( 3 : ج )الجزاء على قدر العمل :
أولا : مقدمة
1 ـ لا زلنا فى علاقة العمل ( الصالح ) أو ( السيىء ) بالايمان والكفر . ليس هذا ترفا فكريا ولكنه أساس فى أزمة المسلمين مع الاسلام ، إنه المنبع الذى يأتى منه إتهام الاسلام بالارهاب والتخلف.. الأساس أن أغلب المسلمين ـ حتى اليوم ـ يعتقدون أنهم (خير أمة أخرجت للناس ) بدون (عمل ) صالح نافع يجعلهم مستحقين لهذا الوصف، بل إن بعضهم إذا ( عمل ) فإنه يرتكب الجرائم باسم الاسلام.
والجميع يعتقدون أن (الايمان ) كاف بلا عمل صالح ، وأن (الايمان ) عندهم يغفر (العمل السيىء ) فهو (إيمان) بأكاذيب (الشفاعة) ليبرروا به أخطاءهم وخطاياهم .
2 ـ والنتيجة التى نراها فى هذه الحياة ـ حتى الآن ـ أن الأغلبية الصامتة من هذه الأمة لا تتكاسل فقط عن عمل الصالحات بل تتكاسل عن الدفاع عن حقوقها ، إذ أصبحت جثة هامدة يتنازع عليها الطغاة الحاكمون ومنافسوهم من المتطرفين والارهابيين ، وكلاهما يحتكر لنفسه دين الاسلام .
هذا فى الدنيا..أما فى الاخرة ، وطبقا لآيات القرآن الكريم فان العمل السيىء حين يصل الى قاع الظلم والقتل و القهر فقد أصبح كفرا سلوكيا ، ثم يستجلب معه الكفر العقيدى ليسوغ العصيان و ليشجع عليه بأحاديث الشفاعات والوساطات لدى ضريح أو قبر مقدس.
3 ـ إنظر الى ما يحدث للعرب المسلمين اليوم من مهانة وذلة وسمعة سيئة، إذ لا تأتى الأخبار السيئة فى العالم إلا من عندهم ، بحيث أصبح وجودهم مبعث قرف وقلق للعالم المتحضر، منهم الضحية التى استنفدت كل مشاعر الشفقة لدى العالم ،ولم تترك للعالم سوى الملل مما يفعلونه بأنفسهم وبغيرهم ، ومنهم الجناة الارهابيون الذين يسببون الفزع والرعب للآمنين .
ومع ذلك فهم لا ينقصهم كثرة العدد ،بل أكثرية السكان من الشباب القادرين على العمل،ولا تنقصهم الموارد الطبيعية والثروات الطائلة، ومع ذلك لا يصل حجم إنتاجهم الفعلى معا أقل ما ينتجه شعب قليل السكان فى أوربا ( سويسرا ، دول اسكندنافيا ) .
4 ـ وفى منتصف العالم الاسلامى والعربى ترى الدليل على عار العرب و المسلمين ، على ضفتى البحر الأحمر والبحر العربى ، ترى المجاعة والفقر المدقع فى الجزء الأفريقى والترف المفجع فى الجزيرة العربية و الخليج ، وترى أن المهتمين باطعام الجياع العرب والمسلمين هى وكالات تتبع أغلبها المسيحيين والبوذيين من الأوربيين والأمريكيين واليابانيين ، بينما الثراء العربى فى دول الخليج يتناسى الجوعى من العرب و المسلمين فى الشاطىء المقابل لانهماكه فى الترف والمجون واللعب ومسابقات الابل و الجحوش. فاذا حدثت أزمة فى غزة أو فى الضفة أرسلوا ببعض شاحنات تصحبها أجهزة الاعلام تصفق وتهلل تخلط المعروف بالمنّ والأذى تحديا للأدب الراقى فى القرآن الكريم ..( البقرة 263 : ـ)
5 ـ ليس العيب فى الفرد العربى ،إنما العيب فى ثقافته السلفية التى يؤكد على انتشارها وحمايتها نظام الطاغوت العربى من خلال ( التلقين ) فى التعليم والاعلام والمسجد ، أنها (ثقافة السلف وما وجدنا عليه آباءنا ) وتقديس الماضى واعتباره بقرة مقدسة لا يقترب منها أحد إلا بالتمجيد والتعظيم. هى ثقافة (الاستعباد ) للطغاة وثقافة ( العبيد ) ( للرعية ) المملوكة للطغاة ، ثقافة ( إعلاء أهل الثقة أو أهل الحل و العقد ) من الراقصين فى مواكب الطاغية، وثقافة ( إضطهاد وإحتقار واستبعاد أهل الخبرة ) فمهما يتفوق أهل الخبرة فلا قيمة لهم ولا مكان لهم إلا فى المنافى والسجون ، ومهما يقوله (اهل الثقة ) فهو المقبول لأن ولاءهم للطاغية و ليس للوطن و الشعب. وبالتالى فالعمل الصالح النافع ممقوت ومرفوض ، والعمل السيىء من النفاق ومؤازرة الفساد والاستبداد هو المطلوب المحمود .
