إن احتفظت ببعض من قوتها، فإنه يخلط أوراق المعارضة له بتقديم تنازلات مرحلية تخلق فجوة بين المعارضة المدنية والإخوان تحديدا من باب "فرق تسد".
وسيكون الاختيار للأحزاب والقوى المدنية المعارضة إن كانت تريد أن تتعاون وتنسق مع الإخوان (بفرض رغبة هؤلاء) أو أن تتعاون وتنسق مع الوطني (بفرض رغبة الأخير)، أو أن تتعنت تجاههما بما يفضي إلى استمرار الأوضاع وزيادة احتمال سيناريو التوريث.
وفيما يلي تفصيل ما سبق إجماله بتوضيح السيناريوهات الأربعة:
 
بقاء الأوضاع على ما هي عليه
بقاء الوضع السياسي كما هو عليه يعني تولي جمال مبارك الحكم خلفا لوالده
 يقوم هذا السيناريو على افتراض: تعنت الوطني + تعنت الإخوان + تعنت الأحزاب المدنية: سيؤدي إلى بقاء الأوضاع على ما هي عليه من احتكار الوطني للحياة السياسية وتزايد احتمالات التوريث مع تعارض المعارضة. وهذا يجعل مصير مصر ما بعد الرئيس مبارك محكوما بمؤسسات لا تعير المعارضة اهتماما كبيرا.
فهناك أولا المؤسسة العسكرية التي سيكون قد غاب قائدها الأعلى والتي بالقطع سيجتمع مجلسها الأعلى بمن يتضمنهم من قادة المناطق والأفرع الرئيسية والذين سيقرون الخطط المعدة سلفا من أجل تأمين القاهرة وتأمين الحدود وتأمين مؤسسات الدولة الحيوية والتي يمكن أن تصل لحد حذر التجول لحين عودة الاستقرار وضمان عدم عبث العابثين بمصالح الدولة، وهو ما قد يقتضي كذلك ألا تخرج أي مظاهرات سواء لكفاية أو المعارضة أو الإخوان من باب أن الاستقرار له أولوية مطلقة في مثل هذه الظروف. وقد يساعد على ذلك إعلان رئيس مجلس الشعب، والذي يصبح بحكم الدستور رئيس الجمهورية لمدة ستين يوما، حالة الطوارئ إن كانت قد رفعت في مرحلة سابقة.
وبحكم أن شرعية يوليو وما بعدها تستند أساسا للدور الحيوي الذي تقوم به القوات المسلحة ليس فقط في حفظ الأمن وسلامة التراب الوطني ولكن كذلك في تخريج رؤساء الجمهورية الأربعة، فإن الجدل سيثور إن كان سيقتصر دورها على القبول بما ستفرزه المؤسسات المدنية من مجلس شعب والحزب الوطني (بحكم كونه حزب الأغلبية الرسمية) أم سيكون لها تفضيلاتها بشأن من يتولى الحكم. والأغلب أن بنية القيادات العليا للقوات المسلحة، لا سيما مع عدم بقاء قيادات كثيرة في موقعها لفترة طويلة من الزمن، سيقتصر على ممارسة حق الرفض أو الفيتو على أسماء مطروحة من الوطني والقبول ببعضها الآخر. وأظن أن المعيار الأساسي في القبول أو الرفض سيكون الحفاظ على المكانة المتميزة للقوات المسلحة من حيث التدريب والتسليح والامتيازات حتى لو كان رئيس الدولة مدنيا شرط أن يكون ذا حس عسكري عالٍ.
وهناك ثانيا الوطني والذي سيسعى لأن يطرح بديلا لمن يشغل المنصب الخالي وبحكم تطورات ما بعد عام 2002 سيكون الاسم الأكثر ترددا هو "جمال مبارك"، والذي سيجد نفسه "مضطرا" لقبول المنصب بحكم "المسئولية التاريخية" و"مقتضيات المرحلة" و"نداء الشعب" ومقولات "التكليف لا التشريف" التي عادة ما يروج لها في هذه الظروف.
سيكون على الحزب أن يحصل على موافقة المؤسسة العسكرية والتي غالبا ما ستقبل بالبديل لعدم وجود اسم عسكري يحظى بالقبول المدني والعسكري في آن واحد. وحتى وإن ظهر هذا الاسم، فقد يدفع به في منصب نائب لرئيس الجمهورية دون أن يكون الرئيس مباشرة بحكم الحاجة لوجود رئيس مدني "منتخب" يعطي إشارات خارجية واضحة بأن الإصلاح السياسي قد أفضى إلى تغير في نوعية القيادة السياسية.
