من الفصل الأول من كتاب : ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى ــ دراسة عملية ) :
ثامناً: فلسفة القصص القرآني( 2 ): عن الصراع المستمر بين ( لا إله إلا الله ) والشرك

آحمد صبحي منصور Ýí 2019-10-08


ثامناً: فلسفة القصص القرآني( 2 ): عن الصراع المستمر بين ( لا إله إلا الله ) والشرك

من الفصل الأول من كتاب : ( البحث فى مصادر التاريخ الدينى ــ دراسة عملية )

قوانين لازمة لحركة الصراع المستمر بين ( لا إله إلا الله ) والشرك :

1 ـ وجود صراع بين عقيدتي  لا إله إلا الله والشرك  لا يعنى تحتم الصدام الحربى ، فلم يكن يحدث هذا فى قصص الأنبياء السابقين حتى إهلاك فرعون ، لأن المشركين كانوا يحتكرون القوة مقابل النبى ومن معه من المؤمنين المستضعفين . ثم كان يأتى الإهلاك للمشركين ونجاة النبى والمؤمنين . إنتهى الإهلاك العام للمشركين وتم بديلا عنه فرض القتال الدفاعى على المؤمنين ضد الكفار المعتدين فى التوراة والإنجيل والقرآن: (  إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّـهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١١١﴾ التوبة ) 

2 ـ فى كل الأحوال فهناك صراع ، وفيه تناوب للانتصار والهزيمة ، فالرسول يأتي في عصر سيطرة الشرك يقاسى الاضطهاد من المشركين ثم تتصاعد الأحداث إلى أن تصل للذروة وفيها يتم انتصار الرسول وإهلاك المشركين , ثم يزحف الشرك ويقاسى الاضطهاد إلى أن يسيطر ويأتي رسول جديد في دولة الشرك يقاسى التعذيب من المشركين إلى أن ينتصر وهكذا حلقة مستمرة .

3 ـ  بالتالى ، لا يستطيع أحدهما القضاء التام على الآخر. في عصور السيطرة للشرك يوجد موحدون ، ففي العصر الجاهلي كان هناك الحنفاء الداعون الى لا إله إلا الله , وفى عصر فرعون القائل (..أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ..النازعات24) و (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي.. القصص38) كان يوجد مؤمن من آل فرعون وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ..غافر28), بل كانت امرأة فرعون نفسه  مؤمنة ب لا إله إلا الله (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ..التحريم11).   أى إن سيطرة الشرك لا تمنع من وجود القلة المؤمنة , وحين تعاظم انحراف أهل الكتاب ظل منهم طائفة متمسكة بالحق( لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ..آل عمران 113: 115) . وقد ردد القرآن الكريم ذكر هذه الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب (آل عمران 199،الأعراف 164، 165 ، 159 ).ـ وسيطرة  لا إله إلا الله لا تمنع من وجود مشركين – حتى في داخل المجتمع المسلم – فكان بين الحواريين المحيطين بعيسى عليه السلام من تآمر عليه , بل وحكي القرآن الكريم عن بعضهم ما ينبئ عن كفره (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ: مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ..آل عمران52 ) ومع أنهم أعلنوا إسلامهم لعيسى عليه السلام إلا أنهم كانوا مخادعين , يقول تعالى عنهم (وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ..آل عمران54). وحين سيطرت ( لا إله إلا الله ) على المدينة فإن ذلك لم يمنع من وجود مشركين داخلها اضطروا لإظهار الإسلام نفاقاً , وبعضهم كان لا يستطيع كتمان ما في قلبه فيعبر عنه بلسانه وبتصرفاته في مواقف متعددة خصوصاً في الأوقات العصيبة كالغزوات . وبعضهم أدمن النفاق وحفظ ظاهره ولسانه من أن يفضح حقيقة عقيدته المشركة وبهذا لم ينكشف للرسول والمسلمين حاله . وقد ذكر القرآن الكريم هذا الصنف (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ..التوبة101).