هذه هى الثقافة العربية التى تجعل العربى والمصرى يتفوق فى الخارج بعد أن يفرّ من ظلم الطاغوت فى وطنه . هذه هى ثقافة العرب المتوارثة والسائدة منذ أن كان الشاعر يقف أمام الخليفة يمدحه نفاقا ليجود عليه الخليفة الطاغية الظالم بآلاف الدنانير من ثروته التى ينهبها من الشعوب المظلومة الراكعة ، بينما الفقهاء من (أهل الحل و العقد ) يؤكدون للطاغية الخليفة أنه هو الذى يملك الأرض ومن عليها ، وأن خراج الدولة حق له فى جيبه ينفق منه كيف يشاء ..
حتى الجيوش العربية والتى يتركز (عملها ) فى الاستعداد للدفاع عن الوطن و حماية الشعب أصبحت لا تصلح إلا لحماية الطاغية وتوجيه سلاحها الى الشعب العربى الأعزل.
لا تزال تلك الثقافة سائدة من (الخليج ) الى (المحيط ) لا فارق كبيرا بين أمير فى المشرق أو مليك فى المغرب.
فهل يمكن أن يزدهر ويسود عمل صالح نافع فى مجتمع كهذا عايش الظلم وتعود عليه قرونا؟
6 ـ ليس فى تراث المسلمين ذلك التركيز على قيمة العمل الصالح النافع للمجتمع .
لقد تم إختزاله فى عبادات شكلية فى مسجد أو أمام قبر مقدس ، كما تم تقزيم (الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ) وتحويله من التواصى العام بالتمسك بالقيم العليا الى مطاردة الحرية الشخصية و فرض القمع لتجذير الخوف من الطاغية .
7 ـ لقد أنعم الله جل وعلا على العرب المسلمين بنعمة القرآن فاتخذوه مهجورا ،وحرّفوا تشريعاته بمزاعم (النسخ ) و(التفسير)و(التأويل ) واختراع الأحاديث وتشييد أديان أرضية تكيد للاسلام وهى تنسب نفسها الى الاسلام . ومن هذه الأديان الأرضية تجذرت ثقافة الاستعباد وثقافة العبيد، وبهذه الثقافة الجاهلية الطغيانية فان كل نعمة فى يد العرب المسلمين لا تلبث أن تتحول الى لعنة يحرقون بها أنفسهم والاخرين ،أنعم الله جل وعلا عليهم بنعمة البترول فأصبح نقمة علي فقرائهم وأغنيائهم على السواء .
8 ـ بإختصار: هم مسلمون بلا اسلام ،بل عار على الاسلام .. وعار على بنى الانسان .
لذا نستمر فى هذه السلسلة من المقالات لتبرئة الاسلام من عار المسلمين ..
ثانيا : المساواة وتكافؤ الفرص
1 ـ عنوان هذا المقال ( الجزاء على قدر العمل) فالأوامر الالهية مطالب بها البشر جميعا وفق مقتضى حال كل فرد ، والله جل وعلا هو الأعلم بالسرائر ومدى امكانات الأفراد ، وكل فرد مطالب بنفس الأوامر والنواهى وعليه نفس المسئولية أمام الخالق جل وعلا ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ولا تجزى نفس عن نفس شيئا ، ولا تكسب كل نفس إلا لها أو عليها ، ولو اهتدت فلنفسها ولو ضلت فعلى نفسها ، وكل فرد مسئول أمام ربه يوم القيامة على ما قدم من عمل صالح أو سيىء .
2 ـ هنا العدل وتكافؤ الفرص أمام البشر جميعا فليس الله جل وعلا منحازا لأحد ضد الآخر ، كلنا متساوون جئنا من اصل واحد ، إخوة وأخوات من أب واحد وأم واحدة ، وخلقنا الله جميعا مختلفين فى اللون واللسان لنتعارف سلميا ، والأفضل عند الله جل وعلا ليس أقوانا أو أكثرنا مالا أوجاها أو صحة أوجمالا ، ولكن أكرمنا عند الله جل وعلا هو أكثرنا تقوى (الحجرات 13 ). والحكم على التقوى ليس الآن بل فى الاخرة ، بل لا يجوز لأحد أن يزكى نفسه بالتقوى حتى لا يستغل ذلك فى التجارة بالدين ،ولو فعل فقد عصى أوامر ربه جل وعلا:( النجم 32 )(النساء 49 ـ )(الجمعة 6 ـ ).