وهناك ثالثا السفارة الأمريكية. تمثل دور المتغير الخارجي في التفاعلات الداخلية. فما من شك أن الولايات المتحدة ستكون أكثر اهتماما بمن يحتل موقع الرئاسة بحكم مصالحها المباشرة وبحكم مخاوف إسرائيل على أمن حدودها الجنوبية. وكما قال الدكتور بهجت قرني فإن العلاقات العربية مع أي من دول العالم هي علاقات ثنائية إلا مع الولايات المتحدة فهي علاقات ثلاثية بحكم وجود الطرف الإسرائيلي فيها. ولا أعتقد أن الكثير من القرارات الكبرى في مصر تتم بمعزل عن "التشاور" مع الولايات المتحدة. وتكفي الإشارة إلى ما قاله أمين سياسات الوطني في أثناء انعقاد المؤتمر السنوي الرابع للحزب بأن الحزب يطرح للنقاش فكرة الاستفادة من كافة بدائل الطاقة بما فيها الطاقة النووية. وعقب السفير الأمريكي في مصر بعد التصريح بساعتين تقريبا، فيما يشبه التزامن، بأن الولايات المتحدة تدعم حق مصر في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية. وما أظن أبدا أن يكون تصريح أمين السياسات ثم في أعقابه خطاب الرئيس مبارك قد تم دون التنسيق المسبق مع السفير الأمريكي حتى لا تفاجأ مصر بحرج من قبيل تصريح المتحدث الرسمي باسم الخارجية الأمريكية بأن الولايات المتحدة ترفض إقدام مصر على هذه الخطوة لا سيما مع الأزمة المتصاعدة مع إيران. وهكذا لم يكن رد فعل السفير الأمريكي السريع إلا كشفا عن موقف مسبق اتفقت عليه حكومتا الدولتين.
وأغلب الظن أن الولايات المتحدة ستقبل بالاسم الذي سيطرحه الوطني طالما أنه يسير على خط الحزب من قبول بالتسوية مع إسرائيل، وعدم السعي لإنشاء تحالف مضاد للمصالح الغربية في المنطقة، والالتزام اللفظي بالديمقراطية والليبرالية ومقولات اقتصاد السوق، وأخيرا أن يستوفي الحزب إجراءاته الدستورية في انتخابات "نزيهة" بالمعايير المصرية. وأغلب الظن أن يكون الاسم الأكثر قبولا هو جمال مبارك أيضا.
 
كسر احتكار وهيمنة الحزب الوطني
 هل تتمكن المعارضة من تشكيل تحالف واسع لكسر هيمنة الوطني؟
يقوم السيناريو على افتراض: تعنت الوطني + برجماتية الإخوان + برجماتية الأحزاب المدنية بما يؤدي إلى تحالف واسع من المعارضة تنتهي بكسر احتكار الوطني للهيمنة السياسية. وهناك محاولات لبناء تحالف واسع للمعارضة بعد أن ثبتت عدم فعالية التحالف الضيق الذي ضم عددًا من أحزاب المعارضة دون الإخوان وغيرهم في انتخابات 2005. بيد أن صعوبته تكمن في أسباب نجاحه، إن نجح.
وبناء تحالفات معارضة أصبح واحدة من أهم إستراتيجيات مواجهة الحزب المسيطر في كثير من دول العالم بغض النظر عن نصيبها من الديمقراطية. فخلال الفترة من يناير 2000 وحتى سبتمبر 2006 أجريت 478 انتخابات محلية وتشريعية ورئاسية في 163 دولة وفقا لموقع http://psephos. adam-carr. net، دخلت فيها المعارضة كتحالف واسع في حوالي 35% منها وفازت بالأغلبية في 76% من هذه الانتخابات التي دخلوها متحالفين، ودخلت المعارضة كتحالف ضيق في حوالي 45% من الحالات بنصيب فوز في حدود 41% من الانتخابات التي دخلوها متحالفين. والنسبة الباقية (20%) من الحالات دخلت أحزاب المعارضة دون تحالفات مسبقة فكان نصيبها من الفوز بالأغلبية في حدود 17% فقط من الانتخابات. أي إن التحالف "الضيق" يرفع فرص أحزاب المعارضة في الفوز بنسبة الضعف على الأقل مقارنة بدخولها الانتخابات منفردة (من 17% إلى 41%)، وبنفس المنطق فإن التحالف "الواسع" يرفع فرص الفوز في الانتخابات إلى ضعف فرص التحالف "الضيق" (من 41% إلى 76%). إذن، وبفرض أن هذه المؤشرات الرقمية دليل لنا في قابل أيامنا، فإن الدرس المستفاد لقادة المعارضة المصرية يكون: ولكم في التحالف حياة يا أولي الألباب.
بيد أن هذه الأرقام تكشف أيضا أن بناء التحالف الواسع أصعب لكن فرص نجاحه أكبر. وكأن الصعوبة الحقيقية هي في بناء التحالف أكثر مما هي صعوبة في الفوز في الانتخابات. فالفوز في الانتخابات، وفقا لهذا المنطق، ليس هدفا بعيد المنال، بل هو نتيجة منطقية للتحالف الواسع متى تحقق.
وهنا يكون السؤال: ما هي شروط بناء تحالف واسع للمعارضة بناء على تجارب الدول الأخرى؟ وهل يمكن أن تبني المعارضة تحالفا واسعا يجهض سيناريو التوريث في ظل المعارضة المتعارضة؟ ففي ظل سيناريو التوريث وقفت المعارضة موقف التعارض المفضي إلى العدم السياسي. ومن هنا فقد كانت القوى السياسية المحددة للتوريث من عدمه هي: الحزب الوطني، والمؤسسة العسكرية، والسفارة الأمريكية كممثلة للمصالح الغربية على أرض مصر مع ثبات دور المعارضة.
