حصار الصحافة الخاصة في مصر!
..لم يكد الجهاز المركزي للمحاسبات يقرر تفعيل المادة الخاصة برقابته علي ميزانية الصحف الخاصة في مصر، الا وهتف القائمون علي هذه الصحف: ان الحكومة تتربص بنا، وتخطط للنيل من حرية الصحافة. باعتبار ان صحفهم هي العنوان لهذه الحرية، وهو أمر طبيعي، بعد ان تلبس القوم " عفريت الزعامة السياسية" فصاروا ينظرون لانفسهم علي انهم زعماء!.
في مصر - لمن لا يعلم - أربعة أنواع من الصحف، بالإضافة لصحف الجمعيات والهيئات العلمية والحكومية، أولها الصحف القومية، أو الحكومية كما تصفها المعارضة، وهي تلك الصحف التي كانت مملوكة لأفراد قبل ثورة يوليو " المباركة"، وقد جري تأميمها لصالح الشعب علي الورق، ولصالح النظام الحاكم في الواقع، ضمن سياسة التأميم، التي اعتمدها النظام الثوري، للأرض ومن عليها.
وثاني هذه الصحف، هي الصحافة الحزبية، التي تصدرها الأحزاب السياسية، وقد أعطي قانون الأحزاب - في البداية - الحق لكل حزب في ان يصدر ما يشاء من الصحف، فلما جاء زمن الإصلاح، تم تقييد هذا الحق، وتحديد العدد بصحيفتين علي الأكثر!
النوع الثالث من الصحف في مصر، هو الذي يصدر بتراخيص أجنبية، وهو ما يعرف بظاهرة الصحف القبرصية، فيستطيع المرء ان يحصل علي رخصة بإصدار صحيفة من قبرص، او لندن، بمبلغ لا يتجاوز المائتي دولار، وهي حيلة لجأ إليها البعض، للتغلب علي سياسة تقييد حرية إصدار الصحف للأفراد، واذا كانت هناك صحف جادة صدرت وفق هذا " التحايل العبقري"، فان هذا النوع من الصحف - في المجمل - أساء للصحافة، اذ قام كثير من الأفراد، ممن لا علاقة لهم بالصحافة- بإصدار صحف، تطبع عدداً محدوداً من النسخ، وتقوم علي الابتزاز، ونشر الفضائح، وفي حماية من أجهزة تابعة للدولة، لها في ذلك مأرب أخري!
فالصحف التي تصدر بتراخيص من الخارج، تعامل معاملة الصحف الأجنبية، التي لا توزع في مصر إلا بعد المرور علي جهاز للرقابة، هو أشبه باللهو الخفي، فلا نعلم ما إذا كان تابعا لوزارة الإعلام، ام ان تبعيته لوزارة الداخلية، وان كنا نعلم علم اليقين بأن الموافقة علي طبع هذه الصحف وتداولها في مصر يتم بقرار أمني في المقام الأول والأخير!
ومرد إسباغ الحماية علي صحف الابتزاز، أنها تستخدم ذريعة لتشديد العقوبات في قضايا النشر، او لتبرير ذلك، كما يتم استثمارها للإساءة للصحافة، وهناك جهات يهمها ان تكون نظرة المواطنين للصحفي، كما كان الحال في الزمن السحيق، عندما تم تطليق زوجة من زوجها لعدم التكافؤ، فزوجها جورنالجي، والجورنالجية لم تكن تقبل شهادتهم في المحاكم!.
لقد تدخلت نقابة الصحفيين فوضعت شرطا، هو في الواقع مخالف للقانون، وهو ان يسري عليها ما يسري علي الصحف المصرية، بأن يكون رئيس تحرير هذا النوع من الصحف عضوا مقيدا في جدول الصحفيين المشتغلين بالنقابة، وهو ما كان سببا في ذيوع ظاهرة " تأجير الكارنيه"، فقد كان هناك أشخاص بعينهم، تعرفهم بسيماهم، يوافقون علي وضع أسمائهم علي ترويسة هذه الصحف كرؤساء للتحرير، مقابل جُعل يتقاضونه كل شهر، في حين ظل أصحاب هذه الصحف يقومون بالدور الفعلي لرؤساء التحرير، حتي صارت الصحافة مهنة من لا مهنة له.
