جملة وجدتها على كارت بوستال يباع فى متحف التاريخ الطبيعى بلندن، وتذكرت أننى قد قرأتها على هامش كتاب داروين بجانب الرسم التخطيطى الذى كان قد رسمه لشجرة التطور، «أنا أعتقد i think» هى مفتاح ثورة العلم الحقيقية، الفرق بين الفكر العلمى والفكر الأسطورى القديم يكمن فى تلك الجملة العبقرية التى كتبها داروين بشخبطة مترددة ومتوارية على هامش صفحة فى كتاب.
قديماً كان الإنسان يتجه لسؤال الكاهن الذى كان يعرف كل شىء، لذلك يجيب عن أى شىء، ولا يمكن أن يقول «أنا أعتقد» لأنه يعتبرها انتقاصاً منه ومن هيبته وكرامته، من هنا نبتت ونمت قوة العلم، عرفنا أنه لا توجد إجابات قاطعة، وأن اليقين وهم، وأن النظرية العلمية تقاس بمدى قوتها على الصمود والتصدى لسهام النقد، لكن تلك القوة وذلك الصمود لا يمنعنا من النقد مرة وعشرين وألفاً، فنحن فى العلم فى حالة مطاردة دائمة ومزمنة للحقيقة المراوغة، لكنها المراوغة الممتعة.
ما زال هذا الكارت قابعاً على مكتبى يذكّرنى فى كل دقيقة بأن اليقين المزعوم المريح هو مجرد خدعة، وأن العلم قوته فى تواضعه، وأن كلمات «أعتقد وربما وأظن» هى التى خلقت كل تلك النعم العلمية التى حولنا، وهى التى فجّرت الثورة التى بسببها لم نعد نخاف أو نخشى الظلام فقد قهرناه بالكهرباء، لم نعد نخشى الجدرى وشلل الأطفال والدفتيريا فقد هزمناها باللقاح، أنقذنا الأطفال من الموت المبكر ورفعنا متوسط العمر واستطعنا أن نجمع شخصين «صوت وصورة» وهما على بُعد آلاف الأميال، وهبطنا على سطح القمر والمريخ، لم يعد القمر كلمة فى قصيدة ولا المريخ حلماً فى رواية، قال جاليليو أنا أعتقد أن الأرض تدور حول الشمس وليس العكس وكان دليله التليسكوب ولكن الكنيسة سجنته، قال القس برونو أنا أعتقد ولكن زملاءه الكهنة لم يحتملوا اعتقاده واتهموه بالهرطقة وأُحرق فى الميدان! قال ابن المقفع أنا أعتقد لكن الخليفة اتهمه بالتطاول وهز الثوابت وقُطعت أطرافه وشويت أشلاؤه، قال سقراط أنا أعتقد وظل يحرض الشباب على السؤال فتجرّع السم مجبراً لأن العامة لم يحتملوا دهشة السؤال، قال ابن سينا وجابر بن حيان والرازى أنا أعتقد وتم تكفيرهم جميعاً.
هذه العبارة هى الديناميت الذى فجّر جبل الخرافة وشق الطريق للضفة الأخرى حيث النور والحلم والأمل والحضارة، «أنا أعتقد» أهميتها فى منح التقدم والرغبة فى الخروج من شرنقة التخلف، فالتخلف لم يعد قدراً سرمدياً أو مصيراً محتوماً، قالوا قديماً العمر لا تستطيع تجاوزه وما دام الناس يموت معظمهم فى الثلاثين وربع الأطفال يرحلون قبل مرور عامهم الأول فلا فكاك من هذا المصير، جاء العلم وقال أنا أعتقد أننا نستطيع تجاوز هذا المصير وتعديله، فصار متوسط العمر فى بعض البلاد الأوروبية سبعين عاماً وانخفضت نسبة وفيات الأطفال، وكسب العلم الرهان لأنه يعتقد ولا يجزم، يعترف بالخطأ ولا يكفّر من يطرح الأسئلة.
اجمالي القراءات
2754