شروط بناء هذا التحالف الواسع هي خمسة على الأقل:
1- البرجماتية المحسوبة: فاختفاء التناقضات البينية لصالح التناقض الأكبر مع الحزب الحاكم هو جوهر بناء تحالف قوي لأحزاب المعارضة بما يفوت الفرصة على الحزب الحاكم لإحداث انقسام رأسي يشرخ التحالف. وهو ما يقتضي ابتداء أن يتفق الجميع على أنهم انتقلوا من مرحلة المعارضة الودودة للنظام إلى مرحلة الحكم. فما حدث تداول للسلطة في مالي، وهي بالمناسبة من الأمثلة القليلة للدول ذات الأغلبية المسلمة والتي تحظى بديمقراطية مستقرة، إلا بتحالف المعارضة في الانتخابات الرئاسية والتشريعية وآخرها ما عرف بـ "تحالف الأمل" في الانتخابات التشريعية عام 2002. هذه البرجماتية أدت في بعض الدول إلى التحول من التحالف نحو اندماج الأحزاب كما حدث في كوريا الجنوبية عام 1990 حين وجد الحزب الحاكم استحالة البقاء في السلطة دون الاندماج التام مع حزبين معارضين آخرين على برنامج اقتصادي مشترك وكون ثلاثتهم الحزب الديمقراطي الليبرالي؛ بما دفع أحزاب المعارضة الثلاثة الرئيسية إلى خطوة مماثلة بما أنتج الحزب الديمقراطي في عام 1991. وهذه البرجماتية تبدو أسهل في حالة التحالفات الضيقة وشديدة الصعوبة في حالة التحالفات الواسعة.
لا بد أن تكون هذه البرجماتية محسوبة حتى لا تأتي على حساب تأمين قواعد الأنصار والمؤيدين أو حدوث انقسامات تؤدي إلى فقدان أي من هذه القوى لجانب كبير من مؤيديها على نحو يجعل من التحالف انتقاصا من القدرات الأصلية لكل قوة سياسية.
2- التكيف والاستمرار: فالتحالف الناجح يتوقف على استمراره ومن ثم تكيفه مع معطيات الحياة السياسية لفترة زمنية طويلة نسبيا سواء من النجاحات أو الإخفاقات. فلا يكون كافيا أن يظهر التحالف في مرحلة ما قبل الانتخابات مباشرة ثم تنقض عراه وكأن شيئا لم يحدث. ففشل التحالف المعارض لابن رئيس توجو السابق في انتخابات إبريل 2006 يرجع ابتداء إلى عنصر المفاجأة في موت الرئيس السابق بما لم يتح للمعارضة أن تبني تحالفا له وجود مشفوع بالبقاء على الساحة لفترة زمنية كافية.
هذا الشرط يبدو منطقيا في ضوء أن التحالف المعارض ينبني في مواجهة قوة أو حزب له بقاء مستقر لفترة طويلة نسبيا في السلطة، لا سيما أن الناخب يجد نفسه في صراع الاختيار بين الحزب الحاكم الموحد والمستقر، وإن كانت سياساته لا تحظى بالتوافق العام، وبين الجديد المستحدث حتى وإن كان صوابا. وهذه الاستمرارية هي جوهر نجاح زعيم الحزب الديمقراطي السنغالي "عبد الله واد" الذي ظل زعيما لتحالف المعارضة لمدة 25 عاما، بما فيها من إخفاقات ونجاحات، ضد الحزب الاشتراكي السنغالي الذي احتكر الحياة السياسية في السنغال لمدة 40 سنة حتى فاز تحالف المعارضة ضد الحزب الحاكم برئاسة "عبده ضيوف" في مارس 2000. لكنه لم ينجح إلا عندما كون تحالفا ضخما ومستقرا لحد بعيد من الأحزاب السنغالية ومعها العديد من مؤسسات المجتمع المدني والصحافة الحرة التي اتفقت على حتمية تغيير قواعد اللعبة السياسية.
3- النواة المركزية: فتوافر نواة مركزية صلبة للتحالف من بين أحزاب وقوى الوسط تحديدا شرط مهم لبناء أي تحالف موسع؛ لأن قوى الوسط تكون الأقدر على أن تدير الحوار الخلاق بين الشتيت المتنافر من أحزاب اليمين وأحزاب اليسار بحيث تستطيع أن تبتكر مساحة اتفاق تضمن بقاء التحالف حيا.
والمثال الكلاسيكي لهذه النواة المركزية الصلبة يأتي من تحالف "قوس قزح" الانتخابي تحت قيادة الرئيس الكيني الحالي "كيباكي" الذي حقق معجزة بالمعايير الإفريقية بأن تجاوز الانقسامات العرقية والأيديولوجية التي كانت خاصية مستقرة في السياسة الكينية منذ الاستقلال.
وأهم ما تقوم به قوى الوسط هو استبعاد بعض القوى من التحالف إن اضطرت لذلك. فهناك قوى ترى أن الإطار الإيديولوجي الحاكم لها يحظى بأولوية مطلقة بغض النظر عن نتائج الانتخابات بحكم أن الفجوة بينها وبين بعض شركائها في التحالف أوسع كثيرا من الفجوة بينها وبين الحزب الحاكم (علاقة التجمع بالإخوان مثالا). وعلى هذا تكون قوى الوسط بمثابة حاملة ميزان القوة التي عليها أن تخلق "أوسع" تحالف "ضيق" ممكن إن فشل التحالف الموسع، وهو ما فعله الرئيس الكيني حين استبعد من تحالف "قوس قزح" قوى أرادات أن تمارس حق الفيتو على القوى الأخرى، ونجح التحالف بفضل قوة النواة الصلبة من أحزاب الوسط.