لاحظ انه لا بد من " الموافقة الأمنية" علي اسم السيد رئيس التحرير، ولان هناك أشخاصا كان اختيارهم للمهمة، يعني جواز المرور الأمني، فقد كان يتم اختيارهم لموقع رئيس التحرير لاكثر من صحيفة، ربما استسهالا، وربما استرخاصا، وقد تدخل الأمين العام للمجلس الأعلي للصحافة جلال دويدار ووضع حدا لهذه السوق السوداء، واشترط ان يكون رئيس التحرير المختار، لمطبوعة واحدة لا اكثر!.
أما النوع الرابع من الصحف في مصر، فهي الصحافة الخاصة، التي يحلو لاصحابها اغتصاب صفة " المستقلة" وإلصاقها بصحفهم، وهي تصدر وفق قانون الصحافة، وهو القانون الذي جري تعديله عقب أزمة القانون 93، الشهير بقانون تكميم الأفواه، وقد سعي التعديل الي تخفيف إجراءات إصدار الصحف الخاصة، وان كان قرار الموافقة ظل عقدا من الزمان قرارا أمنيا في المقام الأول، وربما الأخير، لدرجة ان هناك من حصلوا علي أحكام قضائية باتت واجبة النفاذ، بأحقيتهم في الحصول علي الرخصة القانونية بالصدور، ولم يحصلوا عليها، الا عندما تولي صفوت الشريف منصب رئيس مجلس الشوري، ورئيس المجلس الأعلي للصحافة، ليصبح القرار سياسيا، قبل الالتفاف الأمني عليه، بالتحكم في الأمر من المنبع، فإذا كان القانون يستلزم في البداية تأسيس شركة لإصدار صحيفة، قبل الذهاب للمجلس الاعلي المذكور، فان عقدة النكاح هنا أصبحت في يد الأجهزة الأمنية!.
هذا ليس موضوعنا، فموضوعنا انه قبل ثلاث عشرة سنة، وعندما تم إجراء التعديل علي قانون الصحافة، فانه قد وُضع نص يعطي الجهاز المركزي للمحاسبات الحق في مراقبة ميزانيات الصحف، وقد جاء تلبية للمخاوف التي أبداها البعض وقتها، من اختراق الصحافة المصرية من الخارج.. كأنها محصنة من الاختراق!
وكل من تابع عملية إقرار قانون الصحافة، وقف علي هذا النص، لكن المشكلة في ان معظم رؤساء تحرير الصحف الخاصة الآن، لم يكونوا معنيين بهذه القضايا الكبري، ولهذا فقد بدا لهم طلب الجهاز المركزي، أمرا ادا، وعليه فقد نظروا الي الامر كما لو كان هجمة حكومية علي صحافتهم الناجحة، التي سحبت البساط من تحت اقدام الصحف القومية، وردت الاعتبار للصحافة المصرية عموما، بدليل ان توزيع احداها وصل الي المائة ألف نسخة يوميا، واخري تناضل حتي تحافظ علي الخمسين ألف نسخة.
وهذه واحدة من اكبر عمليات التضليل، فالصحف القومية وان كان قد مسها قرح، بهبوط توزيعها، فقد مس الأسبوعيات الخاصة قرح مثله، حيث هبط توزيعها بشكل ملحوظ. أما اليوميات الخاصة فلا يعد توزيعها شيئا مذكورا بجانب الصحف القومية رغم حالة الهبوط في التوزيع سالفة الذكر.
هذا فضلا عن ان المئة ألف نسخة ليست "املة" في الواقع، فرحم الله زمانا وصل فيه توزيع بعض صحف المعارضة الي الثلاثمائة ألف نسخة، في حين ان صحيفة الوفد كانت توزع ثلاثة أرباع المليون نسخة في عهد الراحل مصطفي شردي، وهو نفس الرقم الذي كانت توزعه جريدة " اللواء الإسلامي" التي يصدرها الحزب الوطني.
ان تأخر الجهاز المركزي للمحاسبات في تطبيق مادة الرقابة علي الميزانية الموجودة في قانون النشر، يبدو مفهوما في الدول التي تصدر القوانين وتنساها، وتذكرها بمنطق التاجر المفلس، الذي يدفعه إفلاسه الي ان يفتش في دفاتره القديمة، ولكن غير المفهوم هو حالة الهلع التي انتابت السادة رؤساء التحرير الأفاضل!.
ربما لانهم اعتبروا هذا القرار من قبل جهاز المحاسبات رمية بغير رام، استخدموها لتكريس زعامتهم السياسية، مع ان صدور صحف خاصة جديدة كفيل بأن يضعهم في أحجامهم الطبيعية، ولهذا لا نسمع لهم صوتا في مجال الدفاع عن حرية إصدار الصحف.
اجمالي القراءات
23602