أبو عمّار يعود إلى غزة
تخيلوا معي ماذا كان يحدث لو أن "الختيار" حيّ، ورأى توحش "الحمساوية" في غزة، واستئسادهم بمزاعم التأسلم على أهلها، وطرد عائلات بأسرها من ديارهم ليستجيروا بحماية "جيش الدفاع الإسرائيلي"، من بنادق "أنبياء غزة الكذبة" وأزلامهم في "القوة التنفيذية"، التي تُذّكرنا بجيش "زياد ابن أبيه" وجنده قتلة سيد الشهداء الإمام الحسين؟.
تخيلوا ماذا كان سيفعل "أبو عمّار"، حتى لو كان كما يقول المثل الشعبي المصري، مجرد "عضم في قفه"، وهو يرى "أبا العبد&ml;" وإخوانه في غزة كأنهم يبشّرون القوم بدين جديد خلافاً للإسلام الذي عرفه الناس قبل أربعة عشر قرناً، فيجعلون من طهران قبلة جديدة، ومن الأمويين المأزومين في دمشق "أنصاراً جدد"، بعد أن دمغوا بأنهم "طلقاء"، منذ يوم فتح مكة على يد سيدنا وإمامنا رسول الله، صلوات الله عليه وسلامه؟.
أتوقع كل ما كان سيفعله "الختيار" كأنني أشاهد فيلماً سينمائياً أحفظ مشاهده عن ظهر قلب وأراهن بما تبقى من عمري أنه كان حينها سيعتمر كوفيته ويتمنطق بمسدسه، ويذهب إلى غزة ولو سيراً على الأقدام، ليقف في أكبر ميدانيها يستصرخ أهلها أن ينتصروا لبندقية النضال الفلسطيني، التي طالما جمعت تحت رايتها المسيحي قبل المسلم، والملحد بجوار المؤمن، والمرأة إلى جانب الرجل وحتى الشامي مع المغربي.
ولم يكن للغزاوية حين يهل عليهم "أبو عمّار" أن يتجاهلوا صرخات ابن أخيهم، بل كلي يقين بأنهم كانوا سيلتفون حوله، ليتجاوزا مختطفي الدين والمزايدين، ويتصدوا لرعاة الاستبداد باسم السماء، ويصطفوا في الشوارع والحارات والميادين وساحات المساجد والكنائس، انحيازاً لوطنٍ يتفتت، وحُلمٍ يتبدد، وليس لابن أخيهم "الختيار" الذي شملته رحمة الله فجعلت يومه قبل يوم غزة، ومات قبل أن يراها "إمارة طالبانية".
وما لا نستطيع تحقيقه في الواقع لا بأس من أن نحلم به.. فأحلم بل وأكاد أجزم أن "الختيار" ساعتها كان سيقف في شرفة المجلس التشريعي محتمياً بالملايين من إخوانه وأبنائه الغزاوية، متصدين لبنادق "التنفيذية" الخرقاء، وقد نُكّست فوهاتها من هول الصدمة، وكأني به يخاطبهم حينها: "ماذا تظنوني فاعلاً بكم؟"، وبالتأكيد فإنه لن يكون إلا أخاً كريماً وابن أخٍ كريم، وسيعلنها مدّوية بأن "من دخل التشريعي فهو آمن، ومن لزم داره فهو آمن"، وكأني أرى أحدهم يغمزه سراً بأن يجعل لـ "أبي العبد" أمراً، لأنه "رجلٌ يحب الفخار"، وحينها سيتدفق عرفات قائلاً: "ومن دخل دار أبي العبد فهو آمن"، وسيدخل كل الفلسطينيين خلف "الختيار" إلى ديار غزة أفواجاً مهللين مكبرين.. لا بأس بالأحلام حين تستحكم حلقاتها.
هل كان يجرؤ "أبو العبد" وصحبه الغر الميامين في "حماس" أن يقفوا في وجه "الختيار"، ويزايد أي منهم على تاريخ الرجل وقدرته الهائلة على حشد الجماهير وإثارة مشاعرهم، وجمع كل المتناقضات في وعاء واحد، فقد كان "رمانة الميزان" لكل ألوان الطيف الفلسطيني، فهو ابن الحركة الإسلامية بحكم بداياته الأولى، وهو يساري بحكم تراثٍ طويلٍ من النضال، والتواصل مع كافة الحركات الثورية في شتى أصقاع الكون، وهو أيضاً ليبرالي حتى النخاع بحكم سعة صدره لجميع التوجهات والمشارب، وتلك الموهبة الخاصة في احتواء الآخرين، ولعل هذا هو جوهر الليبرالية، أن تتسع قلوبنا للمخالفين قبل المؤيدين، وأن نؤمن بقيمة التنوع الذي يثري الأوطان، ويعزز زخمها، ولا يجعلها تسقط فريسة للرؤى الأحادية الضيقة.
أما في جانب ما يجري داخل كواليس "فتح" ومنظمة التحرير والسلطة الوطنية، فهل كان "الختيار" سيسمح لتلك "الثعالب الصغيرة" بممارسة كل هذه الألاعيب المتبجحة في وضاعتها، والتي انتهت بالجميع إلى مهزلة الانقسام الفلسطيني غير المسبوق تاريخياً، على هذا النحو من الفجاجة والاستعصاء على الحل؟.
خسر الفلسطينيون رمزاً فذاً، ونموذجاً إنسانياً نادراً، في زمن هم أحوج ما يكونون فيها إلى حكمة رجلٍ بكل هذه "الكاريزما"، وذلك الحضور الطاغي، وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر، فسلامُ عليك يا "أبا عمّار" يوم هُجّرت، ويوم عُدّت، ويوم حاربت، ويوم حلُمت بالسلام، ويوم رقدت في مثواك الأخير، ويوم تبعث حيّا..
همسة:
هنالك عند التلال تلالٌ، تنام وتصحو على عهدنا
وناسٌ هم الحب أيامهم.. هدوء انتظارٍ شجيّ الغنا
ربوع مدى العين صفصافها على كل ماء وهى فانحنى
تعب الزهيرات في ظله.. عبير الهدوء وصفو الهنا
سنرجع.. خبرني العندليب، غداة التقينا على منحنى
بأن البلابل لما تزل هناك تعيش بأشعارنا
ومازال بين تلال الحنين وناس الحنين مكان لن
اجمالي القراءات
11151