وبتأمل الواقع المصري، فإن الأكثر قدرة على قيادة هذا التحالف إما حزب الوفد، بميراثه الليبرالي وتنسيقه السابق مع الإخوان في انتخابات 1984، أو أعلام حركة كفاية، بما أحدثوه من تطور في الحياة السياسية المصرية ومعهم رموز الجبهة الوطنية للتغيير. وقد يلجأ رموز النواة الصلبة إلى القرار الصعب بالاختيار بين اليسار العالي الصوت إعلاميا الضعيف الوجود قاعديا، واليمين الديني الأكفأ في التعبئة والأبعد عن المشروعية السياسية.
4- تحييد المؤسسة العسكرية والمتغير الخارجي: التحالفات الناجحة قامت دائما على البحث عن نقاط التقاء من أجل توسيع دائرة الـ"نحن" وتضييق دائرة الـ"هم"؛ وهو ما يقتضي من أي تحالف موسع أن يتجنب إدخال أطراف خارجية ذات قدرة استثنائية على توجيه مسار العملية السياسية في اتجاه الإبقاء على الأوضاع الراهنة. فليس من المنطق أن يقوم التحالف على فكرة استعداء قوى أجنبية أو على الانتقاص من الدور الوطني الذي طالما قامت به المؤسسة العسكرية. فحين وصل تحالف المعارضة إلى الحكم في اليابان عام 1994 لأول مرة منذ عام 1955 تجنب تماما إثارة حنق الولايات المتحدة أو محاولة تعديل العلاقات المدنية العسكرية في الدولة لأن هذه القضايا، رغما عن استقرار الديمقراطية اليابانية، كانت ستحدث انقسامات هائلة في التحالف الجديد.
5- ترجمة التحالف إلى أشخاص: فللأفكار حضورها، ولكنها والعدم سواء إن لم ينطق بها الرجال. ففساد الرئيس "شفرنادزه" في جورجيا، فضلا عن استبداده، كانا موضع اتفاق الجميع لسنوات، بيد أن مقاومته كانت تتطلب أن يتقدم رجل يحظى بالمصداقية والقبول العام من قبل قوى المعارضة حتى يقود تحالفا معارضا لشفرنادزه. وكان هذا الشخص هو الرئيس الحالي "ساكاشفيلي" الذي أدى كونه رجل قانون ووزير عدل سابق أن ينظر إليه من قبل قطاع واسع من المواطنين على أنه نظيف اليد وديمقراطي التوجه.
ومن هنا تأتي أهمية أن يترجم التحالف الواسع نفسه إلى شخص أو مجموعة أشخاص تتقدم كفريق محدد المعالم ومتجانس المضمون كي يحمل على عاتقه مسئولية موازاة الحزب الحاكم. ومن الممكن، بسبب الاستقطاب الأيديولوجي الحاد، أن تنجح التحالفات أكثر حين يكون هذا الشخص أو مجموعة الأشخاص بلا انتماء سياسي جامد؛ وإنما يكون رأس مالهم السياسي أنهم يمثلون مبادئ عليا ومستقرة في المجتمع.
وبإسقاط هذه الملاحظة على الواقع المصري، فقد يكون للقضاة الذين حملوا مهمة الدفاع عن استقلال المهنة ورفض تزوير الانتخابات وضع استثنائي إن قرروا أن ينزلوا من علياء منصات القضاء إلى مزالق السياسة. فلا شك أن لمهنة القضاء مكانتها، ونزاهة المستقلين فيها تجعل لهم مكانة تسهل إمكانية بناء تحالف واسع حول قاض يجمع بين رؤية سياسية سليمة وتاريخ مهني مشرف حتى يكون زعيم التحالف في الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة.
 
تهميش الإخوان
يقوم هذا السيناريو على افتراض: برجماتية الحزب الوطني + تعنت الإخوان + برجماتية الأحزاب المدنية، بما يؤدي إلى تنسيق وتوزيع أدوار بين الوطني الذي يضمن الأغلبية الرسمية والأحزاب المدنية على نحو يهمش من الإخوان ويضمن للأحزاب أن تحقق شيئا من مطالبها السياسية.
هذا البديل يبدو واقعيا إذا ما افترضنا الرشاد في الطرفين المدنيين (الوطني والمعارضة) على اعتبار أن أحزاب المعارضة ستحقق بعض المكاسب مثل تعديل بعض المواد الدستورية التي طالما طالبت بتعديلها مثل المادة 74 والتي تعطي لرئيس الجمهورية صلاحيات واسعة للغاية إذا ما "قام خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة الوطن أو يعوق مؤسسات الدولة عن أداء دورها الدستوري". وكلها تعبيرات متروك أمر تفسيرها لرئيس الجمهورية ذاته، أو تعديل المادة 76 والتي يمكن أن يقدم الوطني على تعديلها بشكل يوسع الفجوة بين الأحزاب المعارضة المدنية والإخوان بأن يخفض النسبة المطلوبة لترشيح أي حزب لأحد قياداته إلى 2 أو 3% من أعضاء مجلس الشعب لمنصب رئيس الجمهورية (بدلا من 5% الآن) مع الإبقاء على شرط تأييد الـ 250 عضوا منتخبا (من مجلسي الشعب والشورى والمجالس المحلية في 10 محافظات) للمرشح المستقل.
