يا إلهي، يا خالق الأعداء والأصدقاء والأعدقاء، وشعبولا وعمرو خالد والساحل الشمالي ومصلحة السجون وقناة الجزيرة وحركة كفاية، كفاية يا رب.. فقد أنهكني الفراغ والإصرار علي ارتكاب الحماقات الصغيرة والكبيرة..
ها هو المساء إذن بجلاله ورهبته، يتسلل ليجعل الصباح مجرد ذكريات باهتة..
ساعتها كان القلب كغصن زيتون أخضر، يحمله الناس دليلاً علي رغبتهم في السلام وسعيهم للخلاص..
كان الخيال مسكوناً بأحلام بدت حينها رائعة رغم بساطتها المفرطة..
وكانت لم تزل للأغصان خضرتها، وللبساتين طلتها، وللشمس جذوتها، وللأمسيات غفوتها..
أيامها كانت العطور والظلال والآمال مفردات متداولة، يمكن للمرء أن يتحسسها ويلامسها..
لكن ـ وآه من لكن وأخواتها ـ تدافعت في النهر أمواج كثيرة، وقطرة قطرة انهمر اليأس، وتسلل الوهن إلي الحشا، وتمكنت القسوة من الروح..
«أقل المعارك خسائر تلك التي تنتهي بالانسحاب»، هكذا راح هاجس خفي يقرعني بين الغفوة واليقظة، بينما كنت أصحو ذات صباح عادي، لا يحمل أي جديد، ومع السيجارة الأولي راح الهاجس اللحوح يفلسف الأمور لحد الملل قائلاً: «لم يعد في الأمر ما يستحق القتال..
المقاتل الشجاع ينبغي أن ينتحر قبل أن يقتله الأعداء، ويعلن هزيمته طواعية قبل أن يتسلي بها الأصدقاء»، هكذا راح ذلك الهاجس يدق رأسي ويواصل متوعداً: «سأحرمك من الدهشة، فلا شيء سيستوقفك بعد اليوم، وستبقي مسكوناً بثقوب سوداء وجمل مبعثرة، وستتدلي من شفتيك الكلمات بلا معني، وسيتمدد في كيانك إيمان بأن العصافير لم تعد تصلح للغناء».
حين اخترعوا الحرية لم يحرص قومنا علي استيرادها، أو حتي السماح بمرورها، ولم يكتفوا بهذا، بل رفعوا لافتات لتحقيرها ونبذها، فظلت سلعة محظورة التداول في بلاد أصبحت كل أيامها «ثلاثاء»، تخيلوا أن الأيام السبعة صارت جميعها «ثلاثاء»، أليس هذا سخفاً؟!
سأجعلك قرباناً للصمت، وستكون اللغات الميتة وحدها من نصيبك، حتي تبدو شفتاك كأنهما حارسان مترهلان علي كهف مهجور، ورغم ذلك ستمسك بناصية الأبجدية وتتعالي علي العبارات المترهلة، فالحكمة تسكن في الصمت، والموت يتمدد في الصمت، والحب ينمو في صمت، والبلاد المنكوبة بناسها وحراسها تنهب أمام عيونهم في صمت، ستكون صوتاً محشوراً بين الصمت والصمت، لهذا قرر «صاحبكم» أن يتقن فنون المواربة، الأبواب المواربة، والنوافذ المواربة، والانتماءات المواربة، والأمنيات المواربة..
سأمنحك جواداً مجنحاً، كأنه خارج للتو من قلب الأساطير وحكايات الجدات، وأمهد لك طرقاً ناعمة كالحرير، وممتدة بلا نهايات، وأهبك آلاف الهدايا التي لم تتمنها، وملايين النساء اللاتي يرفضنك بإصرار، رغم إحساسك الراسخ بأنك ربما كنت الكائن الأخير الباقي علي قيد الرجاء. ومع ذلك يأمر «صاحبكم» روحه بأن تكون علي مايرام، فتكون، ويهتف في الناس صارخاً بأن الحياة بألف خير، وأنها لم تزل محتملة..
يعترف «صاحبكم» بأن الوطن أصبح طاولة قمار، وأن الأصدقاء سخفاء تافهون أنانيون، وأنه شخصياً أصبح منهكاً منتهكاً حتي النخاع، ومثقلاً بالخيبات والمرارات، ومع ذلك راح يهتف في الطرقات مبشراً بأمسيات رائعة، وإشراقات ساحرة، وأغنيات معطرة بالبهجة..
وهكذا اتخذ «صاحبكم» سمت الحكماء أو الأدعياء، فكلاهما يمتلك ناصية اليقين، هذه الثقة التي باغتته فجأة.. لم يعرف كيف ومن أين انتابته، حين يردد بإصرار: «في الحياة ثمة أشياء رائعة تستحق البقاء علي قيدها.. أو حتي بين شقوقها، لو لم يكن من ذلك مفر»..
وبعد نوبة صداع تباغته كل صباح، قال «صاحبكم» بنبرة انكسار لا تخلو من ادعاء: «التفكير عادة سيئة»، ولأنه أدمن العادات السيئة، فقد راح يدخن ويدخن، تاركاً غيمات كثيفة ظلت تتصاعد حتي ارتقت إلي تخوم السماء، حيث كانت الأمم البائدة تحتضر يأساً من تحقق أحلام العدل والحرية والبهجة وراحة الضمير.. وبقايا الأمنيات المستحيلة..
اجمالي القراءات
11555
ممتازة بس وجعت قلبي