3 ـ والله جل وعلا هو وحده الذى سيحكم يوم القيامة على حقيقة الايمان وحقيقة العمل ، ومن هنا فان الله جل وعلا حين يتحدث عن صفات مثل (المتقين والمسلمين والكفار والمجرمين والمهاجرين والمنفقين ..الخ ) فالحديث هنا على من ستنطبق عليهم تلك الصفات يوم القيامة طبقا لما أحرزه كل انسان فى دنياه من عمل ومن إيمان ، وعلى اعتبار أن العمل هو الثمرة الحقيقية للايمان ، سواء كان عملا صالحا نافعا أم عملا سيئا مجرما .
ونحن حين نستشهد بهذه الايات لا نقصد تكفيرا لأحد من الناس ، ولكن تذكيرا لنا جميعا وتواصيا بالحق قبل مجىء يوم الحق الذى لا ريب فيه . ولهذا ذكر الله جل وعلا هذه الآيات فى القرآن تصف ملامح الكفر فى السلوك وفى العقائد لنتحاشاها ، وذكر صفات المتقين لنتعلم منها ولنهتدى بها و نتزود بها زاد التقوى فى سفرنا الى يوم لقاء الله جل وعلا ، حيث لن يتبقى لنا من كل ما نملكه فى هذه الدنيا سوى ما أحرزناه من عمل سيكون لنا (إن كان صالحا ) أو علينا (إن كان سيئا ).
ولأن أعمال البشر ستتفاوت يوم القيامة فان درجاتهم المترتبة على هذا العمل ستتفاوت . وقد يبدو هذا الكلام مكرورا قيل ويقال ، ولا بأس من إعادته فى عصر الغفلة هذا ، وفى عصر القرية الكونية التى تسمع صباح مساء أعمال المسلمين السيئة فلعل التذكير بأهمية العمل الصالح يجدى بالتكرار.
4 ـ ومع التأكيد على العدل والمساواة وتكافؤ الفرص أمام البشر جميعا فى دين الله جل وعلا الحق فإن أعمال البشر تختلف وتتنوع بين الصلاح والفساد. ومع التسليم عقليا بهذه الحقيقة فإنه يتم تجاهلها بالاعتقاد بأن الآخرة سيتم فيها التساوى بين الصالح والطالح والمفسد والمصلح والجانى والضحية ، طبقا لعقيدة الشفاعة التى تضيع العدل وتنسب لله تعالى الظلم . وعقيدة الشفاعة اكبر جريمة مدنية ودينية لأنه بها يتم تسويغ الجرائم و التشجيع عليها ، وبها تتركز ثقافة العبيد .
ثالثا : لا يتساوى المؤمنون والكفار :
1 ـ فى الدول الديمقراطية وسيادة القانون لا يمكن أن يتساوى الظالم مع المظلوم ، ولا بد أن يسرى القانون على الجميع ،فالعدالة عمياء لا تعرف سوى الحقائق المثبتة، ولذلك يدخل السجن من تثبت عليه الجريمة مهما كان نفوذه وثروته وسلطانه ، فى الوقت الذى ينال فيه المواطن الذى يحترم القانون كل ما يستحق من الاحترام . والشرطة مهمتها خدمة المواطنين وحمايتهم ، فى نفس الوقت الذى لا تتوانى فيه عن ضبط المجرمين مهما كانوا وفق نظام قضائى عادل . الأساس فى القضاء هنا هو (عدم الشفاعة) أى عدم تدخل أحد بنفوذه ليفلت مجرم أو يعاقب برىء .
ترى الوساطة واستعمال النفوذ أو(الشفاعة) هى الأساس فى النظام القضائى العربى ، بمعنى أن يصل الفساد الى القضاء فيوضع البرىء فى السجن ويعتبر المتهم مجرما حتى وإن ثبتت براءته طالما ليس له واسطة أو شفاعة ، وينجو صاحب النفوذ من الملاحقة مهما أجرم . السبب أنه فى دول العرب والمسلمين تم القضاء التام على العدل السياسى باحتكار فرد أو اسرة السلطة ، واحتكار السلطة يؤدى الى احتكار الثروة ، فانعدام العدل السياسى لا يلبث أن يضيع العدل الاجتماعى ، ثم يضيع العدل بين الأفراد ، حيث يتبع الجهاز القضائى سلطة الطاغية ، فيكون تحقيق العدل فى أدنى درجاته فى حقوق الأفراد ، فالفساد أسرع ما يتغلغل فى أجهزة الأمن و القضاء قبل غيرها .
2 ـ وهذه الثقافة تنبع من الدين الأرضى السائد الذى يحوّل اليوم الاخر الى سوق للشفاعات والوساطات بحيث ينطبق عليه المثل الشعبى المصرى ( سعيد الدنيا هو سعيد الآخرة ) أى السعيد بجاهه وثرائه فى الدنيا يكون أيضا ـ طبقا لمزاعم الدين الأرضى ـ سعيدا فى الآخرة حيث سيرضى عنه رجال الدين (الأرضى ) فى الأزهر والأوقاف و (قم ) و(الزيتونة ) وغيرها ..
هذا مع أن الله جل وعلا حذّر المؤمنين مقدما من طبيعة اليوم الاخر التى تتناقض مع السائد فى الفساد الدنيوى ، فإذا كان فى الدنيا وساطة وعلاقات مصالح وجماعات ضغط ولوبى و(شيلنى وأشيلك ) و( معلهشى ) ( وده ابن فلان ) و( اللى له ضهر ما ينضربش على بطنه )،فهذا لا يسرى على الاخرة وعدلها المطلق ، يقول الله تعالى للمؤمنين:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( البقرة 254 ) ففى الدنيا بيع وشراء وصداقات ووساطات وشفاعات ، ولكن لا يوجد فى الاخرة شيىء من ذلك. وأرجو التفكر فى قوله جل وعلا فى ذيل الآية (وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) فهنا أساس كلامنا عن ( الكفر السلوكى ) وعلاقته المتداخلة ب(الكفر العقيدى) .
وتنفيذ (الشفاعة) فى دول الاستبداد العربية أزال الفوارق بين المجرم والضحية ، وأصبح المجرم الأول ـ وهو المستبد ـ يمسك بيده مفتاح العدل وهو أكبر عدو للعدل . وهذا (الظلم ) العريق فى الدنيا منبعه (ظلم ) أعرق وأضل سبيلا لله جل وعلا حين جعلوا البشر مالكين ومتحكمين فى يوم الدين دون رب العالمين .
3 ـ لو رجعنا للقرآن الكريم وهو يتحدث عن العدل المطلق يوم الحساب ، نجد الحدود واضحة فى التفرقة بين المتقين والمجرمين ، يقول جل وعلا :(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ( القلم 34 ـ ). هنا الحديث عن اليوم الاخر حيث لا يمكن أن يتساوى من مات متقيا بايمانه وعمله الصالح مع المجرم بسلوكه . يوم الحساب سنجد ضمن المجرمين كثيرا من ( العظماء ) و( المشاهير ) الذين خدعوا الملايين فى الدنيا ، ولكن حقيقتهم ستتضح يوم القيامة .
ويوجه الله تعالى لنا فى هذه الدنيا هذا اللسؤال الاستنكارى (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ) ( القلم 34 ـ )، ومبعث هذا الاستنكار فى السؤال أن معظم المسلمين باعتقادهم فى أسطورة الشفاعة يساوون المجرم بالضحية ، ويساوون المسلم المسالم فى سلوكه المطيع لله جل وعلا فى عقيدته بالفاجر الظالم .
ولأنها ـ أى الشفاعة عادة عقيدية سيئة لنا ، فإن الله جل وعلا يكرر نفس التساؤل الاستنكارى فيقول : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) (ص 28 ).أى لا يمكن أن يتساوى الذى مات بعد إيمان حقيقى وعمل صالح بمن مات مفسدا ، ولا يمكن أن يتساوى المتقى مع الفاجر . ونلاحظ أن هنا صفات أخلاقية عالية للناجح الفائز ، كما أن هناك صفات إجرامية للخاسر مثل الفجور والفساد والاجرام .
ويجعلها رب العزة قواعد صارمة فى عدم التساوى بين الفريقين فى الدنيا ، فليس الذى يقدم الحسنات كالذى يرتكب السيئات : (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ) ( فصلت 34 ) وفى الاخرة ليس أصحاب الجنة كأصحاب النار:(لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ)(الحشر 20 ).
4 ـ والتكرار فى آيات القرآن الكريم فى تأكيد الحقيقة السابقة يحمل فى طياته إعجازا خفيا موجها لمن سيأتى من المسلمين بعد نزول القرآن الكريم ، أى يرد مقدما على مزاعم الشفاعة وأكاذيب خروج العصاة من النار ، تلك الأكاذيب التى حملتها أحاديث البخارى وغيره ، والتى شاعت وذاعت و تسبب فى تخلف المسلمين وترديهم الأخلاقى ، فطالما يتساوى المتقى مع الفاجر فلماذا نتعب و نعمل ؟ وطالما سنجد من يشفع لنا مقدما فلماذا لا نسرق وننهب ونظلم ونفجر ؟.
ويأتى الرد مقدما على مؤسسات الأديان الأرضية فى بلاد ( المسلمين ) فى قوله تعالى :(أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لّا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ) ( السجدة 18 ـ ).
الآية الكريمة تبدأ باستفهام استنكارى :(أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا )؟؟. ثم تاتى الاجابة موجزة محددة حاسمةواضحة :(لّا يَسْتَوُونَ ). ويأتى التفصيل يشرح جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات المأوى يقيمون فيها مكافأة على عملهم (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) فالجزاء من نفس العمل . ويقول جل وعلا عن الجانب الاخر (وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ). وللرد مقدما على مزاعم الخروج من النار وفق اساطير الشفاعة فان الله جل وعلا يؤكد أن أصحاب النار كلما أرادوا الخروج منها إجبروا على العودة لها : (كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا).
فى حياتهم الدنيا آمنوا بأكاذيب الشفاعات والخروج من النار ، وفى سبيلها كذبوا بأكثر من 150 آية قرآنية تنفى شفاعة البشر وتنفى الخروج من النار لمن مات عاصيا مجرما ،وكذبوا بمئات الايات القرآنية التى تفصل فى عذاب النار، كانوا يكذبون بعذاب النار جملة وتفصيلا ، أو يؤمنون بالنجاة منه بأكاذيب التراث ،ولذلك يخبر الله جل وعلا مقدما أنه سيقال لهم وهم تحت العذاب الأبدى يحاولون ـ دون جدوى ـ الخروج منه:(وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ) .
5 ـ وبعض المشركين الكافرين بالقلب والسلوك كانت لهم أعمال صالحة بمفهوم البشر و طبقا لما يظهر لنا فى الدنيا مثل تعمير المساجد وإقامتها وتزيينها ، والله جل وعلا سيحبط هذا العمل فتضيع ثمرته وفائدته ، وهنا ايضا لا يمكن أن يتساوى ذلك العمل الذى أحبطه الله تعالى مع عمل صالح حقيقى صدر عن تقوى وخشوع ، (أو بتعبير عصرنا صدر عن عقيدة صحيحة) ، يقول جل وعلا : (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ اللَّه شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ )،أى هم خالدون فى النار ،لم ينفعهم ذلك الذى عملوه وحسبوه صالحا .
وللتأكيد على هذه الحقيقة فان الله جل وعلا يوجه سؤالا استنكاريا لمن كان يقوم فى مكة برعاية الحجاج وسقايتهم وتعمير المسجد الحرام ، ومبعث الاستنكار الالهى عليهم أنهم كانوا يعتقدون أن أعمالهم تلك تتساوى مع ألأعمال الصالحة للمؤمنين المهاجرين الذين تجمعوا حول النبى محمد عليه السلام فى المدينة وجاهدوا معه بأموالهم وأنفسهم ، يقول تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) ( التوبة: ـ 19 ـ ).
وطبقا للحقائق التاريخية ( النسبية ) فان العباس عم النبى محمد عليه السلام كان هو الذى ظل بمكة مشايعا للأمويين أعداء الاسلام ليظل أهله بنوهاشم محتفظين بوظيفتهم فى رعاية الكعبة و سقاية الحجيج ورعايتهم والاشراف على موسم الحج . وقد شارك العباس مع جيش قريش فى غزوة بدر وتم أسره فيها وافتدى نفسه بالمال ، ثم أسلم مع ابنه الصغير عبد الله بن عباس عند فتح مكة. وبغض النظر عن تلك الحقائق النسبية التاريخية فان المستفاد هنا أنه لا يمكن أن يتساوى العمل الصالح الحقيقى الصادر عن اخلاص الدين لله جل وعلا مع عمل يبدو (صالحا ) بالمقياس البشرى ، وهو يصدر عن كفر وشرك بالله جل وعلا. فلا يخلو أى مشرك كافر من أن يعمل عملا طيبا نافعا ، ولكن مصيره الى العدم ، فلا مساواة هنا حتى فى مجال العمل .
6 ـ وحتى فى مجال العلم لا يتساوى العالم المسلم الخاشع الذى يتحسب لليوم الآخر خشية العذاب وأملا فى رحمة ربه بعالم آخر لم يستفد بعلمه صلاحا فى قلبه وفى جوارحه ، يقول تعالى بنفس التساؤل الاستنكارى : (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ )( الزمر 9 ).
العلم هنا مقصود به كل أنواع العلم النظرى والطبيعى .والعلماء هنا نوعان : منهم من يتوقف بعلمه عند الظواهرالمادية التى يبحثها دون أن يستزيد إيمانا بقدرة الخالق جل وعلا وآلائه فى الكون ، أى يؤمن بالمادة المخلوقة التى يتعامل معها فى المعمل والمختبر ولا يؤمن بخالقها جل وعلا ، بل ربما يسهم بعلمه فى الفساد واختراع أسلحة التدمير وآلات التعذيب . ومنهم من يقرن علمه وبحثه بقوله ( سبحان الله ) وكلما إزداد علما بآلاء الله تعالى فى الخلق إزداد إيمانا وانعكس إيمانه على سلوكه تقوى وصلاحا ، وفى هؤلاء يقول الله جل وعلا بعد إشارة الى بعض الحقائق العلمية:(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء )( فاطر 28 )
7 ـ وبالاضافة الى اسلوب الاستفهام الاستنكارى فى التأكيد على عدم التساوى بين المؤمن الصالح والكافر الظالم ، فإن الله جل وعلا يستخدم أيضا أسلوب (ضرب المثل ).
يقول تعالى : (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) هنا تمثيل بعبد مملوك لايملك شيئا ينفق منه ، ويقابله شخص حرّ ثرى كريم ينفق فى سبيل الله سرا وعلنا ، فهل يتساوى هذا بذاك من حيث العمل والنفع ؟ أحدهما لا يستطيع أن ينفع نفسه أو غيره والآخر منشغل بنفع الناس،ولا يمكن أن يتساوى هذا بذاك. وبعد ضرب المثل جاء الاستفهام الاستنكارى(هَلْ يَسْتَوُونَ) ، ثم جاء قوله تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) ليشير الى وقوع أكثرية البشر فى خطيئة التساوى بين الصالح والطالح .
ويأتى مثل آخر فى الآية التالية :( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) ( النحل 75 ، 76 ) هنا مقارنة فى التفاعل بالخير فى خدمة المجتمع ، والمثل يتحدث عن رجلين : أحدهما (عبد ) بالثقافة مملوء حتى النخاع بثقافة العبيد لا يستطيع التصرف من نفسه ولا يستطيع المبادرة بعمل شىء لأنه ينتظر دائما أن تأتيه الأوامر من سيده ومولاه ،ومع أنه يتصرف طبقا لتوجيهات (السيد الرئيس ) وأوامره إلا أن مولاه اينما يوجهه لا يأت بخير . هل يستوى هذا برجل آمر بالمعرف ناه عن المنكر متفاعل بالخير فى مجتمعه ، ثم هو فى حياته يسير ملتزما بالصراط المستقيم قدوة للغير ،أى ليس من الذين يأمرون الناس بالبر و ينسون أنفسهم ( البقرة 44 ) ، وليس من الذين يقولون مالا يفعلون ( الصف 2 : 3 ).
يلاحظ هنا فى ضرب المثلين هو اتخاذ (العبد ) للجانب السلبى المرفوض ، وجعل الحر الكريم النشط المتفاعل بالخير نموذجا للجانب الايجابى المطلوب.الروعة هنا أن الحديث عن صفات ،أى من البشر من يتصف بصفات العبيد ـ مع أنه حرّ وليس عبدا ، ولكنه ارتضى أن يكون عبدا فأصبح أسيرا لثقافة العبيد ، يرضى بالذل والهوان والقعود والتواكل والسلبية والسكون والعجز والخنوع ، وهى صفات يشتهر بها اليوم أغلب العرب المسلمين.
وقد يقال أن الحكام الظلمة المتجبرين لا تسرى عليهم ثقافة العبيد ـ بل ثقافة الاستعباد . والواقع أن ثقافة الاستعباد هى الوجه الآخر من ثقافة العبيد ، ولكن يختلف الوصف تبعا للوضع مع الاشتراك فى نفس الانحطاط . فالمستبد يتمتع بثقافة الاستعباد طالما كان فى سلطته فاذا ضاعت سلطته هبط الى ثقافة العبيد ، بل هو يشترك مع المحكومين فى ثقافة العبيد حين يتعامل مع الأقوى منه فى المجتمع الدولى ، وعموما فالمصاب بثقافة العبيد أو ثقافة الاستعباد يتجبر على من هو أضعف منه ويركع أمام القوى، وذلك حال الحاكم المستبد فى قهره لشعبه وفى تصاغره أمام القوى الكبرى، وهل نسينا نهاية صدام بين قصره فى سلطته وبين نهايته فى حفرته ؟!!. وهذه الثقافة تسرى من المستبد الأكبر الى أصغر خفير و جندى و شرطى فى دولة الاستبداد ، فالضابط فى الجيش أو البوليس فى النظم الاستبدادية يستطيل على من هو دونه فى الرتبة ويتصاغر وينافق من هم أعلى منه مقاما ، يظلم الأقل منه شأنا و يقبل خانعا الظلم ممن هو أعلى منه مكانة، ويرى ذلك أساس الضبط والربط ،دون أدنى اعتبار لكرامة الانسان أو لقيمة العدل .
أما الحرّ الكريم فلا يرضى الظلم لنفسه أو لغيره. لا يمكن للحرّ الكريم الشهم أن يستأسد على ضعيف أو أن يقهر البرىء كما لا يمكن أن يخنع ويركع لظالم متجبر مستبد.
رابعا : لا يتساوى المؤمنون الصالحون مع بعضهم: درجات المؤمنين حسب العمل ( النشطاء والقاعدون السلبيون والأدعياء المنافقون ) ::
أيضا ليس كل المؤمنين الصالحين سواء ، يوم القيامة هم درجتان : السابقون وأصحاب اليمين ، كما جاء فى سورة الواقعة. وهنا نتوقف مع ملامح قرآنية للتوضيح :
1 ـ الايمان القلبى الخالص بالله جل وعلا هوعلاقة خاصة بين الفرد والخالق جل وعلا ، ولكن العمل الذى يصدر عن القلب قد يتفاعل مع المجتمع وتنتج عنه آثار جانبية تؤذى ذلك المؤمن إذا كان فى مجتمع تسيطر عليه ثقافة الاستعباد وثقافة العبيد ، وتتحكم فيه الأديان الأرضية والاستبداد السياسى والدينى. هنا يتحول الايمان بالعمل الى محنة أو ابتلاء واختبار ، وعليه تختلف ردود الأفعال عند المؤمنين فى مواجهة الأذى والاضطهاد ، وبالتالى تختلف درجاتهم ، وبالتالى أيضا فلا يمكن أن يتساوى المؤمن المعتكف المنعزل بعقيدته الصحيحة مع المؤمن النشط الذى يعلن الحق ويتحمل الأذى ويجاهد ويهاجر ويضطر للقتال دفاعا عن نفسه فيموت شريفا عفيفا .
نقرأ هنا قوله جل وعلا :(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ) ( آل عمران 191 ـ ).
هنا مؤمنون بعقولهم وقلوبهم اعتكفوا يذكرون الله جل وعلا قياما وقعودا وعلى جنوبهم يتذكرون الله جل وعلا وينشغلون به وبآلائه عن مجتمعهم ، ويدعون الله جل وعلا أن يمنّ عليهم بالجنة وأن ينجيهم من النار. وتأتى الاجابة بتقرير العدل الالهى المطلق ، فالله جل وعلا لن يضيع عملا صالحا لأى مؤمن صحيح الايمان ، ذكرا كان أم أنثى. ولكن لن يتساوى العابد المعتزل المعتكف مع المؤمن المجاهد النشط الذى تعرض للأذى وطورد من بلده وبيته فاضطر للهجرة ،ولوحق بالقتال فاضطر للدفاع عن نفسه ومات فى سبيل ربه جل وعلا.
2 ـ بعض المؤمنين لهم ظروف لا تمكنهم من أن يكونوا نشطين فيضطرون للقعود بينما ينشط أصحاب القوة ، يقول تعالى (لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) ( النساء 95 ـ ). فالقاعدون من المؤمنين معافون طالما هم معاقون ، والله جل وعلا أكّد على أن الجهاد فرض على الرجال و النساء ، ولا عذر إلا لمن كان أعمى أو أعرج أو مريضا : (الفتح 17 ) بعدهم لا يمكن أن يتساوى القاعدون الأصحّاء مع المجاهدين فى سبيل الله تعالى بالنفس والمال. صحيح أن الجنة مصيرهم جميعا و لكن مع تفاوت المنزلة و الدرجة.
3 ـ الجهاد بالمال ركن ركين فى التحرك النشط فى نصرة دين الله جل وعلا ، والعادة أن يبخل بعض المؤمنين ، ويرسب فى ابتلاء النعمة ، إذ أنعم الله جل وعلا عليه بالمال ، وعرف الحق وعرف احتياج القائمين على الحق الى العون المالى ، وبدلا من التبرع لهم فإنه بخل ، وبالتالى لا يمكن أن يتساوى هذا المؤمن البخيل بالمؤمن المعطاء الكريم ، والله جل وعلا يقول للمؤمنين مستنكرا : (وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)(الحديد 10 ).أى لا يتساوى السابق فى الانفاق وفى القتال فى ىسبيل الله جل وعلا مع اللاحق ، مع أن الجنة تنتظر الفريقين.
والى المؤمنين المتكاسلين عن الانفاق فى سبيل الله عز وجل يوجه الله تعالى لهم إنذرا مقدما ، فيقول : (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)(محمد 38 ).
أى أن المال الذى معكم هو من الله جل وعلا لكم ليختبركم فيه ، ومن يبخل فعقابه أن يحرم نفسه من ذلك المال ، فمثلا لو كان مفروضا عليه أن يدفع كذا حقا لله تعالى فى الجهاد فبخل به فمصيره أن يضطر الى دفع هذا المال أو أكثر منه فى خسارة فى صفقة أو فى حادثة أو نكبة أو فى عملية جراحية ، المهم أنه حين يبخل فسيبخل على نفسه وليس على الله تعالى ، وفى المقابل فان الذى يعطى حق الله جل وعلا من مال الله الذى خوّله فيه فان الله جل وعلا يخلف له خيرا اى يعوضه خيرا بالرزق المنظور وغير المنظور ، يقول جل وعلا : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) ( سبأ 39 ) .
4 ـ ويلفت النظر قوله جل وعلا للمؤمنين الباخلين (فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء ) ،أى إن الله جل وعلا غنى عنهم وعن تبرعاتهم وعن جهادهم ، بل هو جل وعلا غنىّ أى ( مستغن ) عن الخلق ، فهو (الصمد ) الذى يحتاج اليه الخلق وليس محتاجا للخلق. وبالتالى فإننى حين أجاهد بنفسى ومالى فإننى فى الحقيقة أفعل ذلك لصالحى أنا ، وفى مقابل أتمناه هو الجنة ، وليس الله جل وعلا محتاجا لهذا الجهاد منى ، والله جل وعلا يؤكد هذا فى قوله : (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )(العنكبوت 6 ).
هذه الحقيقة تغيب عن بعض المؤمنين ،إذ يضطر للدفاع عن الدين الحق فيتعرض للمحنة والأذى فيتزلزل ايمانه ويعتبر اضطهاد الناس له مماثلا للعذاب الالهى ،أى يخاف من أذى الناس له كما لو كان مساويا للعذاب الالهى الذى ينتظر أصحاب النار، ولو تذكر عذاب القيامة لتضاءلت أمامه الدنيا بكل ما فيها من شقاء ونعيم .
أى هو موقف وابتلاء عند مواجهة الاضطهاد ، يتجلى فيه الايمان على حقيقته ومدى صحته ، فالعادة أن الانسان يحرص أشد الحرص على شيئين هما نفسه وماله ، ومطلوب منه أن يضحى بهما فى سبيل الجهاد فى سبيل الله ليفوز فى الاخرة بنعيم خالد ، والفائز هو من يجاهد فى سبيل الله بالنفس وبالمال ،والخاسر هنا هو من يتقاعس عن الجهاد بالنفس والمال وهو قادر عليهما ، ولا يكتفى بذلك بل يبرره لنفسه وللآخرين فيقع فى جريمة النفاق ،أى يخسرالآخرة بهذا التبرير، ولو اعترف بالتقصير كان أفضل له. يقول جل وعلا : ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ)( العنكبوت 10: 11 )
أخيرا :
1 ـ إن هذه الحياة الدنيا مرحلة اختبار واختيار، وعنهما ينتج عمل صالح أو عمل سيىء وخلود فى الجنة أو خلود فى النار. والاختبار والاختيار للجميع فى ظل عدل ومساواة وتكافؤ للفرص ، ولكن النتائج تختلف بين مؤمن صالح وكافر طالح . ومن الأفضل أن نواجه أنفسنا فى شفافية بدلا من أن نخدع أنفسنا فنخسر أنفسنا يوم القيامة حيث يكون الخسران وقتها أفظع الخسران،فهو خسران حقيقى وخالد ولانهائى، يقول عنه جل وعلا : (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)(الزمر 15) ويقول :(إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ) (الشورى 45) .
2 ـ ودائما : صدق الله تعالى العظيم .!!
اجمالي القراءات
17569
ya rab ya karim 3eghfer li dhonoubi wardha 3ani hatta akouna minalfa3izin amiiiiin
barakallahu fi johdek akhi ahmed ..ma as3adani bi hadha almawka3 almubarek
lakad kontu minalghafilin