وهذا التعديل يقوي الأحزاب المدنية الرسمية وفرص المستقلين (بما فيهم الإخوان) على أن ينافسوا على منصب رئيس الجمهورية. وقد يوافق الوطني على تعديل المادة 77 على نحو يجعل مدة رئيس الجمهورية أقل (5 سنوات مثلا) مع الإبقاء على أن تظل المدد مفتوحة أو تحدد بثلاث مدد بعد انتهاء حكم الرئيس مبارك. أو أن يتضمن التعديل الدستوري تطبيق الانتخابات بالقائمة مع حظر أو وضع شروط تعجيزية لحق المستقلين في دخول الانتخابات بقوائم مستقلة. وكل هذه بدائل ستقرب من وشائج العلاقة بين الأحزاب المدنية (الحاكم والمعارضة) على حساب الإخوان باعتبارهم خارجين على الإجماع الوطني بحتمية ألا يكون هناك حزب على أساس ديني أو يثير النعرة الدينية بين أبناء الوطن الواحد. وكأننا نقترب خطوة غير مكتملة نحو نموذج الحياة السياسية الألمانية التي تستبعد النازيين والشيوعيين من الحياة السياسية مع السماح بالتنافس الديمقراطي بين القوى التي تلتزم بقواعد اللعبة الديمقراطية.
وفي حال كهذه، يمكن أن يتبنى الوطني في تفاعله مع جماعة الإخوان أحد البديلين التاليين:
 
أولا: استمرار البديل القائم في عهد الرئيس مبارك، وهو التحجيم دون الاستئصال:
وهنا تبدو الحالة المصرية لها خصوصية حتى بالمعايير العربية، وتمثل جزءًا من مأزق النظام المصري بصفة عامة، حيث يرتفع وينخفض سقف حرية الحركة للإخوان على نحو يوحي بالرغبة في التحجيم دون الاستئصال، وبالتالي هي درجة من الاستيعاب الجزئي والاستبعاد الجزئي دون وضوح في طبيعة الخطوط الحمراء. فعمليا يسمح للإخوان بدخول الانتخابات العامة والنقابية والطلابية شرط ألا يفوزوا فيها بالأغلبية فيجري تزويرها أو استبعاد مرشحي الإخوان منها إداريا أو القبض عليهم أمنيا على نحو يجعلنا أمام غموض غير بناء؛ لأنه يزيد من أزمة مصداقية الدولة وعدم التزامها بالقواعد التي تضعها لمواطنيها. يضاف إلى ذلك أن الدولة تسن قوانين هي أشبه بالعقاب الجماعي الذي ينال من حرية الحركة المتاحة لجميع القوى السياسية بما فيها الأحزاب الشرعية. وهو ما يجعل الوضع المصري هو الأكثر غموضا مقارنة بحالتين عربيتين في كيفية التعامل مع جماعات إسلامية ذات إسناد سياسي هما الأقل التزاما بروح حكم القانون، وهما: حالة الاستيعاب القانوني والتحييد السياسي كما تتضح في النموذجين الملكيين الأردني والمغربي، وحالة الاستبعاد مع الاستبداد كما في تونس وسوريا وليبيا.
 
ثانيا: اتباع البديل الألماني، وهو الاستبعاد الديمقراطي:
فالبديل الألماني الذي جسده دستور 1949 في ألمانيا الغربية نص صراحة على استبعاد المتطرفين في أقصي اليمين وهم النازيون، والمتطرفون في أقصي اليسار وهم الشيوعيون من الحياة السياسية، وتكون الانتخابات ومن ثم مراكز صنع القرار والتشريع والرأي مفتوحة لقوى يمين الوسط ويسار الوسط ومن في حكمهما.
وفي هذا البديل ميزة أساسية أنه يجبر جميع المتطرفين على الاعتدال بأن يغلق عليهم أبواب الشطط، ولكن في نفس الوقت يفتح لهم نافذة التعبير والمشاركة المشروعة في الحياة السياسية، بأن يكونوا من قوى الاعتدال بالمعايير الألمانية. وعلى هذا فالاستبعاد ارتبط من ناحية أخرى بإقامة حياة ديمقراطية سليمة تتمتع فيها قوى الوسط بالحق الشرعي في الوصول إلى السلطة عبر صناديق الانتخاب. وشعارها لا ديمقراطية لأعداء الديمقراطية.
عيب هذا البديل هو صعوبة نقله إلى تجارب أخرى ما لم تقدم قوى التطرف على جريمة تصل إلى حد الكارثة الوطنية يمكن معها قبول فكرة استبعادها، أو أن تكون القوى المتطرفة من الضعف بحيث لا يترتب على استبعادها القانوني ما يحدث خللا جسيما في الجسد السياسي.
فهذا البديل قد يكون ملائما لمجتمعات عربية "سوريا وتونس وليبيا" أكثر من غيرها، بفرض: أولا أن نخبها جادة في التحول الديمقراطي وثانيا بحكم الضعف النسبي لحركات الإسلام السياسي فيها. فحينما نجحت ألمانيا في تحقيق هذه الصيغة كانت أولا تحت الاحتلال الذي لم يكن ليقبل بوجود أحزاب نازية أو شيوعية في الساحة السياسية. كما أن اتفاقا عاما بين القوى السياسية بعد الحرب العالمية الثانية، وصل إلى صيغة رفض النازية بحكم مآسي الحرب وعواقبها وإلى رفض الشيوعية بحكم التخوف الشديد من الممارسات الستالينية التي لم تكن أفضل من الخبرة النازية.
بيد أن هذا الاتفاق المجتمعي بشأن ماذا نفعل مع الإسلام السياسي ليس متوافرًا في كثير من البلدان العربية، لا سيما تلك التي تنتشر فيها جماعة الإخوان بحكم ما لديها من حضور قوي وقدرة عالية على التأقلم وعدم فقدانها للقبول الشعبي؛ لأنها لم تتبن منهجا منتظما في استخدام العنف.
ورغما عن ذلك يبقى هذا البديل مطروحا في مصر، ولكن بشكله المقابل؛ إذ إن التعديلات الدستورية أو التوجهات الإصلاحية التي ربما تسود في حالة تنسيق وتوزيع الأدوار بين الوطني وبين الأحزاب المدنية على نحو يهمش من الإخوان ويضمن للأحزاب المدنية أن تحقق شيئا من مطالبها السياسية، قد يقابله انفتاح سياسي غير متوقع من جماعة الإخوان لسد الثغرة أمام برجماتية الحزب الوطني وأحزاب المعارضة، فيتحركون تلقائيا، وتحت هذا الضغط الضمني، إلى تقديم أنفسهم، بعيدا عن حالة الشطط والتطرف، كنموذج لجماعة معتدلة بالمعايير المصرية أو كقوى "وسط" تحاول الاستفادة من انفتاح الحياة الديمقراطية، ولو جزئيا، لتخلف لنفسها نافذة للتعبير والمشاركة المشروعة في الحياة السياسية، وتنأى بنفسها عن وصفها بأنها من أعداء الديمقراطية، وهو ما قد يجعل النظام فيما بعد يقبل بمشاركتها الفعلية.
 
 التحول الليبرالي في توجهات كل القوى
هل يتمكن إخوان مصر من تثبيت الطابع المدني لا الديني لجماعتهم؟
يقوم هذا السيناريو على افتراض: برجماتية الحزب الوطني + برجماتية الإخوان + برجماتية الأحزاب المدنية، وهو بديل يترك للأحزاب المدنية فرصة الاختيار بين التنسيق مع الوطني أو التنسيق مع الإخوان. ويبدو أن اختيار أحزاب المعارضة محسوم لصالح التنسيق مع الوطني طالما أنه على استعداد للتفاوض وتقديم عروض تضمن نقلة نوعية في الحياة السياسية على حساب الإخوان الذين لا يأمنون جانبهم.
فمن وجهة نظر المعارضة المدنية فإن التحالف مع الإخوان ضد الوطني يعني معركتين إحداهما حالة مع الوطني وأخرى محتملة مع الإخوان متى نجح التحالف ضد الوطني؛ لأن الإخوان هم أصحاب الثقل الأكبر في الشارع، وغالبا ما سيهمشون الأحزاب المدنية عند قيادة المعارضة أو إذا أقصوا الوطني عن سدة الحكم. فالديمقراطية ليست قيما والتزامات مسبقة فقط ولكنها قبل كل شيء نوع من التوازن في القوة بين الأحزاب والقوى السياسية المختلفة، وهو ما تعلم الأحزاب المعارضة أنها لا تملكه في مواجهة الإخوان.
وبفرض أن الفاعلين المختلفين يقرءون الساحة السياسية على النحو السابق، فإن الوطني، بفرض الرشاد، سيكون من الأفضل له ألا يرتكب خطأ توحيد أعدائه ضده وإنما عليه أن يوسع ما بينهم من شروخ وفجوات، وهي قائمة بالفعل، بألا يتبنى إستراتيجية التعنت لأن هذا يجعل التناقضات البينية (أي بين القوى المعارضة بما فيها الإخوان) تختفي لصالح التناقض الأكبر مع الحزب الحاكم، فنكون أمام خندقين: خندق الوطني (ونتذكره أن أصحاب الهلال والجمل حصلوا فقط على 33% من أصوات الناخبين في انتخابات 2005) وخندق كافة القوى المعارضة والمستقلة الأخرى ومعها قطاعات واسعة من الشعب التي دفعت فاتورة "الإصلاح الاقتصادي" على مدى 25 عاما.
وتكون الإستراتيجية المثلى الوطني هي أن يدخل في حوار مباشر مع الأحزاب المدنية بل وفي صفقات تضمن لهم نسبة من مقاعد مجلسي الشعب والشورى بما يضيق الخناق على الإخوان. فالمعارضة لم تكن بهذا القدر من التقارب في الأهداف السياسية، وعلى رأسها الإصلاح الدستوري، طوال تجربة التعددية منذ أواخر السبعينيات. وسيسدي الوطني لنفسه خدمة كبيرة إذا ما نجح في توسيع الشروخ بين المعارضة المدنية المتفقة معه على استبعاد التيار الديني من الحياة السياسية، وبين الإخوان.
وبفرض الرشاد أيضا، فإن الإستراتيجية المثلى للمعارضة المدنية أن تتبنى البرجماتية (أي التعاون) تجاه من يقدم على التعاون معها سواء كان الوطني أو الإخوان، وإن أقدم الطرفان ببرجماتية على التعاون معها فهي ستفضل المكسب المعقول مع الوطني عن المكسب الأقصى مع الإخوان. وقد أفصحت أحزاب المعارضة المدنية عن نزعتها البرجماتية تجاه الحزب الحاكم في جولات الحوار حول تعديل المادة 76 بيد أن تعنت الوطني وقف حائلا دون استمراره. ولو خيرت الكثير من الأحزاب السياسية، لا سيما اليسار، بين استمرار الحزب في السلطة وبين وصول الإخوان للحكم فإنهم سيفضلون استمرار الوطني شريطة أن يكون حتى لو كان الثمن هو القبول بالتوريث المشفوع بإصلاحات سياسية حقيقية على النحو الذي أشرنا إليه. وهي رؤية محققة لذاتها، فشيوعها يعطي إشارة واضحة للإخوان باستحالة التحالف مع اليسار فيزدادون هجوما عليه ورفضا للتعاون معه بما يخلق فجوة أكبر بين قوى المعارضة.
وبفرض الرشاد أيضا، فإن الإخوان مطالبون بألا يظنوا أنهم الأقوى على الساحة بحكم تآكل شرعية الوطني وهشاشة المعارضة المدنية؛ فحاجة قيادات الحزب الحاكم للتنسيق مع المعارضة المدنية قد تعني أن يفقد الإخوان (حرب المواقع) إذا ما نجح التحالف المدني بين الحزب الحاكم والمعارضة في تشديد القيود على قدرة الإخوان على اختراق المجالس المحلية والتشريعية (مثلما حدث مع النقابات). فعكس ما قد يبدو للعيان، ووفقا لهذا التحليل، فإن نتائج الانتخابات التشريعية السابقة، وإن أعطت مؤشرا بالغ الوضوح على قوة الإخوان، لكنها ربما تكون آخر فرصة لهم كي يحققوا مكاسب من هذا القبيل. والمثال الذي يحضرني هو تحالف قوى الغرب على دولة محمد علي في منتصف القرن التاسع عشر؛ فوصول الإخوان إلى الأغلبية في مجلس الشعب، خط أحمر لن يقبل به الوطني حتى لو كان البديل استخدام أدوات التدخل الصلب أو التنسيق مع المعارضة المدنية أو الجمع بينهما.
فالبديل الأمثل للإخوان قد يكون في تخليهم عن "النرجسية" السياسية وأن يسارعوا، والزمن حقيقة ليس في صالحهم، إلى أن يتقاربوا سياسيا مع قوى المعارضة الأخرى، وأن يهرولوا نحو تأكيد طابعهم المدني والتخلي عن الجانب الدعوي وإلا فإن الحزب الحاكم، وبفرض الرشاد أيضا، سيحكم الخناق عليهم بعزل قدرتهم على بناء تحالفات أوسع مع المعارضة أو الحصول على عدد أكبر من المقاعد في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الشورى ثم المحليات ثم مجلس الشعب في 2010. وآليات التعديل الدستوري والتشريعي لتقليم أظافر الإخوان متوفرة بتوسيع فرص الأحزاب في الترشح للانتخابات كقوائم نسبية دون إتاحة فرصة مماثلة للمستقلين بما يضعف من قدرة الإخوان على تحقيق مراكز متقدمة في الانتخابات.
ومهمة الإخوان في تبديد مخاوف المعارضة المدنية ليست سهلة على الإطلاق؛ فالتحالف مع الإخوان ليس البديل الأمثل من وجهة نظر المعارضة إلا إذا تعنت الوطني ورفض الاستجابة لبعض مطالبهم على الأقل. فلا أحد يحب أن ينام بجوار الفيل (كناية عن الإخوان)، كما يقول المثل الإنجليزي؛ لأن أي حركة منه تعني الموت لمن يجاوره.
وتنسيق الوطني مع المعارضة المدنية يبدو السيناريو الأقرب إلى الرشاد السياسي، بيد أن هذا لا ينفي احتمال مستبعد عملا ولكنه مطروح نظريا وهو "الصفقة السياسية" القائمة على التنسيق البرجماتي بين الوطني والإخوان، حيث تخشى قيادات الوطني أن تعبئ جماعة الإخوان كافة طاقاتها للوقوف ضد من يرغب الوطني في تسميته للرئاسة، وتحديدا إذا كان هو جمال مبارك، فضلا عن قدرة الجماعة على إحداث نقلات نوعية في فكرها وممارساتها بالقدر الذي يزيل أو يقلل ما يثار من مخاوف قائمة بشأنها اليوم. ويجعل احتمال الصفقة مطروحا، ولو نظريا، أن النخبة الجديدة في الوطني قد ترغب في أن تؤسس لشرعيتها على أساس انفراجة ديمقراطية وبالتالي فقد يصل الأمر إلى حدوث مقايضة ما بين الجانبين سوف تأتي بآثار ونتائج إيجابية على مستوى التحول الديمقراطي في مصر.
هذا الأمر قد يكون مدخلا جوهريا للأخذ بالبديل التركي في كيفية استيعاب التيارات الإسلامية، وهو ما يمكن أن يطلق عليه "نموذج الاستيعاب الديمقراطي". وهذا بديل ديمقراطي أيضا لكنه يختلف في بنيته المؤسسية عن البديل الألماني السابق الإشارة إليه، من حيث إنه يستوعب جميع القوى التي تقبل نظريا بقواعد الدولة المدنية والديمقراطية، ويراقبها من خلال مؤسسة تسهر على حماية القواعد فوق دستورية supra-constitutiona l والتي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها كما لا يجوز العمل على تغييرها أو تعديلها بحكم الدستور نفسه.
ولأهمية الأخذ بهذا النموذج ومناسبة تطبيقه في الحالة المصرية، وبغض النظر عما يمكن أن يؤول إليه الوضع السياسي مستقبلا بين الوطني والإخوان، يمكن الاستفاضة قليلا في شكل هذا البديل كحل يمكن أن يحل كثيرا من الإشكالية الديمقراطية في مصر.
الحقيقة أن التجربة التركية ليست الوحيدة في التخوف الشديد من استمرارية الديمقراطية. فكم من دول تحولت ديمقراطيا، لكنها انكسرت بوصول قوى غير ديمقراطية إلى سدة الحكم، فكانت بمثابة ديمقراطية المرة الواحدة. ومن هنا يطرح المدخل المؤسسي في نظريات النظم السياسية فكرة بناء أطر مؤسسية تنشأ وتحافظ على الطابع المدني والديمقراطي والليبرالي للدولة. وهو ما يقتضي أن يتم تضمين الدستور آليات تسمح بحق جميع القوى السياسية التي تلتزم بقواعد اللعبة الديمقراطية في أن تكون جزءًا من الإطار السياسي للدولة من ناحية، شريطة عدم الركون لنوايا الفاعلين السياسيين بشأن التزامهم بالديمقراطية. وهو ما يتطلب تفتيت السلطة بين القوى السياسية المختلفة على نحو لا يجعل أيا منها، إسلامية كانت أو غير إسلامية، أن تغير قواعد اللعبة السياسية في مصلحتها متى وصلت إلى الحكم. وفي هذا المقام يمكن أن تتخذ إجراءات ثلاثة على وجه التحديد:
1 - خوفًا من أن يؤدي وصول الإسلاميين أو غيرهم للسلطة إلى استبعاد منافسيهم، فإنه يمكن أن ينص في الدستور على ألا يكون رئيس الدولة، في الدول الجمهورية، من نفس الحزب الذي يشكل الحكومة. فضلاً على ألا يسيطر الحزب الذي يسيطر على أحد المجلسين التشريعيين، وليكن مجلس النواب، على أكثر من ثلث مقاعد المجلس الآخر، وليكن مجلس الشورى، حتى نضمن أن تظل دائما القرارات "توافقية" بين أكبر عدد ممكن من القوى السياسية المختلفة.
2 - خوفًا من أن تؤدي الديمقراطية إلى فنائها بتصويت المواطنين لقوى غير ملتزمة بالديمقراطية وبأصول الدولة المدنية، فإنه يمكن تضمين قواعد عمل مؤسسات الدولة المدنية والحقوق الليبرالية وإجراءات تداول السلطة ومحاسباتها وموازنتها في مواد فوق دستورية، بحيث لا يمكن تعديلها على الإطلاق أو أن تكون جامدة بحيث لا يمكن تعديلها فور حصول أي قوة سياسية على الأغلبية في الهيئة التشريعية، وإنما يقتضي تعديل الدستور فترة زمنية طويلة تسمح بتداول الآراء والأفكار، وليس مجرد انقلاب دستوري يأتي في أعقاب الانتخابات التشريعية مباشرة.
3 - خوفًا من أن يؤدي وصول الإسلاميين أو غيرهم للسلطة إلى العبث بدستور البلاد والانقلاب عليه، فإنه يمكن أن ينشئ الدستور آليات محددة لحمايته مثل مجلس أعلى لحماية الدستور يضم مزيجًا من الجهات المنتخبة وغير المنتخبة مثل رئيس الدولة ورئيس الحكومة ورئيسي المجلسين التشريعيين (جهات منتخبة) ورؤساء عدد من الهيئات القضائية (جهات غير منتخبة)، ويكون للمجلس وحده وبأغلبية خاصة (كأغلبية الثلثين) سلطة استدعاء وحدات خاصة من الجيش لحماية الدستور حين الخروج عليه.
الحالة المصرية تحتاج إلي إعادة نظر في بنية النظام السياسي كله، وليس فقط في تعديل مادة هنا أو هناك. وليقيني بأن شيئًا من هذا لن يحدث في عهد الرئيس مبارك؛ فالموضوع كله مؤجل لما بعده، ولكن علينا التأمل فيه من الآن.
 
* مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. يمكنك التواصل معه عبر موقعه الإلكتروني www.aladl.net
- يتوجه الكاتب بالشكر إلى أ. غادة فايق على الجهد البحثي الذي قامت به لإتمام هذه الدراسة.
7-1-2006
اجمالي القراءات 7338
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق