سورة الإسراء و بني إسرائيل
سورة الإسراء و بني إسرائيل
كثيراً و كما جرت عليه عادة البشر في تأويل أهوائهم , فكثيرٌ ما يشاع من إشاعاتٍ تلامس ما يجول في خاطرهم و ما يلبي أمنياتهم و حبهم الشديد بالاطلاع على الغيب و ما سيكون مستقبلاً , و لكن تلك الإشاعات تبقى أماني و لا مكان لها أمام الحق و الحقيقة .
بعث الله جل وعلا قبل محمد عليه السلام الأنبياء و الرسل جميعاً لأقوامهم خاصة و برسالات محدودة و خاصة بتلك الأقوام و لا تتجاوزها , هدف تلك الرسالات هو الإصلاح و الهدايه , و التحذير و الإنذار بوقوع العذاب و عقاب السماء على تلك الأقوام حال الرفض و العناد ( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) , ثم في نهاية المطاف بعث الله جل وعلا محمد عليه السلام للناس كافه أي لجميع الأقوام ,
ما يهمّنا من هذه المقدمة هو الفهم الصحيح و الإدراك بأن كل قوم من الأقوام في حال الرفض و العناد لابد و لا مناص لهم من عذاب الله جل وعلا , هذا العذاب كان شرطاً و لزاماً لتلك الأقوام لا مفر منه و له أشكال عديدة و لا يستثنى قوم موسى ( بني إسرائيل ) من هذا , و كل نبيٍّ كان يذكّر قومه بما حدث للمكذبين من قبله و يحذرهم من أن يمسهم العذاب حال الرفض و التكذيب , هذا العذاب بأشكاله المختلفة هو وعدٌ من الله جل وعلا على من كذب و تولى , و هو وعد حقٍ , و وعداً مفعولا أي سيحدث بالفعل و هو حتمي ,
هذا الوعد قضاه الله جل وعلا في كتابه , هذا الكتاب هو كتاب الغيب و فيه أوامرالله و سننه جل وعلا و الأمور التي قضاها و علم بأنها ستكون ( وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) , ( قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لّا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ) ,
فقضاء الله جل وعلا هو علمه المسبق بما سيكون , و هو أيضاً أمره و مشيئته و إرادته النافذة ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ) .
سورة الإسراء في القرآن الكريم هي السورة التي تتحدث عن قوم بني إسرائيل من بعد موسى بالتفصيل , و يجب التعامل معها و فهمها وفقاً لسائر المفاهيم التي ذكرتها بالمقدمة , و هي لا تختلف عن نهج باقي سور القرآن , هي تماماً كسورة نوح , فسورة نوح أخبرتنا عن قوم نوح و ما جرى معهم و سورة الإسراء تحدثت عن قوم بني إسرائيل و ما جرى معهم , و هي من ضمن سور القصص القرآني كسورة يوسف , و سور القصص القرآني تأتي من أجل العبرة و الإعلام بخبر الأولين ( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ) و هذه الآية الكريمة توضح لنا بشكل واضح و صريح بأن وعد الله حق ( عقاباً ثابت الحدوث ) أي أنه وعداً مفعولا , و هذا العقاب لابد أن يقضى و يأتي رداً على فساد البشر و إجرامهم , ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ,
و من الأمثلة على وعد الله قوله جل و علا :
( وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ) ,
و قوله ( فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ) .
و الآن نبدأ بالدخول لفهم سورة الإسراء :
تبدأ السورة و كأنها تخاطب من حول الرسول من بني إسرائيل خصوصاً , و كأنها توضح لهم و تكشف حقائق تاريخيه لعهدهم , تلك المعلومات هي دليل صدق رسالة محمد عليه السلام , فما كان لمحمد أن يعلمها لولا وحي الله جل وعلا , و هي بمثابة ( آية ) و دليلٌ قاطع و صادق لبني إسرائيل لعلهم يؤمنون أو لعلهم يهتدون ( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) ,
ثم تبدأ السورة بالحديث بتصديق رسالة موسى عليه السلام و الذي بعثه الله جل وعلا لبني إسرائيل من أجل هدايتهم ( وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ) أي أنه يتوجب على بني إسرائيل أن لا يتخذوا من دون الله وكيلا , و عليهم التصديق و الإيمان برسالة الله جل وعلا , فأساس الإيمان هو الله و ما الأنبياء و الرسل إلا مبلغين , فالوكيل هو الله و ليس موسى و لا محمد عليهما السلام , و هذا هو عنوان سورة الإسراء ,
ثم يأتي التفصيل لبني إسرائيل بكشف تاريخهم , هذا الكشف هو دليل صدق القرآن الكريم لبني إسرائيل كي يتبعوه دون ريب , و يأتي سرد تاريخهم موثق بمعلومات و حقائق تاريخيه يبدو أنها كانت صادمه لعلماء بني إسرائيل في عهد محمد عليه السلام ,
ثم يبدأ القصص القرآني و يقول ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ) الكتاب هنا هو كتاب الله جل وعلا الذي قضى فيه كل أمر , و هو علام الغيوب فالله جل وعلا يخبرهم و يخبرنا بأن عالم الغيب يعلم بأنهم سيفسدون في الأرض مرتين و هذا كان مقضياً في كتابه , هذا الإفساد يترتب عليه عقاب السماء و هذا هو الأمر المقضي بحتميّة العقاب الذي يستوجب و يتوجب نزوله و حدوثه علاجاً للفساد و العلو الإجرامي , و هنا يتم الكشف بأن بني إسرائيل قد علوا في الأرض و أفسدوا فيها مرتين من بعد موسى عليه السلام إلى عصر بعثة محمد عليه السلام , و في مقابل هذان الإفسادان و العلوّان كان العقاب السماوي جاهزاً و حاضراً و نافذاً ,
فيقول جل وعلا ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ) و هنا الإفساد الأول و كيفية انتهائه , و المقصود بوعداً مفعولا أي لا بد من فعله و بأنه وعد حق و وقوعه أمراً حتمياً ,
بعد هذا العلو الإجرامي و الفساد و ما حل بهم عقاباً من عند الله جل و علا يبدو بأن بني إسرائيل قد استفاقوا و عادوا لرشدهم ( ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ) ,
ثم يقول ( إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ) و هذا تأكيد بحرية السلوك و تحذير من العودة مجدداً للفساد و العلو الإجرامي الظالم ,
ثم يقول و يخبرنا بأنهم عادوا مجددا للفساد ( فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ) و على إثر ذلك كان عقابهم و جزاءهم بنفس الكيفية ,
ثم يخبرهم جل وعلا بأن هذا الأمر لا يتوقف , و لا يخبرهم إن كان سيحدث مجدداً في الأزمنة القادمة - و الله جل وعلا أعمل بما سيفعل الجميع - و لكن حذرهم من الفساد مجدداً فقال ( عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ) , و عليه يبقى بنو إسرائيل بين الفعل و الجزاء , فإن أفسدوا و علوا في الأرض أي طغوا فيها فالعقاب سيكون حاضراً و مفعولاً بشكلٍ حتمي , و إن لم يفسدوا و أحسنوا و اتقوا و آمنوا فعسى أن يرحمهم الله , فلا أحد يعلم ما سيكون مستقبلاً و الأمر متروك لسلوك البشر بشكلٍ عام , و لكن الله جل وعلا يعلم ما كان و ما سيكون ,
ثم يأتي الإعلان بأن هذا القرآن هو الرسالة الأقوم و يجب اتباعه ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ) أي انه الرسالة الأشمل ,
هنا يجب التنويه بأن سورة الإسراء تحدثت عن المسجد الحرام و المسجد الأقصى و بينت بشكل صريح بأن فساد بني إسرائيل كان انطلاقه و مركزه أحد المسجدين , طبعاً المسجد الحرام فهو مستبعد , و عليه يكون المقصد و المحور هو المسجد الأقصى , هذا ما بلغنا من إفساد لبني إسرائيل حتى بعثة محمد عليه السلام , و لا يشترط أن يكون إفسادهم الثالث محوره و مركزه المسجد الأقصى , فلربما ما حدث معهم في الحرب العالمية الثانية كان عقاباً ثالثاً و الله أعلى و أعلم فلا يمكننا الجزم بهذا !
ثم تستمر سورة الإسراء بنشر تعاليم القرآن و مبادئ و قيم هذا الدين ,
و في نهاية السورة يأتي الحديث عن موسى عليه السلام و فرعون و ما آلت إليه الأمور فيقول جل و علا معقباً ( وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ) أي من بعد عهد فرعون و زواله , و كلمة ( اسكنوا الأرض ) تشير إلى حالة الهدوء و الاطمئنان أو بمعنى آخر (ولا تعثوا في الارض مفسدين ) , أما وعد الآخرة هنا في هذه الآية فيشير إلى يوم البعث و الحساب ,
ثم يأتي الحديث عن هذا القرآن بأنه نزل بالحق و أنه مبشراً و نذيرا ( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) ,
ثم يقول ( قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ) و هنا نستشعر بأن المخاطب هم بنو إسرائيل , و هنا تتجلى حرية الإيمان , و هنا يتم التنبيه بأن أهل العلم و المعرفة ( و المقصود من كان منهم على علم بالفسادين و العقابين ) من أهل الكتاب إذا سمعوا بما ورد من تبيان لتلك الأحداث فهم حتماً سيخرون مؤمنين بهذا القرآن , و سيقولون ( وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ) أي أنهم سيؤكدون تلك الإحداث و يعترفون بها , و لا يستطيعون إنكارها لأنها أحداث صادقه , و قد حدثت بالفعل .
اجمالي القراءات
4554