4 ـ تكررت الدورة ، فكان تقسيم  المسلمين من حيث الايمان والكفر كأهل الكتاب . يقول تعالى عن أهل الكتاب (مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ..المائدة66) ..أي أن من أهل الكتاب صنفاً معتدلاً (أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ) والكثير منهم ساءت أعمالهم . ويقول تعالى عن أهل القرآن (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ..فاطر32) وفى الآية يذكر أصناف الأمة الخاتمة التي أورثها الله القرآن فمنهم ظالم منحرف عن دين الله ومنهم معتدل ( مقتصد) ومنهم السابق بإذن الله . وهنا إشارة واضحة من القرآن الكريم إلى أن الدورة التاريخية التي مرت بأهل الكتاب ستمر بالمسلمين , فقد كان من أهل الكتاب (أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) وسيكون منهم أيضاً من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً , أو بتعبير الآية من أهل الكتاب بعض المعتدلين (مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ) ومن المسلمين أيضاً من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً , أو بتعبير الآية الكريمة (وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ) , ثم كان من أهل الكتاب كثرة من الكافرين (وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ) ونفس الحال في المسلمين (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ) .وفى مقابل الأمة القائمة المتقية من أهل الكتاب كان هناك من الصحابة سابقون فى الايمان والعمل الصالح ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١٠٠﴾ التوبة )

5 ــ فليس معنى انتصار الإسلام في الجزيرة العربية ودخول العرب فى دين الله أفواجا   أن الصراع بين عقيدتي  لا إله إلا الله والشرك قد انتهى . بل هو مستمر ودائم , وما حدث من انتصار للإسلام إنما هو نهاية مرحله لابد أن يعقبها بداية لمرحله نقيضه . وفى العصر الإسلامي الأول عاش النبى والسابقون الأولون وكان منهم من خلط عمل صالحاً وآخر سيئاً ثم كان منهم المنافقون الكفرة, وقد ورد هذا التقسيم في سورة التوبة , يقول تعالى عن الأعراب المقيمين حول المدينة (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ..التوبة97 ) وقال تعالى : (وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ ..التوبة99). ثم إذا دخلنا المدينة ( وقت نزول الوحي) لمسنا تدرجا آخر في درجة الإيمان , (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ..التوبة100) والى جانبهم يوجد منافقون حول المدينة وداخلها (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ ..التوبة101) ثم السابقين في الإسلام والمنافقين توجد طائفة خلطت عملا صالحا وآخر سيئا (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ..التوبة102).

6 ـ ومعنى هذا انه كلما بعدنا عن ذلك العصر المضيء بنزول الوحي وبوجود الرسول كلما قلت نسبة الإسلام الصحيح في القلوب وازدادت نسبة الشرك، بدأت بتقديس الرسول وتقديس آل بيته ثم اتسعت الدائرة لتشمل تقديس الصوفية واتخاذهم أولياء وواسطة لله , ثم أصبح لفظ الإسلام علما على ذلك الخروج عن منهج الله ، بحيث أصبح (الإسلام ) في العصور العباسية والمملوكية والعثمانية ومنذ القرن السادس الهجري – ترديدا لما كان يفعله المشركون قبل وأثناء مزول القرآن . وحاليا فان الدعوة إلى الإسلام الحقيقي الخالص ( لا إله إلا الله ) تعد غريبة مع أن هذه دعوة القران الكريم وملخص جهاد الرسول عليه السلام .

استمرارية الصراع بين  لا إله إلا الله والشرك في تاريخ المسلمين:

1 ـ رصد هذه الاستمرارية يعتمد على الروايات التاريخية فقط ، والتى بدأ تدوينها فى العصر العباسى بعد قرنين تقريبا من إنتهاء القرآن الكريم نزولا . بالتالى لا يكون القرآن الكريم مصدرا للصراع بين أتباع لا إله إلا الله وغيرهم فى عصور الخلفاء ، ولكن يكون فقط حكما ، لأن أقوال المشركين المذكورة في القرآن الكريم رددها المنحرفون عن منهاج الإسلام ،وهنا تبدو فلسفة القصص القرآني في أن يكون حجة عليهم في عقائدهم المنحرفة مهما اختفت خلف أسماء وصفات وأشكال .  

2 ـ ويلفت النظر أن القرآن الكريم في حديثه عن مشركي العرب والقرشيين كان يتحدث بالوصف الذي ينطبق على كل المشركين في كل زمان ومكان فيقول ( الذين أشركوا ) ( المشركون ) ( المشركين ) ( الذين كفروا ) ( الكافرون ) ( الكافرين ) , هذا مع أن القرآن نزل على نبي عربي وسط أقوام من العرب لهم عقائدهم ومواقفهم من الرسول الذي أرسل إليهم . ولكن ذلك النبي أرسله الله جل وعلا بالقرآن الكريم رسولا عالمياً لكل الناس إلى قيام الساعة ، ولا بد للقرآن أن يكون حافظاً لاستمرارية الدعوة النقية خالصة من كل تحريف.  ولهذا فهو لا يتحدث عن مشركي قريش بالاسم وإنما بالوصف العام الذي ينطبق عليهم وينطبق على كل المشركين في كل عصر وأوان .حتى إذا جاء – بعد نزول القرآن – من يكرر مقال المشركين وجدناه ضمن من وصفهم القرآن الكريم ( بالذين أشركوا ) و ( المشركون ) و ( المشركين ) و ( الذين كفروا ) و ( الكافرون ) و ( الكافرين ) . بل إن مادة ( عربي ) لم ترد في القرآن الكريم إلا وصفاً للسان العربي واللغة التي نزل بها القرآن الكريم . وكلمة ( قريش ) لم ترد إلا في موضع واحد ( لإيلاف قريش ) وفى هذه السورة تعداد لبعض خصائص قريش من رحلتي الشتاء والصيف وإكرام الله لهم بالبيت الحرام ما يعنيه البيت الحرام من رزق وأمن , وكان من الواجب عليهم أن يؤمنوا بالله وحده الذي اختصهم بهذه النعم . وفيما عدا ذلك كان حديث القرآن الكريم عنهم بالوصف ( الذين كفروا ) لينصرف الوصف إلى كل مستحقيه في كل عصر وأوان منذ بعثة محمد عليه السلام وإلى أن تقوم الساعة .

3 ـ على أن هناك فوارق بين القصص القرآنى ( تاريخ الأنبياء والأمم السابقة وتاريخ النبى محمد بين مكة والمدينة ) وبين الروايات التاريخية للسيرة النبوية وعصور الخلافة :

3 / 1 : فالحقائق التاريخية فى القصص القرآنى مطلقة لا يأتيها الباطل من بين يديها ومن خلفها ، بينما تكون الرواية التاريخية ــ إذا صحّت بميزان البحث التاريخى ـ فهى حقيقة تاريخية نسبية تقبل الشك ، وليست جُزءا من الدين .

3 / 2 : الحقائق التاريخية فى القصص القرآنى لا تقتصر على سرد الأقوال والأفعال بل تتعدى الى رصد ما فى غيب القلوب وقياس درجة الايمان والكفر ، من المستوى الأعلى ( السابقون ) الى ما دونه ( المقتصدون ) ثم الى الحضيض ، ثم هناك المنافقون والذين فى قلوبهم مرض . هذا كشف لغيبيات السرائر والقلوب لا يمكن أن يأتى إلا من عالم الغيب جل وعلا . وهذا ليس من إمكانات المؤرخ الذى لا يسجل إلا ما يطفو على السطح فقط ، وحتى دون علم لما يجرى فى الخفاء من مؤامرات ، بعضها ينجح وبعضها يفشل . والذى يفشل لا يجد فى أغلب الأحيان من يؤرخ له ، والذى ينجح يتم تسجيل تاريخه وفق ما يذيعه هذا المنتصر ، أما المغلوب فقد خسر هذا وذاك .

3 / 3 : بهذا توجد حلقة مفقودة وهى الأساس ، ونعنى بها أن السابقين فى الايمان والعمل الصالح ليس لهم نصيب فى كتابات المؤرخين حتى فى السيرة النبوية التى بدأ بكتابتها محمد بن إسحاق ونقلها عنه ابن هشام . الله جل وعلا ذكر السابقين الأولين من الصحابة مجرد وصف ، ومنتظر أن يأتى التاريخ يذكر أسماءهم ، وهذا ما لم يحدث ، ولا ننتظر أن يحدث ، لأن المؤرخين الذين كتبوا السيرة بأثر رجعى وفى العصر العباسى كتبوا من معارفهم الشفوية ومتأثرين بثقافتهم ، وحتى لو ذكروا فلانا وفلانا ( مثل العشرة المبشرين بالجنة ) فقولهم لا يكون صحيحا لأنه لا يعلم الغيب إلا الله جل وعلا ، وأن النبى نفسه ما كان يعلم الغيب ولا يدرى ماذا سيحدث له أو لغيره .

3 / 4 : هذا يدخل بنا الى الفجوة الكبرى بين القصص القرآنى وبين تاريخ السيرة وتاريخ الخلفاء . فالذين يصفهم رب العزة بالسابقين هم الذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا ( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٨٣﴾ القصص )، بالتالى هم لا يدخلون فى صراعات حول حطام الدنيا ، ولا يتزعمون حروبا خارجية أو أهلية . والتاريخ يتركز حول أخبار القادة والزعماء والسلاطين والخلفاء الذين يتغلف تاريخهم بالمؤامرات وبالدماء ، ولا يأبه التاريخ بالمتقين الذين لا يريدون علوا فى الأرض ولا فسادا . التاريخ تجاهلهم بينما أعلى الله جل وعلا من قدرهم .

3 / 5 : ولا أدل على ذلك من حديث رب العزة عن السابقين المتقين من أهل الكتاب ، وهو يأتى بالجملة الإسمية التى تعنى الثبوت والإستمرار ( لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ..آل عمران 113: 115)، بل يأتى بالتأكيد على وجودهم فى كل عصر : ( وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّـهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّـهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّـهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۗ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ ۗ إِنَّ اللَّـهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴿١٩٩﴾ آل عمران ). أى كانوا موجودين فى عصر النبى محمد ثم فى عصور الخلفاء ، وفى عصرنا . ولكن لآ حظّ لهم فى التسجيل التاريخى .

التجاهل لاستمرارية الصراع بين التوحيد والشرك :

1 ـ فهمنا خطأ – كما فهم الأقدمون من علماء التفسير والتاريخ – إن الذين كفروا هم كفار العرب والكفار في عصور الأنبياء السابقين – فقط , فهمنا خطأ أن التاريخ الديني توقف بعد انتصار الإسلام في الجزيرة العربية ، وأن المسلمين الذين اعتنقوا الإسلام منذ عهد الرسول – وإلى الآن – هم معصومون من الزيغ عن منهج الله , وأنهم نسوا تماماً ما عاشوا عليه من عقائد طيلة قرون ، فهمنا خطأ أن الشيطان قد استقال من وظيفته بعد أن انتشر الإسلام وان انتصار الإسلام معناه نهاية كل عقائد الشرك إلى أن تقوم الساعة .

2 ـ فهمنا الخاطئ لتوقف الصراع بين عقيدتي ( لا إله إلا الله )  والشرك – معناه تعطيلنا وظيفة القرآن الكريم . فما دام حديث القرآن عن المشركين ينصرف للمشركين في الزمن الماضي فقط فلا حاجة بنا للقرآن لكي يهدينا للعقيدة الصحيحة, لأنه على ذلك يتحدث عن أناس في الزمن الماضي لا شأن لنا بهم.

2 ـ فهمنا الخاطئ عن توقف الصراع بين عقيدتي التوحيد والشرك معناه الإنكار لحقائق قرآنية ثابتة منها :

2 / 1 : أن الإيمان عرضي يزيد وينقص في النفس البشرية التي ألهمت الفجور والتقوى , والإنسان في صراع مستمر بين الخير والشر وربما يؤمن ثم يكفر ثم يؤمن وهكذا . يقول تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ..آل عمران90 ويقول ربنا تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ..النساء137 ) فالكفر والإيمان محطات في طريق الاعتقاد تمر عليها النفس البشرية ، وعند المحن تتجلى حقيقة الإيمان فمن الناس من يعبد الله على حرف ويحسب نفسه مؤمناً حقاً طالما هو في نعمة فإذا أصابته محنة لم يثبت لها (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ..الحج11 ) والدنيا كلها فتون , وبالمصائب والمحن والاختبارات والنعيم يتغير إيمان الإنسان بين زيادة ونقص , وقد حكى ربنا عن بعض المنافقين وأقولهم عن يوم ( أحد ) ما يجعلهم أقرب ساعتها للكفر من الإيمان يقول تعالى عنهم : ( هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ..آل عمران167) أي أنهم ساعتها حين قالوا هذه الأقوال أقرب للكفر منهم للإيمان ،  أي فالكفر والإيمان مراحل ومحطات يسير عليها الإنسان بأقواله وأفعاله ومن اتقى الله في لسانه وجوارحه فقد افلح في طريق حياته ولكن المتقين قليل (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ..ص24) وحتى التقوى تفيد مجاهدة النفس عن المعاصي والتوبة منها . وما يجوز على الفرد الواحد يجوز على أفراد كثيرين خصوصاً وأن الله تعالى وصف البشر بصفات واحدة من الطغيان والهلع والجزع والكفر والظلم والجهل والبخل ، وتلك الصفات تنطبق على الإنسان قبل البعثة المحمدية وبعدها . ولا يتصور أن يكون الإنسان بعد بعثة محمد عليه السلام مختلفاً عن أجداده.. بل إنه كلما تكاثر البشر عدداً كلما تعاظم بعدهم عن منهج الله ، فالله تعالى وصف الأكثرية من البشر بأنهم لا يؤمنون (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ..يوسف106 ) و (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ ـ وَلَوْ حَرَصْتَ  ـ بِمُؤْمِنِينَ ..يوسف103) وبأنهم مضلون عن سبيل الله (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ..الأنعام116) وهذه الأكثرية هي الأعلى صوتاً والأقوى نفوذاً..

2 / 2 : إن إضلال الشيطان بالبشر مستمر من تاريخ آدم وإلى قيام الساعة , والله تعالى حذر البشر جميعاً  من غواية الشيطان فقال( يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ ..الأعراف27 ) وذلك التحذير موجه للإنسان بعد عصر محمد عليه السلام كما كان موجهاً قبله،بل إن تكرار التحذير في القرآن الكريم ــ المعجز المحفوظ بقدرة الله والمستمر إلى قيام الساعة ــ يجعل ذلك التحذير موجهاً لمن عاصر نزول القرآن ومن جاء بعدهم ، فالسابقون انتهى أمرهم ولقوا مصيرهم أما أهل القرآن فمطالبون بالعمل بتوجيهات القرآن الكريم .وهو الكتاب الإلهي الذي أنزل من أجلهم وعلى أساسه يحاسبون في الآخرة.

2 / 4 : ومن عبقرية الشيطان في الإضلال أنه يقرن الإضلال بالتمني , فيحسب الضال نفسه مهتدياً  سائراً في الطريق السليم , يحكى ربنا عن أسلوبه فيقول (لأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ..النساء119) وطالما يعتقد الضال أنه سائر على الهدى ويزين له الشيطان سوء عمله فلا يمكن أن يهتدي للحق , يقول تعالى (أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ..فاطر8). وأغلب التمني يكون في العقائد، فعابد الأولياء يحسب نفسه بذلك يحسن صنعاً , يقول تعالى عن اتخاذ الناس أولياء لهم من البشر َ(أفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً .. الكهف103: 104 ). وإذا حققت هذه الآية القرآنية عملياً وجدت من يعتقد في الأولياء يصر على أنه محق فيما يفعل وأنه يحسن بذلك صنعاً , مع أنه لو عقل لأدرك أن الولي الذي يستغاث به ويطلب منه المدد والعون ينبغي أن يكون الله وحده (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ؟ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ..الشورى9) (قُلْ : أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً ؟ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ..الأنعام14). يقول تعالى عن انخداع الضالين بأنفسهم حين يحسبون أنفسهم مهتدين (..إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ..الأعراف30) (وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ..الزخرف37)

 إهمال التاريخ الديني للمسلمين :

1 ـ ولأن من المسلمين من يحسبون أنفسهم مهتدين بمجرد إعلان الإسلام الظاهري فإنهم أهملوا البحث في التاريخ الديني , مع أن تاريخهم  يرتبط بالإسلام ، بل إن أسمهم مشتق من الإسلام , والإسلام هو دين الله الحق، وأجدر بهم أن يكونوا أكثر اهتماما ببحث التاريخ الديني ، خصوصاً وأن لديهم المرجع الذي يحتكمون إليه وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل بين يديه ولا من خلفه , يحتكمون اليه فيما كتبه المؤرخون فى السيرة والصحابة والخلفاء والسلاطين .

2 ـ إن بحث التاريخ الديني يوضح للمسلمين الفجوة التي حدثت بين منهج القرآن وبين واقع التدين الذي يعيشه المسلمون وهو مخالف بالقطع لما جاء بالقرآن من أوامر ونواهي , ولأن الفجوة اتسعت فإن المسلمين اليوم يحسبون أنفسهم مهتدين ويرتضون الوضع القائم ويتعارفون على أنه الإسلام الحقيقي ، ولا يعترفون بأن هناك فجوة بين تدينهم اليوم وما جاء به القرآن الكريم ، وهم يعتقدون أن حديث القرآن الكريم عن الذين كفروا إنما ينصرف للمشركين السابقين فقط .

3 ـ وحتى نثبت إعجاز القرآن في حديثه عن المشركين وأن ذلك الوصف ينطبق على الناس بعد نزول القرآن الكريم فإننا سنعرض لبعض النواحي في تاريخ المسلمين الديني ولنتعرف منها على أن  الفجوة بين الإسلام الحقيقي كما أوضحه القرآن الكريم والتدين العملي للمسلمين إنما بلغت من الأتساع إلى درجة أصبح معها الإسلام الحقيقي غريباً .

4 ـ إن مهمة التاريخ الديني هي في رصد ابتعاد الناس عن التدين الحق ليهتدوا إلى ما هو خير في الدين والدنيا , وما كان القرآن الكريم ليقص علينابالتفصيل والتكرار المعجز قصص الأنبياء والأمم السابقة وبضرب الأمثال ويتحدث في تفصيلات الحياة الدينية في قريش – ما كان ليفصل القول في ذلك كله إلا ليؤكد فلسفته الأساسية في استمرارية الصراع بين التوحيد والشرك بعد محمد عليه السلام كما كانت قبل , وأن العصمة من تلك الفتن والمحن لا تكون إلا بالرجوع إلى كتاب الله بعقل مفتوح وقلب مفتوح , فنقيس عقائدنا الفعلية وتديننا العملي عليه ونأتمر بأمره وننتهي عما نهى .

5 ـ إن فى الحياة الدينية للمسلمين الكثير من المعتقدات والعبادات والطقوس. ومصادر التاريخ الديني للمسلمين كثيرة ومتعددة ، وسنعرض لبعضها في دراسة عملية لنصوص مكتملة ، آملين من الله العلى القدير أن يهدينا الصواب ويجنبنا الزلل .  إنه تعالى سميع قريب مجيب الدعاء .

اجمالي القراءات 4533

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 5123
اجمالي القراءات : 57,058,907
تعليقات له : 5,452
تعليقات عليه : 14,828
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي